أحاديث في اليمين واليسار في الفكر الديني
(أ) من الإخوان المسلمين مع اليسار … ومن اليسار مع الدين١
-
الملكية في الإسلام لله وحده.
-
ساعة علمٍ خيرٌ من عبادة الله سبعين عامًا.
-
التفسير العصري للقرآن … يعني التفسير الاجتماعي والاقتصادي.
-
التفسير الرجعي والرأسمالي للدين تختفي وراءه عوامل الاستغلال.
-
لماذا كان فقراء مكة من أول المؤمنين بالإسلام وكان الأغنياء أول من حاربوه؟
-
هل يفسَّر الدِّين لصالح أقليةٍ مستغلَّة أم لصالح الناس؟
-
لا يجوز احتكار تفسير الدين.
قابلتُ ابن باب الشعرية، الدكتور حسن حنفي حسنين، أستاذ الفلسفة، في منزله بمصر الجديدة؛ فهو لا يغادر مكتبته إلا إلى الجامعة، أو نادي السينما مساء الأربعاء! وكانت بداية اللقاء غير مشجِّعة؛ فقد صدَمَته طريقتي «غير العلمية»، ولكن سرعان ما ذاب هذا الشعور، عندما سألتُه عن رسالته للدكتوراه، التي حصل عليها من جامعة السربون.
رسالته للدكتوراه كانت حول مناهج التفسير، وكان آخر مَن حصل على تأشيرة دخول لفرنسا قبل عدوان ١٩٥٦م، وقَطْع العلاقات مع فرنسا، ورغم أن البعثة كانت مقرَّرة على نفقة الدولة، إلا أنه دبَّر حاله، ورحل على نفقته؛ فقد أحس أن حربًا يمكن أن تنشب فتؤجل بعثته الرسمية! وبدأ يكتب في المنهج الإسلامي، وقرأه معظم المستشرقين، وعديد من الفلاسفة؛ فقد كانت البداية في تفكيره أن يُعيد بناء علم أصول الفقه القديم، بأبعاده التاريخية، والفكرية، والعملية. وقال المستشرقون إنها فاتحة عهدٍ جديدٍ في الدراسات الإسلامية منذ جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده. وهو ما يُنبئ عن متاعب لا بد أن يلقاها كل من أراد أن يجتهد ويفكِّر في أمور الدين.
-
لماذا اخترتَ موضوعًا إسلاميًّا لرسالتك؟
لأنني نشأتُ في الجامعة المصرية، وفي حِضْن الإخوان المسلمين، والفكر الديني الإصلاحي، في وقتٍ كانت المشكلة الثقافية المطروحة في مصر هي محاولة تجديد الإسلام، وكان السؤال المطروح هو: هل يصلُح الإسلام كمنهجٍ عام للإنسان في كل عصر، وزمان؟ وبدأتُ أكتب عن المنهج الإسلامي العام، وخاصةً أن كلمة منهاج موجودة في القرآن، وفي تلك الفترة كنت متأثرًا جدًّا بمقالات ودراسات سيد قطب.
ولا أعتقد أنه يوجد شابٌّ مصري إلا ومَرَّ بجماعة الإخوان المسلمين؛ فهي تُمثل اختيارًا أصيلًا في مجتمعنا، وإذا أُعيدت الآن، طبعًا أنضم إليها، ولكن دعني أحدِّد لك موقفي الفكري بوضوح. أنا أمثِّل تيار اليسار الديني، وأنا مستعدٌّ لأن أعمل مع أي جماعة أو تنظيم أو حزب يفسِّر الدين تفسيرًا تقدُّميًّا لصالح الجماهير الإسلامية؛ فأنا لا أفكِّر في مصر وحدها، بل أفكِّر في فقراء الهند، وبنجلاديش، ومالي، وتشاد، وفي أوضاع المسلمين بوجهٍ عام؛ حيث تُركَّز أموالهم في يد الأغنياء. والغريب أن مشكلة الثراء تحدث في بلاد الإسلام، وفيها ما يُسمَّى بعائدات البترول، ومشكلة الفقر تحدث أيضًا في بلاد الإسلام، وفيها ما يُسمَّى بالمجاعة، وسوء التغذية والفيضانات. ومن هنا فإذا قامت جماعة الإخوان المسلمين من جديد، فسأكون في الجناح اليساري فيها، وإذا أُنشئ تنظيمٌ يساري فسأكون في الجناح الديني فيه.
-
القضية التي تشغل الدكتور حسن حنفي هي إعادة تفسير القرآن الكريم.
لأن في هذا خدمةً لقضية العدالة الاجتماعية، ضد الفوارق بين الطبقات، خدمة للتنمية ضد التخلف، والاستقلال ضد الاحتلال، ولحسن الحظ فإن الإسلام يسمح بذلك؛ فقد أتى للدفاع عن مصالح الجماهير، وللحفاظ على الاستقلال، والشخصية القومية، وأنا أحاول تكوين ثقافة وطنية، مستخدمًا إعادة الموروث الحضاري عند الجماهير، وهي التي أراها في التراث الديني القديم، والأمثال الشعبية، والتفسير العصري للقرآن في رأيه لا يعني التفسير العلمي؛ فالعلم يتغير، ويخضع لقوانينه الخاصة، ولكنه يعني التفسير الاجتماعي، السياسي والاقتصادي، الذي يرى الواقع الاجتماعي مستلهمًا النص الديني؛ فنحن في مصر مثلًا يجب ألا نُغفِل قضية الأرض؛ فعندنا ٦ ملايين فدان، و١٨ مليون فلاح، والتوزيع العادل أن يكون لكل فلاح ثلث فدان؛ فالذي يملك فدانًا يأكل طعام اثنَين من زملائه، والذي يملك عشرة أفدنة يأكل طعام ثلاثين فلاحًا، والذي يملك ٥٠ فدانًا يأكل طعام ١٥٠ فلاحًا؛ فالواقع المصري لا يسمح على الإطلاق بملكية الأرض أكثر من ثلث فدان لكل مزارع، وبهذا الشكل، تحل مشكلة ١٢ مليونًا من الأُجراء الزراعيين.
والمثل الثاني الذي أريد أن أوضِّحه …
-
قبل أن نتحدث عن هذا المثل الثاني، دعني أقف هنا يا دكتور، متسائلًا عن قضيتَين؛ الأولى موقف الإسلام من الملكية، الثانية ما قد يتسبَّب عن ذلك الذي تطالب به، من تفتيتٍ للملكية. وكان الذي طرحه الدكتور حسن حنفي مفاجأةً غريبةً بالنسبة لي.
قال: الملكية في الإسلام لله وحده لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ والإنسان مستخلَف فيما أودعه لديه كأمانة له حق الانتفاع بها، وليس له حق الإضرار بالغير، والإسلام يمنع المؤاجرة في الأرض؛ فهو ضد أن يُملِّك إنسانًا أرضًا، ويؤجرها إلى غيرٍ يعمل فيها، ولكنه يسمح بالاشتراك في زراعة الأرض بمجهودٍ مشترك؛ ومن ثَم فالإسلام أقرب إلى المزارع التعاونية والجماعية، فإذا تذكَّرنا أن الإسلام يمنع تكديس الأموال، وكَنْزها، ويُوصي باستثمارها، يستحيل على المسلم أن يترك وراءه سوى العمل الصالح، والذكرى الطيبة. والرسول لم يترك وراءه سوى درعٍ مرهونة لشخصٍ يهودي. وإذا حلَّلنا آية الميراث نجد أن الوصية تمتد إلى الوصية بالدين، وبالتضحية، وبالعواطف، وأنه يمكن كتابة وصية للمصلحة العامة، وتوريث غير الأقرباء، ووفاء الدَّين بالوصية، وأن تخصيص نصيب الرجل ضعف نصيب المرأة، يدل على أن الغاية هي الاستثمار. أما تفتيت الملكية الذي تتحدث عنه فهو ليس خطرًا، والداعون إلى الميكنة الزراعية هم مقلِّدون للغرب الذي يُعاني من اتساع رقعة الأراضي، ونقص الأيدي العاملة، وظروف الجو التي لا تسمح بالعمل في العَراء، وطبيعة الأرض الصحراوية.
هناك الآلة ضرورة؛ لأنها تقوم بعمل أكثر من مائة عامل. أما في مصر، فالرُّقعة محدودة، والأيدي العاملة متوفِّرة، والتربة طينية، يستطيع كل فلاح بفأسه، ومحراثه، أن ينتج أكثر مما تُنتِجه الآلة.
-
مؤلَّفات الدكتور حسن حنفي، ودراساته بالإنجليزية، والفرنسية، أكثر مما كتبه بالعربية، وكلها تركِّز على قضية الدين والتقدم، والثورة، وهي من أشهر المؤلفات في أوروبا، وكانت البداية لمناقشة هذا الموضوع هي المثَل الثاني الذي ضربه.
إن متوسط الدخل القومي في مصر، وفقًا لآخر الإحصائيات، حوالي مائة جنيه سنويًّا للفرد الواحد؛ فالذي يتقاضى مائةَ جنيهٍ شهريًّا يأكل طعام ١٢ مواطنًا، والذي يأخذ ٥٠٠ جنيه قد أكل طعام ٦٠ مواطنًا؛ إذ إن الواقع المصري لا يسمح بأية فوارقَ كبيرة في الدخول، أو أي تركيبٍ طبقي، ولا بد من وضع حدٍّ أدنى وحدٍّ أعلى للدخول، وقد آخى الرسول بين المهاجرين والأنصار، واقتسَموا أموالهم فيما بينهم.
-
ولكن هناك نصٌّ صريح في القرآن الكريم على تفضيل البعض على البعض الآخر؟
المسألة هنا ليست في النص، ولكن في طريقة التعامل مع النص؛ فنحن نذهب للقرآن بحثًا عن تلبية مطالب المجتمع. البداية هي الواقع الذي أعيشه، وأعاني منه، والذي أريد أن أغيِّره؛ فمأساتي هي تفاوت الناس في الرزق، أو كما يقول الاقتصاديون، العمولات، والقِطط السمان، والدخول الطُّفيلية، وقطاع المقاولات، وتجار الجملة، ومملكة العجول، أليست هذه مأساتي ومشكلتي؟ إذن لا بد أن أبحث في القرآن عما يحل هذه المشاكل، ويضع حدًّا للجشع، والكسب الحرام؛ ومن ثَم فإني أقرأ القرآن فأجد فيه كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ. وأجد في الحديث أن المجتمع الواحد الذي فيه إنسانٌ جائع تبرأ ذمة الله منه، كما أجد «الناس شركاء في ثلاث؛ الماء، والكلأ، والنار» والذي يختار من القرآن آياتٍ تعكس التفاوت في الرزق، وتعمل على زيادة الكسب غير المشروع، فإنه يكون ضحيةً للتفسير الرأسمالي للدين؛ المسألة إذن هي: هل يفسَّر الدين لصالح الجماهير أم لصالح الأقلية؟ والتفسير لصالح الأغلبية هو الذي يخدم المصلحة العامة، وكان فقهاء المسلمين دائمًا في صالح الجماهير، يعذَّبون، ويُسجَنون ضد التفسير لصالح الأقلية أو السلطة. السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: من الذي يكشف عن الوجه التقدمي للإسلام ومهمة من هذه؟ إن علينا أن نبدأ بمتطلَّبات الواقع، مثلًا التنمية، والعدالة الاجتماعية، والاستقلال الوطني، وهذه مهمة يقوم بها جميع المسلمين؛ فليس في الإسلام رجال دين، والجماهير الإسلامية تفرض مصلحتها على الولاة، كما أنها أيضًا مهمة فقهاء المسلمين، الذين هم الرقباء على السلطة، والمدافعون عن المصلحة العامة، التي هي أساس الشرع.
-
إن هذا يعني — يا دكتور — أن على كل مسلم أن يجتهد، ولكن مجمع البحوث الإسلامية له رأيٌ مختلف؛ فقد أباح الاجتهاد لجماعات الفقهاء من المسلمين وليس للأفراد؛ أي إنه أباح الاجتهاد الجماعي.
وقال: إن هناك شروطًا في المجتهد، في مقدمتها بالإضافة إلى العلم، الوعي بمصالح المسلمين، وقرار مجمع البحوث الإسلامية يضعه في موقف الاحتكار للتفسير، ويُرجعنا إلى تاريخ الكنيسة في الغرب، وإلى ما حذَّر منه الإسلام؛ فالاجتهاد — في الإسلام — حق لكل فرد إذا استوفَى شروطه، وعلى رأسها العلم بالكتاب والسنة، والوعي بمصالح المسلمين.
يمكننا أن نقول إن الإسلام عندما أتى كان أول من اعتنقه هم فقراء مكة، ومضطهَدوها، وضعفاؤها، وأول من عاداه هم أشراف مكة وأغنياؤها الذين كانوا يخشَون من الدين الجديد على مكاسبهم، وأوضاعهم وتجارتهم واستغلالهم للعبيد؛ فالدين ثورة في صالح الفقراء، والمضطهَدين.
