معارك اليمين واليسار في الفكر الديني
(أ) عندما يزايد اليمين في الوطنية … والدين!١
ردًّا على ما نُشر بصفحة «الرأي للشعب» بجريدة الأخبار، بتاريخ ٢٥ / ٤ / ١٩٧٦م، بعنوان: «عندما يرفع تنظيم اليسار المصحف والإنجيل» بقلم الأستاذ أحمد موسى سالم نقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ.
وكيف لم يذكُر اليسار كلمة الله وقد بدأ مشروع برنامج التجمع الوطني التقدمي الوحدوي كله بالآية الكريمة بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ؟ وهل كل من ذكَر كلمة الله قد نال الإيمان أو أخذ بها صكًّا للجنة؟
ألا يعلم الأخ الكريم أن النطق بالشهادتَين وإن جعل صاحبها مسلمًا، فإنه لا يكفي أن يجعله مؤمنًا أو محسنًا؛ لأن ذلك لا بد له من التصديق بالقلب والعمل بأوامر الله؟ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ؟
وكثير ممن يذكرون اسم الله اليوم يتاجرون به، ويأخذونه شعارًا للمزايدة، وستارًا للإبقاء على الأوضاع القائمة، أو لتبرير السلطة، أو لخدمة الأمير، أو طلبًا لشهرة، أو بحثًا عن منصب. ولقد كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا. ألا يعلم الأخ الكريم أن الحديث عن الله في علم أصول الدين كله على وجه التقريب؟ وهل تذكُر الشريعة الإسلامية كلمة الله أم تكتفي بلفظ «الشارع»؟
وقد حرَّم فقهاء المسلمين ومتكلموهم، وعلى رأسهم أبو حنيفة والشافعي وابن حنبل، الحديث في الله، كما حرَّم ابن حزم وصفه بذات أو بصفة، ولا يفعل ذلك إلا مدعٍ مزايد لا يرعى للفظ حرمة، ولا للاسم قدسية.
وهل كان اليسار أبدًا موضع شبهة وقد كانت الأديان كلها بلا استثناء دعواتٍ يسارية، من أجل تغيير الوضع القائم إلى وضعٍ أفضل، أقرب إلى التقوى الباطنية والعدالة الاجتماعية، وأرعى لروح الأخوة والمساواة والتراحم؟
وكيف أكرِّر ما علمناه دومًا وما لا يحتاج إلى إثبات من اشتراكية الإسلام؟ فرسالات السماء كلها دعواتٌ تقدمية، ولا يوجد نبي إلا وله هذه الدعوة للتغيير والإصلاح الاجتماعي في بني قومه.
واليسار تجمُّع لكل القوى الوطنية والتقدمية بما فيها اليسار الماركسي، واليسار الديني، واليسار الليبرالي، واليسار الوطني، واليسار التلقائي، ويسار المثقفين. واليسار الديني يكاد يكون هو القاسم المشترك بين جميع قوى اليسار بما فيها اليسار الماركسي؛ فالدين عند ماركس كما يمكن استغلاله بواسطة الطبقات الغنية من أجل استغلال الطبقات الفقيرة، فإنه يمكن أيضًا مساعدة الطبقات الفقيرة على التحرر الاجتماعي، كما عرض ذلك إنجلز في «المسيحية البدائية»، وكما عرض لذلك في «حرب الفلاحين في ألمانيا في القرن السادس عشر»، بقيادة الراهب البروتستانتي توماس مونزر، الذي قاد الفلاحين ضد أمراء الإقطاع باسم الله. وهل كان عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعمر بن عبد العزيز، وأبو ذر الغفاري، وجمال الدين الأفغاني، إلا من دعاة اليسار؟ ليس اليسار إذن مناخًا ماركسيًّا، بل الماركسية هي مناخٌ يساري؛ فاليسار أعم وأشمل، والماركسية إحدى قواه.
وإذا كانت الماركسية تحليلًا علميًّا للواقع فإنها نهاية المطاف، وإذا كان الإسلام تحليلًا علميًّا للواقع فهو أيضًا نهاية المطاف؛ فالنظرة العلمية للواقع هي الأقدر على صهر قوى اليسار فيها، والنظرة الأشمل والأكمل هي أكثر النظرات علمية؛ فالمحك ليس هو الشعار، بل مقدار صدق الفكر في الواقع بالتحليل والتغيير. والباب مفتوح لكل المذاهب والأفكار.
وكيف لا تعني هذه الكلمات أي معنًى؛ الرسالات، النظرة العقلانية، الاستنارة، الطاقة الخلاقة، الاجتهاد، الشورى، الديمقراطية، المنهج العلمي، حرية الاعتقاد، تحرير الضمير الإنساني، التكافل الاجتماعي؟ فأي معنًى إذن تشير إليه الكلمات؟ أليس مثل هذه الكلمات ما أصبح فيما بعدُ علم أصول الدين أو علم التوحيد؟ ألا يهتز لها وجدان الناس عند سماعها؟ ألا تعبِّر عن مطالب عصرنا واحتياجاته؟ وهل يعيب الفكر استعماله أكثر الكلمات شيوعًا بين الناس؟ ومنذ متى كان الفكر ادعاءً وتعالمًا وإتيانًا بغريب الألفاظ؟ إذا أتى اليسار بالسهل قيل لا معنى له وشائع، وإذا أتى بالصعب قيل ادعاء وتعالم وجدل! كيف تموت هذه الكلمات كلها أو لا تعطي التزامًا محددًا؟ أليست الشورى والديمقراطية ضد كل مظاهر التسلط والطغيان، وهو ما عانينا منه كثيرًا؟ أليس الانتصار للعقل ضد كل مظاهر الخرافة في فكرنا القومي وحياتنا العامة وسلوكنا اليومي؟ أليس المنهج العلمي في البحث والتفكير ضد أساليب الإيهام والخداع وطرق الشعوذة والسحر والكهانة التي ما زالت تسيطر على قطاعاتٍ عديدة من جماهيرنا؟ أليست حرية الاعتقاد تحريرًا للضمير الإنساني ضد كل مظاهر الإرهاب الفكري والقهر العقائدي والتعصب الطائفي، الذي تتساقط من جرَّائه المئات كل يوم؟ أليست الوحدة الوطنية ضد التفرقة ودعاة الفتن وفتاوي إهدار الدماء وحرق الدور وقتل الأبرياء؟ أليس استلهام الشريعة الإسلامية كمصدرٍ أساسي للتشريع ضد استعارة القوانين، وقصورها عن الدفاع عن مصالح الناس، وضد الفهم الضيق للشريعة، وقصرها على قانون العقوبات؟ أليس التكافل الاجتماعي بين أبناء الأمة الواحدة ضد الاستغلال، والتفاوت الطبقي بين الأغنياء والفقراء، وهو ما نادت به رسالات السماء، وما زلنا نسعى إلى تحقيقه؟ كل ذلك ليس له معنًى، وكلمات تموت «تنساب كالظل، وتُومئ كالسراب»، وكأن الإنسان إن لم يُنادِ بقطع يد السارق ورجم الزاني وتحريم الخمور لا يكون لكلماته أي معنًى، ولا يكون مسلمًا!
وكيف لم يؤخذ هذا الفهم للدين وللتراث ركيزة لبرنامج اليسار؟ أليست الديمقراطية نابعة من الشورى؟ أليست التنمية هي السبيل للعدالة الاجتماعية؟ أليس القطاع العام منعًا للاحتكار والاستغلال، وتحقيقًا للملكية العامة لوسائل الإنتاج، كما دعا الرسول؟
أليس التعاون تحقيقًا لأوامر الله؟ أليس التعليم تنفيذًا لأوامر الدين؟ أليس تحرير الأرض جهادًا مقدسًا، وواجبًا على كل مسلم ومسلمة؟ أليس توحيد الأمة العربية خطوةً من أجل توحيد الأمة الإسلامية؟ أليست سياسة عدم الانحياز «لا شرقية ولا غربية»؟ أليست شعوب آسيا وأفريقيا التي جسَّدها مؤتمر باندونج هي الشعوب الإسلامية باصطلاحات السياسة الدولية؟ في أي شيء يتراجع اليسار إذن عن الالتزام العملي بالدين؟ ألا يفسَّر الدين من أجل صالح الأغلبية، وهي جماهيرنا الفقيرة؟ وما العيب أن يكون الإيمان طاقةً لصالح السلوك السوي؟ أليست المصلحة أساس الشرع؟ أليس رعاية الصلاح والأصلح أصلًا من أصول الدين؟
وما العيب في أن تكون العقلانية هي السلطان أو الإمام؟ ألم يدعُ القرآن إلى العقل؟ ولماذا يكون معناها عند ديكارت أو اسبينوزا ولا يكون معناها في القرآن الكريم إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أو يكون معناها في تراثنا الاعتزالي، النظر والبحث والتفكير؟ وما العيب في أن نحتكم للعقل في أمور الدين؟ ألم يتفق علماء أصول الدين المسلمون على أن الحُجج النقلية كلها حتى ولو تضافرت ظنية، وأنها لا تكون يقينًا إلا بالحُجة العقلية؟ ألم يتفق علماء أصول الدين من المعتزلة على أن العقل هو أساس النقل؟ ألم يقل فقهاء المسلمين وعلى رأسهم ابن تيمية السلفي بموافقة صحيح المنقول لصريح المعقول، وأن القدح في العقل قدح في النقل؟
إن عقلانية ديكارت لا تحتاج إلى مدد من السماء، وإن ديكارت لم يستعمل هذه الألفاظ إلا حرجًا من رجال الدين المسيحي. أما في الإسلام فلا حرج من أن يكون العقل هو مقياس الحق والباطل. أما عقلانية اسبينوزا فهي عقلانية المعتزلة والطبائعيين، وعلى رأسهم معمر وثمامة والنظَّام والجاحظ، العقل الذي يتفق مع قوانين الطبيعة. أما العقلانية الماركسية فهي أيضًا عقلانية علماء أصول الدين، التي فيها يكون العقل مرتبطًا بالحس والتجربة، وهي عقلانية علماء المسلمين وأهل التجريب منهم. وكيف لم تعكس التجربة وجود الله؟ ألم يقل الفلاسفة بإمكانية الحدْس والاتصال المباشر بالحقائق؟ ألم يتحدث العلماء عن مستقبل الإنسان، وعن أن الرغبة في عالم أفضل هي أهم ما يميز الإنسان بتجاوزه وتعاليه ومفارقته؟ إن العقلانية ليست مفهومًا ماركسيًّا، بل إن الماركسية هي أحد المفاهيم العقلانية؛ فالعقلانية هي أساس الوحي، ودعامة تراثنا، وهي ما نرجو أن نُرسي عليه حياتنا.
وما العيب في أن يكون تراثنا الديني جهدًا بشريًّا عبقريًّا صنعه أعلام تاريخنا، في إطار التعاليم الكلية والعامة للدين الحنيف، إن التراث شيء والوحي شيءٌ آخر. الوحي من عند الله أما التراث فهو من صنع علماء المسلمين واجتهاداتهم؛ فالمزايدة على نسبة الوحي إلى الله إهدار لقيمة الوحي الإسلامي الذي هو من عند الله، وفي نفس الوقت تلبية لمطالب الناس، وما العيب في أن يكون التراث صورة من صور «عبقرية أمتنا أسهمَت بها في إضافة صفحات مشرقة إلى التراث الإنساني الموحد العظيم»؟ أليس تراثنا جزءًا من تراثٍ طويل هو التراث السامي القديم، أقدم صور التراث وأشملها؟ أليس الوحي الإسلامي آخر مراحل الوحي منذ آدم عليه السلام حتى محمد عليه الصلاة والسلام؟
وهل كل من يدافع عن الأمة العربية لغةً وثقافةً وتراثًا وحضارةً وتاريخًا وعبقريةً يكون بعثيًّا؟ ألم يفخر نبينا بأنه عربي وبأن لسانه عربي؟ ألم ينزل الوحي بلسانٍ عربي مبين؟ وهل لو كانت مصر في علاقة طيبة مع البعث أكان يصبح كل شعورٍ عربي تهمةً بعثية؟ إن استعلاء السلطة على اليسار أمرٌ مكشوف من السلطة ومن الجماهير معًا، ولا ينقلب إلا على خُدام السلطة وجلَّاديها. والذي يمن على اليسار بالحرية هو متملقٌ للسلطة، وفي نفس الوقت يستعدي السلطة عليه؛ وبالتالي فهو لا يؤمن بالحرية، ويستكثرها على الناس، ويشمئز من تمتُّع الناس بها.
وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا.
(ب) لسنا ملحدين … ولا منافقين٢
ردًّا على السؤال الذي وجَّهه إلى اليسار الأخ أحمد موسى سالم: «إن كنتم مؤمنين فأين هو البرهان؟ وإن كنتم ملحدين فلماذا النفاق؟» الذي نُشر بجريدة الأخبار في صفحة «الرأي للشعب»، بتاريخ ٧ / ٦ / ١٩٧٦م، أقول: لم يكن ردي قذيفةً عشوائيةً موجَّهة إلى شخص بعينه، بل كان لوضع حد لحملة تشويه اليسار، واتهامه ظلمًا بالإلحاد والمادية والعمالة.
ولا يتوتَّر اليسار أبدًا، بل إنه يقابل هذه الحملة بالحسنى، ويدفع بالتي هي أحسن. ولم يبدأ اليسار أحدًا بالعدوان، ويكتفي بالرد فلا يتوتَّر العقليون، واليسار أصحاب اتجاهٍ عقلاني، لا ينفعلون.
ولا يلبس اليسار جُبَّة الورع؛ لأن التقوى لا تحتاج إلى لباس، ولا يُسبِّل عينَيه بل يفتحهما على ما يدور تحت قدمَيه، ولا يضُم المصحف إلى صدره بل يُحوِّله إلى برنامج يقدِّمه للناس، ولا يُمني عمال مصر وفلاحيها بل يزيدهم وعيًا، ويطالب بحقوقهم، لمَّا كانوا هم الأغلبية، أصحاب المصلحة الحقيقية؛ فاليسار لا يحتاج إلى أقنعة لأنه لا ينافق، ولا يدعي إيمانًا أكثر مما لديه، ولا يزايد على إيمان الآخرين، وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ.
والآية الكريمة بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فاتحة الكتاب، مذكورة في أول مشروع برنامج اليسار، ولكنها سقطَت خطأ من الطبعة التي بين يدَي الأخ الكريم. كما أنها تحتوي على خطأ آخر في آخرها، بإضافة توقيع مقرر التنظيم؛ فللأخ العذر فيما بين يدَيه.
وأين هي كتب اليسار ومقالاته التي تهاجم حقائق الإسلام والدين، ومبدأ القومية العربية التي أسَّسها الدين، والتي يدافع عنها الأخ اليوم بعد أن أنكرها بالأمس؟ إذا كان المقصود هو «الفن القصصي في القرآن الكريم»، فإنه تطوير لنظرية «التخييل» التي قام بها الجرجاني وعلماء البلاغة قديمًا، والتي تهدف إلى التركيز على البعد الأدبي والنفسي للقصص القرآني، وأن الغاية منه ليست إعطاء أخبار من مضى، بل أخذ العبرة والموعظة من أجل توجيه السلوك، وهي نظريةٌ معمول بها ليس فقط في تراثنا القديم، بل في الفكر الديني العام، وفي مناهج تفسير النصوص. وإذا كان القصد هو إعطاء الأسس الاقتصادية القومية العربية فكلنا إذن ملحدون، شعوبًا وقادة، عندما نبني المصلحة المشتركة التي هي دعامة الوحدة العربية، بالإضافة إلى دعائم الدين واللغة والتاريخ والحضارة؛ فإذا ركز الخطباء على العوامل الوجدانية فما العيب في أن يركز العلماء على العوامل الاقتصادية ويستعملون لغة الأرقام؟ وفي النهاية، كل ذلك اجتهاد ورأي لا يحل لأحد تكفير قائله «ومن قال لأخيه أنت كافر، فقد باء بها.»
