اليمين واليسار في الفكر الديني١
ليس اليمين واليسار مقولتَين في السياسة وحدها، بل هما موقفان في المعرفة الإنسانية والعلوم الاجتماعية بوجه عام، وفي المواقف العملية والحياة اليومية بوجه خاص. ومهمَّتنا هنا بيان اليمين واليسار في الفكر الديني في تراثنا القديم وفي وجداننا المعاصر، كما ورِثناه في علم أصول الدين أو في علم التوحيد أو في علم الكلام، أي التسميات نشاء.
ولن نعتمد في هذه الدراسة على التحليلات الإحصائية؛ فهذا مجال الدراسات الاجتماعية المتخصصة والرسائل الجامعية، ولكننا سنعتمد على تحليل التجارب الحية، ووصف الخبرات الشعورية المشتركة التي يشعُر الجميع بها، والتي تحتاج فقط إلى نوعٍ من الاستبطان والاستبصار.
ونحن لن ندخل هنا في معركة البناء الفَوقي والبناء التَّحتي، أيهما علة وأيهما معلول؛ فهذه معركةٌ باليةٌ أكاديميةٌ صِرْفة، ولكننا سنحاول وصف الظواهر الفكرية كما هي، التي تحتوي على علاقةٍ جدلية؛ فبقدْر ما تكون الأفكار تعبيرًا عن واقعٍ بقدْر ما يكون الواقع أيضًا موجَّهًا بالأفكار، ولكن التجربة الحية هي مادة التحليل؛ إذ لا يُوجد البناء الفَوقي والبناء التَّحتي وحدهما في علاقةٍ آلية صاعدة أم هابطة، بل هناك البناء الشعوري الذي تقوم فيه هذه العلاقة الجدلية، وحيث تلتقي الحركتان الصاعدة والهابطة في بؤرة الشعور؛ حيث يتحدد بناء الظاهرة الإنسانية. ولما كانت الأبنية الشعورية باصطلاحٍ تقليدي أبنية فوقية، فنحن أقرب إلى النظرة المثالية التي تُفسِّر الظواهر الإنسانية بالأبنية الفوقية، وفي حالتنا هذه هو الفكر الديني، دون الوقوع في علاقةٍ عِلِّية حتمية آلية، بل عن طريق وصف التجارب الحية التي تُمحى فيها التفرقة التقليدية بين العلة والمعلول، وبين السبب والمسبَّب، والتي تُمحى فيها أيضًا التفرقة الشائعة بين الذات والموضوع؛ فالتحليل الوصفي هو ما نقوم به وليس التحليل العِلِّي، وكلاهما علم على حدٍّ سواء.
ولن نشير في وصفنا هذا إلى واقعٍ مختلف عن واقعنا، مثل الواقع الأوروبي الذي تُستقى منه عادةً مادة التحليلات، بل أبدأ من واقعنا المباشر، ومن تراثنا الحي، ومن تجاربنا الشعورية المشتركة، ومن نظمنا الاجتماعية القائمة.
وكلها محاولات قد تخطئ وتصيب، بل قد تخطئ أكثر مما تصيب، ولكننا نعرضها قضيةً للمناقشة حتى نُفسِح المجال لمفكِّرينا ومثقَّفينا للتساؤلات حول ارتباط الفكر الديني بالواقع الاجتماعي، والأثر المتبادل بينهما، حتى لا نظن أن الفكر الديني شيءٌ مقدس، بل هو نتاجٌ إنساني مثل الأيديولوجيات التي تنبع من واقعٍ اجتماعي ثم تعود لتؤثِّر فيه من جديد.
واليمين واليسار ليسا موقفَين فكريَّين متمايزَين فحسب، بل هما أيضًا اتجاهان في التفسير؛ فاليسار في الفكر قد يستغله اليمين لصالحه، واليمين في الفكر قد يُعيد تفسيره اليسار لصالحه أيضًا؛ فاليمين واليسار موقفان فكريان متمايزان من الأساس، وأيضًا منهجان في التفسير.
وفي نهاية الأمر، إن اليمين واليسار في الفكر الديني أساسًا هما وضعان اجتماعيان يدلان على وجود طبقتَين اجتماعيتَين، تحاول كل طبقة أن تدافع عن حقوقها بالأبنية النظرية المتاحة في المجتمعات التقليدية، وهي العقائد الدينية؛ فهي قضيةٌ عملية وليست قضيةً نظرية، وبناءٌ اجتماعي أكثر منها حقيقةً فكرية. تحاول إحدى الطبقتَين، وهي الأقلية المسيطرة التي تملك وسائل الإنتاج والسيطرة على الحكم، استغلال الطبقة الأخرى، وهي الأغلبية، لصالحها عن طريق الفكر الديني؛ أي تفسيرها للدين لصالحها. كما تحاول الطبقة الأخرى، وهي الأغلبية المستغلة، إعادة تفسير الدين لصالحها للقضاء على الأقلية المسيطرة بنفس السلاح؛ فالدين سلاح ذو حدَّين طبقًا لاستعماله. وهذا هو معنى العبارة المشهورة «الدين أفيون الشعب وصرخة المضطهَدين».
يدور علم أصول الدين الذي يحتوي على نموذج للفكر الديني حول مقدمتَين وموضوعاتٍ ثمانية، يُضاف إليها موضوع أو موضوعان كخاتمة؛ ومن ثَم تكون الموضوعات اثنَي عشر يتجاذبها اليمين واليسار على النحو الآتي:
-
(١)
تبدأ المقدمة الأولى بعرض نظرية العلم، أو كما يُقال نظرية المعرفة، إجابة على سؤال: ماذا أعرف؟ ويتضح موقفان؛ الأول يجعل الإيمان وسيلة للمعرفة، والإيمان فعلٌ أولي لا يسبقه فعلٌ آخر، يقبل ولا يرفض، يسلم ولا يعترض، يأخذ ولا يعطي. ثم يأتي دور النظر في تبرير الإيمان وفهمه دون نقده أو تمحيصه.
وهذا هو موقف اليمين؛ فالتسليم يؤدي إلى الطاعة والرضا بما يُعطَى للشعب من حقائق عليه قبولها؛ فالفرد الذي يبدأ بالإيمان كنظريةٍ للمعرفة يكون أقرب إلى الطاعة للأمراء، وإلى الانقياد للحكام. والشعب الذي يبدأ بالتسليم بالحقائق دون مناقشتها يكون أقرب إلى الاستكانة؛ ومن ثَم تعمل النظم اليمينية على نشر الإيمان بهذا الهدف؛ لأنه يؤدي لها ما تبغي من الإبقاء على الوضع القائم، والتسليم به، والاستكانة تحته، والرضوخ له؛ ولذلك لا تعتني هذه النظم بمحو الأمية أو بنشر التعليم، بل يكون همها بناء المساجد، والإكثار من الموالد، وتدعيم الطرق الصوفية، والإكثار من الدعوات والابتهالات، وترديد التواشيح، وانتشار المدائح، وتعميم البرامج الدينية في أجهزة الإعلام، لا عن إيمان بالدين، ولكن عن نفاق وتغطية وتعمية وتستُّر على النظم الاجتماعية القائمة.
وفي مقابل ذلك، هناك اتجاهٌ آخر يجعل نظرية العلم تبدأ لا بفعل الإيمان بل بفعل النظر؛ فالنظر هو أول الواجبات الدينية قبل الإيمان من حيث هو تسليم، وقبل الإيمان من حيث هو مضمون؛ الله، الملائكة، الكتب، الرسل، اليوم الآخر … إلخ، وقبل الإيمان من حيث هو ممارسةٌ للشعائر والطقوس؛ فالنظر سابقٌ على الإيمان، والفكر سابقٌ على التسليم؛ فبالنظر يستطيع الإنسان أن يميِّز بين الحسَن والقبيح، وبالفكر يستطيع الناس معرفة مَن يعمل لمصلحتهم ومَن يعمل لاستغلالهم؛ فلا يمكن قبول شيء على أنه حقٌّ ما لم يثبُت بالنظر أنه كذلك، ولا يمكن التسليم بشيء إن لم نجد البرهان عليه، وما لا دليل عليه يجب نفيه كما قال المناطقة الأقدمون، بل إن البعض جعل الشك في الموروث سابقًا على النظر، وأول الواجبات لتأكيد الجانب الرافض في الفكر، وهو الشك، حتى تتكسَّر حدة الموروث، وتذهب سلطة التقليد؛ ومن ثَم يتم رفض كل وسائل المعرفة ومصادرها الظنية، وهي مضادَّات المعرفة مثل الجهل، والتقليد، والظن، والإلهام، ولا يُقبَل إلا النظر بجميع طرقه، مثل القياس والاستدلال والبرهان.
وهذا هو موقف اليسار الديني؛ فالنظم التقدمية هي التي تعمل على محو الأمية، وعلى نشر التعليم، وعلى إقامة الحوار المفتوح بين الاتجاهات الفكرية المختلفة في البلاد. ولا تتدخل في حرية الرأي؛ فحرية التعبير حق يكفله الدستور، وتمارسه المؤسسات الديمقراطية بالفعل.
وقد يستغل اليمين هذا الموقف اليساري لصالحه الخاص، وذلك بإقامة نظمٍ سياسية على النظر، وهي النظم الليبرالية، ولكن النظر لا يكون إلا أساس الترشيد، والترشيد أساس التصنيع، ولا يخرج كي يصبح دعامة الحياة كلها؛ فليس من مصلحة هذه النظم إشاعة النظر عند الطبقات الكادحة كي لا تعرف حقوقها، بل يظل قاصرًا على طبقةٍ واحدة هي الأقلية المستغلَّة صاحبة رأس المال، وصاحبة إصدار القرارات السياسية أو المؤثِّرة عليها. وقد يُستعمَل النظر لصالح شعبٍ دون شعب؛ ففي الوقت الذي يُقيم فيه الغرب دعائم نهضته الفكرية والعلمية، فإنه يقضي على روح الشعوب غير الأوروبية، ويقضي على مدارسها ونظم تعليمها وتراثها الفكري، ويُشيع فيها الجهل أو التبعية لثقافة الغرب فيما يُسمى بالاستعمار الثقافي. في حين أن اليسار يجعل من النظر أمرًا عامًّا وشاملًا، لا يخص فردًا دون فرد، أو طبقة دون طبقة، أو شعبًا دون شعب؛ فلا يُوجد عالِم والباقي جاهلون، ولا يُوجد شعب متحضر وباقي الشعوب همجية.