-
تحرَّكتُ في مقعدي، أُشعل سيجارة، أتأمل انفعالات الدكتور، أرشُف فنجان القهوة، ولحظةٌ سريعة مضت قبل أن أقول له: وماذا عن القول بأن الماركسية مادية يا دكتور حسن؟ وانفعل الرجل لأنني أُردِّد خطأً شائعًا، واتهامًا تركه الاستعمار الثقافي في بلادنا بأن الماركسية مادية، والرأسمالية روحانية!
(ب) اليسار الإسلامي مشروع حضاري٣
- سؤال: برز أخيرًا عنوانٌ جديد في عالم الصحافة المصرية والإسلامية عمومًا، ونعني به صحيفة «اليسار الإسلامي»، فلماذا وقع الاختيار على هذا العنوان المثير، وما هي أبعاد هذا المشروع الإعلامي؟
-
د. حنفي: إني أعتبر نفسي تلميذ سيد قطب؛ ففي
سنة ١٩٥١م، دخلنا سويًّا إلى الإخوان،
غير أنه لسوء الحظ ذهب هو ضحية
الإخوان؛ فبدل أن يستمر في التيار الذي
أنتج «العدالة الاجتماعية في الإسلام»،
و«معركة الإسلام والرأسمالية»،
و«السلام العالمي والإسلام»، وهو
التيار الذي كان بإمكانه أن يخلِّص
العالم الإسلامي من مآسيه، حدث الصدام
بين الإخوان والثورة، ودخل سيد السجن،
وبقي سنتَين، ثم عاد مرةً ثانية،
واستُشهد سنة ١٩٦٥م، دون أن يمارس
الثورة، ويشارك في العمل الوطني، ولم
يطور أفكاره. وكان آخر نتاجه «معالم في
الطريق» الذي أصبح «إنجيل» الجماعات
الإسلامية حاليًّا. أما أنا فقد غادرتُ
مصر في تلك المحنة، وذهبتُ إلى فرنسا.
وعُدتُ بعد عشر سنوات وأنا في ذهني
استئناف المهمة التي بدأها سيد في
أواخر الأربعينيات؛ أي بلورة الإسلام
الثوري، الإسلام الاجتماعي، وأخذتُ على
عاتقي لَمَّ الشتات، وتحويل الإسلام
إلى مظلة، يستطيع من خلالها كل وطني أن
يعبِّر عن آرائه. وفي هذا السياق
أنشأتُ مجلة اليسار الإسلامي، ووضعتُ
صورة الأفغاني، باعتباره أبي الروحي
الأول، قبل سيد قطب، وجعلتُ الآية
القرآنية وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى
الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي
الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ
أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ
الْوَارِثِينَ كشعارٍ
للمجلة لأننا نحن المستضعفون في الأرض؛
نحن الذين لا حرية لنا ولا ثورة لنا،
نحن الذين نعاني من الاستعمار واحتلال
الأرض وتشتُّت النسل.
والمجلة تعبير عن مشروعٍ حضاري؛ لأن اليسار الإسلامي — حسب اعتقادي — لا أقول حتميةٌ تاريخية حتى لا أهضم حق الحرية الإنسانية، ولكنه ضرورةٌ حضارية؛ فالمد الإسلامي الآن مدٌّ تاريخي يُحاول أن يقيم دورةً ثانية للإسلام نحن الآن في فجرها. وهي بهذا المعنى حتميةٌ تاريخية، إلا أن التاريخ لا يسير طبقًا لقانون حتمي فقط، إن لم يزدوج مع إرادة وحرية وعمل وجماهير وجهد، حتى تلتقي الحتمية التاريخية والقانون التاريخي مع الإرادة والوعي الإنساني والاجتماعي، وعندها يمكن أن نحقِّق ثورتنا المنشودة.
- سؤال: ما هي طبيعة المشروع الذي يحمله التيار الإسلامي اليساري الذي تتحدثون عنه؟
-
د. حنفي: اليسار الإسلامي عبارة عن حركة
تاريخية جماهيرية ثقافية حضارية
اجتماعية سياسية، وثقافتنا ترتكز على
ثلاثة أصول: أولًا: التراث القديم.
ثانيًا: التراث الغربي. ثالثًا: القرآن
الكريم. فالموقف من التراث القديم
يتحدد بإعادة بنائه بحيث أجدِّد
القوالب الذهنية للناس، حتى أستطيع في
الأخير أن أحمي الأمة، وأحمي مصالحها،
ابتداءً من إعادة بناء قيمها ومفاهيمها
وتصوراتها، وهذا هو شرط الثورة
الدائمة؛ فالثورة العربية بالرغم من
صياغتها لأكبر مشروعٍ في التحرر العربي
الحديث، إلا أنها انتكسَت بعد خمسة عشر
عامًا وانتهت إلى ردة. لماذا؟ لأن
نفسية الجماهير لم تتغيَّر وعقليتها لم
تُصَغْ بشكلٍ جديد، ولأن قيمَها
ونُظمَها بقيَت ثابتةً بالرغم من
تغيُّر الهياكل الاجتماعية؛ فمهمتي إذن
هي أن أُعيدَ بناء التراث من أجل
بدائلَ تقدُّمية مكان المقولات
السائدة.
القضية الثانية هي أن أفهم الغرب في إطاره وتطوره التاريخي؛ وبالتالي أتمكَّن من أن أحميَ نفسي من التغريب؛ فالتغريب هو اللجوء المستمر للثقافة الغربية بحثًا عن حل المشاكل الذاتية، اعتقادًا أن الغرب يمثل دائمًا نقطة إحالة Point de référence والتحرُّر من التغريب لا يكون إلا بالقضاء على أسطورة الثقافة العالمية، التي جعل الغرب نفسه مركزًا لها. عندئذٍ فقد أقدر على مواجهة الغير والتعامل معه.
أما بالنسبة للقرآن الكريم، فالذي أعتقده أنه لا وجود لتفسيرٍ من أجل التفسير، ولا نظرية من أجل النظرية. لقد جاء رجل إلى عمر فقال له: «يا أمير المؤمنين، ماذا تعني «فاكهةً وأبًّا»؛ فالفاكهة علمناها، ولكن ما هذا الأبُّ؟» فنظر إليه عمر وقال تقريبًا: «افرِض يا أخي أنك فهمتها أو لم تفهمها فماذا سيغيِّر ذلك من حال المسلمين.» وهذا يجعلني عندما أقرأ القرآن لا أهتز إلا للآيات التي تساعدني على حل القضايا المطروحة، وهي الآيات التي تدعو إلى الحرية، والآيات التي تدعو إلى التعقل، والآيات الموجَّهة ضد الأغنياء والتسلُّط، المواجهة للاستعمار والسيطرة على أراضي المسلمين.
- سؤال: لو سمح الدكتور نستوقفه قليلًا لنعود به إلى بداية الحديث. لقد تحدَّثتَ عن سيد قطب معتبرًا نفسك تلميذًا له، والذي نريد أن نعرفه هو: هل التلميذ انحرف عن خط أستاذه، أو أن الأستاذ ارتدَّ عن أفكاره الأولى؟
- د. حنفي: سيد قطب هو من أهم الشخصيات التي أثَّرت وما زالت تؤثِّر في الحركات الإسلامية المعاصرة. بدأ حياته ناقدًا أو شاعرًا في الثلاثينيات، وكان يدافع عن الأدباء الشبان، وساند العقاد ضد طه حسين. وكان الناس يأملون من ورائه خيرًا في تطوُّر النقد الأدبي. ومع أواخر الأربعينيات اكتشف الجانب الأدبي في القرآن، يعني بدأ يكتشف الإسلام ولكن من جانبه الأدبي. وكانت الأربعينيات أتون الحركة الاجتماعية والسياسية في مناهضة الاستعمار، والدعوة إلى استقلال مصر، وطرح العدالة الاجتماعية. وهنا تحوَّل سيد قطب من الجانب الأدبي إلى الجانب الاجتماعي في القرآن، فكتب آثاره الثلاثة التي ذكرتُها آنفًا. وكان سيد محورًا للتقدميين الاشتراكيين والقوميين والوفديين وكان مآله دخول حركة الإخوان. ولقد حرَّر بعد ثورة «يوليو» برنامج الإخوان، وذلك عندما طلبَت قيادة الثورة من كل الاتجاهات السياسية أن تقدِّم برامجها. وعندما صدَر قرار حل الأحزاب لم تُحل جماعة الإخوان لأنها لم تُعتبر حزبًا سياسيًّا. وكانت الجماعة عنصر ثقة من الناس، وتمثَّل الجميع فيها خيرًا، ولكن لسوء الحظ ولحرص كلٍّ من الإخوان والثورة على السلطة، حدث صدام ٥٤م، بعد معارضة الإخوان لمعاهدة الجلاء التي عقدها عبد الناصر مع الإنجليز، والتي كانت تسمح لهم بحق العودة إلى قنال السويس واستعمال مطارات مصر … إلخ. وهكذا عارض الإخوان عبد الناصر، وأخذوا محمد نجيب الذي كان يدعو إلى الوحدة الإسلامية. وخسر محمد نجيب، وخسر الإخوان، واستُشهد عبد القادر عودة ورفاقه، ووُضع الآلاف في السجون. وفي السجن تكوَّن سيد قطب آخر، هو الذي ظهر في معالم في الطريق، والذي عبَّر فيه عن نفسية السجين بين الجدران، فدعا إلى تكوين جيلٍ قرآني وطليعةٍ مؤمنة قادرة على التغيير. والافتراض الذي أطرحه هو لو قُدِّر لسيد أن يعيش خارج السجن، وأن يساهم في العمل السياسي، ويرى تأميم القنال في ٥٦م، ويعايش نضال الشعب المصري ضد العدوان الثلاثي، ويرى الوحدة مع سوريا ٥٨م، والبناء الاشتراكي لمصر في ٦١م؛ لأن ما حدث في مصر هي أفكار سيد قطب الأولى، لكان من مؤسِّسي اليسار الإسلامي. ومن هذه الزاوية أعتبر اليسار الإسلامي استئنافًا لسيد قطب في كتاباته الأولى.
- سؤال: وكأني بك تعذر سيد وكل الذين ساروا على دربه؟
-
د. حنفي: أنا يا أخي أفهم جيدًا لماذا مثلًا
يستهوي «معالم في الطريق» الشباب
المسلم؛ لأننا في نفس الظروف النفسية
التي عاشها سيد قطب؛ مضطهدون، مسجونون
لا السجن في معناه الضيق «أربعة
جدران»، ولكنه السجن الكبير؛ حيث لا
حرية لنا في التعبير. وحيث لا حل يبدو
إلا تكوين طليعةٍ مؤمنة «جيل قرآني
فريد»، وأن نعتبر أنَّ لا إله إلا الله
منهاج حياة … إلخ، ولكن كيف سنُحقق ذلك
بالفعل؟ هل بالصراع بين الإسلام
والجاهلية «الواقع المضاد» أم عن طريق
احتواء الإسلام «للجاهلية»؟
أنا أعتقد أن هناك صراعًا بين الإسلام والواقع المضاد. هذا هدف لكنه لا بد أن يتم عبْر مراحل؛ فالذي يريد تحرير فلسطين باسم البروليتاريا العالمية هل أعتبره عدوي أم صديقي المرحلي؟ الذي يريد أن يوحِّد الأمة باسم القومية العربية هل أعتبره عدوي أم صديق المرحلة؟ كذلك الذي يدافع عن العدالة الاجتماعية؛ ومن ثم فأنا مع سيد قطب، وتلميذ له، وتعلَّمتُ منه الكثير، وما زلت حتى الآن عندما أقرأ «معركة الإسلام والرأسمالية» أشعر وكأنني مع أكثر من ماركسي؛ ومن ثم فأنا أضع يدي مع أيدي كل من يشاركونني أهداف الحرية والعدالة الاجتماعية، ومقاومة الاستعمار والصهيونية، ومقاومة التخلف والقهر وسيطرة الأغنياء واستيلائهم على خيرات البلاد.
ولماذا الوقوف عند «معالم في الطريق»؟ فكلنا مجتهدون، ومهمتنا تطوير الفكر النظري للحركة الإسلامية، ولعل علي شريعتي مثلًا يمثِّل إحكامًا نظريًّا أكثر من سيد قطب، بل لعله يمثِّل قطيعة مع سيد قطب الثاني؛ وبالتالي مع احترامنا لسيد قطب الأول، واعتزازنا به، وفهمنا لسيد قطب الثاني، إلا أننا نريد أن نُخرج الحركة الإسلامية من مرحلة رد الفعل إلى مرحلة الفعل، ومن مرحلة نفسية السجين إلى مرحلة الأفق الواسع والأرض الرحبة والتسامح مع الناس. ولا يجب أن يغلب الثأر قلوبنا، بل علينا أن نتطوَّر ونعي الدروس ونعذر مخالفينا الذين نشَئوا في غياب البديل الإسلامي الثوري.