ولا تخشَ على الدين شيئًا، «إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق.» فلن يستطيع أحد هدمه أو النَّيل منه.
وإذا كان الماركسيون في الغرب قد طبَّقوا مقاييس العقل والتجربة فألحدوا فلأنهم قد تصوَّروا الله مشخصًا، ورأَوا تسلُّط كنائسهم، وظنية عقائدهم، ومراسيم شعائرهم. والحمد لله لسنا كذلك لأننا نطبِّق نفس المقياس؛ العقل والتجربة ونؤمن؛ فالله منزَّه، ليس كمثله شيء، وكتابنا صحيح، وليس لدينا رجال دين، وإيماننا قائم على التصديق، وعبادتنا تنهى عن الفحشاء والمنكر.
ليس اليسار غارقًا في تيه الأيديولوجيات الغربية، بل يربط حاضره بماضيه، ويفسر تراثنا وديننا طبقًا لحاجات عصرنا؛ التنمية من أجل القضاء على التخلف، والاستقلال الوطني من أجل القضاء على الاحتلال، والعدالة الاجتماعية من أجل القضاء على الاستغلال. نتأسى بالرسول، ونهتدي بسيرة عمر بن الخطاب، وبفقه عبد الله بن مسعود، وندعو دعوة أبي ذر، ونُصلح كالأفغاني.
فنحن لسنا ملحدين ولا منافقين بل نحن مؤمنون، وإليك يا أخي البرهان … يكاد يُجمع اليسار بكل اتجاهاته على مبادئ خمسة، هي الحد الأدنى من الاتفاق فيما بينهم يرضاها الإسلام، وتعبِّر عن مصلحة المسلمين وهي:
-
(١)
عدم التسليم بالأمر الواقع، والدعوة إلى تغييره إلى واقعٍ أفضل، وما أظن أحدًا منا يرضى بالأوضاع القائمة، أو لا يرجو تغييرها إلى أوضاع أفضل. وقد أتى جميع الأنبياء لذلك؛ فقد كان لكل نبي دعوةٌ إصلاحية في قومه، يدعوهم إلى التغيير.
-
(٢)
الحكم للأغلبية ولصالحها، فإذا كانت الأغلبية في مصر هم العمال والفلاحين، فالحكم لهم، ويتم تخطيط الاقتصاد القومي لصالحهم. وهل في هذا خروج على أوامر الدين أو ترك لشريعة الإسلام؟ ألم يقُم الشرع على الحفاظ على مصلحة المسلمين؟ ألم يرفض القرآن تركيز رأس المال كي لا يكون دُولةً بين الأغنياء منكم؟ ألم يدعُ الرسول: «اللهم أحيِني مسكينًا، وأمِتني مسكينًا، واحشُرني في زمرة المساكين»؟ وهل مجلس الشعب بنصفه من العمال والفلاحين مجلس ماركسي؟ وماذا نقول إذا كان من حق الأغلبية ثلاثة أرباع المجلس بما أنهم يكونون ثلاثة أرباع الشعب؟
-
(٣)
الملكية العامة لوسائل الإنتاج، وذلك منعًا للاستغلال والاحتكار. ألم يقُل الرسول: «الناس شركاء في ثلاث؛ الماء والكلأ والنار»؟ أليس تأميم المرافق العامة، ومصادرة المال المستغل من حق إمام المسلمين؟ وهل قطاعنا العام خروج على مبادئ الإسلام؟ ألم يؤكد الإسلام الملكية العامة وجعلَها صفة لله وَلِلهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ دون الإنسان؟
-
(٤)
إذابة الفوارق بين الطبقات، وذلك طبقًا لقول الرسول: «أيما أهل عرصة (بقعة واسعة من الأرض) أصبح فيهم امرؤ جائعًا برئَت منهم ذمة الله.» ألم يقسم الأنصار والمهاجرون أموالهم فيما بينهم؟ ألم يقُل القرآن وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ليس فقط الزكاة، ولكن أكثر من الزكاة، كما شرح الرسول. نعم، في المال حقٌّ غير الزكاة؟ ألم يَعِد عمر بردِّ فضول الأغنياء إلى الفقراء إذا ما انقضى الحول؟
-
(٥)
العمل وحده مصدر القيمة، وذلك رفضٌ لكل صور النُّبل الاجتماعي، والشرف الوراثي، وكل مظاهر الربا؛ فالمال لا يولِّد المال، ولكن العمل هو الذي يولِّد المال. ألم يقُل الرسول: «أعطوا العامل أجره قبل أن يجفَّ عَرقُه»؟ ألم يَنْهَ الرسول عن المؤاجَرة، وأمر بالمزارَعة؛ أي أن يمتلك الرجل الأرض، ويقعد في بيته، ويترك العامل الأجير يعمل له، ثم يقاسمه الإنتاج دون مشاركة منه في الجهد؟ وهل منا مَن يرضى بنظام الأجور في مصر، الذي ما زال يعطي المديرين أكثر مما يعطي العمال بفروق صارخة؟
أما فيما وراء ذلك من أطرٍ نظرية، فمتروك لكل إنسان بينه وبين ربه؛ فهلا شققنا على قلوب الناس؟ والله يتولى السرائر.
أيها الأخ الكريم، مضمون إيماننا مضمونٌ اجتماعي، كما هو الحال في الشريعة الإسلامية، وفي حركاتنا الإصلاحية الحديثة، وعلى رأسها الأفغاني. وها هو برهاننا، فإذا كنت ترى أننا بعد ذلك ملحدون أو منافقون فليسامحك الله، خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ.
(ﺟ) تشويه الماركسية من العقلية اليمينية في الصحافة المصرية٣
- (١)
هل الماركسية في مصر هي حصان طروادة، أو هي كبش الفداء، أو هي المشجب الذي يعلق اليمين عليه كل مآسي الناس، أو هي الأخطبوط الذي يتم تحذير الناس منه، إبقاءً على الأوضاع القائمة، ورفضًا لوعي الناس وتفكيرهم في أوضاعهم الاجتماعية باسم الدين وباسم الوطنية، وتحذيرًا من الإلحاد والعمالة؟
- (٢)
الماركسية ليست موضة للشباب، مثل المذاهب الفلسفية، أو الفتية؛ وجودية، بنائية، انطباعية، تكعيبية … إلخ، بل هي نظرةٌ علمية للواقع. المذاهب أيديولوجيا والماركسية علم.
- (٣)
الأمل الذي تَعِد به الفلسفات الماركسية تَعِد به كل الطوباويات بما في ذلك الأديان؛ فهذا تعبير عن وضع الإنسان وانفتاحه على المستقبل، وليس خداعًا أو إيهامًا. ويمكن دراسة الأمل دراسةً علمية، كما هو الحال في ماركسيات القرن العشرين، عند بلوخ في «مبدأ الأمل»، وعند جابريل مارسل في «محاولة في ميتافيزيقا الأمل».
- (٤)
موسكو لا شأن لها بالماركسية، وهناك تطبيقات ماركسية عديدة لا شأن لها بموسكو، مثل التطبيقات الماركسية في الصين ويوغوسلافيا وفيتنام وكوبا. بل نشأَت الخلافات في المعسكر الاشتراكي كما نشأَت الخلافات من قبلُ في المعسكر الإسلامي، وتم رفض فكرة المحاور، فنشأَت ماركسيات تدافع عن الاستقلال الوطني والتسيير الذاتي، والاعتماد على النفس.
- (٥)
الخراب والبؤس في البلاد الاشتراكية في الخمسينيات من آثار الحرب العالمية الثانية، ولا ضَير أن تستمر بعض آثاره إلى الآن في ألمانيا الشرقية، وفي بعض بلدان أوروبا الشرقية، وفي الاتحاد السوفيتي نفسه، وقد كان نفس البؤس في ألمانيا لولا رأس المال الأمريكي في إعادة البناء؛ هذا بالإضافة إلى أن حجة الواقع ليست حجة على الفكر، وإلا كان كل الفقر في بلاد الإسلام حجة على أن الإسلام دين الفقر، وكان الاحتلال لبلاد الإسلام حجة على أن الإسلام دين الاحتلال، وكان التخلف في المجتمعات الإسلامية دليلًا على أن الإسلام دين التخلف.
- (٦)
مما لا شك فيه أن هناك تجاوزاتٍ في كل نظامٍ سياسي، مثل مظالم ستالين، التي لا تفترق عن «ووترجيت» و«إيران جيت» في النظام الأمريكي، واغتيال كنيدي ومارتن لوثر كنج؛ لذلك خرجَت ماركسيات القرن العشرين ترى أن الماركسية هدف والديمقراطية وسيلة. ولقد ضحَّى رئيس جمهورية شيلي «أليندي» بحياته دفاعًا عن الديمقراطية باسم الماركسية. والأمر كذلك في فيتنام أثناء حرب التحرير، وفي كوبا ويوغسلافيا وغيرها من البلدان الاشتراكية.
- (٧) إن «تحشيد» الجماهير لا يعبِّر عن حقد أو ضغينة، بل مجرد تعبئةٍ للناس كسندٍ لحقوقهم إذا ما عصَت قوى الظلم والطغيان، وعجزَت القيادات الثورية عن مواجهتها؛ فالنظام السياسي يتجسد في الجماهير التي تنعكس عليها كل التناقضات الاجتماعية، والتي يمكن حلها بتفجير هذه التناقضات، كما حدث بين المؤمنين والكفار، وبين المسلمين والروم، وبين المسلمين والفرس، وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ (٢: ٢٥١).ويمكن أيضًا حلها في إطار «السلام الاجتماعي» عن طريق قوة الأغلبية في مواجهة الأقلية المتراجعة؛ فكلا النموذجين موجودان تاريخيًّا، إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (٤٨: ١).
- (٨)
مراحل التاريخ الخمسة هي جزء من الأيديولوجيا، وليست من العلم، وهي أضعف ما في الماركسية، ومرتبطة بمحاولات مشابهة في فلسفة التاريخ، في القرن التاسع عشر، عند هيجل وكومت. وهي من أفكار ماركس الشاب؛ أي ماركس الفيلسوف، وليس ماركس العالِم.
- (٩) إن القول بأن القضاء على الأديان من مخطط ماركس إنما هو اقتباس نصف قولٍ مشهور له «الدين أفيون الشعب، وصرخة المضطهَدين» واستعمالها مثل «ولا تقربوا الصلاة»؛ فالدين قد يكون عاملًا للتسكين والتخدير، وقد يكون أيضًا دافعًا للثورة والتحرير؛ فالدين يقوم بالوظيفتَين معًا. وهو ينطبق على تاريخ الدين في الغرب، ووظيفة الدين، كما قامت به السلطة الدينية الممثَّلة في الكنيسة، ووظيفة الدين التي قام بها المصلحون مثل لوثر، والمفكِّرون الأحرار مثل فولتير، والقادة الاجتماعيون مثل توماس مونزر، في حرب الفلاحين في ألمانيا في القرن السادس عشر، وكما يفعل الرهبان الكاثوليك في أمريكا اللاتينية الآن فيما يُعرف باسم «لاهوت التحرُّر». إن الكنائس والمساجد لا تُهدم، بل تبقى، ويحافَظ عليها، وترمَّم كجزء من التراث الوطني والتاريخ الثقافي للشعوب. والصلاة لله في كل مكان فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ (٢: ١١٥)، «جُعلَت لي الأرض مسجدًا وطهورًا.» أما هدم المساجد والكنائس، وإحراق الأناجيل والمصاحف، واعتقال رجال الدين، وإلغاء التربية الدينية لصالح التربية القومية، وتدريس الإلحاد، فإنها كلها أحكام تقوم على تصورٍ خاطئ للدين والماركسية على حدٍّ سواء، الغرض منها تنفير الناس؛ فالدين ليس مساجد، أو كنائس، أو أناجيل ومصاحف، أو رجال دين، أو برامج دينية تعليمية. الدين هو الحياة والمجتمع والنظم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية؛ فبناء المدارس والمصانع والمستشفيات من الدين، ونشر الكتب والتأليف الإبداعي من الدين، ولا يوجد رجال دين، بل مواطنون لهم مواقف اجتماعية في صالح الأغلبية، وليسوا مبرِّرين للإقطاع والسلطان. والتربية الدينية هي التربية القومية؛ فالدين للوطن، وما يُظن أنه الإلحاد هو في الغرب بديل عن الأسطورة، وعلم في مواجهة الخرافة. إن مثل هذه الشائعات القصد منها الترويج للعداء إلى النظم الاشتراكية، اعتمادًا على الفهم الشعائري من الناس للدين.
- (١)
الاعتماد على بعض المراحل التاريخية دون البعض، وهذا بطبيعة الدراسة التي كانت متاحة في القرن الماضي لتاريخ المجتمعات الصناعية في ألمانيا وإنجلترا وفرنسا. لم يدرس ماركس أسسها إلا لمامًا فيما عُرف عنه باسم «نمط الإنتاج الآسيوي»، الذي تم الرد عليه من الماركسيين أنفسهم قبل الرأسماليين، ولكن يمكن أخذ نماذجَ أخرى من تاريخ سائر المجتمعات شرقًا وغربًا؛ فقد جاء الإسلام كدين للمضطهدين. انتسب إليه العبيد والفقراء والمساكين، وعاداه أشراف مكة وأغنياؤها. جاء الإسلام لتغيير قيم المجتمع والإنتاج. لم يأتِ كظاهرةٍ فوقية بدليل أسباب النزول، والتطور مع الزمان بدليل الناسخ والمنسوخ، ولم يأمر ويشرع بصرف النظر عن القدرة والأهلية. الإسلام بحث في الواقع، مثل أنماط الإنتاج، وعلاقات الإنتاج، ووسائل الإنتاج. وقد سمَّى الأصوليون القدماء ذلك البحث في العِلل، والعِلل المادية المؤثِّرة والملائمة والمناسبة.