ويمكن لليسار إعادة تفسير دجماطيقية اليمين لصالحه، خاصة في مجتمعٍ تقليدي ما زال يفكر بعقائده، وذلك بتوجيه العقائدية لصالح الفقراء والمعدمين، وتجنيد الطبقات الكادحة وتحزيبها، حتى إذا ما تحولَت إلى قوةٍ سياسية ضاغطة، وطاقةٍ ثورية مغيِّرة، أمكن بعد ذلك تحويلُها من الدجماطيقية إلى الاستنارة، ونقلها من الإيمان إلى النظر.
-
(٢)
وتحتوي المقدمة الثانية على نظرية الوجود إجابة على سؤال: ماذا أعرف؟ وهنا يتضح أيضًا موقفان؛ الأول يريد جعل موضوع المعرفة هو الحادث، المتغير، الممكن، ويقصد بذلك العالَم الذي نعيش فيه حتى يمكن الانتقال بعد ذلك من الحادث إلى القديم. ومن المتغير إلى الثابت، ومن الممكن إلى الواجب؛ فالعالم هنا محكوم عليه بالفَناء من أجل إثبات موجود وراء العالم يكون هو البقاء، والحكم على العالم بالفناء حكمٌ قاسٍ مدمر لإحساس الناس بالعالم؛ إذ كيف يعمل الناس في عالمٍ فانٍ وكيف يُنتجون في واقعٍ لا ثبات له ولا كيان؟ العالم هنا ليس إلا وسيلة لإثبات شيءٍ آخر، هو الله؛ فالله هو الباقي، والعالَم هو الفاني، الله هو الغني والعالم هو الفقير المحتاج. ويستطيع الغني أن يفعل بالفقير ما يشاء؛ فلا قانون يحفظ للفقير حقوقه إلا رحمة الغني به، ولا إرادة تقف في مواجهة الغني إلا فضله وإرادته؛ ومن ثَم فلا تُوجد قوانينُ ثابتة للطبيعة، بل يمكن للحجر أن ينقلب ذهبًا، والعصا ثعبانًا، ويعيش الإنسان في عالَم يحكمه السحر، ويُدركه بالخُرافة، لا يؤمن به ولا يعيشه، بل يجد الإنسان نفسه فوقه على نحوٍ عارض، مصادفة، وليس له غاية إلا البحث عن الباقي وراء العالم.
وهذا هو اليمين في الفكر الديني الذي تبشِّر به النظم اليمينية الرجعية التي يهمُّها سلب العالم من الجماهير المستغلَّة، والإيماء إليها بأنه عالمٌ فانٍ لا قيمة له، وبأن القيمة كل القيمة فيما وراء هذا العالم؛ وبالتالي تتخلى الجماهير عن حقوقها، ولا تلتفت إلى ما هو زائل، وتعكُف على ما هو باقٍ وأبدي، تحت سمع وبصر النظم الرجعية، التي تستحوذ على العلم، ولا تعطي الجماهير إلا الظلال.
وفي مقابل ذلك، هناك اتجاهٌ آخر يجعل هذا العالم باقيًا مستقرًّا، ويجعل جهد الإنسان فيه مُنتِجًا ومؤثِّرًا؛ فالعالم ليس ممكنًا بل واجب، وليس حادثًا بل قديم يخضع لقوانينَ طبيعيةٍ مطَّردة، يمكن للإنسان معرفتها، والسيطرة على الطبيعة من خلالها، واستغلالها لصالحه، وتستعصي على كل محاولة للقضاء عليها أو التدخل في سيرها، وعليها تتحطم كل الإرادات المسيطرة، وكل القوى القاهرة؛ فلا صوت يعلو على صوت الطبيعة، ولا قانون يطغى على قانونها؛ فالعالم ليس وسيلةً لشيءٍ آخر، بل هو غاية في ذاته، وهو ليس فانيًا بل باقٍ، ووجود الإنسان فيه ليس عارضًا بل جوهري.
وذلك هو اليسار في الفكر الديني؛ وذلك لأنه في النظم السياسية القائمة على هذه النظرة يكون العمل مُنتجًا في العالَم، ويكون لدى الجماهير وعيٌ بالعالم، وثقةٌ بقوانينه المطَّردة، وتُحافظ على حقوقها، وتُدافع عن مصالحها ضد كل محاولات السيطرة من الخارج، وضد كل صور القهر الاجتماعي والسياسي من الداخل؛ فللجماهير الكلمة العليا، ولديها ثقة في العمل وفيما تخلِّفه وراءها من آثار، ويكون الحكم لها؛ ومن ثم تفرض النظام الديمقراطي الذي يعمل لصالحها، وتثور ضد أي محاولة لتركيز السلطة التي يدين لها الجميع بالطاعة والولاء.
وقد يستغل اليمين هذا الموقف اليساري لصالحه، عندما يفسر حتمية قوانين الطبيعة واطرادها لصالح النظم التسلطية والرأسمالية، فتجعل قانون العرض والطلب أو الصلة بين صاحب رأس المال والعمال صلة الرئيس بالمرءوس، أو قوانين الربح والاحتكار قوانين طبيعية عليها تقوم الحياة الاقتصادية؛ وبالتالي تكون هذه النظم هي النظم الطبيعية التي تفرضها طبيعة الأمور. كما قد تستغل بقاء العالم واستمراره وصلابته وتخصصه كميدان لنشاط صاحب رأس المال فقط دون العمال، ولصالح الطبقة المسيطرة دون الطبقات الكادحة التي يظل العالم بالنسبة لها هشًّا لا قوام له، حتى ينشَط صاحب رأس المال، ويستكين العمال، وحتى ينشَط ملَّاك الأرض وينام الفلاحون والأُجراء الزراعيون، ولكن القضاء على خصوصية النظرة، وتأكيد ثبوت العالم للجميع من شأنه القضاء على استغلال اليمين لموقف اليسار.
كما يمكن لليسار إعادة تفسير موقف اليمين لصالحه، وذلك بالاعتماد على لا حتمية قوانين الطبيعة لصالح التوعية الجماهيرية؛ فالنظام الرأسمالي ليس نظامًا أبديًّا، بل يمكن تغييره، ونظام الأجور الذي يفرضه صاحب رأس المال ليس نظامًا ثابتًا، بل يمكن تعديله، وهذا النظام الذي ترى فيه الأقلية المسيطرة أبدعَ ما أنتجه العقل البشري يمكن السيطرة عليه وقلبه رأسًا على عقب؛ وبالتالي تتحرك الجماهير بنفس السلاح الذي أرادت الأقلية المسيطرة على المال والحكم استعماله لتسكين الجماهير، وفرض إرادتها عليها كما تشاء.
-
(٣)
وبعد المقدمتين السابقتين يظهر الموضوع الأول، موضوع الذات الإلهية، وهو حجر الزاوية في علم العقائد وأساسه الأول، ويظهر اتجاهان؛ الأول، يُثبت هذه الذات بأوصافٍ ستة؛ الوجود، والقِدم، والبقاء، والمخالفة للحوادث، وعدم وجودها في محل، والوحدانية؛ أي إن الذات الإلهية موجودةٌ بالفعل وجودًا حقيقيًّا، وقديمة لا أول لها، وباقية لا نهاية لها، ومخالفة للحوادث لا يشبهها شيء، ولا تشبه شيئًا، وليست في محل وتُوجد في مكان، ووحدانية تنفي الشرك والتعدد؛ ومن ثَم يتم تأليه الذات، وإعطاؤها كل ما يستطيع الإنسان إعطاءه من أوصاف للوجود المطلق، خارج الوجود الإنساني ومستقلًّا عنه.
وهذا هو موقف اليمين؛ لأننا إذا انتقلنا إلى النظم السياسية التي تحقِّق هذا التصور، لوجدنا أنها تعتمد على هذا الإثبات للذات المطلَقة من أجل إثبات النظم الاجتماعية، التي تتركز كلها في سلطةٍ واحدة في القمة، تتصف بكل صفاتٍ للوجود المطلَق، سواء كان ذلك في السلطة السياسية المطلقة للزعيم، أو في السيطرة الاقتصادية المطلقة لرأس المال؛ وبالتالي تكون لدينا نظمٌ تسلطية تقوم على القهر والطغيان، وعلى حق الفرد المطلَق على حساب الشعب، أو نظمٌ رأسمالية تقوم على إعطاء حرية الحركة المطلَقة لرأس المال على حساب المُستهلِكين، أو على حساب الاستثمارات الصغيرة، أو على حساب العمال. وهي النظم التي تجعل القمة في السياسة أو في الاقتصاد مصدر النشاط والحركة والقيمة، على حساب القاعدة المتلقية السالبة المأمورة. هذا بالإضافة إلى أن هذا النوع من الإيمان بالوجود المطلَق الشامل يعطي الجماهير نوعًا من الاستكانة، بالارتكان عليه، والاعتماد على سلطانه، فإذا ضاع كل شيء فعلى الأقل يبقى شيء هو البقاء ذاته، وإذا عُدم كل شيء فعلى الأقل يوجد شيءٌ واحد هو الوجود ذاته، وإذا ضاع الإحساس بالزمان وبالتاريخ، ولم يدرِ الإنسان متى أتى، وإلى أين ينتهي، وفي أي مرحلةٍ من التاريخ هو يعيش، فعلى الأقل هناك الدائم الذي لا أول له ولا نهاية، والذي يضُم الماضي والحاضر والمستقبل، وإذا استعصى على الإنسان أن يجد له مكانًا في العالم، ومحلًّا يحط فيه، فعلى الأقل هناك من لا يحتاج إلى محل أو مكان، وإذا عجز الإنسان عن أن يدرك الأمور العينية نظرًا للأقنعة التي فوق عينَيه، فعلى الأقل هناك الإدراك الغامض لما لا شبيه له، وأن عدم الإدراك خير من الإدراك! فالموضوع الذي لا يُرى خير من الموضوع الذي يُرى، والخالص أشرف من الشائب. وإذا فقد الإنسان كل شيء فعلى الأقل هناك شيءٌ واحد لم يفقده هو الوحدانية ذاتها؛ ومن ثَم يكون الإنسان مفقودًا وهو يظن أنه واجد نفسه، ويكون ضائعًا وهو يظن أنه قد وصل إلى بر الأمان، كمن يفقد الحبيب فيحب الحب ذاته حتى يعوِّض فقده، ويحوِّل خسارته إلى مكسب، ويُحيل ضعفه قوة.