- سؤال: هناك شبهة تُثار دائمًا تؤكِّد أن «اليسار الإسلامي» هو خليط بين الإسلام والماركسية، فما هو ردُّكم على هذه الشبهة، وكيف تحدِّدون العلاقة بين الطرفَين؟
- د. حنفي: السؤال في ذاته يدل على مدى التغريب الذي شمل مجتمعاتنا. ما زلنا نظن أن الماركسية نتاج الغرب، وأن الإسلام نتاج الشرق، وأن أي إنسانٍ يريد أن يحافظ على هويته، ويحل قضاياه الرئيسية التي يعيشها في مجتمعه، فما عليه إلا أن يوفِّق بين الإسلام والماركسية انطلاقًا من خلفية تجعل من الغرب مقياسًا حضاريًّا. هذا خطأ في وضع السؤال. وقد تسألني ماذا أفعل وماذا سأرفض من الماركسية أو من غيرها؟ فأجيبك أنني يا أخي لا أرفض ولا أقبل، إنني أفعل كما فعل الفلاسفة المسلمون، عندما اكتشفوا العقل في القرآن الكريم، واستخرجوه من إبراهيم، فكان الفلاسفة اليونان رفاقَ نضالٍ بالنسبة لهم. وكذا الشأن عندي أنطَلِق من الإسلام باعتباره دعوةً من أجل الحق والخير والعدالة والمساواة، وفي الطريق سألتقي بمن يهدفون إلى نفس الغايات فأعتبرهم رفاقَ نضال، ومن بين هؤلاء ماركس الذي نُجله ونحترمه؛ لأنه ساهم في كشف عدة حقائق عامة، كما استطاع نقد المثالية، ودافع عن الطبقة العاملة، وأقام نظرية في «رأس ماله»، وبين أن العمل هو مصدر القيمة، وقد أقيم له تمثالًا في ميدان الاستقلال تعبيرًا عن احترامي له، ولكنه لن يتحول عندي إلى بديل عن ابن خلدون. إننا في غياب البديل الإسلامي الثوري لجأنا إلى الماركسية، لحل قضية العدالة الاجتماعية، وإلى الليبرالية لحل القمع المسلط على شعوبنا، وإلى القومية لإنهاء حالة التشرذم، وإلى ديكارت لتأكيد العقلانية. والرد على موجة التغريب هذه تمثَّلَت في الدعوة التي طرحتُها في مجلة «اليسار الإسلامي»، وفي كتابي «التراث والتجديد»، والقائمة على إعادة تأسيس العلوم الإسلامية، وقراءةٍ جديدة للتراث الإسلامي وللتراث الغربي.
- سؤال: إذن فأنت تعتبر إنهاء حالة التغريب تتم عبْر الحسم في إشكالية التراث والمعاصرة، وعبْر تحديد موقفٍ علمي من الغرب، باعتباره التحدي الثاني بعد التراث؟
-
د. حنفي:
لا بد أن آخذ موقفًا من الغرب. أنا
لستُ غربيًّا وإن درستُ في الغرب
ودرستُ فلسفته ولكني مسلم. والغرب
بالنسبة لي هو التحدي الأعظم، لا فقط
في الأرض والزراعة والصناعة والاقتصاد،
ولكن في الغزو الثقافي والروحي، يريد
أن يجعلني دائمًا متعلمًا، وأن يوهمَني
أني مهما حاولتُ اللحاق به فمعدل
إنتاجه أسرع بكثيرٍ من معدل لحاقي به؛
وبالتالي تتسع الفجوة الحضارية بيني
وبين الغرب، فأُصاب بالصدمة الحضارية،
فأجري يائسًا حتى أموت. تلك هي نظرتُه
إلينا، هو الأستاذ ونحن التلامذة. أنا
أريد أن أغيِّر هذا الوضع أن أنقل
الحضارة الإسلامية الحديثة من مرحلة
التتلمذ على الغرب إلى مرحلة الانفصال
والتحدي ثم الإبداع والاحتواء. أصبح
المسلم حاليًّا لا يستطيع أن يتكلم في
الحرية إلا إذا كان ديكارتيًّا، وفي
العدالة الاجتماعية إلا إذا كان
ماركسيًّا، فأصبح الغرب هو المعيار
والميزان؛ فمهمة المسلمين هي الوقوف
أمام الغرب وتحدِّيه، ثم الإبداع
المستقبلي. وهي ليست مشكلة التكنولوجيا
فقط، ولكنها معركة التحدي الحضاري. إن
إلقاء نظرة على الساحة الفكرية للعالم
الإسلامي تُبرز انتشار العديد من
التيارات الغربية لغياب وعينا الثقافي،
بعد أن استعمر الغرب أراضينا منتقلًا
من الاستعمار السياسي إلى الاستعمار
الاقتصادي والثقافي؛ ومن ثَم نشأ بيننا
ممثلون للحضارة الغربية، ووكلاء من
المذاهب الفلسفية الغربية. وحين أردنا
حل مشاكلنا، ولم نجد البديل الإسلامي
الثوري القادر على حلها، لجأنا
بالضرورة إلى الماركسية لحل قضية
العدالة الاجتماعية، وإلى الليبرالية
لحل قضايا القمع. أما بالنسبة لي
فبوعيي لتراثي القديم، وبقدرتي على
مواجهة الغير، أقوم بمهمة ثانية، وهي
القضاء على أسطورة الثقافة العالمية
التي يُروِّج لها الغرب؛ وبالتالي أفهم
الغرب في إطاره وتطوره، وأستطيع أن
أحميَ نفسي من التغريب، ومن أجل أن
أحلَّ مشاكلي باللجوء إلى الثقافة
الغربية؛ فليس كل مُدافعٍ عن الحرية
بليبرالي. إذن فالقضاء على التغريب هو
في نفس الوقت حمايةٌ للمسلمين من
الاستلاب الثقافي، واكتشاف النظرية
الإبداعية من الداخل وليس من
الخارج.
إن شرط عمليات الإبداع هو عدم التقليد، وإن إيمان المقلد في علم أصول الدين لا يجوز؛ ومن ثم فأنا أردتُ أن أحل قضية العدالة الاجتماعية نظرًا لأني أعيش بين الفقراء والأغنياء، وأحل قضية الحرية لأني أعيش في ظل نظمٍ قمعية. وأنا لا أستطيع أن أكون مسلمًا ثوريًّا لو كنتُ مقلدًا لأبي ذر الغفاري؛ لأن شرط الإبداع هو عدم التقليد.
- سؤال: أودُّ أن …
- د. حنفي: أريد لو سمحتَ أن أتعرض بالمناسبة إلى مقولة سمعتُها كثيرًا هنا في تونس، وأيضًا بالمغرب، وهي ما تُسمُّونه «بالقطيعة الإبستمولوجية» Coupure épistémologique وهي مقولة أصبحَت تُستعمل كالمفتاح السحري، الذي به يستطيع المثقف العربي أن يرفع كل التباس. وأنا هنا لا أنقد ولكني ألاحظ؛ فالغرب بعد عصر الإحياء في القرن الرابع عشر ميلاديًّا أحيا الأدب القديم، وأقام الإصلاح الديني في القرن الخامس عشر، بربط الإنسان مباشرة مع الله، ثم بعد الإصلاح الديني جاء عصر النهضة في القرن السادس عشر، وكانت بداية القطيعة بين الماضي والحاضر، واللجوء إلى العلم والطبيعة باعتبارها المصدرَ الوحيدَ للمعرفة، ومع اكتشافات القرن السابع عشر تطوَّرَت مناهج البحث ووسائل المعرفة ونظرية المعرفة في ذاتها؛ حيث لم يصبح الوحي طريقًا إليها، ولا الكتاب المقدس طريقًا للعلم، ولم يعُد أمام الإنسان الغربي إلا الحواس والعقل، وربما الوجدان فيما بعدُ عند الرومانسيين؛ فنظرية المعرفة الغربية تأسَّسَت بعد أن فقد هناك الغطاء النظري للوعي الأوروبي، الذي قطَع نفسه عن الماضي على عدة فترات، وقطَع نفسه عن كل المعارف المسبقة، بعد أن اكتشف زيفها وتسلُّطها وتعارُضها مع العلم والطبيعة والإنسان. انطلق الجهد الإنساني الخالص يُعالِج القضايا الأوروبية التي أفرزَها عصر التنوير والنهضة الصناعية والفكر الدرويني والمادية الوضعية … إلخ، ثم أزمة القرن العشرين أزمة كل المدارس. في هذا السياق عندما أسمع عن القطيعة الإبستمولوجية والتحديات النظرية يتملكني إحساس بالخشية أن تكونوا قد وضعتم أنفسكم في تطور الوعي الأوروبي بينما نحن خارجون عنه؛ لأن الغطاء النظري للعالم بالنسبة لنا لم يسقط بعدُ؛ فأنا عندما أريد أن أعرفَ ما زالت نصوص القرآن وأقوال الرسول والقدامى والغزالي وابن تيمية وابن رشد جزءًا من طريق المعرفة. يعني ما زال التراث بالنسبة لي مصدرًا من مصادر المعرفة، ولم تحدث قطيعة بيني وبينه؛ وبالتالي لا توجد لديَّ نظرية المعرفة بالمعنى الأوروبي؛ لأني لم أمُرَّ بعدُ بهذه المراحل. وأرجو ألَّا يحدث ذلك؛ لأنه ليس بالضرورة أن يكون نمط القطيعة مع الماضي هو نمط لكل حضارة، ولكل شعبٍ يريد أن يتقدم. نمطي هو الآتي وسأكون دقيقًا: أنا جزء من التاريخ، وأنا حامل رسالة أربعة عشر قرنًا، وأنا مسئول عن هذا التراث، وكلنا مسئولون عنه. نحن لسنا مستشرقين؛ لأن المستشرق هو الذي ينظر إلى هذا التراث كما ينظر إلى التراث الهندي، أو الصيني، أو الفارسي، باعتباره مادةً علمية، أما نحن فجزء من الموضوع، نحن الذات والموضوع في وقتٍ واحد؛ فعندما أدرس التراث أدرس أبي وجدي، وروحي وجسمي، وتاريخي وحاضري ومستقبلي. وبما أني جزء منه، ومسئول عنه، لا بد أن أعرف تمامًا في أي مرحلةٍ من التاريخ أنا. لا بد أن يكون في ذهني إحساسٌ بالأربعة عشر قرنًا، فأعي أنَّ في القرن الأول نشأَت الحضارة الإسلامية، وفي الثاني بدأَت تتأصل، ووصلَت في القرن الرابع إلى أوجها، ثم محنة الغزالي ومحنة العلوم العقلية على يدَيه، ومحنة ابن رشد في القرن السادس، وآخر صحوة عند ابن خلدون وابن تيمية في القرن الثامن. وفي أواخر القرون الثمانية انتهت الحضارة الإسلامية التي ما زلنا معجَبين بها. وفي القرون العاشرِ والحاديَ عشرَ والثانيَ عشر، وهي الفترة التي استكانت فيها الحضارة الإسلامية، ولم تعُد قادرةً على الإبداع، فسُمِّيَت بعصر الشروح والملخصات، ثم كانت بداية عصر نهضةٍ إسلامية جديدة مع محمد بن عبد الوهاب، والأفغاني، ومحمد عبده، ورشيد رضا، والبنا، وسيد قطب. إذن فنحن ورِثنا هذا التيار كله، ونعي أنه لم تحصُل قطيعة، وإنما حصل تواصل واستمرار.
- سؤال: إذن ما العمل؟ وكيف يجب أن تكون علاقتنا بهذا التراث؟
-
د. حنفي: كل ما أستطيع أن أفعله هو الآتي: أن
آخذ العلوم الإسلامية كما ورِثتُها،
وهي كالآتي ثلاثُ شُعبٍ رئيسية:
- (١) العلوم النقلية.
- (٢) العلوم العقلية.
- (٣) العلوم النقلية-العقلية.
العلوم النقلية، وهي التي تعتمد على النقل فقط، وتشمل خمسة علوم؛ علوم القرآن، علوم الحديث، علوم التفسير، علوم السيرة وعلوم الفقه. ويعتمد كلٌّ منها على النقل والرواية. أما العلوم النقلية الخالصة فهي تمثِّل علوم الرياضة والطبيعة والفلك والهندسة والحساب. ثم العلوم العقلية النقلية وهي الأهم، التي تجمع بين العقل والنقل، مثل علم أصول الدين، وأصول الفقه، والحكمة، وعلم الكلام، وعلم التصوف الإلهي خاصة في فترته الأخيرة. وربما نضع بعض العلوم الإنسانية من علوم اللغة والتاريخ والجغرافيا والأدب؛ هذه هي صورة الحضارة الإسلامية التي ورِثناها، كما ورِث الغرب اليونان والرومان والعصر الوسيط، الذي حاول أن يُخلِّد نفسه بإحياء الرومان واليونان في القرنِ الرابعَ عشرَ «عصر الإحياء» فلم يُفلِح، فحاول أن يُصلِح الدين في أواخر العصر الوسيط فلم ينجح، فجاء عصر النهضة، وقام بالقطع، فنتج عصر إقامة النظريات.