- (٢)
التناقض بين الدعوة إلى التضحية والحرمان من الحافز الديني والمبدأ الروحي. وهذا التصور الخاطئ للماركسية إنما يقوم في الحقيقة على تصورٍ خاطئ للدين والروح، والخلط بين الروحانية الفارغة أو الروحانية العرجاء وبين الروحانية الفعالة أو الروحانية المؤثِّرة. كما أنه يقوم على تصورٍ خاطئ للماركسية، واعتبارها ماديةً في حين أنها تُعلي من شأن تضحية الفرد في سبيل الجماعة، وتُقدِّس العمل، وتُدافِع عن الأوطان، وتحرِّم الاستغلال والاحتكار، وهي كلها قيَمٌ إسلامية؛ فالماركسية ليست أكثر ماديةً من مادية الرأسمالية، على الأقل المادية الماركسية بحث في العِلل المادية كما فعل الأصوليون القدماء، ولكنها روحية من حيث قيم التضحية والعدالة والمساواة. وهل كان جيفارا وهوشي منه وماو تسي تونج ماديين؟! أما المادية الرأسمالية فهي مقنَّعة ومغطَّاة تحت زيف من النفاق الديني والمثالي وادعاء الروحية. وهل مقياس التدين هو الإيمان بالغيبيات مثل أمور المعاد، وهي التي تركها الأصوليون القدماء ظنية نظرًا لاعتمادها على السمع وحده، أم الإيمان باليقينيات مثل الذات والصفات وحرية الإرادة واستقلال العقل، وهي الأمور اليقينية التي يمكن البرهنة على صحتها ويقينها بالعقل؟ أليس العمل على تحرير الأرض جزءًا من الإيمان بالله؛ فالله هو «إله السموات والأرض»، «رب السموات والأرض»، «وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله»؟ لماذا يكون ذلك صلحًا انتهازيًّا بين الإسلام والماركسية ولا يكون موقف الخصم صلحًا نفعيًّا بين الإسلام والرأسمالية؟
- (٣)
التفسير المادي للتاريخ وبعاملٍ واحد هو العامل الاقتصادي. وهذا إن كان صحيحًا فإنه ينطبق على ماركسية القرن التاسع عشر. أما في ماركسيات القرن العشرين، التي تجد أيضًا مصادرها في كتابات ماركس، وفي تأويلات لينين وماو، فهناك جدلٌ بين البنيتَين الفوقية والتحتية، وأثرٌ متبادلٌ بينهما، وأن العوامل النفسية والاجتماعية والثقافية والحضارية لا تقلُّ فاعليةً وأهميةً عن العوامل الاقتصادية. وهذه أيضًا مساهماتُ الماركسيات المتعددة في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.
- (٤)
دكتاتورية البروليتاريا. وهذه فكرةٌ شائعة روَّجَتها أجهزة الإعلام الغربية أيضًا. صحيحٌ أنه حدثَت مناقشاتٌ حولها لدى أقطاب الماركسية في القرن الماضي، ولكنها ظلت قضيةً خلافية. إنما الشائع أيضًا، الذي يستند إلى مساهمات ماركسيات القرن العشرين، هو تحالف قوى الشعب، تجمُّع القوى الوطنية والتقدمية، وهو ليس حكرًا على الماركسية، بل موجود في كل المجتمعات المضطهدة بما في ذلك الشيعة؛ فالمظلوم سيكون له المستقبل بتحرره من الظلم وانتصاره على الظالم. ليست البروليتاريا طبقةً قاهرة. وكيف تكون قاهرة، ومتى تكون وهي أغلبية الشعب العامل؟ لم تعُد طبقة البروليتاريا من العمال وحدهم، كما كان الحال في القرن الماضي، بل ضمَّت أيضًا الفلاحين (ماو) والطلبة (ماركوزه) بل والجيوش (الثورات الوطنية في العالم الثالث)؛ فالأُطر النظرية الماركسية كثيرة ومتعددة، بل وتصل الاختلافات بينها إلى حد التضارب والتناقض، ومع ذلك تظل الماركسية كدليلٍ للعمل الثوري. تتغير الأطر النظرية حسب الثقافات والعصور ومراحل التاريخ، في حين يبقى العمل الثوري كبرنامجٍ وطني موحد يقوم على الاستقلال الوطني.
- (٥)
حتمية القوانين. والحقيقة أن هذا تصور القرن التاسع عشر للقانون العلمي والقانون التاريخي، وفي ماركسيات القرن العشرين هناك الماركسية البرجسونية عند جارودي، وإمكانية القفز على المراحل، وعدم رفض تصورات الطفرة والكمون والمفاهيم الحيوية. وإن تطعيم الرأسمالية بالاشتراكية والاشتراكية ببعض مظاهر النشاط الاقتصادي الحر لا يعني إلغاء التناقض بين النظامَين، بل إقرار الحق ومحاولة إيجاد نظامٍ متكامل ومتوازن. وإن محاولات الرأسمالية للانتعاش ليس تفتيتًا للرأسمالية، بل تركيز لها وتقوية لبنيتها، كما هو حادث في الشركات المتعددة الجنسيات. وإن أزمات الرأسمالية ليست ذات طابعٍ عرَضي، بل تدخل في صميم النظام الرأسمالي. وإن ارتفاع أجور العمال في المجتمع الرأسمالي، وتحول العمال إلى طبقة متوسطة، وخروجهم من مفهوم الطبقة الكادحة، لا يعني عدم وجود تفاوتٍ ضخم في الدخول بين العمال وأصحاب رءوس الأموال. وإن محاولات الحوار من النظم الاشتراكية مع النظم الرأسمالية لا تعني أي تنازلٍ عقائدي عن الاشتراكية، بل رعاية لمصالح البشر، وحرصًا على السلام العالمي.
- (٦)
هبوط الإنتاج بعد إجراءات التأميم. والحقيقة أن التأميم في حد ذاته ليس مسئولًا عن هبوط الإنتاج، بل المسئول عن ذلك سوء الإدارة، والبيروقراطية، وعدم وعي العمال بدور القطاع العام، وأسباب أخرى كثيرة معروفة لدى علماء الإدارة العامة. وهي كلها ظواهرُ عارضة لا تمس جوهر التأميم، من حيث كونه وسيلة لسيطرة الشعب على وسائل الإنتاج، وتدخل الدولة لحماية الطبقات الكادحة ومحدودي الدخل وصغار الموظفين. إن الدولة القوية التي تقوم على التخطيط وعلى التوجيه الاقتصادي لَقادرة على الصمود أمام مخاطر الأحلاف الأجنبية، بالاعتماد على موارد الدولة والسيطرة عليها. إن التأميم أحد مظاهر السيادة الوطنية، حتى في أعتى البلاد الرأسمالية. وهو وسيلة للنضال الوطني، كما حدث في تأميم قناة السويس في مصر ١٩٥٦م، وفي تأميم البترول بعد الثروات العربية. والتأميم لا يعني سيطرة الدولة على الفكر والفن والثقافة، وتوجيهها نحو الرأي الواحد؛ فذلك نقل للمعنى الحقيقي للفظ التأميم إلى معنًى مجازي بلا قرائن، ولا أدلة، ولكن للتشهير وتشويه السمعة. الإبداع الثقافي شرطه الحرية، في حين أن الإنتاج الاقتصادي شرطه توجيه الدولة. وهل كان أدب جوركي وتشيكوف سجنًا؟ ليس التأميم سدًّا لأبواب الرزق، بل هو عدالة في الأجور، وتحقيق لمسئولية الدولة في توظيف الخريجين، وحماية للعمالة الوطنية. ولماذا لا يسقط عرش رأس المال، أو يحد من رغبات الأفراد في الاستغلال، وتسيير الأمور ذاتيًّا بفعل الجماعة؟ إن سوء التطبيق لنظرية ما لا يعني بالضرورة خللًا في النظرية ذاتها، بل في كيفية تطبيقها. ولو صح ذلك لكانت حياة المسلمين وما يحدث فيها من مآسٍ حجة ضد الإسلام وليس له!
- (١)
إن من أخطر الأمور في شئون الثقافة هو غزو ثقافة مهيمنة لأخرى؛ وبالتالي تفكير الثقافة المَغزُوَّة بقوالب الثقافة الغازِية. والمثَل على ذلك تفكير اليمين وتصور للماركسية، والتعبير عن ذلك في أجهزة الإعلام؛ فكل ما يتعلق بالدين، والكنيسة وتاريخ الصراع بين الدين والعلم، بين الدين والمجتمع إلى آخر ما هو معروف من تاريخ الغرب لا شأن للإسلام به. وإذا قيل إن الدين أفيون الشعب في الغرب، أو إنه خدعة، أو إنه سيزول لا محالة (جويو) أو إنه وهم (فرويد)، فإن ذلك يشير إلى حالةٍ خاصة في تطور الدين في الغرب، وليس إلى كل الحالات، بل إن كل الاتجاهات المعارِضة للدين في الغرب هي في الحقيقة مع الدين بمفهوم الإسلام؛ أي مع العقل، والعلم، وحرية الإنسان، وعدالة التوزيع، والمساواة في الأمور، وتقدُّم التاريخ.
- (٢)
إن مفاهيم مثل المادية والروحية أيضًا، مثل مفهوم الدين، قد تأتي من الثقافة الغالبة، وتسيطر على الأذهان في الثقافة المغلوبة؛ فالروح في الثقافة الغالبة ضد المادة، عرجاء، صورية، تستخدم كستار وغطاء لإخفاء المادة؛ وبالتالي تؤدي إلى النفاق. وسرعان ما يتم رفضها إلى المفهوم المضاد، وهو المادة الحسية المباشرة الصريحة المعادية للروح والرافضة لها. أما في الثقافة المغلوبة فقد لا توجد هذه الثنائية بين الروح والمادة، بل توجد روحٌ فعالة في المادة وفي التاريخ، ومادةٌ نشطة خلَّاقة ومبدعة، كما ظهر عند الصوفية في التوحيد بين الحق والخلق، وعند المتكلمين أصحاب الطبائع في التوحيد بين المادة والروح، في نظريات الكمون والطفرة، واستحالة تعري الجواهر عن الأعراض بدون جوهر، وعند الفلاسفة في نظرية قِدم العالم، وعند الفقهاء في البحث عن العِلل المادية؛ فالمادية ليست ملحدة لأنها أساس تراثنا القديم، وهي تصورٌ موجود في كل تراث، وليس فقط في التراث الغربي؛ ومن ثَم تصبح كل ثنائيات الفكر الغربي وإشكالياته مثل: أيهما أسبق الروح أم المادة؟ هل الروح خالق المادة أم المادة خالقة الروح؟ تخص الفكر الغربي وحده دون غيره. الثنائية تضع سؤال العلاقة في حين أن التوحيد يضع سؤال الفعل.
- (٣)
ليست القضية هي تطوير الماركسية وتطعيمها؛ بحيث تكون أكثر اتفاقًا مع روح العصر، أو تسلُّل جديد للماركسية بحيث يسهل ترويجها لدى الشعوب النامية، بل الأمر هو إقامة نهضة جذرية بتفسير الدين في إحدى وظيفتَيه تفسيرًا جذريًّا، لمَّا كانت الثورة إحدى متطلبات العصر. وبالرغم من كون ذلك أيضًا أحد جوانب ماركسيات القرن العشرين، إلا أنه بالنسبة لنا غير دال. ليس المقصود هو التوفيق بين الإسلام والماركسية، بل فهم الإسلام بما يتفق وحاجة العصر الأولى في التحرر والثورة. ليس المقصود هو إضفاء مسحة روحانية على الماركسية، بل إبراز الجوانب الاجتماعية التي يتطلبها العصر في الإسلام الذي ورِثناه، والذي غلبَت عليه الشعائر والعبادات دون المقاصد والمعاملات، وهل يصعب على الإنسان أن يكون مسلمًا ثائرًا، مؤمنًا متحررًا، سلفيًّا مصلحًا؟ إنها ليست انتقائية وإلا أعطينا الغرب أكثر مما يستحق، وأعطينا أنفسنا أقل مما نستحق؛ فالثورة والعدالة الاجتماعية ليست حكرًا على ماركس، ولا الدفاع عن الأوضاع القائمة والتخلف سمة دائمة في المسلمين.
- (٤) والأغرب من ذلك كله هو الإسلام على الطريقة الرأسمالية، وتفسير الكون كله من خلال التصور الرأسمالي للعالم! فاليابان نهضَت بعد هزيمتها بفضل الرأسمالية ومآثرها، وكذلك ألمانيا، وكأن رأس المال الغربي وما أداه من تبعية مطلَقة من الدولتَين للمعسكر الغربي لا وجود له! والإسلام هو دفاع عن الأوضاع القائمة وليس حركة تغيير، وكأن الإسلام يعود من جديد على أكتاف أشراف مكة وساداتها، وليس تحريرًا للعبيد ومساواة للفقراء! والنشاط والحركة من الصفوة؛ أي الأقلية النشطة، وكأن الإسلام لم يأتِ لجماهير المسلمين، ولعامة الناس، وكأن الرسول لم يقُل «اللهم أحيني مسكينًا، وأمتني مسكينًا، واحشرني في زمرة المساكين!» والإسلام أتى ليؤكد الملكية الخاصة وحرية التجارة وكأن الاستخلاف ليس له ذكر، وحق الإمام في التأميم والمصادرة لا وجود له! إن الهجوم على الماركسية من اليمين في أجهزة الإعلام يكشف عن النوايا؛ التشويه المقصود للاشتراكية، والإظهار غير المقصود للعقلية الرأسمالية. والجماهير واعية في كلتا الحالتَين.٤
(د) تشويه الحقائق، واتهام الزور، فأين المصلحة؟٥
تحية للأخ الكريم أنه زادنا علمًا بحديثه عن القنطور اليوناني «لا طلعَت عليَّ شمسُ يومٍ لم أزدَدْ فيه علمًا.» ولماذا القنطور اليوناني وأبو الهول في مصر رابضٌ بجوارنا، يعطينا برأسه حكمة الإنسان وبجسده قوة الأسد؟ يبدو أن الاغتراب الحضاري أصبح هو الموجه لكثيرٍ من دعاتنا، وأن معرفة الذات عن طريق الآخر أصبح هو الطريق المتَّبع.
- (١)
هل الخطر في مصر هم الشيوعيون المصريون، كي يستحقوا كل هذه الحملة الشعواء اليومية، وعددهم لا يتجاوز أكثر من قاعة؟ ولماذا الهجوم على شخصٍ بعينه؟ إن اليسار اتجاهٌ سياسي موضوعي له وجوده، كتيارٍ اجتماعي لا شأن له بزيد أو عمرو من الناس. اليسار المصري ليس ابتكارًا من أحد، بل هو وضعٌ سياسي تحتِّمه الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في مصر.
- (٢)
وإذا كان الرأس مؤمنًا، والحمد لله الذي سجَّل اليسار نقطة، ويا ليت رءوسنا جميعًا مؤمنة؛ فالرأس هو المدبر للجسد، وهو المسيِّر له، وهو المتحكِّم فيه. والجسد لا يكون مؤمنًا أو ملحدًا. الجسد موجود عند المؤمن والملحد على السواء. وكل فعلٍ من أفعال الجوارح هو من تدبير العقل وتنفيذ الجسد؛ فالرأس هو المسئول.