وفي مقابل ذلك، هناك اتجاه آخر يجعل الإنسان هو الموجود الذي لا يشُك في وجوده أحد، ولا يقدر على إعدامه شيء، هو القديم بمعنى أنه حقيقةٌ أزلية لا يمكن الشك فيها، وهو باقٍ بمعنى أنه يستحيل عليه الفناء، وهو لا يحتاج إلى محل لأن الإنسان موجود في كل مكان، والإنسانية لا يحدُّها زمان أو مكان، وهو لا يشبه شيئًا ولا يشبهه شيء لأنه يتجاوز الأشياء ويفارقها؛ ومن ثَم، يقضي هذا الاتجاه على كل تشخيص أو تسكين أو تثبيت للذات، ويُعيد للإنسان أخص خصائصه وهو الذاتية، وتتحول حياة الإنسان إلى حركة ونشاط وجهد ونضال بحياة الذاتية فيه وليس بمفارقتها.
وهذا هو موقف اليسار؛ فالنظم السياسية التي تتبنى هذه النظرة تكون نُظمًا إنسانية تقوم على الاعتراف بالإنسان كقيمة، لا فرق في ذلك بين حاكم ومحكوم، أو رئيس ومرءوس، أو غني وفقير، أو رجل وامرأة؛ فكل إنسان له ذاتيته وليس فقط الحاكم أو الرئيس أو المدير، وغيرهم الدهماء والغوغاء التي يكون لها الخبز الأسود ولغيرها الأبيض، أو التي تُحشر في المركبات العامة ولغيرها العربات الخاصة، أو التي تقطن في المساكن الشعبية ولغيرها الفيلات الخاصة.
وقد يحاول اليمين تفسير هذه النزعة الإنسانية لصالحه، فتنشأ النظم الليبرالية اليمينية، التي تؤكد على إنسانية فردٍ واحد دون غيره، وتظهر النظم الرأسمالية كوريثٍ شرعي لليمين الليبرالي، كما تنشأ النظم الغربية العنصرية التي تؤكد على إنسانية الغرب دون غيره من الشعوب، ولكن اليسار الديني يكشف عن هذا التفسير اليميني لموقفه، ويجعل الإنسانية عامة لا تخص فردًا دون فرد، أو طبقةً دون طبقة، أو شعبًا دون شعب. ويمكن لليسار أن يُعيد تفسير ما اعتمد عليه اليمين لإقامة نُظم القهر والتسلط، خاصةً لدى شعبٍ يمُر بمرحلة إيمانٍ تقليدي، لا يمكنه التخلي عن فكرة الذات الموجودة الأزلية الباقية، وذلك بتفسير هذا المطلَق لصالح الضعفاء، وتوجيه هذه القوة ضد الأقوياء؛ فالله موجود فوق كل الوجود، بدل أن يستعملها الأقوياء ضد الضعفاء يستعملها الضعفاء ضد الأقوياء، وهو الأقرب للطبيعة؛ فالله أكبر فوق كل كبير، وليس الله أكبر فوق كلِّ صغير، والله أقوى من كل قوِي، وليس الله أقوى من كل ضعيف؛ فالوجود المطلَق هنا يكون لإعادة خلق المهدَّد وجودهم بالفَناء، ولإعادة وجودهم من عدم.
-
(٤)
والذات الإلهية المتصفة بهذه الأوصاف الست الماضية، التي تشير إلى علاقة الذات بنفسها، لها صفاتٌ أخرى تشير إلى علاقة هذه الذات بالعالَم، وهي الصفات السبع المشهورة التي ورِثناها من القدماء؛ العلم، والقدرة، والحياة، والسمع، والبصر، والكلام، والإرادة. وهي صفاتٌ مطلَقة مثل أوصاف الذات، ومُشخصة بمعنى أنها تَصِف موجودًا حيًّا ذا علمٍ وإرادة؛ ومن ثَم تنتزع من الإنسان أهم صفاته، أعني العلم والقدرة والحياة؛ فالسمع والبصر وسيلتان للعلم، والكلام للتعبير والإيصال والمشاركة في الحياة، والإرادة لتنفيذ القدرة؛ فالإنسان موجودٌ حي له علم وله إرادة؛ أي إن الحياة لها جانبان؛ النظر والعمل، ولكن تحويل ذلك إلى صنمٍ عقلي ثابت جامد هو نوع من الوثنية اللاشعورية.
وهذا هو موقف اليمين؛ فالنظم السياسية التي تقوم على هذا الأساس تعتمد على التأليه، تأليه الحكام، وتأليه الرؤساء، وتأليه القادة؛ فالقمة تحتوي على قيمةٍ أكثر مما تحتوي القاعدة. القمة هي الكمال، والقاعدة هي النقص. القمة هي الحية العالمة القادرة دون القاعدة التي تتصف بالحدوث؛ أي الموت والجهل والعجز، وهي صفات الجماهير، صُم، بُكم، عُمي! وفي النظم الرأسمالية يتمتع رأس المال بكل مظاهر الحياة والعلم والقدرة؛ فهو رأسمالٌ متحركٌ نشِط يتمدد كالأخطبوط، كما هو الحال في الشركات المتعددة القوميات، وهو عالِمٌ يسمع ويبصر، ويقوم على الترشيد، وتوجيه الأسواق، وتحديد الأسعار.
أما الاتجاه الآخر فيُحاول استرداد هذه الصفات؛ التي هي أخص خصائص الإنسان؛ فالإنسان هو العالِم القادر الحي الذي يسمع ويبصر ويتكلم ويريد؛ وبالتالي يتحول الثبات إلى حركة، والتأليه إلى نشاط، والخارج إلى الداخل، والقهر إلى تحرُّر، فالإنسان لا يؤلمه إلا ما يعجز عن تحقيقه، ولا يعبد إلا ما لا يستطيع أن يناله. إذا كان جاهلًا عبد العلم، وإذا كان عاجزًا ألَّه القدرة، وإذا كان ميتًا عشق الحياة، وإذا كان أصمَّ أمل السمع، وإذا كان أعمى رجا البصر، وإذا كان أبكَم تاق للكلام، وإذا كان عاجزًا تمنَّى الإرادة. ولكن إذا تحقَّقَت غاية الإنسان في الحياة، وأصبح عالمًا، قادرًا، حيًّا، سميعًا، بصيرًا، متكلمًا، مريدًا، فإنه يحقِّق صفاته بالفعل، ويعود إلى عالمه، بعد أن ظل مغتربًا في عالمٍ آخر، منفصم الشخصية؛ حيث يكون في عالَم الجهل والعجز والموت، ويظن أنه بأشواقه قد نال العلم والقدرة والحياة.
وهذا هو موقف اليسار؛ ذلك أن النُّظم التقدمية تحاول أن تعيد بناء الإنسان عالمًا، حيًّا، وتقضي على مظاهر الجهل والعجز ومشارف الموت التي يتردَّى فيها الإنسان كل يوم، فإذا انتشر التعليم تحقَّق العلم، وإذا قامت المؤسسات التي تجعل الشعب قادرًا على ممارسة حقوقه السياسية وعلى توجيه السياسة والتخطيط لصالحه تحقَّقَت القدرة، وإذا كان الشعب مستقلًّا متقدمًا تحقَّقَت له الحياة، وإذا كان هو صاحب الكلمة، ويسيطر على وسائل إعلامه أصبح سامعًا، بصيرًا، متكلمًا، مريدًا، ومحققًا لرغباته.
قد يحاول اليمين استغلال الموقف اليساري لصالحه، وذلك بتحويل الصفات إلى وقائعَ حية، ولكن للأقلية المسيطرة وحدها؛ فهي العالمة القادرة، الحية التي تسمع، وتبصر، وتتكلم، وتريد. وما سواها يظل جاهلًا، عاجزًا، ميتًا، أصَم، أبكَم، أعمى، لا يريد شيئًا، بل يتمنى أن يكون على خلاف ذلك بالوهم أو بالخيال. وتُمني الأقلية الأغلبية، وتُشيَّد لها المعابد لتأليه عالم التمني المشخص، وكلما ازداد التأليه ابتعدَت الأغلبية عن المطالبة بحقوقها، وقد تستغل العنصرية الحضارية أيضًا هذا الموقف، وذلك بجعل الغرب وحده هو العالم، القادر، الحي، وغيره من الشعوب هو الجاهل، العاجز، الميت، ويستحيل للشعوب الأخرى اللحاق بالشعب الأول المختار، ولكن اليسار يعمِّم هذا التحقيق للجميع، لا فرق بين أقلية أو أغلبية، وينفِّذ مشاريعه الفعلية وبرامج محو الأمية للقضاء على الجهل، ويُقيم الحزب الجماهيري من أجل الحفاظ على قدرة الجماهير وفاعليتها، ويحرص على وعي الشعب؛ ففي وعيه حياته. وبإمكان اليسار الديني أيضًا إعادة تفسير الموقف اليميني لصالحه، وذلك بجعل هذه الصفات المثل الأعلى التي تشُد الإنسان نحو تحقيقها، والتي تكون مقاييسَ لسلوكه، ومعيارًا لما تحقق منها وما لم يتحقق بالفعل؛ وبالتالي تكون هذه المُثُل الغاية القصوى للإنسان وليست تسكينًا، وتثبيتًا، وتأليهًا، وإرضاءً، وتحذيرًا.
-
(٥)
فإذا انتقلنا من الذات والصفات إلى الأفعال يظهر أيضًا موقفان؛ الأول يجعل أفعال الذات مطلقة وشاملة لا تحدها حدود، ولا تقف أمامها أفعالٌ أخرى. ومن هنا تنشأ عقيدة القضاء والقدَر، وتثبيت أمر الله التكويني العام الذي يضُم كل شيء، وإثبات أمر الله الذي يخص كل إنسان ويكيِّف حياته؛ فالإنسان جزء من هذا العالم، يسري عليه قضاء الله وقدره، وليس له قدرةٌ مستقلة أو إرادةٌ خاصة؛ وبالتالي فهو ليس صاحب قراره أو مصدر تدبيره. والكسب الأشعري لا ينفصل عن الجبر في الحقيقة؛ لأن شرط الفعل الإنساني الحر هو إمكانية يولِّدها الله في الإنسان؛ فالفعل الإلهي ما زال هو الشارط، والفعل الإنساني هو المشروط، ولولا حدوث هذا الفعل الإلهي لما تحقَّق الفعل الإنساني. الفعل الإلهي أشبه بمركبة صاعدة إلى قمة الجبل، والفعل الإنساني أشبه براكب دراجة يمسك بالمركبة. وليس هناك أي بقاء للفعل الإنساني في ذاته؛ فالفعل الإلهي يضمه أيضًا ويحتويه؛ فالفعل الإلهي سابق على الفعل الإنساني، ومعه، وبعده، والفعل الإنساني ما هو إلا تابع لمتبوع. وكل ما يحدث في أفعال الشعور الداخلية من هداية أو ضلال أو توفيق أو خذلان يحدث بالفعل الإلهي. وكل ما يحدث في الخارج من تحديد للآجال والأرزاق والأسعار يحدث بالفعل الإلهي وليس نتيجة للأوضاع الاجتماعية، وهذا هو موقف اليمين.