أما أنا فالتحدي النظري الذي أعيشه هو في الحقيقة من باب الإشكال النظري، وليس الإشكال الإشكالي؛ فأنا عندي ثلاث منظومات من العلوم، فآخذها علمًا علمًا، وأعيد تأسيسها في ضوء المتغيرات.
- سؤال: لو ضربتَ لنا أمثلة حتى نُدرِك أبعادَ ما تقول:
-
د. حنفي: لنأخذ مثلًا علوم القرآن انطلاقًا من
كتاب «الإتقان في علوم القرآن»
للسيوطي، فسنجد علم المكي، وعلم
المدني، وعلم الناسخ والمنسوخ، وأسباب
النزول، وأول ما نزل منه، وآخر ما نزل.
ومسئوليتي أن أُعيد بناء هذه العلوم،
لا أن أقطع معها؛ لأنني ما زلتُ أرى
لها دلالة؛ فمثلًا يعيب علينا الغرب
ويتهمنا بأننا شعوبٌ تعيش مع الخلود،
ولا تعرف معنًى للتقدم ولا للزمان ولا
للمراحل، ولا نعرف إلا السباحة في
الفناء والألوهيات إلى آخر الزمان. أما
أنا فإني أجد في قضية الناسخ والمنسوخ
أساسًا لقضية الزمان؛ فهناك قانون، ثم
قانون، ثم أهلية، ثم قدرة، وتغيير
الأخف بالأثقل والأثقل بالأخف، ونسخ
بالقراءة، ثم نسخ الحكم من القراءة،
ونسخ القراءة من الحكم؛ وبالتالي فقضية
الناسخ والمنسوخ هي وجود الوحي داخل
الزمان، وداخل التاريخ، ويعمل بسنَن
التقدم.
كما أجد في أسباب النزول أولوية الواقع على النص؛ فالله سبحانه وتعالى لا يتكلم جُزافًا، بلا سببٍ ولا مطلب، فكانت الواقعة تقع ثم يتلوها الوحي؛ فالمنهج الإسلامي لا يبدأ بقال الله، قال الرسول، إنما يبدأ بالواقعة، بطرح المشكلة، وأن الواقع الاجتماعي يسبق الفكرة (نزول القرآن منجمًا). والمكي والمدني دلالتهما تتمثل في أن الآيات المكية تحتوي على التصور النظري للعالم، في حين أن المدني هو القانون الذي خرج من ذاك التصور. إذن فالتصور الأسمى يجب أن يكون نظريةً للكون وللحياة، كما عبَّر عن ذلك سيد قطب، ثم ينبثق عن ذلك التصوُّر قانون وتشريع؛ فالأولوية إذن للتصور لا للقانون.
- سؤال: وماذا ستصنع مع علم أصول الدين (علم الكلام)؟
-
د. حنفي: آخذ مثلًا صفات الله المشهورة؛
العلم، القدرة وغيرها، وإذ دافع علماء
الكلام القدامى عن الله الموحد ونجحوا
في علم العقائد!
ووصلوا إلى أن الله ذاتٌ لها صفات مطلَقة؛ العلم، والقدرة، والحياة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام، كما هو موجود في الكتب السلفية، وكتب العقائد، من «الفقه الكبير» لأبي حنيفة، حتى كُتب العقائد التي ندرس بجامعاتنا، لكن بالنسبة لي فإن المهم هو كيفية استعمال تصوُّرنا لله في حاجات المسلمين. العلم مثلًا صفة الألوهية، لكن الأمية متفشِّية عندنا؛ فكيف يُعقل أن نؤمن بإلهٍ عالم ونحن جهلة؟ فإذا أردنا أن نقول إن الله عالم كان لزامًا علينا نشر العلم والقضاء على الجهل باسم الله. كذلك القدرة لله، لكنَّ المسلمين عاجزون بلا قدرة، فلا بد أن يتشبه المسلمون بصفات الله. الحياة والمسلمون أموات! البصر والسمع والكلام والمسلمون لا يسمعون ولا يبصرون ولا يتكلمون! ومن ثَم لا بد أن يتحول تصوُّرنا لله الذي ورِثناه في علم العقائد إلى تصورٍ حي في قلوبنا، نسمع ونتكلم ونبصر باسمه.
فعلم الكلام ليس علمًا مقدسًا، ولكنه نشأ في ظروف معيَّنة. إذا تغيَّرت هذه الظروف تغيَّر هذا العلم؛ فعدم إحساسي السياسي وعدم إدراكي لظروف العصر هو الذي جعلَني أنقل العلم بمادته وظروفه القديمة، دون أن أتفطَّن إلى الفارق بينها وبيني؛ وبالتالي فإن هذه الصفات الإلهية التي قدَّسها المعتزلة والأشاعرة وغيرهم، أعتبرها أهدافًا وغايات اجتماعية وسياسية؛ فوفقًا لهذه الصفات أعمل على تحقيق العلم، وأدعو الناس إلى الرؤية والسماع والقدرة؛ وبالتالي أعمل من أجل حرية الفكر والقول والعمل والتجمع؛ أي الديمقراطية؛ ومن هنا فإن مهمتي في علم أصول الدين تتمثل في إعادة صياغة قضية علم التوحيد، حتى أستطيع مواجهة الخطر الحالي، فأربط بين العقيدة والأرض، وأجد في القرآن ما يحميني في مسألة نهب الأرض والثروات؛ هذا ما أعتقد أنه إحدى الوسائل التي بإمكاني استعمالها بالنسبة لعلم أصول الدين من الداخل؛ وبالتالي فهناك تواصل في أداء المهام بيني وبين القدماء؛ هذه إذن محاولاتٌ أقوم بها لإعادة إحياء التراث القديم، للدخول في مشاكل العصر، لأتمكَّن من تقديم البديل الإسلامي الثوري المستنير، الذي يستطيع أن يحرسَ المسلمين من التيارات الرجعية، أو من التيارات العلمانية الحديثة.
- سؤال: ألا ترى أن منهجك التأصيلي هذا قد يُدخِلنا في متاهات وإشكالات القرون الماضية ونحن في أشد الحاجة إلى الارتباط بواقعنا؟
- د. حنفي: على العكس من ذلك؛ فإعادة بناء التراث تستهدف تحريك القوالب الذهنية للناس، حتى نستطيع في الأخير أن نحميَ الأمة، وأن نحميَ مصالحها، ابتداءً من إعادة بناء قيَمِها ومفاهيمِها وتصوُّراتها؛ هذا هو شرط الثورة الدائمة؛ فمهمَّتي أن أُعيدَ التراث القديم لأجد بدائلَ تقدُّمية مكان البدائل السائدة. مثلًا في علم أصول الدين سادت الأشعرية قديمًا، وهي التي دافعَت عن التوحيد، ولكن خطورتها أنها ازدوجت مع الدولة السنية، وأصبحَت أيديولوجية الدولة، في حين أن الاعتزال مثلًا في علم أصول الدين يدعو إلى أن العقل أساس النقل، إلى أن الله واحد ليس كمثله شيء دون أن يشخص، وإلى أن الإنسان له ماضٍ ومستقبل، وإلى أن العمل جزء من الإيمان. وكذلك في الفقه أُعطي الأولوية للفقه العملي الذي يقوم على المصالح العامة على الفقه النظري الافتراضي. كذلك في الفلسفة لا بد أن أُظهِر أهمية الفكر الاجتماعي والسياسي، دون أن أرتبط بالضرورة بالتفكير الميتافيزيقي النظري. وأنا في كل ذلك لا أقلد أحدًا من القدامى، ولا من الغربيين والمحدَثين، ولكني أجتهد رأيي. عندي القرآن والسنة والإجماع والقياس، وعندي المصالح العامة، وعندي طرق الاستدلال، وعندي شروط، وهي ألَّا أبغيَ هوًى، ولا أُفتيَ لسلطان، ولا أبغيَ مالًا، وأكون عالمًا بالشريعة وباللغة العربية، وأدرك مصالح المسلمين، وأبغي وجه الله؛ لذا فإنه من الضروري بالنسبة للحركات الإسلامية أن تكون واعيةً بأهمية المصطلحات والمناهج واللغة والقضايا المصيرية، وأن تكون قادرة على الدخول في تحديات العصر. كذلك فإن كل مسألةٍ نظريةٍ عاريةٍ عن أي غايةٍ عمليةٍ يكون وضعُها في أصول الفقه ضمن الأوهام؛ ومن ثَم فأنا ألجأ كثيرًا إلى النواحي العملية في الإسلام، وقد أبدأ بالاجتهاد مباشرة. خذ مثلًا قضية العدالة الاجتماعية وتوزيع الثروة؛ فأنا لا أحتاج أن أبحث مباشرةً في القرآن عن نص، وإن لم أجد أتجه إلى السنة، ثم … إلخ؛ ففي تقديري هناك واقع ومصالح مرسلة؛ وبالتالي أنا أقلب هذه الأدلة، فأبدأ بالاجتهاد وبالرؤية المباشرة وبالواقع، فإن لم أجد ضالتي فعليَّ بالإجماع؛ إجماع الناس والقرآن سيكون معي. الإحساس بالناس، وبالواقع، والملابسات، والتاريخ هي التي تجعلني قادرًا على أن أُعيدَ بناء علم أصول الفقه، حتى أعطيَ للناس الجرأة على الاجتهاد والتشريع.
(ﺟ) العلمانية والفكر الانقلابي وتحديات العصر٤
-
العلمانية خطأ استورَدَته النخبة مسقطة أسبابه في أوروبا.
-
الفكر الانقلابي غريب عن الإسلام.
-
سبع قضايا تتحدى الأمة، والإسلام قادر على مواجهتها.
- سؤال: الحركات الإسلامية الآن التي تحاول أن تخرج بالأمة من واقعها الراهن، فيها تيارات تعبِّر عن الواقع الإسلامي، بما يُعرف اليوم ﺑ «الصحوة الإسلامية»، هذه التيارات تضم مساحةً واسعة من مجموعات تكفِّر المجتمع، وترى الثورة على هذا المجتمع، وتيارات ترتبط بالسلف، إلى جانب آراء الذين يؤمنون بضرورة التطور من البداية. هذه الهوة الكبيرة بين المواقف، نحب أن نسمع رأي الأستاذ حنفي فيها؟
-
جواب: أشكر الإخوة في جريدة «الرأي» على
هذه الثقة التي أولَوني إياها، ونحن
نعرف أن الصحافة العربية منذ نشأتها
كانت صحافة «رأي»، وحتى لفظ «الرأي»
لفظٌ جيد، والرأي أحد الألفاظ القديمة
في علم أصول الفقه.
ويُفرِّقون بين «الرأي» والهوى؛ فالهوى هو الرأي الخاص الذي لا يبغي الحق، في حين أن «الرأي» هو الرأي الذي يبغي صاحبه الحق؛ ولذا فإنني أرجو لهذه الندوة أن تكون تحقيقًا «للرأي» بالمعنى الإسلامي، الذي لا يخشى في الحق لومة لائم. أقول إذن إننا نرجو من هذا الحوار ما ينفع الناس جميعًا، ربما تعليقًا على سؤالك قبل أن نبدأ أقول إن هناك تيارَين، تيار يكفِّر، وهو تيارٌ بعيد عن السلف، وهناك تيار السلف. ربما أهم شيء في التعامل مع الحركات الإسلامية هو فهم ظروفها؛ فهم أبناؤنا وإخوتنا، وهم أقرب إلى قلوبنا! «السلف القدماء» كانوا منتصرين، حضارتنا الإسلامية، كانت حضارةً منتصرة وفاتحة؛ ومن ثَم نشأَت ظروفٌ صحية للحديث عن الإسلام، الجيوش فاتحة، والبلاد مفتوحة، والعقول مفتوحة؛ ولهذا فإن أهل السلف كانوا يدافعون عن الإسلام من منطلق المنتصر الصحيح، كما يفعل الغرب الآن حين يتعامل معنا.
لكن الحركة الإسلامية الحالية، ليست كذلك، تعيش في مجتمع متخلف، ومهزوم، وتقع عليها ألوانٌ من الاضطهاد؛ ولذلك علينا أن نأخذ هذه الظروف في الاعتبار، وهناك الكثير مما يقولون، في عقائدهم، وآرائهم وممارساتهم، يرجع إلى هذا الاختلاف في الظرف التاريخي، بين السلف وبين الخلف، وأرجو أن تأخذ هذا بالاعتبار.