- (٣)
ولماذا يتخفَّى اليسار؟ وعلى أي شيء يتستر؟ ولماذا يكون لليسار نوايا بخلاف ما يُعلن عنه، وهو التنظيم الشرعي في البلاد؟ ولو أتى محمولًا على الأعناق يمثل الأغلبية لما كان في ذلك خروج على الشرعية. إن ما في قلب اليسار على لسانه. وإن اتهام اليسار بالازدواجية، والتخفي، والتستر، والسجادة الحمراء، وطاقية الإخفاء هو في الحقيقة إسقاط من العقلية اليمينية التي تقوم على الحرص على الوضع القائم وادعاء المثالية، والعقلية الرأسمالية التي تقوم على دافع المصلحة كدافع وباعث والتشدق بالدين كغطاء وستار. ولماذا التفتيش في الضمائر؟ ألا يتولى الله السرائر؟ وهل شقَقْنا على قلوب الناس؟ ألم يقل الرسول «من قال لأخيه أنت كافر فقد باء بها.» أو كما قال؟ وهل من الإسلام أن يعلن مسلم شهادته، ويثبت إسلامه، ويدفعه الناس إلى الإلحاد، ويتهمونه بالكفر؟
- (٤)
وهذا هو بيت القصيد. إن الإسلام والماركسية متفقان في الأهداف، وهو تحقيق العدالة الاجتماعية، وإقامة المجتمع اللاطبقي، وأن يكون العمل وحده مصدر القيمة، وأن يكون الحكم للأغلبية لصالحها، والملكية العامة لوسائل الإنتاج. وقد تختلف الوسائل في تحقيق ذلك بالله أم بالدولة، بالسلم أم بالعنف، بالقرآن أم بالسلطان. كما قد تختلف وسائل التحليل؛ إما بتحليل النفس البشرية اعتمادًا على المبادئ والأخلاق، وإما بتحليل الواقع الاقتصادي اعتمادًا على الكم والإحصاء. وقد تختلف الدوافع والبواعث؛ إما إيمانًا بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر، وإما إيمانًا بالمبادئ الإنسانية العامة، مثل العدالة الاجتماعية، التي لا يختلف عليها اثنان. وقد تختلف الأسس النظرية، وتتراوح بين مثالية وواقعية، بين عقلية وحسية. والاختلاف وارد في كل بناء ذهني إنساني، سواء في العلم أو في الفلسفة أو في الدين. واختلاف الأطر النظرية بين الأشاعرة والمعتزلة بالنسبة لتصور الله، وحرية الأفعال، والمسئولية عن الخير والشر، والعقل، والنبوة، والمعاد، والإيمان والعمل، والإمامة لم تمنعهم أن يكونوا مؤمنين موحدين بالله، ومثبتين لوجود الله وخلق العالم وخلود النفس. ليس هناك إذن توفيق بين رأس مؤمن وجسد ملحد، بل هناك اتفاق في الأهداف والغايات، واختلاف في الوسائل والمناهج والدوافع، والأطر النظرية، وهو ما يحدث في كل مذهب ونحلة وملة ودين. وإلا كفَّرنا فرقنا الكلامية جميعًا، فإذا كانت الماركسية متفقة مع الإسلام في الغايات، فقد كفَى الله المؤمنين شر القتال. وإذا كانا مختلفَين في الوسائل والمناهج والدوافع والأطر النظرية، فالواقع هو المحك. ومن يثبت على أرض المعركة يكون له الغلبة. لا يحتاج الرأس المسلم إلى جسدٍ غريب؛ فالإسلام أيديولوجية تفرض نظامها، وعقيدة تُملي شريعتها، والنظام الاجتماعي والإسلامي مستقًى من التصور النظري الإسلامي، ودعوتنا إلى إقامة المبادئ الخمسة؛ تغيير الوضع القائم إلى وضعٍ أفضل، الملكية العامة لوسائل الإنتاج، إقامة المجتمع اللاطبقي، العمل وحده مصدر القيمة، الحكم للأغلبية والتنمية لصالحها إنما تلتقي عرَضًا مع الماركسية؛ فهناك أُخُوة في السلاح، وزمالة في النضال. الرأس إسلامي، والجسد إسلامي. وقد شرع الإسلام للالتقاء مع أهل الكتاب وأهل الذمة وفيهم المجوس؛ فنحن لا نشارك الغير، بل الغير هو الذي يشاركنا؛ فأهلًا بالغير إن شاركنا في الأهداف وحتى لو اختلف معنا في الوسائل. ولا ضير في الاختلاف في الأطر النظرية؛ فذاك موجود في فِرقنا الإسلامية، وبين فلاسفتنا وصوفيتنا وفقهائنا، ما دام هناك اتفاق في الأهداف. وليس اليسار في حاجة إلى الأفكار المهيمنة؛ فمطالب اليسار تعبِّر في وضوح وبساطة عن الواقع المصري. اليسار لا يعبث بل يقيم ثقافةً وطنية، ولا يتعثر لأنه يؤصل فكره، ويُعيد الاختيار بين البدائل في تراثنا القديم، ولا يتستر، بل يعلنها صراحة على الملأ. نحن نفهم الإسلام بما يتفق مع حاجات العصر؛ ومن ثَم فنحن فقهاء.
- (٥)
لا حياء في العلم كما لا حياء في الدين. العلم لا يكون ماركسيًّا أو رأسماليًّا. النظرة العلمية واحدة، ولكن مناهج تحليل الواقع وأبنية العلم ونظرياته ومداخله مختلفة. والاختلاف شيءٌ طبيعي ما دام الهدف واحدًا، وهو السيطرة على قوانين الطبيعة لتسخيرها لصالح الإنسان. العلم لا يكون مؤمنًا أو ملحدًا، بل مقياس الصدق في العلم هو تطابقه مع الواقع. والنظم الاجتماعية لا تكون مؤمنة أو ملحدة، بل هي أيضًا نظم تلائم، أو لا تلائم الطبيعة البشرية، وتحقق أو لا تحقق مصالح الناس، وهناك تفسيراتٌ عدة للأسس النظرية، وتطبيقاتٌ عدة للأنظمة الاجتماعية، ولا يوجد تفسيرٌ واحد هو المؤمن وباقي التفسيرات ملحدة، أو تطبيقٌ واحد هو المؤمن، وباقي التطبيقات هي الملحدة؛ تلك هي بقايا الحديث الضعيف للفرقة الناجية؛ أن كل فِرق الأمة في النار والناجية منها واحدة.
- (٦)
وإحقاقًا للحق وليس دفاعًا عن الماركسية، إن صورة الماركسية في مصر هي الصورة التي روَّج لها الفكر الرأسمالي بيننا، والتي هي أثر من آثار الاستعمار الثقافي في فكرنا المعاصر، صورة مذهبية معينة، وهي مادية القرن التاسع عشر. وقد تطوَّرَت الماركسية منذ ذلك الوقت في فلسفتها وأطرها النظرية، فيما يُعرف باسم ماركسيات القرن العشرين، التي تبقي على الأهداف، وتختلف في الوسائل والأطر النظرية. هناك ماركسيةٌ مثالية عند ماركس الشاب، وماركسية ليبرالية عند سدني هوك، وماركسية إنسانية عند آدم شاف، وماركسية بنائية عند ألتوسر، وماركسية برجسونية عند جارودي، وماركسية عملية عند غرامشي، وماركسية فرويدية عند ماركوزه، وماركسية فينومينولوجية عند لوفيفر، وماركسية وجودية عند سارتر وميرلوبونتي، وماركسية هيجلية عند كوجيف، فلماذا نُصر نحن على ماركسية دارون وسبنسر، وماركسية القرن التاسع عشر، التي تخطئها ماركسيات القرن العشرين، إلا إذا كان المقصود تشويه الماركسية عن عمد، أو نكون ضحية الفكر الرأسمالي والاستعمار الثقافي، أو جهلًا بالماركسية، والجهل ليس أصلًا من أصول الدين؟ حتى ولو كانت المادية أساسًا نظريًّا وحيدًا للماركسية، كما كان الحال في القرن التاسع عشر، فقد كان هذا الاختيار أيضًا موجودًا في تراثنا القديم عند أصحاب الطبائع، النظَّام، والجاحظ، ومعمر، وثمامة، وهشام بن الحكم، وهشام بن سالم الجواليقي من المتكلمين، وعند ابن رشد من الفلاسفة، وعند أصحاب وحدة الوجود من الصوفية، وعند دعاة المنطق الحسي من الفقهاء. وكلهم موحدون مؤمنون بالله. وإن وجود بعض الجوانب الليبرالية في النظم الاشتراكية، وبعض الجوانب الاشتراكية في النظم الغربية ليس مرفوضًا من ماركسية القرن العشرين بل هو تأكيد لها، وتأسيس للماركسية طبقًا لأهم معطيات القرن العشرين ألا وهو التحرر، تحرر الإنسان في النظم الاشتراكية. وحق الجماعة وتحقيقها بالوسائل السلمية في النظم الليبرالية.
- (٧)
إن اليسار لا يحتكر الثقافة، بل يدعو الناس إلى حدٍّ أدنى من الاتفاق، يجعل الأرض لمن يفلحها، والمصنع لمن يعمل فيه، والجامعة لمن يتعلم فيها، والمتجر لمن يشقى فيه، يدعو للحوار، ولا يتهم، بل هو باستمرار موضع الاتهام، ولا حيلة له إلا الدفاع عن نفسه. لم يفرض اليسار على مصر شيئًا، بل إنه اختيارٌ أساسي يفرضه الواقع المصري. إن هذه الحملة الشعواء ضد اليسار إنما تهدف إلى المستحيل، وهو الوقوف أمام الاتجاه الشعبي العام نحو اليسار، وتشويهه أمام الناس، والناس ليست في غفلة من أمرها، وكيف يبغي اليسار التشهير بالإسلام بأن نظرياته غير قادرة على تحقيق التقدم وهو يثبت أن الإسلام هو التقدم في أسسه النظرية ومساواة الخلق جميعًا أمام مبدأ واحد شامل، وفي تطبيقاته العملية يجعل العمل وحده مصدر القيمة، ويؤسس المجتمع اللاطبقي؟ إلى متى ستظل هذه الحملة على اليسار بأنه ملحد؟ وهل تتحقق مصلحة الناس بذلك؟ هل هذا هو إشكال مصر التي ما زالت ترزَح تحت وطأة الغُزاة، وما زال شعبها يناضل في سبيل لقمة العيش، والمقاومة الفلسطينية والقوى الوطنية مهدَّدة أمام أعيننا بالفَناء؟ كفَى تعميةً عما يحدث، وكفى تغطيةً لما يدور، وكفَى إبعادًا للأنظار عن مشاكلنا الحقيقية وتحدياتنا المصيرية.
إلام الخُلف بينكم إلاماوهذي الضَّجة الكبرى عَلامَا؟وفيم يكيد بعضكمو لبعضوتُبدون العداوة والخصامَاوأين الفوز لا مصر استقرتعلى حالٍ ولا السودان دامَا
(ﻫ) المعارك الأخلاقية والصراع الاجتماعي٦
يبدو أنها معركةٌ طويلة بدأَت حلقاتها منذ مايو ١٩٧١م، ثم رد الفعل عليها في يناير ١٩٧٧م. وليست آخر حلقاتها أكتوبر ١٩٨١م؛ فبالرغم مما يبدو على حادثة المنصة من أنها جريمة قتلٍ يعاقب عليها القانون، وهي اغتيال الرئيس، إلا أن مؤامرة الصمت حول دوافعها وأسبابها ونتائجها على الأمدَين القصير والطويل جريمةٌ أعظم، فإذا كانت الجريمة الأولى جريمة أفراد، فإن الثانية جريمة نظام حكم بأكمله.
ولا يحتاج الإنسان إلى قراءة أو ذكاء، كي يدرك أن المعركة الدائرة حاليًّا باسم الدين والأخلاق، دفاعًا عن «حرمة الموتى»، إنما تُخفي في حقيقتها الصراع الاجتماعي الخفي بين الفئة الحاكمة التي بيدها المال والسلطة، وبين جماهير الشعب المدافعة عن ثورة يوليو وإنجازاتها الاجتماعية. ولمَّا كان من وسائل التعمية إخفاء هذا الصراع، وإلباسه ثوب الدين والأخلاق، وهما المكوِّنان الرئيسيان لروح الأمة وثقافة الشعب، تحاول الفئة الحاكمة اليوم الاختفاء وراءهما دفاعًا عن نفسها وحمايةً لمكتسباتها؛ فبعد أن تهاوى رأس النظام يستميت الآن المستفيدون في الدفاع عن حساباتهم في الخارج، وثرواتهم في الداخل، ومراكزهم القيادية. الدفاع هذه المرة ليس عن نظام مجرد، بل عن الجلد والرقبة، خشية أن تهتز المناصب، كما وقعَت العروش من قبل، وخشية يناير آخر يكونون هم أول ضحاياه. ولقد كان الرئيس المقتول يهددهم من قبل: تأخذون بدلَين سفر؛ بدلًا من مؤسساتكم الصحفية وبدلًا آخر من رئاسة الجمهورية ويمكن أن أجعله بدلًا واحدًا. وهو تهديد بسحب الرشوة! كانت السياسة المتبعة هي إعطاء كل رئيس مؤسسة صحفية أو إعلامية أكثر مما يستحق، وإلباسه ثوبًا أطول منه، وإعطاؤه مركزًا لم يكن يحلم به حتى يظل عبدًا له، مستميتًا في الدفاع عنه، بائعًا نفسه، مزيفًا ضميره. وقد يصل عند البعض إلى حد خيانة البلاد، والرضا بالضَّيم والهوان.
ليت أجهزة الإعلام قد دافعَت بنفس الحماس والهوَس المحموم، الذي تهاجم به كتابًا الآن عن شرف مصر وسيادتها على أرضها، عندما كان يُعلَن في العريش وعلى أرض مصر من رئيس وزراء إسرائيل عن فتح الحدود بين مصر وإسرائيل، وبجواره رئيس وزراء مصر السابق، صاحب الحق في هذا الإعلان، وعندما طالب موسى ديان بالسكنى في ميدان التحرير، وزيارة الأزهر والحسين، والتسوق في خان الخليلي، وركوب ترام الإسكندرية ذي الطابقَين، ومكوثه في الدور الأعلى، رافضًا السكنى في أطراف القاهرة بعيدًا عن قلب مصر، وليس متكئًا على رءوس الأشهاد. يا ليتها طالبت بالتريث قليلًا في الاعتراف ورئيس وزراء إسرائيل يعلن أنه ليس في حاجة إلى اعتراف أحد. يا ليتها دافعَت عن حق شباب مصر ومثقفيها في رفع علم فلسطين في معرض الكتاب ١٩٨١م، وإسرائيل تشارك في المعرض تحت حماية الشرطة! يا ليتها قد طالبَت بالتريث في التطبيع وفي تجارة البيض والموز والماس، وفي إصلاح الأراضي الزراعية والمشاريع المشتركة. ليتها دافعَت عن رأي وليس عن مصلحة، أو كذَّبت الوقائع الواردة في الكتاب، أو نظَّرت سياسة أو رشَّدت طريقًا حتى تكون على الأقل جديرة بالحوار وبالنقاش. وإلى متى تستمر الأمور على هذا النحو؟ الجماهير ما زالت منتظرة والأرواح ما زالت في الأعناق.
ألم يكن لعبد الناصر حرمة تدافع أجهزة الإعلام عنها؟ ألم يكن لزعماء مصر السابقين كلهم حرمة وهم الذين كان لهم شرف الدفاع عن الاستقلال الوطني وتأسيس الاقتصاد الوطني؟ وماذا عن حرمة الأحياء، واتهام الخصوم السياسيين بالكفر والإلحاد وبالعمالة والخيانة؟
إن المنهج النفسي منهج معترف به في علم النفس وفي تحليل الشخصيات التاريخية. وقد تم اغتيال جيفارا بالمنهج النفسي بعد تحليل شخصيته وسيجاره ورؤية وهجها بالأشعة تحت الحمراء وسط الأدغال. كما حلِّلَت شخصية نيكسون بالمنهج النفسي. وقد حاول علماء الاستعمار من قبلُ رسم صورةٍ نفسية لعادات عبد الناصر لاغتياله والتخلص منه. ومن المسلَّم به علميًّا أن الدوافع النفسية تكمن وراء السلوك البشري.