فإذا انتقلنا إلى النظم السياسية القرينة لوجدناها أيضًا نُظمًا تؤكِّد على سلطة الفرد المطلَق، وعلى قدرته الشاملة، وعلى أولوية فعل الحاكم على المحكوم، وأن المحكوم بين إصبعَين من أصابع الحاكم يقلِّبه كيف يشاء؛ فالنُّظم الدكتاتورية هي التي تروِّج لأفكار القضاء والقدَر، وهي التي تُوحي للجماهير بأنهم لا خِيَرة لهم في أمرهم، إلى آخر ما تزخر به أمثالنا الشعبية وأغانينا اليومية، وعبارات المآتم والأحزان عندما تحل المصائب، مطالبين بالصبر والعزاء والسلوان.
والموقف الآخر هو الذي يُثبت حرية الإنسان، واستقلال إرادته، وأن الإنسان خالق أفعاله، وصاحب قراراته، وأن فعله أولي غير مشروط، وأن فعله أساسي وليس تابعًا، وهو موقف اليسار؛ فالنظم السياسية التقدمية تثبت حرية الإنسان وقدرته، وخلقه لأفعاله، وأن للإنسان قدرة واستطاعة فعلية بمسابقة على الفعل في صورة رؤية وتدبر، وانتظار وتخطيط، ومع الفعل في صورة باعث ونشاط، وحركة وتحقيق، وبعد الفعل في صورة بقاء واستمرار لآثار الفعل إلى ما لا نهاية حتى إنه ليصبح سنةً يُحتذى بها، وقدوةً للأجيال القادمة. كما تؤكِّد أن الجماهير هي صاحبة القرار، وتُصِر على حق تقرير المصير، وحق التعبير، وحرية القول والعمل كتطبيقاتٍ لحرية الإنسان وممارسته لها.
وقد يستغل اليمين حرية الإنسان لصالحه الخاص؛ فالنظم الليبرالية تقوم أساسًا على تأكيد حرية الإنسان في شتى مظاهرها، ولكنها حرية الأقلية ضد الأغلبية، وحرية ممارسة الجنس، وارتكاب العنف والجريمة، والسلوك الفوضوي الشامل، كما قد تكون إعادة لحقوق الإنسان، وتأكيدًا لحرياته في الغرب وحده، أما الشعوب الأخرى فهي غير مؤهَّلة إلا للتبعية والطاعة والتقليد، ولكن الموقف اليساري هو الذي يقرن الفعل الحر بالمسئولية، فتكون أفعال الإنسان ملتزمة بقضايا الواقع، ومحقِّقة لبرامج تطويره. وقد يحاول اليسار تفسير الجبرية أو عقيدة القضاء والقدَر لصالحه خاصةً في شعوبٍ ما زالت أسيرة التقاليد، وطائعة للموروث. وذلك بإثبات الشجاعة المطلَقة، والتأكيد على الدور البطولي للإنسان، فإذا كان الموت مكتوبًا فلِمَ العيش في الضَّيم؟ وهذا ما حاوله الأفغاني من إعادة تفسير عقيدة القضاء والقدَر على أنها رفضٌ للمذلة والهوان، وإطلاق القوى للجماهير الحبيسة، وزعزعة الخوف من نفوسها؛ فهذه العقيدة لا تؤدي إلى القبول، بل إلى الرفض، ولا تبعث على الاستكانة والرضا، بل تبُث روح الثورة والنضال.
-
(٦)
ولمَّا كان كل دين يقوم على وحيٍ شفوي ثم يتم تدوينه؛ إما مباشرة، أو بعد عدة أجيال، أو تكثر، نشأَت مسألة سلطة الكتاب وصِلته بسلطة العقل، وهي مسألة العقل والسلطة، وباصطلاحاتنا القديمة مسألة العقل والنقل. ونجد هنا أيضًا موقفَين؛ الأول يجعل السلطة سابقة على العقل، والعقل تابعًا للسلطة، والثاني يجعل النقل أساسًا للعقل، والعقل تابعًا للنقل. ويترتَّب على ذلك إهدارٌ للعقل وهو القاسم المشترك بين الناس، وإنكار بداهته وحدْسه وأولوياته، وهي أساس العلم وبداية المعرفة، والارتكان إلى بدايةٍ أخرى أقل يقينًا، وذلك لأنها نصوصٌ مكتوبة، قد تكون صحيحةً تاريخيًّا وقد تكون مُحرَّفة؛ لأنها نصوصٌ مكتوبة باللغة، وخاضعةٌ في فهمها لقواعد اللغة ومناهج التفسير، وقد تكون مكتوبة بغير لغتها الأصلية. مما يسبِّب ضياع المعنى الأوَّلي المقصود للكلمات، ويختلف فهم الناس للنصوص؛ فكل لغة تحتوي على الحقيقة والمجاز، الظاهر والمُؤَوَّل، المحكَم والمتشابه، ولا يوجد نصٌّ واحد حتى ولو كان صريحًا لا يختلف عليه اثنان. وهذا طبيعي نظرًا لأن التفسير يعني التعبير عن النص من خلال تجربةٍ حيةٍ للإنسان، يعيش في زمانٍ معيَّن ومكانٍ محدَّد، ولا يُوجد فردان متشابهان تمامًا في كل شيء. كما أن التفسير يخضع لأهدافه والغاية منه ولمضمونه ومادته، فقد يتم التفسير لصالح الأقلية ضد الأغلبية، كما قد يتم لصالح الأغلبية ضد الأقلية. وقد يظهر تفسيرٌ رأسمالي للدين وآخر اشتراكي له؛ ومن ثم كان النص تابعًا للموقف الاجتماعي ولوضع المفسِّر وأهدافه، وانتمائه وولائه. وهذا ما يفسِّر لنا تعارض النصوص وهو في الحقيقة اختلافٌ في المواقف التي تُستعمل فيها هذه النصوص؛ فالموقف الذي يجعل النقل، بكل شبهاته ومخاطره ومظنَّاته هذه، أساسًا للعقل هو موقف اليمين حتى يلتبسَ الباطل بالحق، وتضيعَ حقوق الشعوب في متاهات المفسِّرين وتضارب وجهات النظر، ما دام كل شيء فيه قولان، ولا يرجع أحدٌ لبداهة الجماهير بالتبعية للسلطة دون إعمال العقل، والتبعية لسلطة الكتاب المقدس هي أسرع الوسائل وأكثرها فاعلية، تستعملها السلطة السياسية من أجل توجيه الجماهير نحو التبعية لها؛ فكلاهما سلطة؛ فالتبعية لسلطة الكتاب المقدس هي بمثابة التأهيل النفسي لتبعية السلطة السياسية، والجماهير التي تتأهل نفسيًّا على التبعية ويقوم بناؤها النفسي على التبعية تتبع أي شيء؛ فأولوية النقل على العقل تحمي النظم الرجعية من استعمال الجماهير لوسائل البحث، أو السلطان، أو صاحب رأس المال، أو المدير، أو لها، وتُفسِح المجال للسلطة السياسية لاختيار نوعية المتبوع الذي قد يكون الله، أو الأمير، أو الملك، أو السلطان أو صاحب رأس المال أو الرئيس.
في مقابل ذلك، هناك موقفٌ آخر يجعل العقل هو الأساس، وسلطة الكتاب تقوم على هذا الأساس، تجعل للعقل الأولوية على النقل، وذلك لأن العقل يؤدي إلى اليقين ببديهياته وأولياته، وبراهينه واستقراءاته، في حين أن النقل لا يؤدي إلا إلى الظن بروايته وتفسيراته ومناطه «لمن يتم التفسير؟» وإن الظن لا يغني من الحق شيئًا. ولو تضافَرَت كل الحجج النقلية على شيء فإنه يظل ظنيًّا، ولا يتحول إلى يقين إلا بحُجة عقلية. كل من يبدأ بقوله: قال الله وقال الرسول، فإنه لا يبغي مصلحة الناس، في حين أن كل من تحدَّث بحديث العقل، وأعطى إحصاء دقيقًا للواقع فإنه يدافع عن مصلحة الناس، مستعدٌّ لمقارعة الحجة بالحجة والبرهان بالبرهان، والإحصاء حجةٌ دامغة لأنه دليل الحس والمشاهدة، وهو يقينٌ مثل يقين العقل. وهذا هو موقف اليسار؛ إذ تعتمد النظم التقدمية على المبادئ العقلية الشاملة، وهي في نفس الوقت قوانين المجتمع ومسار التاريخ.
وقد يستغل اليمين هذا الموقف لحسابه فيعتمد على العقل لترشيد مصالح الأقلية، لتنظير توظيف رأس المال، ولتبرير الوضع القائم وصور الاستغلال والاحتكار، ولكن العقل هنا لا يكون هو العقل البسيط، بل يكون هو الهوى والمصلحة أو العنصرية التي لا يؤيدها العقل أو التجربة، ولكن حرص اليسار على بداهة العقل وشموله وموضوعيته ضمانٌ لعدم استغلال اليمين له. كما يمكن لليسار إعادة تفسير النقل لصالحه خاصة في مجتمعٍ مؤمنٍ بالنصوص، ويعتمد على العقل، ولكن النصوص يتم تفسيرها لصالح الطبقات الكادحة، ويتم التفسير كله طبقًا لحاجات العصر ومتطلبات الواقع، كعاملٍ مساعدٍ لدليل العقل وبرهان التجربة.