- سؤال: كيف يمكن أن تبلور نظرية موجودة من هذا التراث؛ بحيث يناسب العصر الذي نعيش، وكيف يمكن أن نجمع الأنصار لمثل هذه النظرية؟
-
جواب: عندما نتحدث عن الإسلام فإننا لا
نتحدث عن الأصول الإسلامية، وهي القرآن
والسنة؛ أي الوحي؛ فالوحي «كلنا لرسول
الله منتسب»؛ ومن ثَم يهمَّنا نحن
«التراث»؛ أي كل اجتهادات القدماء
والمحدَثين لفهم هذا الوحي كلٌّ طبقًا
لظروفه. التراث متعدِّد، وبه نظرياتٌ
متضاربة، ونشأ التراث الكلامي الفلسفي،
الصوفي، والفقهي … إلخ. كل جانبٍ يخدم
قضية، أو فرقة، أو مصلحة؛ فهي الصورة
النظرية لتاريخ الإسلام السياسي
والاقتصادي والاجتماعي، وذلك دارج، وفي
كل حضارة، لكن المهم أن نعرف أن التراث
القديم فيه فرقٌ عديدة، لتأخذ مثلًا
علم الكلام؛ حيث ساد في علم الكلام
تيارٌ يخدم استقرار الدولة، وهو
«التيار الأشعري» ليقف في وجه الفِرق
السياسية المعارضة لاستقرار الدولة،
واستمرار النظام.
أقول إذن التراث متعدِّد، طبقًا للمواقع السياسية التي فيها كل فرقة، وكل مذهب، وَفْق المواقع السياسية والمصلحة الاجتماعية، ويسهل عليَّ أن أدرك أين مصالح الأمة بعامة، وليس مصالح فئة أو طبقة دون غيرها، وبأي نظرية يمكن أن أحقِّق بها هذه المصالح؟ مثلًا، إذا كنا نعاني من غياب العقل والموضوعية وغياب نوع من الحريات وغياب العدالة الاجتماعية، وقضايا تحرير الأرض، قضايا الهوية والتغريب، قضايا سلبية الجماهير، وهذا مثال أمامنا من ٣٫٥ مليون صهيوني يقفون وقفة ثبات، وقوة وغزو، في وجه ٨٠٠ مليون مسلم ولا نعمل شيئًا، أقول إذن هذه تحدياتٌ رئيسية، ولدينا خزائنُ قديمة فيها كل شيء، وهناك قضايا عصرية مُلحَّة، ودوري أنا — كمفكرٍ إسلامي — أن آخذ من الكنز الأول ما يساعدني على التحدي في هذه القضية؛ ولهذا إذا كانت القضية مثلًا قضية انحسار العقل، ولا بد من إعمال العقل في هذه المرحلة، فإن بالإمكان الانتقاء من هذا المخزن الذي بحوزتي، بما يتفق مع العلم والموضوعية؛ ومن ثَم أدعو إلى الاعتزال واعتزال الرأي، كما فعل محمد عبده في رسالة التوحيد، نحا منحًا اعتزاليًّا، ويقول إن الإسلام قد انتشر في التاريخ، وإن المستقبل له، وليس فقط أنه انتصر في التاريخ. إذا كنتُ بحاجة إلى الفقه والتشريع، وكلنا نود تشريعًا ومجتمعاتٍ إسلامية، فالذي يساعدني في التشريع، هو المخزن القديم؛ فلا آخذ جوانبَ فقهيةً تقدِّم النص على المصلحة، أو تدخل في فقهٍ افتراضي. كما كان يُقال قديمًا «ما قيمة وصية يكتبها رجل بين أنياب الأسد؟!» هل تجوز أو لا تجوز! ولكن أركِّز على أصول الفقه التي أخذَت مصالح المسلمين عامة وعالجتها، وما رآه المسلمون حسنًا فهو حسن، ولا ضرر ولا ضرار. وهذا يساعدني على الدخول في العصر والإجابة على تحدياته، أقول إذن أنتقي من القديم ما يساعدني على تحديات العصر، ويُدخلني فيها، وإذا لم أجد في القديم أجتهد، أنتقي من هذا الكل غير المتجانس ما يساعدني على الدخول في القضايا الرئيسية، وهذا مطلبٌ رئيسي شرعي؛ فنحن مجتمعٌ تراثي، الماضي في قلوبنا، نحن لسنا مجتمعًا علمانيًّا؛ فالعلمانية قضيةٌ محصورة في عقول المفكرين، ولكن الشعوب كلها ما زالت تقول «الله أكبر»، وهذا شيء يجب الاعتراف به؛ ولذلك فلا تقدُّم «بعلمانية» ولا تقدُّم أيضًا «بالمخزون غير المتجانس»؛ فقد آخذ شيئًا يضُرني؛ ولهذا فهناك عملية قام بها الفقهاء القدامى، وعلى المفكرين المحدَثين أن يفعلوا كذلك. نفس القضية، وهي، كيف أستطيع أن أحقق تطور هذه الأمة وليس ثباتها، دون أن أفقد تجانسها في الزمان، وحتى لا أكرر مأساة تركيا التي انفصلَت عن الماضي، فلم يشفع لها الحاضر بشيء!
- سؤال: أشرتَ إلى مسلَّمات الأمة، وقلتَ، إن الإسلام دين هذه الأمة، وإن العلمانية، أمرٌ عارض، لكن التناقض الرئيسي الذي يكشفه التعبير أننا نرى أن الذي يسود في المنطقة العربية، والإسلامية، على مستوى التخطيط، هو العلمانية وليس الإسلام، وأن ما لدى الشعوب من أشواق وطموح، يُواجَه بمواقفَ مختلفة، من الطبقات المفكِّرة؛ إما بالحوار، وإما بالكبت، وإما بالتجاهل، وهذا يصوِّر، أن الرحلة ليست سهلة باتجاه الإسلام، وأنه بالقدْر الذي يوجد فيه رغبة في الإسلام بنفس القدْر هناك رفض له، وهذا الرفض يدعمه نفوذٌ دولي كبير في المنطقة، وأننا مجتمع يعاني من الاختراق منذ مئات السنين ربما، وأن الهدف من الاختراق نفسه هو الحيلولة دون نجاح النظرة الإسلامية، وهذا الاختراق له جنوده في بلادنا. كيف يمكن أن نصل إلى معادلة للتوفيق بين هذه الاتجاهات المتناقضة؟
- جواب: هذا صحيح، وأنت على حق في أن المقدمة العامة في هذه الندوة كانت بحاجة إلى تخصيص، وأن السؤال وضعنا أمام قضية جوهرية خاصة أساسية؛ فربما نبدو أننا مختلفون في المظهر لكننا متفقون في الجوهر. وانطباعي عَبْر دراساتٍ أجريتُها، والعديد من الزملاء «المهمومين»، بقضايا الأمة، في هذا الموضوع، تؤكِّد على أن العلمانية كانت اختيار النخبة، النخبة المثقفة القائدة، التي أتيح لها ظروف التعلم، لكن الجماهير ليست كذلك، وربما هذه واحدةٌ من تناقضاتنا في هذا العهد؛ فالنخبة تطالب بالعلمنة، والجماهير متمسكة بالإسلام. كذلك فإن جيلنا قد شاهد عدة تجارب، من القومية، والاشتراكية، لكن هذه التجارب لم تزل بعيدةً عن قلب الجماهير وروحها، وأنه في الوقت الذي تقوم فيه حركة إسلامية مستنيرة، فربما تكون أكثر قدرةً على الالتحام بالجماهير.
- سؤال: لكن هل يعني هذا أن هناك تعارضًا بين الإسلام والعلمانية؟ وماذا تعني العلمانية؟!
- جواب: العلمانية في الغرب إنما تعني ما يُسمَّى بفصل الكنيسة عن الدولة، والدين لله والوطن للجميع، هذه ظروف الغرب، حينما حاولَت الكنيسة أن تُسيطِر على الدولة وسبَّبَت أضرارًا، وهذه ليست قضيةً عندنا؛ فليس لدينا رجال دين وإكليروس؛ فكلٌّ منا مسلم، يصلي إلى الله مباشرة؛ ولهذا فالمشكلة الأوروبية لا تُوجد عندنا؛ لأن إسلامنا علماني؛ فلا تعارض بين الإسلام والعلمانية على مستوى دين العقل؛ ولهذا فإن العلمانية بالمعنى الغربي تتطابق مع الإسلام؛ لأن الإسلام والعقل شيء واحد؛ لأن الله سخر لنا الطبيعة، والإسلام البحث العلمي، بينما في الغرب تعني العلمانية فصل الدين عن الدولة، لكن بالنسبة لنا لم يحدث في تاريخنا أن نشأَت سلطةٌ دينية معارضة لسلطةٍ سياسية، كما حدث في الغرب، حدث ربما في تاريخنا القديم أن استُعملَت بعض العقائد والمذاهب السياسية ضد الاكتشافات العلمية، لكن كل العلوم العقلية، في تاريخنا، ابن الهيثم، والخوارزمي والطوسي، اكتشفوا علوم الرياضة، بفضل علم التوحيد، وعقلية التوحيد، نشأ علم النحو، بفضل الإسلام؛ فالإسلام بطبيعته، دين العقل. والغرب يريد أن يظهر إبداعاته العلمية على أنها له وحده، ولربما كل إصلاحات الغرب لها رصيدها من عندنا في عصر الترجمة، وكان المفكر الغربي العلمي متهمًا بأنه نصير للإسلام، ويضطهدونه ولكنه انتصر في النهاية على الكنيسة، وعلمانية الغرب في رأيي كانت تطويرًا للنزعة الفلسفية الكلامية عندنا؛ فحينما أدعو إلى العلمانية بمفهومها الغربي، فإنني أبتعد عن الناس، لكن حين أدعو للعلمانية باعتبارها جوهر الإسلام، وأن العقل والفكر شيءٌ واحد، وكما يقول ابن تيمية «موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول»، وأن الذي يشكِّك في العقل يشكِّك في النقل، والدين وسيلة والصلاح في الدنيا غاية، فإنني لا أبتعد عن سواء السبيل.
- سؤال: هل المقصود أن نتحاور في قضية أن الإسلام هو البديل الحضاري لهذه الأمة، أم أن المطروح هو مشكلة الحركات الإسلامية وما يعتريها من معاناة ومشاكل؟ ما تفضَّلتَ به حول ما جرى في الغرب، وهو حل مشكلات الغرب خارج إطار الدين؛ وبالتالي تطوَّرَت نظرية الإصلاح الاجتماعي، وأعقبه الغزو الغربي لأمتنا؛ ولذلك تسرَّب إلى أذهان مفكرينا أننا يجب أن نحذوَ حَذْو الغرب في العلمانية، كي نتخلص من مشاكلنا، وهذه النخبة من المفكرين لم تُتَح لهم فرصة التعرُّف على الإسلام. إذن التحدي الذي يواجه المفكر الإسلامي هو: كيف يُقدم الإسلام لهذه النخبة التي لم تطلع عليه بسبب ظروف هذه الأمة؟
-
جواب: أنا مع الأخ الدكتور، ربما ركزتُ أنا
على الجماهير، وأنت ركزتَ على القيادة،
وكلاهما مهم، لكنني ركزتُ على الجماهير
بسبب أن جيلنا عاش تجربة التغيرات
الاجتماعية المفروضة من القيادة، وكانت
الجماهير بمعزل عنها، وتركيزي على
الجماهير بحيث يكون هناك نوع من
الرقابة على القيادة، وعندما أقول
رغبات الجماهير، لا أعني الرغبات
الشخصية، بل المصالح العامة، مصالح
الأمة. ولا بد أن يكون هناك رقابةٌ
عامة على القيادة، حتى لا تُغيِّر
رأيها نظرًا للظروف؛ بحيث تشعر هذه
القيادة بأنها ملتزمة، وهذه هي قضية
الديمقراطية في جوهرها، أن تكون
القيادة معبِّرة عن مصالح الأمة؛ ومن
ثَم فكلاهما مهم، كذلك فإن أهمية
مراقبة الجماهير، ومراقبة أهل الحل
والعقد، أهمية الأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر وأهمية الحسبة، وأهمية الدين
النصيحة، وأهمية استقلال القضاء،
بالرغم من أن قاضي القضاة يعيِّنه
الحاكم، إلا أنه لا يحق له أن يعزله،
وأن قاضي القضاة يستطيع أن يعطي «فتوى»
يعزل فيها الحاكم، وهذا معروف بالنظم
القضائية والأحكام السلطانية. وكما
ركزتُ على الجماهير ودورها، فذلك خشية
أن تعطينا القيادة تفسيرًا للإسلام
وتقول هذا هو الإسلام الصحيح، ويكون
مضادًّا للمصالح العامة، والشواهد على
هذا كثيرة، وربما الاشتراك مع القيادة،
من أهل العقد والحل، يساعد على فهم
الإسلام من الناس فهمًا صحيحًا، حتى لا
تتدخَّل الأهواء والرغبات.