وقد صدر قرار وقف الحلقات بعد الحلقات الأولى التي تحاول استعمال المنهج النفسي لتفسير الشخصية وسلوكها فيما بعدُ. لم يكن الدافع هو الأخلاق وحرمة الموتى، بل إيقاف نشر الحلقات التالية، التي تكشف عن التفريط في حقوق الوطن، وعدم ترجمة النصر العسكري إلى كسبٍ سياسي، وكيف أدار العسكريون المعركة حتى النصر، وكيف أساء السياسيون إدارة المعركة حتى الاستسلام. لم يكن الهدف الحلقات الأولى بل الحلقات الأخيرة، ولم يكن الدافع الأخلاق بل السياسة، ولم يكن الحرص على حرمة الأموات بل على كراسي الأحياء.
ولا يختلف في ذلك النظام في مصر عن باقي الأنظمة العربية؛ فالتواطؤ مشترك، والمصلحة واحدة، على الرغم من استسلام نظام، ومقاومة ظاهرية لباقي النظم؛ فالدعوة إلى الصلح مع العدو الصهيوني كانت رائجة من قبلُ، والوصاية الأمريكية على الأنظمة العربية كانت عُرفًا شائعًا. إنما بدأَت المزايدة عندما قدم أحد الولاة الأتباع خدمات أكثر من المتوقع عند الأسياد ولدى باقي العبيد على السواء. أصبح السبق في الخيانة والعمالة شرفًا يناله الحكام. وإذا كان مصير الشقيقة الكبرى التصدي في الحروب، فإن مصيرها أيضًا تلقي الضربات عند الاستسلام بدلًا من باقي الأشقاء.
ما زالت أجهزة الإعلام تختلق معارك وهمية، تعميةً للجماهير عن مشاكلها الحقيقية، وثرواتها المنهوبة، وغذائها الفاسد، وأموالها المهرَّبة منذ الهجوم على «الفتوحات المكية» لابن عربي في مجلس الشعب، وجَعْله معركةً مطية إلى «خريف الغضب». وهل القضية حديثٌ مع الله أو إلى الله أو من الله نشغل بها الرأي العام وتسيل فيها الأقلام؟ أما القول بأن مصر وإسرائيل هما البلدان الوحيدان المتحضران وسط شعوب همجية فلا يُحرك أحدًا، ولا يُغضب كاتبًا، ولا يُغلق صحيفة، ولا يُثير معركة! وكأن حرف الجر قبل لفظ أخطر على البلاد من جرها كلها تحت أقدام الصهيونية والاستعمار.
ليت أجهزة الإعلام تفكِّر في مستقبل مصر، وفيما نتج عن خروجها كمركز ثقل في العالم العربي، من تشتُّت وتشرذم وضياع، وهل حرب أكتوبر هي آخر الحروب أم بداية عصر الإمبراطورية الإسرائيلية؟ وماذا عن غزو لبنان؟ وماذا يُخبأ لسوريا والأردن والعراق والجزائر والسودان؟
ليت أجهزة الإعلام تكُف عن التخوين والتكفير والاتهام؛ فالمركب غارق، والكل هالك. ليتها تفكِّر في وحدة وطنية من القوى الوطنية الرئيسية في البلاد، الإخوان والوفديين والناصريين والماركسيين، والاتفاق على برنامج عملٍ وطني موحد يُعيد إلى الأمة استقلالها الوطني، وحريتها، وتخطيطها، وهويتها، وتقدُّمها، وجماهيرها. ليتها تفكِّر في القضية، وترعى مشروعها القومي الذي بدونه تتحلل مصر، وجندُها خير أجناد الأرض، وشعبُها مرابط إلى يوم القيامة.
(و) افتراءات ضد اليسار٧
يغلَّف اليسار هذه الأيام خاصة في مصر، وكما كان الحال في الغرب في القرن الماضي، بظلالٍ تجعل الناس غير قادرين على رؤية بريقه، وهي ظلالٌ باهتة سرعان ما تتبدد، وافتراءاتٌ كاذبة سرعان ما تنجلي، وأهمها:
- أولًا: يُقال عن اليسار إنه ملحد، ضد الدين لا يؤمن بالله، ويطعن في الأنبياء، ويزيِّف القرآن والحديث، أو على أكثر تقدير يستغل ذلك لمصلحته الخاصة، خوفًا من الناس، وتملقًا لمشاعرهم، ونفاقًا لهم، وهو قولٌ باطل مردود؛ فالدعوة اليسارية جوهر الدين، وأساس رسالات الأنبياء، ولا يُوجد نبي منذ آدم حتى محمد عليهما السلام إلا وأنذر الأغنياء بالويل والثبور، كما فعل عيسى، وطالب بحق الفقراء، كما فعل النبي عاموس، وتوعَّد الطغاة والمستكبرين كما فعل موسى، وطالب بحق الشعب في الرقابة والمشاركة في الحكم، وطالب بتطبيق الحدود على الضعفاء والأقوياء، وجعل العمل الصالح مقياسًا للناس جميعًا، لا فرق بين عربي ولا عجمي إلا بالتقوى، كما فعل محمد. إن كل مَن يشهر هذا السلاح ضد اليسار فليعلم أنه سلاحٌ غير بتار. إنما السلاح البتار في غير موضعه، وضد مصلحة الشعب، هو مَن يستغل الإيمان بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر، من أجل التعمية والتغطية والتستر على الأوضاع القائمة، التي تضيع فيها حقوق الفقراء، والتي تسلب حقوق الشعب من أجل الإبقاء على مصالح الأقلية وامتيازاتها، والدعوات الدينية اليسارية شائعةٌ في كل عصر، وعامةٌ في كل دين.
- ثانيًا: يُقال عن اليسار إنه مادي وإنه ينكر الروحانية، وإنه يفسر الظواهر الإنسانية تفسيرًا اقتصاديًّا خالصًا، وإن الإنسان بدن لا نفس، وإن الواقع مادة لا فكر، وإن الحياة دنيا لا آخرة، ولن يهلكنا إلا الدهر … وهذا افتراءٌ محض؛ فاليسار نظرةٌ علمية للواقع. والواقع فيه فكر، والإنسان جسد وروح، والعالم عالمان، عالم الشهادة وعالم الغيب، عالم الواقع والحس وعالم الأمل والرجاء. وإذا كان اليسار أساسًا دعوة فكرية، ويحذِّر الجماهير بالفكر، ويدعو الناس إلى التفكير وإعمال العقل، كما يفعل الأنبياء، فكيف يقتصر على الواقع وينكر الفكر. وإذا كان اليسار أساسًا دعوةً إلى العدالة الاجتماعية وإلى الدفاع عن حقوق الشعوب، وحرصًا على كرامة الإنسان، فكيف يكون مادية، ينكر الروحانية؟ وكيف يتسنَّى للإنسان أن يدرك هذه المبادئ وهو بدنٌ فقط بلا روح، اللهم إلا إذا كانت روحانيةً عرجاء بلا مضمون، يتستَّر وراءها البعض ويتشدَّقون تغطيةً للمادية وتقنيعًا لها.
- ثالثًا: يُقال عن اليسار إنه فكرٌ مستورد غير نابع من تراثنا وأرضنا ووطننا وتراثنا وعاداتنا وتقاليدنا؛ فاليسار والعمالة الفكرية شيءٌ واحد. وهذا أيضًا افتراء وبهتان وقول زور؛ فاليسار هو التنظير السياسي للثقافة الوطنية. والثقافة الوطنية هي التنظير المباشر لواقع الناس؛ فاليسار يبدأ من الواقع ولا يبدأ من الفكر. وفكره تنظير للواقع وليس فكرًا منقولًا، فإذا حدث اتفاق عرَضًا بين فكر اليسار والفكر الإنساني ازداد فكر اليسار ثقلًا، وأضاف إلى التجربة الإنسانية رصيدًا وطنيًّا. وهل انغلق تراثنا القديم على ذاته أم أضاف الفكر الإنساني، اليوناني، والهندي، والفارسي، والروماني رصيدًا آخر نعتزُّ به ونفخر به حتى الآن. وإذا كان عدو اليسار الأول هو الاستعمار الثقافي، فكيف له أن يستورد فكرًا يكون أحد مظاهر هذا الاستعمار؟ ألم يكن اليسار هو الراعي للثقافة الجماهيرية والجامعة الشعبية؟ ولماذا لا يكون الفكر الرأسمالي مستوردًا أيضًا، خاصة وأنه لم ينشأ من ترابنا وأرضنا أيضًا، وأن واقعنا لا يختاره ولا يفرضه؟ إن شبهة الاستيراد هذه لَأكثرُ دلالةً على عقلية الاستيراد والبضائع المستوردة، التي أصبحَت أحد قوالبنا الفكرية وأحد موجِّهات سلوكنا المعاصر.
- رابعًا: ويُقال عن اليسار بالإضافة إلى الأفكار المستوردة القرارات المستوردة، وكأن العمالة الفكرية تتحول إلى عمالةٍ سياسية؛ فاليسار تابع لموسكو أو بكين أو لغيرهما من العواصم اليسارية وكأن اليسار لا يكون وطنيًّا بالمرة. وهذا افتراءٌ وتجنٍّ على أبرز أشكال نضالنا الوطني؛ فاليسار أساسًا حركةٌ وطنية، ولا تصدر قراراته إلا بناء على المصلحة الوطنية. وقد قامت كل حركات التحرر الوطني على دعواتٍ يسارية، وكان اليسار هو الموحِّد لكل اتجاهات التحرر الوطني. وإذا كانت دعوات اليسار الوطني قد سادت داخل معسكر اليسار ذاته (الصين، فيتنام، يوغوسلافيا، رومانيا … إلخ) فكيف يكون اليسار خارج معسكر اليسار تابعًا لإحدى أنظمته؟ لقد أصبح لليسار الوطني اليوم (إيطاليا، وفرنسا) الصدارة على اليسار الأممي، في حين أن الاستعمار العالمي يوحِّد صفوفه ويقوم على محورٍ أساسي، وبسلطةٍ مركزية توجِّه أذناب الاستعمار وتحرِّك تابعيه. والرأسمالية العالمية المتمثلة في الشركات المتعددة الأجناس هي التي توجِّه الرأسمالية الوطنية، وتبتلعها، وكل ذلك لا يكون عمالةً أو تبعيةً لأحد!
-
خامسًا: ويُقال عن اليسار إنه دعوة إلى
التغيير بالعنف، وإلى إراقة الدماء،
وإنه دعوة إلى الحقد والضغينة،
واستغلال فقر الفقراء، واللعب على
أوجاع الناس، وهذا أيضًا إثمٌ وبهتان؛
فاليسار دعوة الأغلبية، والأغلبية لا
تحتاج إلى العنف؛ لأنها تستطيع أن
تحقِّق مطالبها بالوسائل الديمقراطية،
وطالما ضحَّى اليسار بالبرنامج السياسي
من أجل الحفاظ على الوسائل الديمقراطية
«أليندي في شيلي». ووسائل الضغط، مثل
حق الإضراب وحق التعبير، تكفل لليسار
تحقيق أهدافه بالوسائل السلمية.
ويفرِّق اليسار بين العنف الطفولي
والعنف الثوري؛ فالأول ليس من اليسار،
بل من الطفولة اليسارية التي يدينها
اليسار، والثاني هو العنف الذي يُفرض
على اليسار، عندما يهاجم كبار الملاك
أرض الفلاحين في الريف، وعندما تطلق
أجهزة الأنظمة الإقطاعية والرأسمالية
النار على جماهير الشعب، وعندما يقول
الله: أُذِنَ
لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ
بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ
اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ
* الَّذِينَ
أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ
بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ
يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ
وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ
بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ
صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ
وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ
اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ
اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ
لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٣٩:
٤٠) هنا يظهر العنف الثوري كردِّ فعلٍ
على العنف الإجرامي في حق الشعب. ويكون
العنف الثوري أشبه بالجهاد المقدَّس.
والعجيب أن الذين يُثيرون هذه الشبهة
لا يُدينون العنف الإجرامي البادئ
بالعدوان، بل يدعون له!
فما جزاء من يفتري على اليسار كذبًا؟
(ز) بريق اليسار٨
- (١)
يقوم اليسار على فكرة، وليس على سلطة، وهو اتجاهٌ فكري قبل أن يكون اتجاهًا سياسيًّا، حتى أصبح اليسار نموذج العقائدية أو الأيديولوجية. واليسار صاحب فكر، وناشر دعوة، يقرأ ويدعو الناس للقراءة، كما يدعو القرآن؛ لذلك كان المفكرون يساريين بالطبع؛ لأنهم أهل الفكر، والفكر يساري بطبعه لأن اليسار فكرة. ويشمل الفكر كل مشتقاته من أدب وفن، وأصبح اليسار هو الوحيد القادر على إجراء الحوار مع الاتجاهات السياسية الأخرى؛ لأن الفكر شرط الحوار.
- (٢)
يتميز اليسار بالصدق لا النفاق، وذلك لأن الفكر بمجرد تمثُّله يتحول إلى تصديقٍ داخلي، كما هو الحال في الإيمان عندما يصدِّق المؤمن بما يؤمن به؛ فما يوجد في قلب اليساري يوجد على لسانه، وما يشعُر به يفكِّر فيه، وما يفكِّر فيه يقوله؛ ومن ثم فلا أثر لانفصام الشخصية التي تحدث في الاتجاهات السياسية الأخرى، عندما يجد الإنسان نفسه موضوعًا في اتجاه تحت ضغط السلطة أو تحت تأثير الخوف؛ لذلك كان أصحاب اليسار باستمرارٍ أصحاب الصوت العالي، وأول من يتلقَّون الضربات.
- (٣)
يعني اليسار الالتزام بمبدأ والتضحية في سبيله؛ فاليسار صاحب قضية، وحامل رسالة، مثل الأنبياء والصديقين والشهداء. وطالما قاوم اليسار وسائل الإغراء والضغط، وعوامل الترغيب والترهيب من أجل التخلي عن المبدأ أو تغييره، وطالما استشهد اليسار من أجل الثبات على المبدأ، وتحمَّل صنوف العذاب والهوان على ما نسمع في قضايانا هذه الأيام؛ لذلك كان اليسار أقرب إلى روح الشباب، روح التضحية والفداء، وكانوا زينة شباب أهل الجنة.
- (٤)
يرتبط اليسار بالواقع، ومقياس فكره تصديق الواقع له، ومن هنا جاءت تسميته بأنه الأيديولوجية العلمية لارتباطها بالواقع. وأصبحَت الواقعية في الفن والأدب وسيلته في التعبير، وهو في هذا شبيهٌ بالوحي الذي يقوم على هذه الواقعية بتدرُّجه في النزول طبقًا لدرجات الوعي الإنساني، ونزوله منجَّمًا طبقًا لمقتضيات الواقع. ومن هنا جاءت تسميته باليسار الوطني نظرًا لارتباطه بالأرض وبالتراب. وهو الوحيد الذي يملك تحليل الواقع تحليلًا إحصائيًّا عارضًا مكوِّناته الأساسية؛ ومن ثَم كان قادرًا على إبراز مشكلات الواقع، وتقديم الحلول لها.