ويرتبط بموضوع العقل والنقل تصوُّراتٌ وتطبيقاتٌ تنتج عنهما، مثل موضوع الخير والشر، أو كما يُقال باصطلاح القدماء الحُسْن والقُبح، وموضوع الصلاح والأصلح، ومسألة الغائية في الكون. وهنا نجد أيضًا موقفَين؛ الأول يجعل الخير والشر من الله وجودًا وحكمًا، بمعنى أن كل شيء في هذا العالم خيرًا كان أم شرًّا من فعل الله وليس من وضع البشر، وأن الحكم على ذلك بأنه خير، وعلى ذلك بأنه شر يأتي من الله أيضًا بأوامره ونواهيه؛ فالشيء خير لأن الله أمر به وشر لأن الله نهى عنه. وكل شيء في هذا العالم بخيره وشره لا يخضع لقانون، ولا يبغي مصلحة، ولا يهدف إلى غاية، بل من فعل الله حيث لا تعليل لأفعاله بمصالح العباد، ولا تبرير لها برعاية الصلاح والأصلح. وهذا هو اليمين في الفكر الديني، ويتحول ذلك في السياسة إلى أيديولوجية اليمين الرجعي، الذي يجعل من الخير والشر وضعَين كونيَّين لا حيلة للإنسان فيهما، حتى يمكن تبرئة النظام الرأسمالي من الشرور والآثام، وجعل الفقر والاستغلال وضعَين طبيعيَّين في الكون لا غرابة فيهما، ولا تجوز الثورة عليهما، ولا يُوجد نظام يرعى مصلحة الناس؛ إذ لا يوجد صلاح أو أصلح، بل تُوجد أوضاعٌ لا عقلية لا يمكن فهمها، كما أن الكون لا الناس هو المسئول عن الشر. أما الناس فإنه يمكن السيطرة عليهم، وإبعادهم عن التساؤل، وفهم الأسباب، وربط العلة بالمعلول.
وفي مقابل ذلك، هناك اتجاهٌ آخر يجعل الخير والشر وضعيَن اجتماعيَّين من صنع الإنسان، نتيجة لفعلٍ داخلي في العالم وليس نتيجة لفعلٍ خاصٍّ خارجي عن العالم، وأن الإنسان هو المسئول عن ذلك، والإنسان هو واضع النظام الاجتماعي؛ ومن ثم هناك ذنب وإدانة، وليس حكمًا ببراءة العالم ومسئولية الله، بل حكمٌ بمسئولية الإنسان وبراءة الله؛ ومن ثَم كان واجب الإنسان وقضيته الأساسية هي في تغيير الشر إلى خير، وفي درء الشرور واستجلاب الخير؛ وبالتالي تتحرك الجماهير وتتحزب، وتُمارِس حقها السياسي، وتتحمل مسئوليتها القومية. وهذا العالم يهدف إلى رعاية الصلاح والأصلح؛ فالأصلح أن يشارك العامل في رأس المال، والأصلح أن تكون الأرض لمن يفلحها، والأصلح الملكية العامة لوسائل الإنتاج؛ وبالتالي يمكن تغيير المجتمع، ونقله من وضعٍ حسن إلى وضعٍ أحسن، ومن نظامٍ صالح إلى نظامٍ أصلح. كما أن هذا العالم يسير وفقًا لغاية، ويُمكِن للإنسان إدراكها والسيطرة عليها لصالحه؛ فهو عالم غائي لا صُدفة فيه، ولا تحدث فيه وقائعُ خبطَ عشواء. وهذا هو موقف اليسار.
تدخل الموضوعات الأربعة الماضية، الذات والصفات، والأفعال بشقيها «خلق الأفعال، والعقل والنقل» ضمن الإلهيات، التي تشمل نظريتَي التوحيد والعدل، أو ضمن العقليات، وهي الأمور التي يمكن الوصول فيها إلى يقينٍ عقلي، والتي تعتمد على برهان العقل بالإضافة إلى برهان النقل، والتي يكفُر فيها منكروها، أعني وجود الله ووجود الإنسان من حيث هو إرادةٌ حرة وعقلٌ مستقل قادر على التمييز بين الخطأ والصواب. أما الموضوعات الأربعة التالية؛ النبوة، والمعاد، والأسماء والأحكام، والإمامة، فإنها تدخل في نطاق السمعيات التي لا يمكن الوصول فيها إلى يقينٍ عقلي، والتي لا يُعتمد فيها إلا على النقل وحده؛ ومن ثَم فهي ظنية لا يكفُر منكروها.
وهنا أيضًا يبدو موقفان؛ الأول موقف اليمين الديني الذي يحاول الجمع بين المجموعتَين، فيردُّ العقليات «الإلهيات» إلى السمعيات، هادمًا الأساس العقلي اليقيني الذي تعتمد عليه، ظانًّا أنه بذلك يدافع عن عقائد الدين وهو في الحقيقة يزايد فيه. ولا يدري أنه بإرجاع العقليات إلى السمعيات إنما يُرجع اليقين إلى الظن، هادمًا ما بناه القدماء. ثم يجعل اليمينُ الديني السمعيات كلها، التي شملَت كل شيء تقريبًا، يقينيات يكفُر منكروها أو المختلفون في تفسيرها، وهو بهذا يساوي الله، وهو اليقين، بأمور المعاد، وهي الظنيات، مزايدةً في الدين، ومغالاةً فيه، وتنطعًا لا يرضاه المتدينون ولا العقلاء على حدٍّ سواء. هذا هو موقف اليمين؛ إذ تحاول النظم اليمينية الرجعية إرجاع كل المسائل إلى الدين، وترى في معاناة الشعب ومآسيه غضبَ الله وانتقامه، وتقسم الناس إلى مؤمنين وكفار، وتخلط بين الأهم والأقل أهمية حتى يظل سيف الدين دائمًا مسلطًا على الرقاب، فيخشى الناس الحركة؛ إما لفهم الأمور النظرية، أو للتحرك العملي من أجل المطالبة بالحقوق.
وفي مقابل ذلك، هناك اتجاهٌ آخر يحاول توسيع نطاق العقليات ومدها حتى يشمل اليقين الظن ويحتويه من أجل الحصول على اليقين أيضًا في السمعيات حتى يطمئن الناس إلى مسائل النبوة والمعاد، وحتى يعلموا حقيقة الإيمان وواجبات الحاكم وشروطه. وهي موضوعاتٌ مهمة للغاية في عصر نرى الفصل فيه بين الإيمان والعمل، ونرى حَيرة الناس فيه وشقاءهم في نُظمهم السياسية الحالية، وتساؤلهم عن السلطة السياسية ومدى شرعيتها في البلاد. وهذا هو موقف اليسار؛ إذ تحرص النظم السياسية التقدمية على إبراز أهمية العمل، وأولويته على المنظر، كما تحرص على إبراز المشكلة السياسية، وكيف أنها هي مفتاح المشاكل الأخرى؛ فالأولويات في التخطيط قرارٌ سياسي وليس اقتصاديًّا، ومحو الأمية قرارٌ سياسي وليس مجرد إمكانياتٍ مادية.
-
(٧)
ولمَّا كان كل دين يقوم على وحي، وكل وحي يُوحَى إلى نبي، كان موضوع النبوة هو الموضوع الخامس في علم أصول الدين القديم، بعقلياته وسمعياته، وأول موضوعاته السمعية. وهنا يبدو موقفان؛ الأول يجعل النبوة ضرورية، وأنه لا قوام لحياة الناس دون نبوة، وأن الإنسان قاصرٌ عقلًا عن إدراك مصالحه، وعاجزٌ واقعًا عن توجيه أموره؛ ومن ثَم فهو يحتاج إلى وصايا من الخارج، وإلا ظل كالحيوان ينعق وينهق أو أضل سبيلًا. ودليل صدق النبوة دليلٌ خارجي هو المعجزة بمعناها التقليدي، أي خرق قوانين الطبيعة، وقلب الحجر ذهبًا والعصا ثعبانًا. وهذا هو موقف اليمين؛ إذ تقوم النظم اليمينية الرجعية بتدعيم هذا الاتجاه، وتقوم عليه لأن الإنسان فيها قاصرٌ عن إدراك مصالحه، ومحتاج إلى توجيه ووصاية من الحاكم أو من المدير أو من الرئيس أو من الشيخ؛ ومن ثم يصبح الإنسان آلةً طيعةً في يد قوًى تسيِّره كيف تشاء، ولا ضامن لها ولا مراجع أو رقيب عليها. وكما يقوم النبي بالمعجزات يقوم الزعيم السياسي أو صاحب رأس المال بمعجزاتٍ مشابهة، يهزم الزعيم العدو في ساعات، ويحلُّ المؤسسات ويعقدها في غمضة عين، فتثق في أقواله الجماهير، وتعطيه الثقة كل الثقة، ويُشيِّد صاحب رأس المال المصنع في أسابيع، يُضاعف الربح في ساعات، ويسيطر على السوق في دقائق، ويُقيل الحكومات ويؤلِّفها في ثوانٍ.
وفي مقابل ذلك، هناك اتجاهٌ آخر يرفض كل أشكال الوصايا على الإنسان، ويجعله مستقلًّا قادرًا لا يحتاج إلى عونٍ خارجيٍّ نظري أو عملي، ويضع الإنسان في تطوُّر التاريخ. كان الإنسان قبل آخر مرحلة من مراحل الوحي قاصرًا عن إدراك الأمور النظرية، وعاجزًا عن تحقيق مطالبه العملية؛ ومن ثم كان ظهور الأنبياء ضرورةً حتمية تحتمها ظروف العصر في مراحل التاريخ السابقة، وكانت الأنبياء تظهر في كل عصر، وكان لكل قومٍ نبي، وكل نبي يدفع بالتقدم الإنساني خطوةً إلى الأمام ثم يتلوها نبي آخر يدفع التقدم خطوةً أخرى، حتى إذا ما تحقق استقلال الإنسان وكماله من الناحيتين النظرية والعملية، وأصبح قادرًا على إدراك الأمور بعقله، وتحقيقها بعمله، توقف ظهور الأنبياء، وأصبحَت النبوة غير ضرورية. كانت ضرورية في الماضي وأصبحَت غير ضرورية في الحاضر بدليل توقُّفها في المستقبل. والدليل على صدق النبوة ليس خرقًا لقوانين الطبيعة؛ فقوانينُ الطبيعة ثابتة ومطردة حتى تستقيم أحوال الناس، ويثقوا بالعالم الذي يعيشون فيه، بل هو دليلٌ داخلي محض، وذلك عن طريق التصديق بالوحي، وإيجاد البراهين العقلية والحسية على صدق محتواه، وفاعلية مضمونه، وأثره في إصلاح أحوال الناس، وتدبير أمور معاشهم، وهذا هو موقف اليسار؛ إذ لا تحاول النظم التقدمية فرض أية وصايا على الإنسان، أو أن تعتبر الجماهير قاصرةً عن إدراك حقوقها، بل على العكس من ذلك يتعلم الإنسان من الجماهير، ويتخلص من وصايا التعليم الحضري وأفكاره المسبقة؛ فلا ضمان إلا الشعب، ولا مراجع إلا المؤسسات الديمقراطية، ولا حارس إلا الحزب، عصَب الجماعة.