وهنا أقول إن مصالح المسلمين فوق الجميع، ولا أريد أن يكون الفقهاء بعيدين عن الواقع، كما حدث في بيزنطة، أيام كان يُحاصرها محمد الفاتح، وهم يتناقشون في العلاقة بين الله والابن والروح القدس؛ أي علينا أن ندافع عن مصالح الناس، ونحن لسنا علماء أصول دين، ولكننا علماء أصول فقه؛ أي يتصدى الفقهاء للمصالح العامة؛ وبالتالي أرصد ما هي القضايا الجوهرية التي على الإسلام أن يجابهها، حتى لا أُتهَم أنني فقط ذو لحية، وذو مسبحة، وأنني أدعو إلى الحجاب، وأنني أريد قطع يد السارق، ورجم الزاني … وإلخ من مجموع الدعاية المضلِّلة التي تُقال في الحكم الإسلامي، كلمات حق يُراد بها باطل.
وهناك سبع قضايا تمثل تحديات الأمة، وهي:
- أولًا: قضية تحرير الأرض، هذه القضية الهامة، حتى عند الفقهاء القدامى نالت الاهتمام الخاص؛ ففي الفقه الحنفي، لا تجوز الصلاة «في الدار المغصوبة»؛ لأن تحرير الدار سابق على الصلاة فيها … أي إن قضايا الجهاد وتحرير الأرض أمرٌ إلهي، وهو أصلٌ من أصول الإسلام؛ ولهذا فالإسلام يدعونا إلى تحرير الأرض.
- ثانيًا: قضايا العدالة الاجتماعية، الكنائس المسيحية في العالم الغربي توزع الخبز على فقراء المسلمين في تشاد، والهند، هناك قضيةٌ رئيسية في المجتمعات الإسلامية، وهي أن الثروة في أيدي البعض، غنًى فوق غنًى فوق غنًى، وفقرٌ فوق فقرٍ فوق فقر، وهذا لا يرضاه أحد، والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم قيل: يا رسول الله، أهي الزكاة؟ قال: في المال حق غير الزكاة. وهذه قضية لا أستطيع التخلي عنها، وإلا فتكون أفكارٌ كثيرةٌ قد سبقتني إلى العدالة، وأخسر أنا ديني، وجماهيري وأمتي، وأساعدهم على الذهاب إلى من يُغنِّي على هذه النغمة وأنا أولى بها.
-
ثالثًا: قضايا الحريات، الاجتهاد مفتوح
للجميع، والدين النصيحة، والأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر واجب،
وقول الحق في وجه إمام جائر شهادة
عند الله، كما نعلم؛ فأنا لا أخشى
أحدًا، ولا أنضم إلى حزب تحت
الأرض، وأن يكون للمسلمين منبرهم
يعبِّرون عن آرائهم؛ أي نعطي
الماركسيين «جريدة»، والقوميين
جريدة، ونحرم المسلمين حريتهم
ليقولوا كلمتهم في قضايا الأمة
وبصراحة، ما رأيهم في الزراعة،
والسياسة، والصناعة، والتجارة …
إلخ.
ابن حزم يقول الأرض لمن يزرعها؛ أي يفلحها، إلى أي حد هذا صحيح؟ وهناك اجتهاداتٌ رائعة «ليوسف القرضاوي» في الملكية وتوزيع الثروة وغيرها؛ فقضية توزيع الثروة في العالم العربي الإسلامي قضيةٌ هامة؛ فنحن أمة يُضرب بها المثل بأعلى درجات غناها، وأشنع درجات فقرها، وهذا لا يرضاه الله، ولا الرسول ولا الخلفاء.
- رابعًا: قضايا الوحدة والتجزئة: نحن أمة واحدة، إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ، وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ، وأنظر إلى هذا التشتُّت، وكأننا نُطبق شعار الاستعمار (فرِّق تسُد)، ولا يُعقل أن يكون هذا الانفصال وهذه الدماء في أمةٍ واحدة.
- خامسًا: قضايا الهوية والتغريب: ولا يعقل أن نكون في حياتنا، وسلوكنا، وتصوراتنا باستمرار الشخص «الآخر» الذي يعيش فينا، إذا أردتُ أن أفعل أقلِّد في بناء المطار، والمستشفى وطريقة التفكير، وكأنني أصبحتُ عاجزًا؛ ولهذا فإن قضايا الهوية، والتأكيد على الهوية قضيةٌ أساسية، حتى لا تحدث انفجارات، هل أنا ضد «الآخر» كما حدث في إيران؟! وقد تكون الحركة الإسلامية معذورة في التمسك بالعادات الإسلامية حتى بأشكالها، لمواجهة أنماط التغريب المفروضة. لقد درَّستُ في الولايات المتحدة أربع سنوات، وكنتُ أدرِّس تطوعًا خارج الجامعة للإخوة المسلمين في أمريكا من أصلٍ أفريقي، كنتُ أدرِّس لهم اللغة العربية، والقرآن الكريم، فنصحني إخوة لي سبقوني من انتقاد السبحة، واللحية، وذبح الكبش في الأعياد، ولبس الطربوش الأحمر، قالوا لي إياك أن تنتقد هذه المسائل؛ لأن هؤلاء المسلمين يواجهون عنصريةً بغيضة، ويقاومون «الآخر»؛ فالإسلام يعطيه هوية، وهذه الشعائر تعزِّز موقفه في مقاومة «الآخر».
- سادسًا: قضية التقدم والتخلف؛ أنا غير مستعد على الإطلاق أن يتهمني الآخرون بالرجعية لأنني مسلم؛ لأنني لستُ رجعيًّا؛ فاسمع ما يقول عمر، والله لو عثرت بقرة أو بغلة في العراق … إلخ، ولكننا الآن كشعوب بأكملها نعثر كل يوم في مخيماتنا وقُرانا، ومدننا؛ وبالتالي فإن قضايا التقدم والتخلف يجب أن نتبناها بصياغةٍ إسلامية.
- سابعًا: مشاركة الأمة، وتجنيد جماهيرها؛ فالمرء بمفرده لا يستطيع أن يفعل شيئًا؛ وبالتالي أنا بحاجة للجماهير، وتجنيدها، ووضعها، ضمن برنامج، وكما خاطب الأفغاني المسلمين: والله لو كنتم ذبابًا، أو جرادًا، وحطَطْتم على الجزيرة البريطانية، لأغرقتموها! لماذا لم يتحول هذا الكم إلى كيف؟ وكيف أُحوِّله؟
- سؤال: أنت تحدثتَ عن برنامج، لكن كيف يتم تنظيم هذه الجماهير تجاه قضيةٍ فكرية واحدة، وبشكلٍ منظم، وهذا هو التحدي الكبير الذي يواجهنا، والنقاط السبع التي أثرتها قضايا مطروحة كشعارات، لكن كيف أحقق هذه الشعارات؟ إن كل الذين طالبوا بهذا انتهَوا إلى هذه «الحَيْرة»، وانتهَوا إلى العنف مثل «التكفير والهجرة» وغيرها من حركات، لكن كيف أُطبق برنامجًا إسلاميًّا شاملًا؟ وما هو بديل التكفير والهجرة مثلًا؟!
- جواب: القضية المطروحة قضيةٌ هامة وخطيرة، وهي: ما هي وسائل تحقيق هذا البرنامج؟ وأريد أن أبدأ من الخاص قبل العام، وهو قضية التكفير والهجرة. هذه الجماعة أنا أعرفها، وفيهم من طلبتي، وأحاورهم دائمًا! لا نستطيع أن نتكلم عن جماعة التكفير والهجرة بدون استعمال منهج التحليل النفسي والاجتماعي. هؤلاء الناس، نشأ تفكيرهم في السجن، وهم في زنزاناتهم في أوائل السبعينيات، وكانوا يحاولون الإجابة على سؤال ما الذي حدث في حركة الإخوان المسلمين، وهل حدث خطأ في الصدام بينهم وبين الثورة؟ وكان كل ذلك يجري تحت أسواط التعذيب؛ وبالتالي فهناك ظرفٌ نفسي اجتماعي؛ أي نقاش عن انهيار أكبر حركةٍ إسلاميةٍ ربما شهدها الإسلام المعاصر، التي كانت وريثة لحسن البنا، ورشيد رضا. وانهار أمل الوصول إلى الحكم الإسلامي باصطدامهم مع الضباط الأحرار، ولنتصوَّر، وأنا أفكر تحت التعذيب، مخلوع الأظافر، محروق الظهر، وأنا بريء! حتمًا سأتطرف، واستُشهد عبد القادر عودة، وسيد قطب، أكبر كاتبٍ مقروء، ومهما أكتب أنا الآن، فإنهم سيقرءون سيد قطب ولا يقرءونني؛ لأنه يعبِّر عن ظرف القهر والكبت؛ ولهذا كانت جماعة التكفير من أنصار الرأي الواحد، والفكر الواحد، مع العلم أن الإسلام يجيز الخلاف؛ ولهذا مطلوبٌ من المسلمين بجميع فِرقهم أن يتحاوروا، وإعطاء نوعٍ جديد من التفكير، يقوم على احترام الرأي الآخر. وأنا ضد أي حركةٍ سرية؛ لأن الحق ليس سريًّا؛ لأن عيون السلطة أقوى من سرِّية أية حركة؛ وبالتالي فإن الحركة الإسلامية تصبح حركةً تآمرية، كذلك فإن الحركات العلنية المسلحة حركاتٌ خاطئة، ولا أرفع السلاح على أحد على الإطلاق، وما دامت الأمة تقول لا إله إلا الله لا يجوز محاربتها، والصحيح أن ما ضاع شيئًا فشيئًا، لا بد أن يعود شيئًا فشيئًا. والحاكم حين يشعر أن كلمة الحق قوية لا بد أن يقبل بها، وإذا لم يُعطنا الحاكم القدوة نعطيه نحن القدوة، وهذه معركةٌ طويلة، وليست سهلة، ونريد أن ننزع عن الإسلام الفكرة التي أُلصقَت به، وهو خروج وتكفير، وحرب، وقنابل، ومتفجرات، وأنا أدعو من أصحابي إلى الدعوة الإسلامية الشاملة، والتآلف بين القلوب.
- سؤال: قلتَ إن سبب خروج جماعة التكفير والهجرة هو مناخ التعذيب، والتعذيب ليس هواية من هوايات الحاكم الذي عذَّبهم، ولكن وسيلة من وسائل كبتهم، إذن هناك سبب قبل التعذيب، وهو التناقض، التناقض بين نخبة رافضة للإسلام، ومحكومة بفهمٍ قاصر للإسلام، ومحكومة باعتباراتٍ كثيرة، يقابلها حركةٌ إسلامية، مفادها أن هذا الحكم غير إسلامي ويجب محاربته؛ وبالتالي يقع الصدام، وهنا الإشكال؛ لأن التناقض مركزي. كيف يمكن حل هذا التناقض؟
- جواب: أساس هذا التناقض، كما ذكرتُ، الظروف النفسية، التي ظهرَت فيها هذه الجماعة، هذه الجماعة التي تتلمذَت على المرحوم سيد قطب، وخاصةً كتاب معالم في الطريق، الذي حدَّد فيه استحالة اللقاء بين الحق والباطل، وكتاب معالم في الطريق وُضِع في السجن، وماذا يقول معالم في الطريق؟ يقول العالم إيمان وكفر، أبيض وأسود، وإنه لا توجد مصالحة بين الطاغوت والحرية، ولا بد من القلب الشامل للأوضاع على يد الجيل القرآني، وأعتقد أن هذا الفكر سيظل مُؤثِّرًا في ضمير الجماعات الإسلامية ما ظلت مضطهدة. وقد تكون دعوتي لحرية التعبير واحدةً من الأسباب التي تخفِّف من هذا الاتجاه الذي تبنَّاه الشهيد سيد قطب في ظروفٍ خاصة، ولا نستطيع أن نقول الآن باستحالة اللقاء بين الطاغوت والحرية؛ لأن هناك درجات، مثلًا، كل من يريد أن يساعد على الحرية فأنا معه، كل من يريد إيقاف نهب الثروات أنا معه، كل من يدعو إلى وحدة الأمة فأنا معه؛ وبالتالي، فالإصلاح ليس هو المهادنة، ولكن الإصلاح في أنَّ ما هو قائم يمكن إصلاحه، ولا يكفر لأننا أُرسلنا هُداةً أولًا، هناك وعيٌ تاريخي ضروري للحركة الإسلامية، لو قفزتُ على المستقبل أكون كالماركسي الذي يريد أن يبني مجتمعًا طوباويًّا؛ أي الإحساس بالحاضر، وأن التاريخ له مراحل، وأن كل محاولة للاقتراب من الهدف هي محاولةٌ إسلامية؛ إذ كيف أستطيع أن أهدم السلم الذي عليه سأصعد؟! وهذه المرحلية، هذه الإصلاحية، هي التي اعتمدها حسن البنا في الأربعينيات، حتى يأتي الإسلام محمولًا على الأعناق، ولا نريد للإسلام أن يأتي حكمًا انقلابيًّا، أريد أن يأتي محمولًا على الأعناق ويُطالب به الناس.