- (٥)
يتجه اليسار باستمرار نحو المعارضة، وعدم التسليم بالأمر الواقع، ورفض النظم القائمة؛ لذلك كان اليسار أقرب إلى الجديد والتطلع نحو المستقبل، في مقابل الاتجاهات السياسية الأخرى التي تريد الرجوع إلى الوراء، متطلعةً نحو الماضي، أو التي تريد الإبقاء على الوضع القائم، متكالبةً على مكاسب الحاضر؛ لذلك كان اليسار ضد كل النزعات التبريرية للوضع القائم، وضد كل الاتجاهات للتسكين والتثبيت. وقد كانت رسالات الأنبياء كلها بلا استثناء دعواتٍ لتغيير الوضع القائم، وكان الوحي رافضًا للرضا بالحياة الدنيا، وحاثًّا الناس على النهوض وعدم الاثِّقال.
- (٦)
يعبِّر اليسار عن نزعةٍ غيرية في الإنسان؛ فالتفكير في الآخر سابق على التفكير في الذات، ومصلحة الجماهير سابقة على مصلحة الأفراد، والأغلبية صاحبة حق على الأقلية؛ لذلك عُرف عن اليسار بأنه دعوةٌ جماهيرية ترعى مصالح الناس، وتُدافع عن حقوقهم، مهمة اليسار أشبه بمهمة فقهاء المسلمين في الدفاع عن المصالح العامة والرقابة على سير الأمور، وأن يكون حاكم المسلمين آخر من يأكل وآخر من يلبس، وآخر من يسكن.
- (٧)
يعتمد اليسار على روح الجماعة؛ فالعمل الجماعي أبقى من العمل الفردي وأكثر حمايةً لصاحبه. ليس من شيمة اليسار عبادة الأشخاص، وادعاء البطولات، وتوهُّم الزعامات بل الاجتماع معًا، والعمل المشترك؛ لذلك فإن الحزب هو عصَب الجماعة. ويتفق ذلك مع ما هو معروفٌ في طبيعتنا من روح الترابط والتراحم، وما هو مشهور في شخصيتنا القومية من عُروة وُثقى تظهر فوق الحصير، وعلى المصطبة، وفي الأرواح والأعياد والموالد.
- (٨)
ينحو اليسار دائمًا نحو العالمية؛ فهو نزعةٌ إنسانية خالصة تدافع عن الإنسان من حيث هو إنسان؛ لذلك كان اليسار هو التطور الطبيعي لليبرالية، والوريث الشرعي للعقلانية والتنوير. ولا تقوم العالمية على أي أساسٍ عنصري، عِرقي أو حضاري، بل على المبادئ العامة الشاملة مثل حق تقرير المصير، وحرية الشعوب، والعدالة الاجتماعية، والسلام.
هذا هو البريق الذي يمحو ما دونه من ظلال.
(ﺣ) الشعارات الدينية ومضامينها السياسية٩
إنه لا شك ما يُحزن الإنسان أن يرى الإخوة الأعداء يتصارعون، وأن تتساقط الرقاب بسبب سوء الفهم، وأن تتبدد الجهود بسبب صورية التفسير، وأن تتبعثر قوى الأمة وتتشتَّت طاقاتها بلا داعٍ، بل نتيجة بقايا الاستعمار الثقافي في بلادنا، وتحقيقًا لسياسة «فرِّق تسُد».
فإن كثيرًا ما يحدث في لقاءاتنا الجماهيرية هذه الأيام، وحياتنا السياسية وقد دب فيها النشاط النسبي، أن ينقسم الجمهور إلى ثلاثة أقسام؛ الأول يصيح «الله أكبر ولله الحمد»، «الله أكبر والعزة لله»، «القرآن دستورنا». ويهتف القسم الآخر «الله أكبر والعزة لمصر»، «اشتراكية، اشتراكية»، «تحيا مصر»، «ناصر، ناصر». أما القسم الثالث وهو الأغلب فإنه يكون محصورًا بين القسمَين الأوَّلَين، يترقب وينتظر، والحَيْرة بادية عليه، وجدانه مع الأول، وواقعه مع الثاني ولكنه ينتظر لأيهما الغلبة!
والسؤال هو الآتي: هل هناك تعارض بين الشعارات الدينية الأولى وبين المضامين الاجتماعية أو السياسية الثانية؟
والحقيقة أن التعارض الناشئ ينتج من خطأ شائع يقع فيه الفريق الأول، وهو التفسير الصوري الفارغ من أي مضمون؛ فشعار «الله أكبر والعزة لله» لا يعني إلا «الله أكبر والعزة لمصر». وهل يكره الله أن تتحرَّر سيناء؟ وهل ترفض عظمة الله أن تحيا مصر؟ إن الشعار الديني لا يمكن أن يكون فارغًا بلا مضمون، ولا يمكن أن يكون له إلا مضمون من واقع مَن يرفع هذا الشعار؛ فالمصري الذي يرفع شعار «الله أكبر» وهو محتلٌّ متخلف لا يمكن أن يعني شعاره إلا تحرير الأرض والقضاء على التخلف بكل صوره، فإذا صاح أحد «الله أكبر» وإذا هتف آخر «العزة لمصر»، فالأول يقول بالصورة الفارغة بلا مضمون، والثاني يقول بالمضمون الواقعي بلا صورة. والحقيقة أنه لا تُوجد حقيقة بلا صورة أو مضمون، ولكن نظرًا لأننا نعيش في عصر تتغلب عليه الصور والأشكال، فإن إظهار المضمون يكون أوقع وأكثر التزامًا بالواقع. وإذا عرفنا أن الإسلام دينُ جوهر وليس دينَ شكل؛ أي إنه يعتني بالمضمون أكثر من اعتنائه بالصورة كان هتاف «العزة لمصر» أقرب إلى روح الإسلام؛ أي أقرب إلى الواقع والمضمون. ولا تعني مصر هنا أية نعرةٍ قومية يرفضها الإسلام، ولكن تعني الدفاع عن الأرض، والقضاء على التخلف، وهما مطلبان إسلاميان.
وكذلك إذا صاح أحد بشعار «القرآن دستورنا»، «قرآنية، قرآنية، لا شرقية ولا غربية»، وإذا هتف آخر «اشتراكية، اشتراكية»، «تحيا الوحدة العربية»، ويكاد يحدث التشابك بالأيادي بين هؤلاء وهؤلاء، وكل فريقٍ ينظر إلى الآخر على أنه عدو له، يتهم الأول الثاني بأنه خائن للدين، ويتهم الثاني الأول بأنه خائن لمصر! والحقيقة أن شعار الفريق الأول شعارٌ صوري لا مضمون له كمن يقول: اثنان واثنان يساوي أربعة؛ أي إنه تحصيل حاصل؛ فمن منا لا يرضى بالقرآن دستورًا؟ ومن منا يرضى بأن ينحاز شرقًا أو غربًا؟ إنما المهم كيف نملأ هذا الشعار بمضمون. ما هو البرنامج السياسي والاقتصادي الذي يكفُله هذا الدستور؟ ولصالح مَن يتم الحكم والتخطيط للاقتصاد القومي؟ ولصالح مَن تتم التنمية؟ إن واقعًا مثل الواقع المصري بدخله المحدود — متوسط دخل الفرد حوالي مائة جنيه سنويًّا — لا يمكن أن يتحمل إلا نظامًا اشتراكيًّا، وهذا هو معنى ما نردِّده باستمرار: حتمية الحل الاشتراكي؛ ومن ثَم كانت الاشتراكية هي المضمون الوحيد لشعار «قرآنية، قرآنية»؛ أي القرآن بتفسير اشتراكي، لمَّا كانت الاشتراكية مطلبًا للعصر وفرضًا من الواقع. وكانت الوحدة العربية التي نجد فيها استقلالنا وكياننا، وكان ارتباطنا بالشعوب المتحررة حديثًا، وبالحركات الوطنية التي ما زالت تناضل، وبالعالم الثالث، وبكتلة عدم الانحياز هو المضمون الواقعي لشعار «لا شرقية ولا غربية».
إن الحوار الجاد بين هذَين الفريقَين؛ الأول الذي يرفع الشعارات الدينية، والثاني الذي يُبرز المضامين السياسية هو نقطة البداية في العمل السياسي الجذري. لقد كان ماضي مصر مرهونًا بهذا الحوار، وكانت القوتان الرئيسيتان قبل الثورة، وبعدها بسنتَين، وربما حتى الآن، هما الإخوان المسلمون والشيوعيون، وكنا نسمع عن التقاتل بين الإخوة الأعداء. إن مستقبل مصر أيضًا ما زال مرهونًا بهذا الحوار حتى تأخذ الشعارات الدينية مضامينها السياسية من واقع حرية الناس؛ فالناس مؤمنة تحرِّكها الشعارات الدينية ومحتلة متخلفة، وحياتها ووجودها في الاستقلال الوطني والتنمية لصالح الطبقات الكادحة. مستقبل العمل السياسي الجذري في مصر مرهونٌ بتفسير الدين تفسيرًا تقدميًّا يعبِّر عن مطالب العصر، ويلبِّي احتياجاته؛ فالدين هو الصورة التي تعطي القوالب النارية، والتقدُّم هو المضمون الذي يفرضه الواقع.
وفي الوقت الذي يحدث ذلك لا تصبح أغلبية الجماهير، وهي الفريق الثالث، في لقاءاتنا السياسية محصورة بين الصياح بالشعارات الدينية، والهتاف بالمضامين السياسية، بل تجد فكرًا سياسيًّا ينطلق من دينها، ويستلهم تراثها، ويُلبي مطالب واقعها، ويحقِّق حاجات عصرها، هذه الأغلبية التي كانت قبل الثورة متمثلةً في الوفد بقيادةٍ مرجوة هي الطليعة الوفدية، والتي أصبحَت فيما بعدُ جماهير ثورة ٢٣ يوليو بقيادة فعلية للضباط الأحرار، والتي نطلق على قلبها النابض الآن اسم قوى الناصرية، أو على مجموعها القوى التقدمية الوطنية، هي التي ستجد في النهاية فكرها السياسي، ودورها التاريخي، إذا ما التقى الإخوة الأعداء وفسَّرنا الشعارات الدينية بمضامينها السياسية.
(ط) كلمة حق يُراد بها باطل!١٠
- (١)
لم يبدأ الوحي بشريعة ولكنه بدأ بعقيدة، ولم تبدأ حياة المسلم بنظام ولكنها بدأَت بتصور؛ فالشريعة الإسلامية صادرة عن عقيدة، والنظام الإسلامي ناتج عن تصوُّر، فلنُحاول أولًا عرض العقائد الإسلامية وتفسيرها طبقًا لحاجات العصر، ومَلْأها بمضمونٍ من واقع المسلمين. ولنُحاول أولًا عرض التصور الإسلامي، وتحديد معالمه، فإذا تمَّت صياغة الفكر النظري أولًا حاولنا صياغة الشريعة العملية ثانيًا. ألم تأتِ السور المدنية وهي التي حوت الشريعة بعد السور المكية وهي التي حوت التصور؟ وكيف نأتي نحن ثم نضع الحصان قبل العربة!
- (٢)
تحويل هذا التصور من مستوى النظر إلى مستوى الاعتقاد عن طريق إيمان بعض الأفراد والتصديق به، وهُم الذين سيكونون فيما بعد طليعة للنظام. وقد ربَّى الرسول بضعة أفراد، هم صحابته على مدى ثلاثة وعشرين عامًا، وهم الذين عاونوه في تطبيق النظام الإسلامي الذي حدث في عشر سنوات، وفي تأسيس الدولة الإسلامية بعد وفاته؛ فتربية الأفراد أشق وأصعب، ويطول إعدادها عن تطبيق النظام، فأين هم صحابتنا، وطليعة أمتنا؟
- (٣)
لم تنشأ الدولة الإسلامية إلا بعد الهجرة، في مجتمع المدينة، وبدستور المدينة، وبتحالف المدينة؛ أي إن الجماهير كانت في أغلبيتها مسلمة ترنو إلى نظامٍ جديد ينبع من العقيدة الجديدة، أو متعاطفة مع الحركة الجديدة مثل أهل الكتاب؛ ومن ثَم كان من السهل إقامة الدولة الإسلامية لأول مرة في التاريخ، على يد الرسول، في المدينة، ولكن أين جماهيرنا اليوم التي تستقبل طليعتها استقبال الفاتحين، أم أن ضَنك العيش قد أضناها، واحتلال الأرض قد استنزفها وأدماها؟
- (٤)
تطبيق الشريعة الإسلامية كلٌّ لا يتجزأ، ولا يمكن استئصال جزءٍ منه حسب هوانا وتكويننا النفسي المعقَّد ونجعل منه كل الشريعة؛ فهناك النظام السياسي، والنظام الاقتصادي، والنظام الاجتماعي، والنظام الأخلاقي. لماذا لا ننادي بتطبيق النظام الاقتصادي القائم على أن المجتمع الواحد الذي فيه إنسانٌ جائع تبرأ ذمة الله منه؟ لماذا نتحرج من تطبيق النظام السياسي الإسلامي القائم على البيعة والشورى، وعدم تولية هذا الأمر من يطلبه؟ لماذا لا نطبِّق النظام الاجتماعي القائم على مشاركة الأمة ورقابتها ومسئوليتها عن مجريات الأمور ونفرض الوصايا على الناس؟ لماذا لا نطبِّق النظام الأخلاقي القائم على التربية والفضيلة دون الإثارة والحرمان، ننادي بالأسهل ونترك الأصعب، ونترك الجماهير ونستعدي السلطان على الناس!
- (٥)
تقوم الشريعة الإسلامية على أداء الأمانات أولًا، ثم تطبيق الحدود ورعاية الحقوق ثانيًا. وأداء الأمانات يأتي في الولايات والأموال؛ فمن ناحية الأولوية تأتي السياسة والاقتصاد قبل القانون؛ أي إن تحرير الأرض والتنمية لهما الأولوية المطلقة على الحدود التي هي حق الله؛ أي النظام الإسلامي يعطي حقوق الإنسان أولًا قبل أن يعطي حقوق الله.
- (٦)
وإذا كان لا بد من تطبيق الجزء قبل الكل خوفًا من الكل، واستئسادًا على الجزء، أليست النظافة من الإيمان وبيوتنا وشوارعنا على ما هي عليه؟ أليس السلوك الخلقي العام أيضًا دون بذاءة القول من الإسلام؟ أليس توفير الخِدمات للناس، وسهر الحاكم على مصالحهم لإطعام الجائع وكَسْو العاري، من الدين؟ أليست العمولات على مشتريات الدولة نهبًا لأموال المسلمين؟ أليس الرقص الشرقي قبل الأذان أو بعد القرآن في أجهزة الإعلام، وأخبار نجوم الإغراء وتفسير القرآن على صفحتَين متقابلتَين في صحافتنا خروجًا على الحياء؟ نستمتع بالدنيا ونتستَّر بالدين!
- (٧)
قبل مطالبة الأمة بتطبيق حدود الله علينا إعطاؤها حقوقها، وقبل مطالبة الفرد بالقيام بواجباته علينا إعطاؤه حقوقه؛ فمن حقوق المسلم العمل لا البطالة، والكفاية لا الحاجة، والتربية والفضيلة لا الإثارة والحرمان، ودرء الشبهات لا تعريض الناس لها. يتم تطبيق قانون العقوبات؛ أي الحدود، في حالة إقامة الشريعة الإسلامية، فإذا انحرف سلوك الناس عن نظامها جاء دور العقوبات؛ فتطبيق الشريعة يأتي أولًا والحفاظ عليه بالحدود يأتي ثانيًا؛ فالعقوبات نتيجة وليست مقدمة، نهاية وليست بداية.