والحقيقة أن اليمين يؤمن بهذا الاستقلال للإنسان في عقله وإرادته، ولكنه يستغله لصالح الحاكم، أو لصالح صاحب رأس المال، أو لصالح الأقلية المسيطرة، أما فيما يتعلق بالعامة أو ما يُطلَق عليه اليمين الدهماء أو الغوغاء فتُفرض الوصايا عليهم، وما أسهل فرضَ الوصايا باسم الأنبياء! ولكن يستحيل على اليسار أن يعيد تفسير موقف اليمين لصالحه؛ لأن فرض الوصايا النظرية والعملية على الناس موقفٌ فاضح لا يمكن إعادة بنائه، اللهم إلا من التأكيد على أهمية الأيديولوجيا للناس، فالدين بقاموس العصر السياسي هو الأيديولوجيا، والإنسان بلا أيديولوجيا إنسانٌ مائت، ولكن الأيديولوجيا ليست وصايا مفروضة على الإنسان، بل هي تعبيرٌ نظري عن واقعه، وتنظيرٌ مباشر لاحتياجاته، وتحقيقٌ على مستوى الفكر لمتطلباته، وتخطيطٌ دقيق لكيفية الممارسة، وتحقيق هذه المتطلبات بالفعل، أو أن تكون الوصايا من القواعد الجماهيرية على قياداتها؛ وبالتالي تأخذ معنى الرقابة والمراجعة.
-
(٨)
وإذا كانت النبوة تتناول ماضي الإنسان على الأقل، فإن موضوع المعاد قد يكون هو الموضوع الأساسي في السمعيات؛ فلا يوجد دين إلا ويتناول موضوع الأخرويات إجابة على سؤال: ماذا يحدث للإنسان بعد الموت؟ أو سؤال: ماذا آمل؟ وهنا يبدو موقفان؛ الأول يجعل الله هو الذي يُميت، وأن الموت حادث بقضاء الله وقدره، وواقع بفعل الله وليس بفعل الأمراض وحوادث الطريق أو الاغتيالات. والموت يفترض قسمة الإنسان إلى قسمَين؛ بدن ونفس، الأول فانٍ، زائل، لا قيمة له، يتحلل إلى تراب، والثاني باقٍ، خالد، تتم به التزكية، وينتظر الحساب. وتبدأ الرحلة بعذاب القبر ونعيمه، ولا ندري هل يتم ذلك بالبدن الذي يتحلل أم بالروح التي صعدَت إلى بارئها؟ ثم تبدو وقائع الحساب، وإثبات الجنة والنار، كواقعتَين حسيتَين، مع إثبات الميزان والصراط، والحوض، وناكر ونكير، وعلامات الساعة من انشقاق القمر، وشروق الشمس من مغربها، وغروبها من مشرقها، ويأجوج ومأجوج، وخروج الدابة، والمسيح الدجال، فإذا تم الحساب فإنه يحدث طبقًا لإرادة القاضي الذي لا يخضع لقانون العدل، بل بناءً على رحمته، قد يعفو عن المسيء، وقد يُعاقب المحسن، ولا رادَّ لقراره، فإذا تم الثواب فإنه يحدث طبقًا لأعمال الفرد، وينال الفرد ثوابه، وتتفاوت الجنة في الدرجات ويعيش كل إنسان فردًا؛ كلٌّ حسب درجته في الثواب؛ فهناك منازلُ وقصورٌ تتفاوت فيما بينها في العظمة والثراء. وهذا هو موقف اليمين المادي؛ إذ تعتمد النظم اليمينية الرجعية على أمور المعاد لترغيب الناس في مستقبلٍ ليس لهم في الحاضر، وتُمنِّيهم بعالم من الرفاهية ورغَد العيش حُرموا منه في هذا العالم، فيجد المحرومون تعويضًا نفسيًّا مما حُرموا منه ويتشوَّقون إلى ما لم ينالوه؛ وبالتالي تطمئن النظم السياسية إلى وضعها الحالي، وإلى استكانة الناس، وإلى رضاهم بالوعود المستقبلة ما دامت لن تحقَّق في هذا العالم؛ فيستغل صاحب رأس المال ويحتكر ويسيطر، وهو مطمئن البال إلى استتباب الأمن، وانتظار الناس اليوم الموعود!
وفي مقابل ذلك، هناك موقفٌ آخر، يجعل الموت واقعًا بأسبابه المباشرة مثل الأمراض، وحوادث الطريق، والاغتيالات، والحروب، وبتغيير الواقع تقلُّ أسباب الموت ويحيا الإنسان؛ فالواقع يمكن تغييره إلى واقعٍ أفضل، والموت يمكن الإقلال من نسبته بالقضاء على الأمراض، وتنظيم المرور، ونشر السلام الداخلي والخارجي. أما الإنسان وحده فإنه وحدةٌ لا انفصام لها، لا يهم تسميته بدنًا، أم نفسًا، أم جسمًا، أم شعورًا، أم حياةً، أم روحًا. بل إن بقاء البدن لأجدى على الإنسان المتخلِّف من بقاء النفس؛ فالبدن هو الذي يُميت النفس ويقضي عليها، والإنسان يموت بسبب مرض بدنه، وفقر بدنه، وإهمال بدنه، وحشر بدنه، وتحويله إلى شيء طبيعي. وكيف يكون البدن فانيًا ونُثبِت أن النفس لا تفنى؟ أما ماذا يحدث بعد الموت فإن كل ذلك تصويرٌ فني ومجاز عن عالم الأمل الذي يعيشه الإنسان، ثقةً منه في عالم أفضل من أجل تغيير هذا العالم، وليس من أجل تثبيت النظم القائمة تعويضًا عن حرمان، وأن المسيء سينال عقابه، وأن المحسن سينال ثوابه، وأن العمل وحده هو مصدر القيمة، قيمة الإنسان، وأن اللغة بمجازها أقدر على تصوير المعاني وإيصالها لأكبر قدرٍ ممكن من الناس، بصرف النظر عن مستويات تعليمهم ودرجات ثقافتهم، والتأثير في نفوسهم من أجل توجيه السلوك. وسيتم الحساب طبقًا لقانون العدل؛ كلٌّ حسب عمله وليس طبقًا لقانون الرحمة وتبعًا لإرادة القاضي؛ فالمسيء لا بد وأن ينال عقابه، والمحسن لا بد وأن ينال جزاءه. ولا يعني ذلك بالضرورة وجود درجاتٍ في النعيم، ومنازلَ صغيرة، وقصورٍ شامخة، بل قد يأتي الخلود للعمل وللجماعة من خلال آثار الإنسان وصفته الحميدة على الأرض، وذكراه الطيبة التي يتركها في نفوس الآخرين، وهذا هو موقف اليسار؛ لذلك نجد الحركات الثورية حركاتٍ مستقبليةً تؤمن بأن الخلاصَ لا بد آتٍ في النهاية. وفرقٌ بين أن يستغل اليمين هذا البعد الإنساني، وهذا الشوق للأمل، والتطلع إلى عالمٍ أفضل من أجل تخدير الناس، ووعدهم بسراب وبين تحقيق اليسار لهذا الأمل بالفعل، في حياة الناس، وفي هذا العالم.
-
(٩)
ولما كانت الأخرويات تعني أن العمل وحده هو مصدر القيمة، فإن موضوع الأسماء والأحكام يصبح أصلًا من أصول الدين، وتعني الأسماء والأحكام معاني الإسلام والإيمان، وأحكام الكفر والفسوق والنفاق. ويكون السؤال: ما الصلة بين الإيمان والعمل؟ وهنا يبدو موقفان؛ الأول يجعل الإيمان مجرد الشعور الباطني، وهو إيمان عامة الناس الذي لا يتحول إلى فكر أو إلى قول أو إلى عمل، أو بجعله إيمان الشعور الباطني من حيث هو فِكر، وهو إيمان المثقَّفين الذي لا يتحول إلى قول أو إلى عمل، أو يجعل الإيمان مجرد القول والنطق بالشهادتَين، ولا ندري ماذا وراءهما من شعور أو فكر، وماذا يتلوهما من عمل، وهو إيمان المنافقين. ويكتفي هذا الموقف بأنصاف الحلول؛ فالشعور الباطني كافٍ، والإيمان العقلي كافٍ، والقول كافٍ، والمطالبة بالعزيمة شيءٌ بعيد المنال، ويكفي في ذلك الرخصة! وهذا هو موقف اليمين؛ فالنظم الرجعية لا تطلب من الناس أكثر من شعورهم الباطني حتى تأمن ألسنتَهم وأفعالَهم لأنهم إذا تحدَّثوا فضَحوا، ودافَعوا عن حقوقهم، وإذا عملوا ثاروا ضد الظلم الواقع عليهم، ولا تطلب من المثقَّفين أكثر من الإيمان العقلي، وهو نوعٌ من الترف الفكري، تأمن به هذه النظم ثورة المثقفين، إذا ما هم تحدَّثوا وعبَّروا عن فكرهم، وإذا هم عملوا على قيادة الجماهير المضطهَدة. لا تطالب هذه النظم بأكثر من التلفُّظ بالشهادتَين حتى يظن الناس أنهم مؤمنون بمجرد القول، خاصة إذا كان قولًا فارغًا بلا مضمون. ويصبح النفاق الديني هو أسلوب الممارسة في النظم اليمينية الرجعية، ويصبح الاستغلال هو الأساس؛ فتُقام الشعائر الدينية من أجل التعمية والتغطية على ما يدور في الواقع، والتستُّر على ما يحدث في حياة الناس.
وفي مقابل ذلك، هناك موقفٌ آخر يجعل الإيمان والعمل وحدةً واحدة لا انفصام لها، وأن مَن لا عمل له لا إيمان له، وأن الإيمان الذي لا يتحقق في صورة أعمال لا يكون له وجود؛ فالعمل هو جوهر الإيمان. ولا تُوجد أنصافُ حلول؛ فالإيمان بلا عمل لا وجود له، والإيمان بلا شعورٍ داخلي أو تصديقٍ عقلي أيضًا مجرد عاطفةٍ هوجاء، والإيمان بلا قولٍ يجهر بالحق إيمان ذليل مُهان. وهذا هو موقف اليسار؛ إذ تعطي النظم التقدمية الأولوية للعمل على النظر، وتنتقد المثقَّفين الذين يكتفون بالتصديق العقلي دون ممارسةٍ فعلية، وتجنِّد الجماهير من أجل المطالبة بحقوقها قولًا وعملًا. ومعروفٌ عن هذه النظم أنها من أنصار الحلول الجذرية في السياسة، ولا ترضى أنصاف الحلول، أو المساومة على حقوق الطبقات الكادحة، أو الموالاة للطبقات المستغلَّة.