- سؤال: يبدو أننا نبالغ في حركة التكفير والهجرة، ويبدو أننا وقعنا في فخ أعداء الإسلام، الذين نفخوا في أهداف التكفير والهجرة، بقصد الإساءة للإسلام، وكأن الإسلام هو هكذا دموي، وقمعي، والمطلوب الآن من المفكرين المسلمين وضع هذه القضية في إطارها الصحيح، وأن نطرح الإسلام الصحيح، كي يُفهم على حقيقته. كيف نستطيع أن ننقل قناعاتنا العقلية الإسلامية لأجيال شبابنا، وللأمم الأخرى؛ أي عملية النصح الضاغط، وتلوين المجتمع باللون الإسلامي؟
- جواب: تأكيدًا للحديث، تصوَّروا أنه في محاكمة «شكري مصطفى ورفاقه»، قال أريد أن أطلب شيئًا واحدًا، ثم اقتلوني بعده، وهو «انشروا كتاب الخلافة قبل أن أموت»! ورُفض له هذا المطلب، وأنا قرأتُ هذا الكتاب مخطوطًا، وأعطته لي «المباحث العامة» لمدة ساعة وكأنه «حشيش»، ولو أنه نُشر لكان كتابًا عاديًّا، لكن هذه صورة من صور القمع. شكري مصطفى طالَب أن يأتي رجال الأزهر ليناقشهم فيما يقول، رُفض طلبه أيضًا! تصوَّروا أن القاضي الذي حاكم شكري مصطفى تنازل عن القضاء بعد المحاكمة، ورفض القضاء، والآن تصوَّف واتجه للإسلام. المحامون الذين ترافعوا في قضية جماعة الجهاد بدءوا اعتناق الفكرة الإسلامية، من صِدْق هؤلاء الشباب وراء القضبان؛ ولهذا فإن حرية التعبير قضيةٌ أساسيةٌ في التخفيف من ردة فعل الشباب الذي ذهب باتجاه التطرف، وإذا كنا نسمح للمراكز الثقافية في بلادنا، شرقية وغربية، فلماذا لا نسمح بمراكز ثقافية إسلامية؟! والإسلام روح الأمة، وتراثها وتاريخها، وهو الشرع. والمطلوب، إيجاد تنظيمٍ عام يلتقي فيه المسلمون على شعار العروة الوثقى، والله وليُّ التوفيق.
(د) المرأة العربية محرومة من حقوقها كمسلمة٥
-
تعدد الزوجات يتطلب العدل في العواطف وهذا مستحيل.
-
القضية ليست حقوقًا فالرجل بلا حقوق أيضًا.
تشغل قضايا المرأة تفكير الكثيرين؛ فنسمع أصواتًا ترتفع تارة تؤيد، وأخرى تعارض، وكل له حججه وبراهينه. وإذا كانت المرأة الأوروبية قد وُجدَت في ظروف تفرض عليها أن تصارع لتنال بعض حقوقها المسلوبة، فإن المرأة العربية المسلمة أمامها سياجٌ يحميها من ذلك؛ فالقرآن الكريم يعطيها كثيرًا من الحقوق، ولو حرصنا على تطبيقها لأصبحَت المرأة المسلمة على غير ما هي عليه الآن. لقد كرَّمها الإسلام خارج وداخل بيتها، وحفظ لها حقوقها وكرامتها، بل وعمل على رفع شخصيتها المعنوية من خلال الخطاب القرآني نفسه، والمرأة المسلمة التي تخاف الله في دينها ودنياها تُعتبر قدوةً للمرأة في العالم وإذا كان هناك بعض الحدود التي وضعها الإسلام، فلا شك أن الهدف منها هو حمايتها وحماية أسرتها وأطفالها.
قلت: ما هي حقوق المرأة العربية المسلمة ومدى ما تحقق منها في رأيك؟
قال: في حقيقة الأمر ليس هناك شيء اسمه قضية حقوق المرأة العربية، إنها قضيةٌ مغلوطة ومستوردة من أوروبا؛ ففي الغرب تشغل هذه القضية المرأة لوضعها غير الكريم خلافًا للمرأة العربية المسلمة؛ ففي أوروبا وإلى وقت قريب كانت المرأة لا تتمتع بحق الانتخاب، وفي أمريكا إذا قامت المرأة بنفس عمل الرجل فإنها تتقاضى أجرًا أقل. وليس هناك حتى الآن قانون يساوي المرأة بالرجل؛ ولذلك نشأَت قضية المطالبة بالمساواة والحريات التي يتصورون أنها حرية الإجهاض والشذوذ الجنسي.
-
قلت: هل يعني ذلك أن الإسلام لم يُعطِ
المرأة حقوقًا؟
فقال الدكتور حسن حنفي معترضًا: لا ليس هذا، لكن المشكلة الحقيقية تكمن في واقع المرأة في حياتنا، ووضعها في مجتمعاتنا، وهذه مشكلةٌ اجتماعيةٌ صِرْفة، وقد لا يختلف فيها الرجل عن المرأة؛ فإذا أخذنا قضية الحقوق على سبيل المثال فسنجد أن الرجل عندنا ليس له حقوق. إذن القضية الرئيسية هي حقوق المواطن سواء أكان الرجل أو المرأة، وإذا تحدثنا عن العمل فسنجد البطالة موجودة بين الرجال والنساء، وفي التعليم، نجد أن الصبي الصغير في الريف لا يتعلم مثل الصبية الصغيرة، وبالنسبة لحق الانتخاب فالرجل لا ينتخب مثل المرأة، أما بالنسبة للحرية والتعبير عن الرأي، فلا الرجل يتمتع بذلك ولا المرأة. إذن هناك قضيةٌ عامة هي الحريات، التي لا فرق فيها بين المرأة والرجل، كما أكدتها الشريعة الإسلامية؛ فالخطاب في القرآن الكريم موجه دائمًا كالتالي: يا أيها الناس، يا أيها الذين آمنوا، يا أيها المؤمنون والمؤمنات، وغير ذلك. باستمرار إذن هناك تركيز على الاثنين، ولا فرق في الخطاب القرآني بين المرأة والرجل من حيث الحقوق. نستطيع إذن أن نعرف الميزات الضخمة التي حققها الإسلام للمرأة إذا قارنَّا حالها قبل الإسلام بحالها بعده؛ فالشريعة الإسلامية تعطي المرأة شخصيتها المعنوية باعتبارها كائنًا حيًّا، ووجودها ليس عيبًا ولا سببًا لسواد الوجوه، فيكون الخطاب البالغ والقول العظيم وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (٨) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ. والمرأة العربية المسلمة تبقى محتفظة بشخصيتها وهويتها بعد الزواج؛ فلا تُنادى باسم زوجها كالأوروبيات، كما أنها تتمتع بحق البيع والشراء.
أما عن تعدد الزوجات، فقد كان الزواج قبل الإسلام مشاعًا وبلا حدود، ولكن الإسلام حرَّم معظم الحالات، ولم يتبقَّ إلا الزواج في نطاق الإسلام، وقد أباح الإسلام تعدُّد الزوجات في حالاتٍ ضروريةٍ استثنائيةٍ صِرفة، وضمَّنها الفقهاء على أن يستأذن الرجل زوجته. وقد كان لهذا ما يُبرِّره؛ فالظروف تتطلب مثل هذا التشريع، نظرًا لاستشهاد عددٍ كبير من المسلمين في الجهاد، وبقاء أعدادٍ كبيرة من النسوة بدون أزواج، ودرءًا للأخطار كان يسمح بالزواج بأكثر من واحدة منهن، والإسلام دينٌ واقعي جدًّا؛ ففي حالة عدم وجود أفضل الحلول يأخذ أقل الحلول شرًّا، كما أعطى الإسلام المرأة حق التعليم والعمل إذا أرادت، وحق الجهاد كذلك، وكل ما يتعلق بحقوقها المالية والتجارية، ولها أيضًا الحقُّ في رؤية من يريدها للزواج قبل إتمامه، وحقُّ رفضه إذا رأت أنه لا يناسبها، ولها الحقُّ أن تكون العصمة بيدها لو أرادت، كما أن لها الحق في الصداق ومقدَّم المهر. وفي الحقيقة لو عرفنا وفهمنا جيدًا الحقوق التي منحها الإسلام للمرأة، لقلنا يا ليتنا نصل إلى هذه الحقوق، ولكن ربما كانت هناك بعض الحدود التي تشوَّه وتروَّج، لكن لها أسبابها، مثل عدم السماح للمرأة بالصوم والصلاة في حالة الحيض، وأعتقد أن هذه عملية نظافة صِرْفة، ولا دخل للمفاضلة فيها، وليس لنقص في المرأة أو لأنها دون الرجل، وأيضًا عدم السماح لها بالحج إلا مع محرم، وهذه أيضًا ليست لقصور فيها، ولكن لحرص الإسلام على حمايتها من المضايقات التي قد تتعرض لها في زحام الحجيج. أما عن عدم جواز قبول شهادة امرأة واحدة، فهذا أيضًا ليس تمييزًا أو تفضيلًا أو لنقص في المرأة، ولكن للتذكير فقط، والرجل أيضًا قد تغلب عليه العواطف كما هي عند المرأة، والحقيقة أنه ليس هناك دين، ولا شريعة، أعطى للمرأة ما أعطاه لها الإسلام.
- وسألتُه: ماذا عن واقع المرأة العربية ومظاهر الغبن الواقعة عليها؟
-
فأجاب: إذا كان واقع المرأة مريرًا
فكذلك واقع الرجل؛ فكلاهما يعاني
من هذا الواقع الذي نعيش فيه، وإذا
كان هناك مظاهر غبن على المرأة
فإنها ناشئة عن الوضع الاجتماعي،
وليس من الدين الإسلامي؛ ففي مجال
التعليم مثلًا يظل سائدًا في نطاق
الأسرة أن المرأة ليست مطالبة
بالتعليم مثل الرجل؛ فتعليمها
قضيةٌ ثانوية لا تلقى التشجيع أو
الاهتمام، لكن هذا جهل؛ فالمرأة
تشكل نصف المجتمع، وعليها أن تدافع
عن حقها الطبيعي في التعليم. وفي
السياسة، يُنظر للمرأة التي تشارك
في الحياة السياسية على أنها شذوذ
عن القاعدة، لماذا؟ أليست شريكة
الرجل في كثيرٍ من الأشياء، فلماذا
تُحرم من حق المشاركة في الحياة
العامة؟ أما بالنسبة للمناصب
العليا، فإنه على المستويات
الرسمية لا يُسمح للمرأة بالوصول
إلى المراكز القيادية العليا، فقط
عليها أن تُوقف عند سقفٍ معيَّن
ولا تتعدَّاه. أليست هي «شجرة
الدر» و«زنوبيا» قبل أن تكون
«أنديرا غاندي» و«تاتشر» و«جولدا
مائير»؟ بل إنه غير مسموح للمرأة
بالخروج إلى الحياة العامة؛ فالظن
أن المرأة أقل نشاطًا؛ ولذلك يجب
أن تكون مساهماتها في الحياة
العامة محدودة جدًّا، بل وأحيانًا
لا يُسمح لها بأي دور حتى ولو كان
مجرد الخروج، وإذا تحقق ذلك يكون
بين كمٍّ هائل من القيود. وبخصوص
مهمة التربية وتحمُّل أعباء
المنزل، فهي تقوم بأخطر دور. ولقد
أثبتَت المرأة العربية أنها أفضل
بكثيرٍ من المرأة الأوروبية، إنها
مستعدة للتضحية في سبيل أبنائها،
بينما الأخرى ليست مستعدة للتضحية
حتى بعطلة نهاية الأسبوع، مهما كان
السبب، والمرأة العربية لا تتحمل
عبء التربية فقط، بل عبء القيام
بالأعمال المنزلية، رغم وجود
المساعدين والخدم في عدد لا بأس به
من المنازل، مما يجعلها تئن
وتتألم.
وإذا ما حدث خروجٌ على القواعد في الصلة بين الرجل والمرأة، فإن المرأة عادةً هي التي تُوجَّه لها أصابع الاتهام، وتظهر كما لو كانت هي المجرمة، بينما الرجل يعتقد بأنه حر، ولا صلة له بما يحدث، وحتى ينسى أنه طرف في ذلك!