- (٨)
والحدود الإسلامية ليست قوانينَ صورية، بل هي أوضاعٌ اجتماعية سمَّاها الأصوليون «أحكام الوضع» لا يُطبَّق الحد إلا إذا كان السبب والشرط موجودَين والمانع غائبًا حتى يصح تطبيق الحد؛ فالجوع والبطالة والمال بلا رقابة موانع من تطبيق حد السرقة. والإثارة والحرمان وغياب التربية موانع من قيام حد الرجم، وإيقاف عمر تطبيقَ حد السرقة عام المجاعة أشهرُ من أن يُذكر.
- (٩)
ولماذا نطبِّق نصف الحد أو ربعه؟ ألم يلعن الله شارب الخمر، وساقيها، وصانعها، فكيف تُقدَّم الخمور في بلد مسلم؟ ليس المقصود هو الشارب فقط، بل الساقي والصانع وصاحب المتجر. أليس كل هؤلاء مسلمين؟ ولماذا نطبِّق الحد على مسلم دون آخر؟ أليس السائح العربي مسلمًا؟ ولماذا لا تطبَّق الشريعة على الحاكم قبل المحكوم؟ ألم يقل الرسول: «والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقَت لقطعتُ يدها.»؟ عسى ألا نطبق الحدود في الضعفاء ونترك الشرفاء!
(ي) الوثنية الجديدة١١
- (١)
التأنُّق في طبع المصاحف، وتغليفها بالقطيفة الحمراء الموشَّاة بماء الذهب الأصفر، ووضعها في صناديقَ مطعَّمة بالصدف كقطعٍ أثرية أو معروضاتٍ سياحية بجوار «الشيشة» الشرقية، وتماثيل نفرتيتي وأبو الهول، وصور بائع العرقسوس والملاية اللف، وتبادلها في المناسبات؛ فلا يوجد أمير أو والٍ أو حاكم في البلاد إلا ونال منها العشرات في الأعياد الدينية والوطنية، يزيِّن بها مكتبه أو منزله أو ناديه، بجوار كئوس النصر ودروعه ونياشينه ووثائق الدم الأحمر، وما من والٍ قد قرأها أو فتحها، بل وضعها الكل في عرباتهم وراء الزجاج الأمامي أو الخلفي، تقيهم العين، وتمنع عنهم الحسد، وتُكثر عليهم الرزق! لقد أصبحت تجارة حقًّا، رابحة عند الناس وخاسرة عند الله، تقوم بها بعض دور النشر التي عجزَت عن نشر الثقافة، فتخصَّصَت في الاتجار بالمصاحف والتأنق في عرضها.
ليست المصاحف ولا الكتب المقدسة للزينة أو هدايا نقدمها للولاة والحكام، إعلانًا عن تأييد مصطنع، أو مغالاة في إظهار ولاء، بل تحتوي على فكر يتمثله الناس، ويصبح تصوُّرهم للعالم، وعلى منهجٍ عملي يُصلح حال الناس، ويغيِّر واقعهم؛ فالمصاحف والكتب الدينية مقدَّسة بما تحتويه من برامجَ ثورية لمجتمعات العصر، ومشكلاتها الكبرى، وعلى رأسها التخلف والاحتلال، وليست مقدَّسة بمادتها وطباعتها. وقد فرَّق القدماء بين كلام الله الأزلي، وهي المعاني المحفوظة في الصدور، وهي المبادئ الشاملة التي بها قوام الحياة، وبين كلام الله الحادث وهو المكتوب أو المقروء أو المسموع، الذي نتفنَّن في إبراز مفاتنه بالصوت أو بالحرف، ونكون حينئذٍ «كالحمال يحمل أسفارًا!».
- (٢) طبع اسم «الله» إما على أوراقٍ ملوَّنة مزركَشة نزيِّن بها جدران منازلنا، أو حوائط مكاتبنا، بجوار صور الولاة أو فوقها أو أمامها، مما يشير إلى طاعتنا لله ولأولي الأمر على حدٍّ سواء، أو حفرها على قِطع من البلاستيك نعلِّقها في عرباتنا أو كحُلي نحيط بها رقابنا، وتتدلَّى على صدورنا، إبرازًا لمهارتنا في فنون الطباعة، أو لقدراتنا في صناعة البلاستيك، أو تجارة رابحة يضمن بها التجار الربح ما دام رجل الشارع يدين لهم بالولاء. وفي نفس الوقت نصيح وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ، ونَعِظ الناس بأن الله ليس كمثله شيء، لا تدركه الأبصار. كما نضع في كثيرٍ من مساجدنا في ركنَيها الرئيسيَّين على جانبَي المنبر لوحتَين؛ الأولى «الله» والثانية «محمد»، وكلاهما على نفس المستوى من الكتابة والزخرفة والتعليق، وكأنها بقايا نفيسة من معلقاتنا السبع القديمة، التي كانت تُنشر فوق جدران الكعبة. كما نعلق على مساجدَ أخرى، على أركانها الأربعة لوحاتٍ أربعَ أخرى «عمر»، «أبو بكر»، «عثمان»، «علي»، وهم بشرٌ فانون مع «الله» الذي يتصدَّر المحراب بالنور، وهو الخالد الأبدي. وهل يتم ذكر الله على هذا النحو الوثني أم بالدفاع عن المبادئ التي أعلن عنها الوحي، وبتطبيق الشريعة التي فيها مصالح الناس، وذكره في القلب ورعًا وتقوى؟ أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ.
- (٣) تشييد المساجد والحفر على جدرانها الداخلية بآيات من القرآن الكريم تتشابك فيها الحروف، وتكثر فيها الزينات حتى تستحيل قراءتها أو استذكارها، وعلى جدرانها الخارجية بالنور الأخضر، وعلى أكشاك السجائر المقابلة مثل الدعاية والإعلان! وقد كان مسجد الرسول على الحصى وبلا جدران. كما أن الأرض جُعلَت لنا مسجدًا طهورًا فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ.
ونضيء المساجد، ونغلِّف المآذن بالمصابيح وحولها أكوام من النفايات، وبداخلها دوراتُ مياه لا تتوافر فيها شروط الطهارة، وحُصر نضع عليها أحذيتنا وجباهنا. كما نتجمل في صناعة سجاجيد الصلاة ونتحذلق في صناعة المسبحات، ونطيل الذقون، ونلبس البياض، ونُتمتِم بالقرآن، ونُكثر من الطِّيب، وننشر البخور وقت الصلاة داخل المساجد وفي البيوت، ونُعلي من صوت القارئ في مكبرات الصوت والناس تلهو. وتُصبح أحياؤنا الشعبية التي تُكثر من هذه المظاهر أحياءنا الدينية!
- (٤)
ونقرأ على عربات النقل: ما شاء الله! سبحان الله! يا صلاة النبي، يا نور النبي، باسم الله مجريها ومرساها، في أمان الله، ومع سلامة الله، كل ذلك بجوار يا حلوة، يا زين، يا جميل يا أسمر، وكأن كتابة هذه الشعارات الدينية تحفظ من مخاطر الطريق وتقي العين، وتُدر الربح، وفي نفس الوقت ينام السائقون ليلًا، ويتعاطَون الحشيش ولا يحترمون قواعد المرور، وتكثر الحوادث، ويموت الناس رغمًا عن الشعارات المكتوبة.
وعلى عربات الطعام المتجوِّلة، وفوق أكشاك الخضار والفاكهة نجد أيضًا في جميع الأركان الله، كبدة، محمد، مخ، أبو بكر، كباب، عمر، كفتة، مما يدل على اختلاط إيمان الناس بحياتهم اليومية، وأن هموم الآخرة وهموم الدنيا قد تثاقلا معًا على أكتاف الناس، فإلى متى سنظل عبَدة الأوثان الجديدة؟
(ك) للمخطئ أجر … وللمصيب أجران١٢
لقد أصبح الاتهام بالردة أو بالكفر سلاحًا مُشهرًا هذه الأيام على كل من تفوَّه بكلمة، أو قال برأي في الدين، وأصبح استنفار الناس على الرجم وحرق البيوت، واستعداء السلطة لإهدار الدماء، جزاء كل مجتهد أخطأ أم أصاب، ثم نبكي على ما وقعنا فيه من تقليد، ونُعاتب من أغلق باب الاجتهاد! وكأننا لم نعِ بعدُ حرية الفكر وغير حريصين عليها، ونريد تسليم أنفسنا للسلطان كما كنا نفعل من قبلُ.
-
(١)
لقد ظهر مقال «مع القرآن من جديد، ترتيب جديد للسور في المصحف الشريف» في فبراير الماضي، وكان حماة الإسلام صامتين؛ إما لأنهم لا يدرون ما يدور حولهم، وهم أهل الفتيا في الديار، وإما لأنهم كانوا يدرون ولم يرَوا في الرأي غضاضة، إلا بعد أن انضم كاتب المقال إلى التنظيم اليساري الشرعي في البلاد، وأصبح الهجوم عليه وإعلان ردَّته جزءًا من الحملة المنظَّمة الشعواء على اليسار، واتهامه بالكفر والإلحاد.
-
(٢)
كان الأجدى بأهل الفُتيا قبل إصدار حكم الردة الاطلاع على المقال نفسه، بدلًا من الاعتماد على تعليق أحد مهاجميه. ومن تقاليد علماء أصول الدين القدماء عدم أخذ مقالات الإسلاميين وآراء الفرق عن معارضيها ومخالفيها، تأكيدًا لأمانة النقل، وحرصًا على صدق الرواية.
-
(٣)
لم يأتِ الكاتب بدعة، بل أعاد اجتهادًا قديمًا وحديثًا في آنٍ واحد، له مؤيدوه ومعارضوه؛ فهو جزء من التراث. فلماذا لم يتم إعلان كفر الشيخ محمد بن علي بن خلف الحسيني شيخ المقارئ المصرية في إعادة ترتيبه لسور القرآن معتمدًا على دراسات حفني ناصف، والشيخ أحمد الإسكندري، والشيخ مصطفى عنان، وكأن كاتب المقال وحده، لسببٍ ما، يتحمل أوزار الناس أجمعين!
-
(٤)
لم يأتِ الكاتب بدعة، بل أعاد ما هو معروف في علوم القرآن، وفي علم أصول الفقه، من نزول القرآن منجمًا على ثلاثة وعشرين عامًا. ولا يشُك أحد في أن «أسباب النزول» تعني أن الوحي الإسلامي نداءٌ من الواقع وليس فرضًا عليه؛ فالواقع أسبق من الفكر من حيث مناهج التغيير الاجتماعي، وحصر المشكلات، وطرق التفسير؛ فتحريم الخمر كانت بدايته في واقعة سكر، والحجاب كانت بدايته في واقعة التعرف على نساء الرسول؛ فلا يوجد حكم إلا وله بداية في واقعة.
-
(٥)
ولا يشُك أحد في أن وجود الناسخ والمنسوخ يعني التدريج في الأحكام من اللين إلى الشدة (تحريم الخمر) أو من الشدة إلى اللين (المحاسبة على أعمال الجوارح فقط دون أعمال القلوب) طبقًا لقدرات الإنسان، وحسب درجة استقلاله الفكري والإرادي. قاعدة التدرُّج هي قاعدة النسخ، أما قاعدتا الإطلاق والتعقيد، والتخصيص والتعميم، فهما من مباحث الألفاظ في علم الأصول، وليسا من مباحث القرآن.
-
(٦)
لم يُنكر الكاتب الترتيب الحالي للسور، ولكنه تساءل عن ضبطه على هذا النحو إن لم يكن بتوقيف، والتساؤل ممكن، والإجابة ضرورية، فإذا كان الترتيب الحالي توقيفًا من عند الله آمنا به، وإذا كان اجتهادًا كما يقترح كاتب المقال طالبناه بالدليل. وإذا كان الترتيب التاريخي للسور راجحًا والترتيب الحالي مرجَّحًا طالبناه أيضًا بالدليل، والمطالبة بالدليل شيء والاتهام بالردة شيءٌ آخر.
-
(٧)
هناك فرق بين «قرآن العبادة» و«قرآن التشريع»؛ فالأول للتلاوة، والثاني للأحكام. وهناك من الآيات ما نُسخَت أحكامها ولم تنسخ تلاوتها؛ فالقرآن المرتَّب ترتيبًا تاريخيًّا قرآنُ تشريع وليس قرآنَ عبادة، وهو مثل المعاجم المُفهرَسة لألفاظ القرآن الكريم، أو غيره من المناهج والدراسات على القرآن، ولكنه لا يكون مصحفًا بل دراسة في أحكام التشريع. ويجوز في قرآن العبادة قراءة المدني قبل المكي، والسور الطوال قبل القصار، وسورة البقرة قبل سورة الناس، والوسط قبل البداية أو النهاية؛ فكله عبادة. وقد كنا نقرأ في المدارس جزء «عم» ثم جزء «تبارك» ثم جزء «قد سمع». ولا يعني ذلك قراءة القرآن من اليسار إلى اليمين. ليس كل قارئ للقرآن يبغي تشريعًا منه؛ فذلك عمل الفقهاء. وقراءة عامة المسلمين هي قراءة عبادة لا قراءة تشريع. ولا ضَير أن يقرأ كل مسلم القرآن قراءةً تاريخية دونما حاجة إلى طبع مصحفٍ جديد.
-
(٨)
ولماذا قصر ترتيب الآيات فقط على التوقيف دون ترتيب السور؟ إذا كان المقصود هو ترتيب القرآن كله حسب ميقات النزول، فلا فرق في ذلك بين الآيات والسور؛ فكل سورة لم تنزل كلها مرةً واحدة، إنما نزلت آياتها مفصلة أحيانًا، فما الحكمة من التوقيف؟
-
(٩)
قد تكون الحكمة في ترتيب السور على هذا النحو التأكيد على أن كل ذلك وحي من الله، وأن التصور العام للحياة لا يتطور بتطور التشريع؛ ومن ثَم فيمكن قراءة المدني قبل المكي. وقد تكون الحكمة في إدخال الآيات المدنية في السور المكية أو الآيات المكية في السور المدنية هو التأكيد بأنه لا فرق بين العقيدة والشريعة، بين التصور والنظام، وأن كليهما متداخلان، ينبع أحدهما من الآخر في رباطٍ عضوي داخلي؛ فيُمكن تفسير المكي بالمدني؛ فالتفسير يبحث عن المعنى والدلالة وليس عن الأحكام؛ فلا ريب أن يفسر الإنسان أُحُدًا ببدر، ومجتمع المدينة بمجتمع مكة؛ فالتاريخ لا يعني بالضرورة التتالي في الزمان، بل يمكن للحاضر أن يفسِّر الماضي.
-
(١٠)
إن العرف مقياسٌ من مقاييس الشرع. وقد تعارف الناس على مدى أربعة وعشرين قرنًا على هذا المصحف الشريف بترتيب سوره وآياته، وإن وضع ذلك موضعَ التساؤل يكون خروجًا على العرف. وقبول العرف شيء ورفض التقليد شيءٌ آخر.
-
(١١)
قد تسبَّب هذه الدعوة الاجتهادية نشأة مصاحفَ كثيرة. بترتيباتٍ مختلفة مع تطور البحوث والدراسات حول القرآن؛ وبالتالي تكون لدينا عدة مصاحف بعدة ترتيبات. وينشأ الخلط، ويعُم التشويش، مرةً في ترتيب السور، وأخرى في ترتيب الآيات، وثالثةً في الزيادة والنقصان، ورابعة في القرآن كله، وبذلك يفقد القرآن ميزته على سائر الكتب المقدسة، وهي صحته التاريخية، وتواتره الذي يعترف به علماء الشرق والغرب على السواء.