وقد يحاول اليمين استغلال موقف اليسار الجذري (…) على صاحب رأس المال، أو على الحاكم وحده؛ فللأقلية المسيطرة وحدها أن تُنفذ وعيدَها، وأن تعمل بما تقول، وتُنفذ ما تقرر في سيطرتها على الطبقات الكادحة، وتحكُّمها في أرزاقها. ويمكن لليسار أيضًا إعادة تفسير موقف اليمين لصالحه في بداية الثورة، والناس لم تتعود بعدُ عليها وعلى متطلباتها؛ فالمتعاطف مع الثورة مقبول، والذي يؤيدها بفكره يساهم، والذي يدافع عنها بالقول يشارك وينصر، والذي يضع فيها عقله وقلبه وقوله وعمله هو الثائر المناضل حقًّا؛ فتبعًا لمراحل التحقيق الثوري يمكن مطالبة الجماهير بالتزامها على قدْر طاقاتها الثورية حتى تنتصر الثورة. حينئذٍ لا يُطلب بأقل من وحدة الداخل والخارج، وهي وحدة الشعور والفكر مع القول والعمل.
-
(١٠)
وبعد العمل الفردي يأتي العمل الجماعي، ويظهر موضوع السياسة كآخر موضوعٍ تقليدي في علم أصول الدين القديم. ويظهر موقفان؛ الأول موقف اليمين الذي يجعل السياسة ملحقًا لعلم أصول الدين، وليست أصلًا من أصوله كالتوحيد والعدل؛ فهي أقرب إلى الفقه والشريعة منها إلى أصول العقائد النظرية، مما يهبِّط حماس الناس السياسي، لمَّا كانت السياسة فرعًا لا أصلًا، وكأن الدين هو العقائد، والعقائد لا شأن لها بحياة الناس وصُلبها في السياسة؛ فما دام الناس قد آمنوا فلا تهم نُظمها السياسية؛ فقد خلق الله الجن والإنس لعبادته وليس لإقامة شريعته، وهو الموقف الذي يجمِّد الدين، ويحصُره في العبادة، ويستل السياسة من الممارسة اليومية للمؤمنين؛ فقد لعن الله ساس ويسوس! وهذا يسمح للنظم اليمينية الرجعية أن تفعل ما تشاء، تصول وتجول؛ فهذا ليس من اختصاص الله ولا من حق المؤمنين!
وهو أيضًا الموقف الذي يجعل المشكلة السياسية كلها مركَّزة حول شخص الإمام أو الزعيم، خصاله وصفاته، فضائله ومحامده، آثاره ومناقبه، إذا صلح الراعي صلحَت الرعية، وإذا حضر الإمام حضر المأمومون. أما المؤسَّسات الدستورية مثل بيت المال، والخراج، والحسبة، والقضاء، والولاية، وحق الشعب في الرقابة، فلا يدخل ذلك كله في موضوع السياسة؛ فقد انحصَرَت السياسة في شخص الإمام كما تنحصر العبادة في ذات الله، وكما ينحصر الدين في الإيمان بالله. وكما قال الفارابي من قبلُ سواء كنتُ أذكر الله أو الرئيس فإنني أعني شيئًا واحدًا! وتقوم النظم اليمينية الرجعية باستغلال ذلك أحسن استغلال فتُؤَلِّه الزعماء، وتذكُر محامدهم، وتُنشِد لهم، ويرقص ممثلو الشعب طربًا ومرحًا، يحمدون الله على سلامة الزعيم حتى ولو انهارت البلاد، واحتُلت أراضيها، وانتُهكَت سيادتها، وطُعن شرفها.
وهو الموقف أيضًا الذي يجعل الإمام من قبيلةٍ معيَّنة وليس بناءً على التزامه بمبادئ سياسية أو ببرنامجٍ اجتماعي، وكأن الانتساب العِرقي أو السلالة الوراثية تشجُب الالتزام والتعهُّد بالبرنامج؛ لذلك كانت النظم الملكية والوراثية أقرب إلى النظم اليمينية من النظم الجمهورية والشعبية.
وهو الموقف الذي يجعل الحاكم بالتعيين وليس بالانتخاب، ويكون دور الجماهير التبعية والولاء، والسمع والطاعة؛ فالحاكم لا يخطئ ولا يضل؛ لأنه حاكم بأمر الله، عصمه من الخطأ، ووقاه من الزلل، فتُسلِّم الجماهير له أمرها كي يقودها إلى بر الأمان!
وهو الموقف الذي يَعِد الناس بالنصر في المستقبل، وتحمُّل آلام الحاضر، وأن القائد لا بد وأنه آتٍ وإن اختفى اليوم خوفًا على نفسه في وقتٍ لم تختمر فيه الثورة بعدُ، وتنتظر الجماهير جيلًا بعد جيل، وتتحمَّل آلامها عصرًا بعد عصر والقائد لم يظهر بعدُ!
وفي مقابل ذلك كله، هناك موقفٌ آخر يجعل من السياسية أصلًا لا فرعًا، وأنها هي المحقِّقة لأصول الدين، وأن الله والشعب صنوان؛ فصوت الله هو صوت الشعب، وأنه لا يمكن تصوُّر الله بدون أمة، وخلافتها له. ويكون التوحيد حينئذٍ هو التوحيد بين النظام الإنساني والنظام الإلهي في حاكمية الله من خلال الدستور، وعدم الرضا بهذا الفَصْم بين شريعة الأرض وشريعة السماء؛ لذلك تحاول النظم التقدُّمية بقَدْر وسعها تحقيق نظامٍ عادلٍ تذوب فيه الفوارق بين الطبقات، وتقوم على الملكية العامة لوسائل الإنتاج منعًا للاستغلال وللاحتكار، وتضع أهدافها، وبرامج تنميتها محاولةً تحقيقها، والوصول إليها.
وهو الموقف الذي يجعل الفكر السياسي يدور حول بناء المؤسَّسات الدستورية، وإعلان استقلالها؛ ومن ثَم، كانت النظم التقدُّمية ضد عبادة الأشخاص، الزعماء ترحل، والشعوب تبقى. والمؤسَّسات القوية لا يستطيع أي حاكمٍ إفسادها، بل إنها قادرة على عزل الحكام والولاة؛ فصلاح الراعي بصلاح الرعية.
وهو الموقف الذي يجعل ولاء الحاكم للمبادئ، والتزامه بالدستور بصرف النظر عن انتسابه الطبَقي أو نسَبه القبَلي؛ فلا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى. الحكم للمبادئ، لا للأشخاص، وما الأشخاص إلا ممثلة لسلطةٍ تنفيذيةٍ خالصة لا تشريعية ولا قضائية.
وهو الموقف الذي يجعل الحاكم بالانتخاب المباشر أو غير المباشر من أهل الحل والعقد، الذي يرفض كل مظاهر التعيين سلمًا أو قوةً، بقرارات أو انقلابات؛ لذلك كانت النظم التقدمية ديمقراطية بطبيعتها، يمارس فيها الشعب حقوقه.
وأخيرًا هو الموقف الذي يحقِّق الاستقلال الوطني، والعدالة الاجتماعية الآن دون انتظار لظهور المخلِّص في المستقبل؛ إذ يستطيع الشعب بعد تجنيد قواه، وبقيادة طلائعه أخذ حقوقه من الغاصبين، سواء من الخارج أو في الداخل؛ فالثورة ممكِنة في الحاضر، والجماهير هي صانعتها، ولها الحق في مراجعة القادة ومحاكمتهم وعزلهم؛ فهم مخطئون ولا عصمة لأحد. وهذا هو موقف اليسار.
وقد يستغل اليمين موقف اليسار من أجل تقليب الطبقات بعضها ضد البعض الآخر، وضرب طبقات الشعب بعضها بالبعض حتى تتم لها السيطرة على الجميع، ولكن اليسار بأسلوبه في إقامة الوحدة الوطنية يمكنه الوقوف أمام انتهازات اليمين. كما يمكن لليسار إعادة تفسير موقف اليمين، خاصةً إذا كان الشعب متطلعًا إلى شخصيةٍ زعاميةٍ قيادية تثق فيها الجماهير، ولكن درءًا للأخطار يمكن تأسيس القواعد الشعبية للمراجعة، والتأكيد على الأسلوب الديمقراطي في الممارسة.
-
(١١)
وبعد العمل الجماعي يأتي العمل التاريخي؛ أي العمل الجماعي عندما يتراكم على مَر الزمان، ويعبِّر عن وجود الجماعة في التاريخ. وهنا يبدو أيضًا موقفان؛ الأول موقف اليمين الذي يقف عند حد العمل الجماعي دون تناول موضوع الأمة في التاريخ؛ وبالتالي يُسقِط التاريخ من حسابه؛ ولذلك تعمل النظم اليمينية الرجعية على طمس معالم التاريخ، وعلى إبعاد الشعب عن مساره، وإلى اتهام كل الحركات الوطنية في التاريخ بأنها قلاقل ومشاغبات، واضطرابات في الأمن العام، وخروج على النظام. وإذا تناوله البعض فإنه يحكُم على التاريخ بأنه يسير في خطٍّ منهارٍ نحو المستقبل، وأن قمة التاريخ موجودةٌ في الماضي «خير القرون قرني …»، وكلما تقدَّم التاريخ انهار التاريخ حتى نصل إلى عصرنا الحاضر، يكون تقدُّم التاريخ قد أصبح انهيارًا تامًّا، وسقوطًا شاملًا «جاء الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ …»؛ فالتقدم الحقيقي هو رجوع إلى الوراء، واللحاق بالعصر الذهبي الذي ولَّى وفات، عصر النبوة والصحابة والخلفاء؛ ولذلك تُثني النظم اليمينية الرجعية على عصور الأباطرة العظام، والملكيات الغابرة، حين شُيدت القصور، وأقيمت المتاحف الفنية، وشُقت الطرق والقنوات، وازدهرَت الفنون والآداب.
وهو الموقف الذي لا تهمه وحدة الأمة بقَدْر ما يهمه الإعلان عن الفرقة الناجية وتكفير الفرق الضالة، والناجية واحدة، والضالة مجموع الأمة! والناجية هي الوريث الشرعي للخلافة التي بدورها الوريث الشرعي للنبوة؛ وبالتالي يتهم كل من يخرج على الصراط بالكفر والفسوق والعصيان، فإذا انتقلنا إلى السياسة نجد أن هذا الموقف يجعل تاريخ الأمة تاريخًا واحدًا، تاريخ الملكية أو تاريخ الأسر الحاكمة، وليس تاريخ الشعوب الضالة المتمزِّقة الفقيرة الجاهلة، وحيث سيتحدد الولاء بالطاعة للأمراء أو للنبلاء أو للملوك أو للأباطرة.
وفي مقابل ذلك، هناك موقفٌ آخر، هو موقف اليسار، يجعل التاريخ جزءًا لا يتجزأ من كيان الفرد والجماعة؛ ولذلك كان اليسار نظرةً تاريخية للسياسة أو تحليلًا للاجتماع أو جدلًا تاريخيًّا للصراع. وكلما وعى الشعب في أي مرحلة من التاريخ أنه يعيش ازداد التحامُه بالثورة، وازداد حماسُه لها. وقد تكون من مآسينا الحالية أننا لا نعرف في أي مرحلة من التاريخ نحن نعيش؛ لذلك تعثرت ثوراتنا.
والتاريخ لا يسير إلى الوراء، بل هو حركة تقدُّم نحو المستقبل؛ فالمستقبل يحتوي على إمكانيات ازدهار أكثر مما احتوى الماضي، وكل جيلٍ يدفع التقدم خطوةً إلى الأمام، حتى ولو كانت في ظاهرها نكوصًا وتراجعًا؛ فمرحلة النكوص تتلوها مرحلةٌ مضاعفة للتقدم؛ لذلك تجبُّ مراحل الثورات عشرات المراحل قبلها بدا فيها المجتمع ساكنًا واقفًا جامدًا. يمكن اعتبار الأبطال في التاريخ القومي، والاستشهاد بقصص البطولة، حوافز وبواعث لتحريك الشعوب، وليس مقياسًا للتقدم يتم بالرجوع إلى الوراء. لقد أصبح التقدُّم وصفًا لمعظم النظم اليسارية، وعنوانًا للحركات الثورية، وشعارًا للأحزاب المناضلة.
وهو الموقف الذي لا يعتبر هناك وراثةً شرعية لفرقة على حساب الفِرق الأخرى، أو لحزب على حساب الأحزاب الأخرى، أو لأسرة أو لقبيلة على حساب باقي الأسر والقبائل؛ فالأمة كلها وحدةٌ واحدة تُفرز مناضليها أيًّا كانوا، وتجمع فِرقَها واتجاهاتها كلها وحدةٌ وطنية في صورة تجمُّع أو جبهة؛ فلا يكفِّر فريق فريقًا، ولا يتهم حزب حزبًا آخر بالفسوق أو العصيان، ويكون محك التجمع هو الرصيد الوطني لكل حزب، وليس مجرد الشعار أو الأصول النظرية التي قام عليها.
-
(١٢)
هل تنتهي إلى هذا الحد موضوعاتُ علم أصول الدين كما ورثناه من القدماء، ولا نزيد عليها شيئًا أم أنه بالإمكان زيادةٌ جديدة مستقاة من أحوال العصر؟ وهنا أيضًا موقفان؛ الأول يريد الاقتصار على ما قاله القدماء، والاكتفاء به؛ فقد أوفى القدماء كل شيء، ولم يتركوا صغيرةً أو كبيرة إلا وتناولوها، ولم يتركوا لنا إلا الشروح والملخَّصات أو حصر العقائد وتقنينها في خمسين، وهو الموقف أيضًا الذي يجعل علم العقائد قائمًا بذاته مستقلًّا لا شأن له بأحوال الناس وبظروف العصر؛ فالله موجود، ليس له مضمونٌ اجتماعي، بل مجرد حكمٍ صوري خالص على وجود الله، وهذا هو موقف اليمين، فإذا انتقلنا إلى النظم السياسية وجدنا أيضًا أن النظم اليمينية ترى أن الوضع القائم هو أفضل الأوضاع، وأنه ليس في الإمكان أبدع مما كان، وأن النظام قد وصل إلى حد الكمال لا تجوز عليه زيادة أو نقصان، تختص العقائد بالحياة الدينية، والنظام الرأسمالي بالأمور الدنيوية، ويعيش الإنسان حياتَين؛ حياةً في مصنعه أو متجره أو شركته يعمل ما يشاء طبقًا للنظام الرأسمالي، وحياةً دينية في معبده يقيم الصلاة في أوقاتها، ويمارس الشعائر.
وفي مقابل ذلك، هناك موقفٌ آخر يجعل علم أصول الدين متطورًا؛ فالعقائد ليست أحكامًا صورية، بل ذات مضمونٍ اجتماعي من وحي العصر؛ فالله الآن مرتبط بالأرض إذا أردنا تحريرها، الله قيمة، والأرض مطلب؛ ومن ثَم يُعاد تفسير القيم طبقًا للمطالب. والله مرتبط بالثورة؛ فالله باعث، والثورة ضرورة؛ ومن ثَم يُعاد توجيه الباحث لتحقيق هذه الضرورة. والله غاية، والتنمية هدف؛ ومن ثَم يُعاد تفسير الغاية بحيث تخدم هدف التنمية، وهكذا. وهذا هو موقف اليسار. وقد حاول تأسيسه مصلحونا الاجتماعيون وعلى رأسهم الأفغاني، وإقبال، والكواكبي، والسنوسي، والمهدي، ومحمد بن عبد الوهاب، وغيرهم من ممثلي حركات الإصلاح الحديثة؛ فقد حاول الأفغاني ربط الله بالأرض، من أجل إجلاء المستعمرين عن أراضي المسلمين، ومن أجل تحرير الفلاحين من رقبة الإقطاع «عجبتُ لك أيها الفلاح، تشُق الأرض بفأسك، ولا تشُق قلب ظالمك!» وقد حاول المهدي أيضًا ربط الدين بالثورة، من أجل الدفاع عن البلاد ضد غزوات المستعمرين، كما حاول السنوسي أيضًا ربط الدين بالمقاومة من أجل طرد الغزاة الأجانب، كما حاول محمد بن عبد الوهاب توجيه العقائد إلى الإصلاح الاجتماعي، ومحاربة مفاسد العصر من شفاعة ووساطة، وشعوذة وكهانة. كما حاول الكواكبي ربط الدين بالالتزام، ومحاربة اللامبالاة والفتور الذي وقع فيه المسلمون، كما حاول الربط بين الدين والتحرُّر من أجل القضاء على مظاهر الاستعباد في حياتنا المعاصرة. وحاول قاسم أمين الربط بين الدين ومساواة الرجل بالمرأة، من أجل استرداد المرأة لحقوقها التي تخلَّت عنها في عصور الجهل والانهيار، كما حاول إقبال الربط بين الله والذاتية من أجل إعادة تكوين الفرد المسلم ضد التقاليد، وإبراز جوانب الأصالة والإبداع في مواجهة الغرب بماديته وانحلاله — ومن ثَم يمكن إضافة مادة جديدة لعلم أصول الدين تشمل لاهوت الأرض، ولاهوت الثورة، ولاهوت التقدم، ولاهوت التنمية، ولاهوت التغير الاجتماعي، ولاهوت التحرر، ولاهوت المقاومة … إلخ، وباختصار لاهوت السياسية؛ فتلك مشاكل العصر التي تكوِّن المادة الجديدة لعلم أصول الدين؛ وبالتالي تُمحى التفرقة التقليدية بين العقيدة والشريعة أو بين أصول الدين وأصول الفقه.
إن مهمتنا الآن هي تطوير فكرنا الإصلاحي الحديث، ودفعه خطوة نحو الأمام؛ فاختيار مصر بظروفها الحالية وفي مرحلتها الراهنة هو اختيار اليسار؛ ومن ثَم كان اختيارها الفكري هو اليسار الديني، الذي بدأ في حركات الإصلاح، على مستوى ثقافتها والتزامها بقضايا العصر؛ فما زالت كل القضايا التي أثارها الإصلاح الديني لم تُؤتِ أُكُلَها بعدُ، فإذا طوَّرنا حركات الإصلاح الديني، ودفعناها خطوة إلى الأمام، انتقلنا من دور الإصلاح إلى دور النهضة، شرط الثورة، وهو ما نرجوه جميعًا الآن.
وفي النهاية لا أريد أن أعطي مفتاحًا وأقول إن اليمين واليسار في الفكر الديني قد مثَّلَته الأشاعرة والمعتزلة في تراثنا القديم؛ فالأشاعرة هم اليمين في الفكر الديني، والمعتزلة هم اليسار في الفكر الديني؛ وبالتالي تكون مأساتنا أننا بتكويننا الأشعري يمين، في حين أننا بوضعنا الاجتماعي وبدخلنا المحدود وبأرضنا الزراعية يسار؛ وبالتالي يكون اختيارنا الفكري غير واقعنا المادي. وهنا تظهر ضرورة إعادة الاختيار الفكري حتى يتفق الفكر مع الواقع، ولكني أترك ذلك لاستنباط القُراء وحُسن بصيرتهم، لو شاءوا فعلوا؛ فتلك هي مسئوليتهم وحدهم.
في هذا المقال يقدِّم الدكتور حسن حنفي دراسةً عن اليمين واليسار في الفكر الديني، في التراث القديم وفي الوجدان المعاصر. وهو في دراسته هذه يعتمد على واقع حياتنا المباشر وتراثنا الحي؛ ويستوحي تجاربنا الشعورية المشتركة، ونظمنا الاجتماعية القائمة.
والدكتور حسن حنفي، هو أستاذ الفلسفة المساعد بآداب القاهرة، وحاصل على دكتوراه الدولة في الفلسفة من السربون عام ١٩٦٦م. وله مؤلفاتٌ عديدة بالفرنسية والعربية من بينها «تفسير الفينومينولوجيا» وهو محاولةٌ لدراسة المنهج الفينومينولوجي وتطبيقاته في ظاهرة التفسير؛ «نماذج من الفلسفة المسيحية في العصر الوسيط». كما قام بنشر وتحقيق كتاب «المعتمَد في أصول الفقه لأبي الحسين البصري»، وله تحت الطبع «التراث والتجديد»، محاولة لإعادة بناء علم أصول الدين.
ويهتم الدكتور حسن حنفي في كتاباته المعاصرة بإعادة تفسير التراث القديم من أجل حل القضايا الأساسية للعصر، وفي مقدمتها قضايا الاحتلال، والتخلف، وإعادة تفسير الدين، بما يحقِّق مطالب العصر من ثورة وتحرر وتنمية.