-
(١٢)
إن التجديد لا يكون في المسائل النظرية، إلا إذا نتج عنها أثرٌ عملي في حياة الناس. وقد كان الهدف هو معرفة ما أحدثه القرآن من ثورةٍ فكرية واجتماعية، ومناهجَ في التغيير والإصلاح. ويمكننا معرفة ذلك من خلال أسباب النزول و«الناسخ والمنسوخ»، وعلم أصول الفقه، والشريعة الإسلامية، دونما حاجة إلى طبع مصحفٍ جديد. إن قضية ملكية الأرض في الإسلام وفي مصر لَهي أكثر جدوى، وإعطاء «الأرض لمن يفلحها» لَهو أكثر نفعًا. وإقامة المجتمع الإسلامي اللاطبقي هو في نهاية الأمر مناطُ التجديد.
(ل) الإسلام والمعارضة١٣
(إنه لمن دواعي العجَب أن تتحول الأمة التي تُقيم نظامها السياسي على حقها في المعارضة السياسية إلى أمةٍ مستكينة، وظيفة أهل الحل والعقد فيها تبرير السلطة القائمة، والتخوف منها، والسعي وراءها، والحرص على مناصبها، في حين أن «الأمر بالمعروف النهي عن المنكر» هو شعار الأمة).
المعارضة السياسية هي جوهر النظام السياسي الإسلامي، التي عبَّر عنها القرآن في آية «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، وهو شعار الأمة الإسلامية وسلوك أهل الحل والعقد، وحق الرعية على الراعي، الذي أصبح عند المعتزلة أصلًا من أصول الدين، وفي الفقه بابًا من أبواب الأحكام السلطانية ونظامًا للحسبة. وقد ذكَر القرآن هذه الآية في تسعة مواضع مُركِّزًا على الحقائق الآتية:
-
(١)
إنه هو السبب الوحيد الذي من أجله تصبح الأمة الإسلامية خير أمةٍ أُخرجَت للناس كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ (٣: ١١٠)؛ فالأفضلية هنا لا ترجع إلى النسَب أو الحسَب، إلى العصَب أو العُرف، إلى الغنى أو الملك، إلى الإرث أو الميراث، بل ترجع أساسًا إلى قيام الأمة بالرقابة على الدولة، وممارستها لحقها في المعارضة السياسية، ووجوب الدفاع عن المصالح العامة؛ فالتوحيد لا بد وأن يتحقق في فعل الخير للناس عن طريق النصح، وإعلان الحق، ودحض الباطل. الأمة الإسلامية تفكِّر بصوت مرتفع يسمعه القاصي والداني، الحاكم والمحكوم، ولا تخشى في الله لومة لائم.
-
(٢)
إنه أمرٌ إلهي نصدع به وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ (٣: ١٠٤). وليس مجرد اختبارٍ ناشئ عن مزاجٍ أو هوًى. هو فرضٌ لا نافلة، وواجبٌ لا ندب على كل قادر، والتخلي عنه يُوقع تحت طائلة العقاب؛ فهو ليس شغبًا أو عمالةً أو حقدًا أو كراهية، بل طاعة لأمرٍ إلهي تقوم به القلة القادرة؛ فهو فرضُ كفاية على المسلمين؛ لذلك كانت المعارضة السياسية دائمًا تتم بالقلة، وهي الطليعة الواعية التي تبغي الصالح العام. ولا يضرها النقصُ في الكم من حيث العدد؛ لأنها هي التي تعبِّر عن الكيف.
-
(٣)
إنه شرط الإيمان بالله والطريق إليه تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ (٣: ١١٠)؛ فالإيمان بالله ليس مجرد قولٍ أو نيةٍ أو عملٍ فردي، بل هو عملٌ جماعي يؤثِّر في حياة الناس. الإيمان إذن طريقٌ محفوف بالمخاطر، وثمنٌ لا بد من دفعه، وهو الإعلان عنه أمام الملأ؛ فالمعارضة السياسية لا تكون سرية؛ لأن الإيمان واضح جلي لا يخفى على أحد؛ ومن ثَم وجبَت المجاهرة بالمعارضة، كمجاهرتنا بالتوحيد، أنْ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وهو أيضًا نتيجةٌ للإيمان، وظهورٌ له في حياة الناس يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ (٣: ١١٤)؛ فالإيمان لا يكون ميتًا بل حيًّا، ولا يكون داخليًّا بل خارجيًّا، يوجِّه حياة الناس.
-
(٤)
هو ما يميِّز مجتمع المؤمنين عن مجتمع المنافقين وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ (٩: ٧١)؛ فالعلاقات الاجتماعية القائمة على الإيمان هي علاقات النصح المتبادل والتوجيه المشترك. أما مجتمع النفاق فإنه يقلب الحقَّ باطلًا والباطلَ حقًّا الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ (٩: ٦٧)، فيزيِّن للقوم المنكر وينفِّرهم من المعروف؛ فالمعارضة السياسية بغية الصالح العام هي أساس مجتمع الإيمان، أما تبرير السلطة القائمة دفاعًا عن الصالح الخاص فهو أساس مجتمع النفاق.
-
(٥)
إنه لا يقل عن الصلاة، وهي ما تميِّز المؤمن عن غير المؤمن يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ (٩: ٧١). هي صلاةٌ اجتماعية تهدف إلى ما تهدف إليه الصلاة من النهي عن الفحشاء والمنكر والبغي، تمنع الخوف، وتخرج عن الصمت، وتجهر بالقول، وتذهب بالنفاق والمداراة؛ فالمعارضة السياسية أشبه بصلاة المؤمنين، وليست خروجًا على الطاعة لله وللرسول ولأولي الأمر منا، وأذان الصلاة، الله أكبر، يحوي في داخله أكبر قدْرٍ من المعارضة لكل متكبِّرٍ جبَّار يجعل نفسه كبيرًا للقوم.
-
(٦)
لا يكفي الإنسان أن يكون تائبًا عابدًا سائحًا راكعًا ساجدًا، بل لا بد أن يكون آمرًا بالمعروف وناهيًا عن المنكر التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ (٩: ١٢٢)؛ فأفعال العباد الأولى فردية، في حين أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي العبادة الجماعية، التي ترعى حدود الله، وتحرص على قيامها؛ فالمعارضة السياسية الجماعية من خلال حزب للمعارضة يدافع عن حقوق المسلمين، ويبيِّن واجبات الحكام، هو أمرٌ بالمعروف ونهيٌ عن المنكر؛ أي ممارسةٌ شرعية دفاعًا عن حقوق المسلمين.
-
(٧)
إنه دعوةٌ للخير، وليس شَغبًا أو حِقدًا أو فسادًا أو تخريبًا في الأرض وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ (٣: ١١٤)؛ فهو دعوة من أجل الخير وليس من أجل الشر، من أجل الحلال وليس من أجل الحرام، من أجل الطيبات وليس من أجل الخبائث يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ (٧: ١٥٧)؛ فالمعارضة السياسية تهدف إلى الصالح العام، وإلى تعميم الخير، وإلى المشاركة في الغُنم والجُرم، وليس إلى تعميم الفقر، وسد الرزق، والحد من النشاط، وتكبيل المجتمع بقوانين الردع والعقوبة.
-
(٨)
هو شرط التمكين في الأرض، والبقاء فيها، وتعميرها، بعد الصلاة والزكاة الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ (٢٢: ٤١)؛ إذ تنهار المجتمعات عندما لا تتناهى عن المنكر ولا تأمر بالمعروف، فتسود الرذيلة، وتذهب الفضيلة كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ؛ فالمعارضة السياسية هي وسيلة الإبقاء على نظام الدولة، والقضاء على المعارضة انهيارٌ للدولة وسقوطٌ للنظام.
-
(٩)
إنه لا بد أن ينتج عنه مكروهٌ وأذًى للذين يقومون به؛ إذ يقول لقمان لابنه واعظًا إياه يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ (٣١: ١٧). وهذا هو ما يجعل المعارضة في كل نظام تتحمل كل صنوف الأذى والقهر من السلطة القائمة؛ فكيف يخشى الناس المعارضة وهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر!
(م) ذهب المقصورة … وجوع الفقراء!١٤
طالعَتْنا الصحف ووكالات الأنباء بتركيب مقصورة من ذهب للسيدة زينب رضي الله عنها، وتَصِفها مجلة أكتوبر كالآتي:
«المقصورة مصنوعة من رقائق الفضة، وتكلَّفَت ٢ مليون دولار، ومصنوعة على الطراز الفاطمي، ومطلية بالذهب في أماكنَ متفرِّقة منها، وزن الفضة بها أكثر من طن، وهيكلها الحديدي يزن خمسة أطنان، ترتكز على قاعدة تزن ١٠٠ كيلو جرام من الفضة، يتكوَّن الجزء الأسفل من الرخام الفاخر، القبة الفضية زنتها ٣٠٠ كيلو جرام، ويعلو القبة هلالٌ من الذهب!»
والأغرب من ذلك أن يتمَّ هذا أمام سمع وبصر علماء المسلمين في مصر، رئيس جامعة الأزهر، ووكيل وزارة الأوقاف، كما يتمُّ بموافقة وتأييد أولي الأمر، ويتم النقل بطائرةٍ حربيةٍ مصرية، والافتتاح على مرأًى من ملايين المسلمين في أجهزة إعلام. إننا نلاحظ الآتي:
-
(١)
أن هذه الأموال الطائلة كانت كافيةً لإطعام آلاف من المسلمين الجياع في الهند، وبها خمسون مليونًا من المسلمين، ويُضرب بهم المثل في الفقر في العالم، وفي انحطاط مستوى المعيشة، أو في مصر بإقامة المستشفيات، أو بناء المدارس، أو رصف الطرق، أو تشييد المساكن، أو تجديد شبكة المياه الجوفية. وهل يقبل الله مقصورةَ ذهبٍ بيتًا للأموات بجوار أكواخِ طينٍ يعيش فيها الفقراء؟
-
(٢)
أن الذهب محرَّم على المسلمين من الرجال استعماله في اللباس أو الزينة بنص الحديث «حُرم لبس الحرير والذهب على ذكور أمتي.» وغيره من الأحاديث المتواترة، فإذا كان حرامًا على الأحياء فإن الأموات يكونون أَوْلى بالحرمة؛ فلا زينة للأموات. وإن اكتنازَهُما محرَّم بنص القرآن وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (٩: ٣٤-٣٥)؛ فتكديس هذه الأطنان من الذهب والفضة دون إنفاقها في الصالح العام حرامٌ بنص القرآن. أما بالنسبة للنساء فالأَولى إنفاقها في تجهيز جيوش المسلمين في حالة الحرب والاعتداء على أراضي المسلمين، وهو حالنا الآن.
-
(٣)
أن بيوت الذهب والفضة هي بيوت الكفار لا بيوت المسلمين؛ فالله يَعِد الكفار بسقفٍ من فضة لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (٤٣: ٣٣). إنما بيوت المسلمين تلك التي تؤسَّس على التقوى والصلاح.
-
(٤)
أن الذهب والفضة لن يُغنيا عن العمل الصالح، ولن يزيدا السيدة زينب رضي الله عنها كرمًا وطهرًا، ولن يزيدانا نحن قربًا ولا صلاحًا.
-
(٥)
أن التنعم بالذهب والفضة لا يحدث في هذه الدنيا، إنما يَعِد الله به المؤمنين في الآخرة؛ أساور من ذهب وفضة في أذرع المؤمنين وصحاف من ذهب يأكلون منها، وآنية من فضة يُطاف عليهم بها، وقوارير من فضة يشربون منها، ولكن ليس زينةً للأموات أو فرحًا للأحياء يُسَر بها الناظرون.
-
(٦)
أن تكريم السيدة زينب رضي الله عنها لا يتأتى بتغطية قبرها بقباب بالذهب والفضة، ولكن بأخذها قدوةً للسلوك، ونموذجًا للفداء، وقائدةً لمقاومة الظلم والطغيان، وعلامةً على الشهادة في سبيل الله، وتمسُّكًا بالشرعية، ورفضًا لكل أنواع الإغراء، ودفاعًا عن حقوق الفقراء في أموال الأغنياء، وإصرارًا على العودة إلى النبوة والخلافة بعد أن تحوَّلَت إلى ملكٍ عضوض.
-
(٧)
ويتم ذلك بحضور علماء المسلمين وبمساعدة أولي الأمر، والدين النصيحة، لله وللرسول ولأئمة المسلمين وعامتهم، ولم نسمع أحدًا من علماء المسلمين يقوم بها، وكأن حب الذهب والفضة عند المترفين والمحرومين على السواء جعل الجميع صامتًا عن دين الله زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (٣: ١٤).
(ن) هل تجوز الصلاة في الدار المغصوبة؟١٥
عرض علماء أصول الفقه لهذا السؤال وهم بصدد البحث عن استحالة الجمع بين الحظر والوجوب، في فعلٍ واحد من جهةٍ واحدة لتقابل حدَّيهما، إلا على رأي مَن يُجوِّز التكليف بالمُحال، وهو باطلٌ بإجماع الأمة، والخلاف هل يجوز انقسام النوع الواحد من الأفعال إلى واجب وحرام من جهتَين، كوجوب الفعل المعني الواقع في الدار المغصوبة من حيث هو صلاة، وتحريمه من حيث هو غصبٌ شاغل لملك الغير.
قال الجبائي، وابنه أبو هاشم، والقاضي أبو بكر، وأحمد بن حنبل، وأهل الظاهر، والزيدية، وقيل إنه رواية عن مالك. وقالوا: الصلاة في الدار المغصوبة غيرُ واجبة، ولا صحيحة، ولا يسقُط بها الفرض، ولا عندها، ووافقَهم على ذلك القاضي أبو بكر، إلا في سقوط الفرض؛ فإنه قال يسقُط الفرض عندها لا بها، مصير أمنهم إلى أن الوجوب والتحريم إنما يتعلق بفعل المكلف لا بما ليس من فعله، والأفعال الموجودة من المصلي في الدار المغصوبة أفعالٌ اختيارية محرَّمة عليه، وهو عاصٍ بها، مأثومٌ بفعلها، وليس له من الأفعال غير ما صدر عنه؛ فلا يتصور أن تكون واجبةً طاعة ولا مُثابًا عليها مُتقربًا بها إلى الله؛ لأن الحرام لا يكون واجبًا، والمعصية لا تكون طاعةً، ولا مثابًا عليها، ولا متقربًا بها، مع أن التقرُّب شرط في صحة الصلاة (الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام، ج١، ص٥٩، صبيح).
الواحد بالتعيين، كصلاة زيد في دارٍ مغصوبة من عمرو؛ فحركته في الصلاة فعلٌ واحد بعينه هو مكتسبه ومتعلق بقدرته؛ فالذين سلَّموا في النوع الواحد نازعونا، فقالوا لا تصح حتى الصلاة؛ إذ يؤدي القول بصحتها إلى أن تكون العين الواحدة من الأفعال حرامًا واجبًا، وهو متناقض (المستصفى، ج١، ص٧٧، الحلبي؛ بادشاه، تيسير التحرير، ج٢، ص٣٧٠-٣٧١).