وعن وضع الأرامل والمطلَّقات قال أستاذ الفلسفة بجامعة القاهرة: في الحقيقة هذه الفئة من الناس تكاد أن يُقضى عليها في مجتمعاتنا العربية، وذلك من النظرة الاجتماعية المتخلفة والظالمة التي تقترن بهن، حتى إنهن يشعرن بأن وجودهن غير مرغوب فيه، بل يعشن بين كمٍّ هائل من اللاءات وكأن هذا كُتب عليهن؛ فهن في مجتمع تقليدي نظرته ظالمة جدًّا؛ فكيف يمكن لهن العودة للحياة من جديد؟ وإن المجتمع يعاملهن وكأنهن أصبحن شرًّا أو فسادًا حتى يموت الشباب، ويمُر العمر، وتذبل الوردة.
إن من بين مظاهر الغبن الواقعة على المرأة العربية أن نقاط القوة فيها لم تظهر بما فيه الكفاية في مجلاتنا النسائية العربية؛ فقد خضعنا لتقاليد المجلات النسائية الأوروبية؛ فالمرأة العربية ليست فقط هي المرأة بنت الطبقة العليا التي تريد آخر صيحات الموضة والذهب والعطر، لكنها المرأة التي في الطريق، وبين الطبقات الشعبية، والتي هي الغالبية العظمى من النساء، وفي هذه الحالة يجب أن تتميز المجلات النسائية العربية، وتكون تعبيرًا صادقًا عن وضع المرأة العربية بمميزاتها وأفضالها وأوضاعها الاجتماعية السلبية، عندئذٍ نستطيع أن نقول بأن المجلات النسائية العربية استطاعت أن تتجاوز مرحلة التقليد، وتفرض خصوصيتها في الإعلام.
- سألت: ما هو رأيك في إلغاء قانون الأحوال الشخصية في مصر؟
-
فأجاب: إن إلغاء هذا القانون لا يعني
عدم الإيمان بالمواد التي احتواها؛
فهي مطابقة تمامًا لحكم الإسلام،
ومضمونها لا يختلف عن مقاصده؛ لأن
الرجل الآن يسيء استعمال الطلاق؛
ففي تونس مثلًا لا يجوز طلاق الرجل
للمرأة بمجرد كلمة قالها وهو غاضب،
وإسلاميًّا هذا لا يجوز؛ فالرجل
عليه أن يذهب للقاضي ويتحدث إليه
ليتعرف منه على الأسباب الحقيقية
لهذا القرار، ويحاول إصلاح البين،
وإذا فشل في ذلك فإن القاضي يُصر
على سماع كلمة منه، وإذا ما أساء
الرجل استعمال أي حق فإنه من
الممكن أن يُنتزع منه دون إصدار
قوانين، لكن ما أُخذ على قانون
الأحوال الشخصية في مصر هو الأشخاص
الذين كانوا وراء إصداره، وصدوره
في ظرفٍ معيَّن؛ ولذلك فإن وجوده
كان مقترنًا بوجود الظرف الذي صدر
فيه. إن القانون لم يمُر على
المجالس الدستورية؛ فلم يرتبط
بالناس، ولم يكتسب صفة الشرعية،
فيجب أن يُوضع القانون بعد نقاشٍ
بين العلماء، وحوارٍ مع ذوي
الاختصاص، ودراسةٍ متعمِّقة لواقع
المرأة؛ أحوالها، ومشاكلها، وما
تتعرض له في ظل الظروف القاسية
التي نعيشها الآن.
أما بالنسبة لتعدُّد الزوجات، فأعتقد أن الإسلام دينٌ واقعي يعرف أن الغريزة الجنسية رئيسيةٌ عند الرجل؛ ومن ثَم فإنه قد لا يوجد دين أعطى إشباعًا للرجل قدْر ما أعطى الإسلام من خلال «الزواج المبكر، تعدُّد الزوجات» بعد أن ألغى مظاهر إرضاء الغريزة القديمة، وقضى عليها، فلم يعُد هناك إماء ولا جوارٍ ولا زواج المتعة؛ هذا كنظامٍ صوري واقع، لكن الظروف والأحوال تغيَّرت، ونظرًا لذلك أبقى الإسلام على التعدد كمَخرجٍ في كثيرٍ من الأحوال شريطة العدل. وإني أرى أننا في الوقت الحاضر، وفي ظل الظروف الاقتصادية الصعبة، لا يمكننا تحقيق العدل المطلوب، وذلك بإعداد بيتٍ مستقلٍّ لكل زوجة وحتى الأثرياء، فإن هناك شيئًا لا يمكن أن يعدلوا فيه، وهو أن عواطف الإنسان لا يمكن توزيعها بالعدل؛ ولذلك فإن هذا الزواج الثاني يكون غير شرعي.
(ﻫ) الفراغ السياسي والثقافي للشباب٦
الظاهرة موجودة في صورة غير سوية منها السفر إلى الخارج، أو الانضمام إلى جماعات دينية أو روابط فكرية بالداخل، لسد هذا الفراغ، والانغماس في متاعب الحياة اليومية، ولعلها تظهر عندما ينعزل الشباب عن الحركة الوطنية، الذي سبَّب بدوره غياب الولاء لقضية كبرى يعبِّر الشباب عن ولائه بالنسبة لها، مثل: الاشتراكية، الرأسمالية، الصلح مع إسرائيل؛ كل هذه القضايا يجب أن يشارك فيها الشباب، ولا تكون حكرًا على القيادة السياسية حتى يمكن أن يملأ الشباب فراغه، وذلك يتأتى بإطلاق الحوار والسماح بالخلاف في الرأي، واختلاف الرأي رحمة! فالجميع أبناء وطنٍ واحد يتشرف الجميع بالانتماء إليه.
هذا بالإضافة إلى وجود أيديولوجيةٍ فكرية، وهي «إسلامية مستنيرة»؛ فالإسلام روح الأمة وتراثها وتاريخها وحاضرها، ومستقبلها. وقد جرَّبنا أيديولوجيات التحديث المعاصرة مثل «العلمانية، الماركسية» فلم تنجح. أما الاستنارة فتعني تفسير الإسلام وعرضه طبقًا لمشاكل العصر الأساسية.
ويجب أن تتحول مناهج التعليم من تلقين وإملاء إلى تفكير وبحث، لتنمية جوانب الخلق والإبداع لدى الشباب، وهذا يتحقق باستقلال الجامعات، ويتحمل أيضًا الإعلام مسئولية التعبير عن وجهات نظر الشباب، وفتح المجال لهم للمشاركة بالرأي، وعرض الآراء كافة دون سيادة رأيٍ واحد!
(و) الشورى عقيدة وممارسة٧
-
لا يجوز أن يكون في المجتمع طبقة مترفة وطبقات محرومة تعيش في أكواخ الصفيح.
إن الحديث عن الإسلام، كنوعٍ من إرضاء الذات والشعور بالغبطة والسرور، لَنوعٌ من التخدير النفسي عما يحيط بنا من مآسٍ اجتماعية، تتجلى في مظاهر الفقر والتسلط من ناحية، والظلم الاجتماعي من ناحية أخرى. كما أن الهروب إليه، كنوع من تغطية النقص النظري لدينا في أزمة الحريات وقضايا الديمقراطية، لن يساعدنا في حلها أو معالجتها.
والحديث عن «الشورى» هو تناول لجزء من نظرية أعم هي «نظرية الحكم» في الإسلام؛ فلا يمكن إذن فصل الجزء عن الكل، وأن نأخذ ما يرضينا، وما نضمن به السلامة وعدم الدخول في صراع سياسي مبكر غير محمودة عواقبه.
فالإسلام كلٌّ واحد، يؤخذ كله أو يُترك كله. وحتى في حالة الحديث عنه ككل، فإن هذا الحديث لا يكون نوعًا من الإعجاب بهذه المُثل العليا، والبناء الإنساني، بقدْر ما يكون قياسًا على الواقع، ومعرفة إلى أي حد يبعُد واقعنا عن هذا المثل الأعلى. وكل من يستعمل الإسلام كموطن إعجاب، فإنه يستعمل سلاحًا ذا حدَّين، قد يتوجه ضد الآخرين، من مجرد قول ونظر إلى عمل وممارسة.
«الشورى» إذن هي الجانب السياسي من نظرية الإسلام في الحكم، التي تشمل جوانب سياسية أخرى، بالإضافة إلى الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والقانونية، وهي كلها جوانبُ تكاملية تُكوِّن نظريةً واحدة؛ فالشورى في الإسلام بالرغم من أهميتها ذُكرت كلفظ ثلاث مرات؛ الأولى بمعنى التشاور بين الزوجين للإصلاح فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا. وهو ليس المعنى السياسي المقصود. والثاني فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ. والثالث وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ.
والمعنيان الثاني والثالث هما المقصودان، ولكن «الشورى» كنظامٍ إنما أتى ضد أي نظامٍ سياسي يقوم على التأليه (نظام فرعون مثلًا) الذي قال أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى. فالله وحده هو المالك وَلِلهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وهو الوارث وَلِلهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وهو الحاكم فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ؛ ومن ثَم يرفض الإسلام أي نظرية يحكم فيها البشر؛ فالحاكمية لله وحده.
ومع النظرية السياسية هناك النظرية الاقتصادية؛ فلا سياسة بلا اقتصاد، ولا اقتصاد بلا سياسة؛ فالمال مال الله، والإنسان مستخلَف فيما بين يدَيه، تركه الله وديعة عنده، له حق التصرف، وحق الانتفاع وحق الاستثمار، وليس له حق الاكتناز أو الاستغلال أو الاحتكار، فإذا حدث ذلك يكون للإسلام الحق في التدخل بالمصادرة (أموال السفهاء) والتأميم، وملكية وسائل الإنتاج التي تعم بها البلوى لا يجوز أن تكون فردية، الماء والكلأ (الزراعة)، والنار (الصناعة)، والملح (التعدين، وكل ما في باطن الأرض بما في ذلك النفط). العمل وحده مصدر القيمة، بدليل تحريم الربا؛ فالمال لا يولِّد المال، بل الجهد والعرق والإنتاج هو الذي يولِّد المال.
ولا يجوز أن يكون المال حكرًا على طبقة الأغنياء كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ، الأرض لمن يفلحها والإنتاج للمنتج، فلا يجوز أخذ جزء من نتاج العامل باعتباره فائض قيمة لصاحب رأس المال. ولا يجوز التلاعب بالأسواق أو في الأسعار أو المضاربة في التجارة، إلى آخر ما يُعرف في الفقه الإسلامي في «أحكام السوق».
والنظرية الاجتماعية مرتبطة بالنظرية الاقتصادية وبالنظرية السياسية؛ فالمجتمع الواحد الذي فيه إنسانٌ واحد جائع تبرأ ذمة الله منه، ولا يجوز أن يكون في المجتمع الإسلامي طبقةٌ مترفة تبني القصور المزخرفة بالنقش العربي، وطبقةٌ محرومة تعيش في أكواخ الصفيح على أطراف المدينة، أو تتسول في الطرقات في وسط المدينة، بل لا بد من رد فضول أموال الأغنياء إلى الفقراء. والفضول هو ما زاد على القوت والمسكن والمشرب والملبس؛ ففي القرآن وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ وفي المال حق غير الزكاة. كما أن المعاملات في المجتمع لا تقوم على الغش؛ فمن غشَّنا فليس منا، أو الرشوة؛ فقد لعن الله المرتشين، بل يقوم الإسلام على قضاء حاجات الناس.
الجوانب الاقتصادية والاجتماعية إذن مُكمِّلة للجوانب السياسية، فإذا كانت الشورى قد ذُكرت مرتَين فالحكم ٩١ مرة، والمال ٨٦ مرة، والفقراء ١٢ مرة. والشورى بوجهٍ خاص في الإسلام، وكما يعرفها الفقهاء «عقد وبيعة واختيار».
فالإمام ليس ظلَّ الله على الأرض، أو خليفةً لله، أو حاكمًا باسمه، بل إنه يحكم باسم المسلمين، ويستمد سلطته منهم. وهو سلطةٌ تنفيذية خالصة، وليس سلطةً تشريعية أو قضائية؛ فالتشريع من القرآن والقضاء منه، ويقوم بالبيعة أهل الحل والعقد، وهم أهل الاختصاص العالمون بالشرع (القرآن والسنة) وبمصالح المسلمين؛ فالإمامة قضيةٌ مصلحية ترتبط بقضاء الحاجات. ليس أهل الحل والعقد رجال الدين والمشايخ «فقهاء السلطان» الذين يُبرِّرون له قراراته، ويُزيِّنون له أفعاله، بل الذين يراعون وجه الله، ويدافعون عن مصالح المسلمين.
وهناك رقابة على الشورى من السلطتَين التنفيذية والتشريعية. فوظيفة الحكومة الإسلامية هي «الحسبة»؛ أي الرقابة على الدولة، وعلى مصالح الناس وتطبيق الشريعة. وظيفة القضاء تحكيم الشرع، وبالرغم من أن قاضي القضاة معيَّن من الإمام إلا أن الإمام لا يستطيع عزله، بل إن قاضي القضاة بإمكانه عزل الإمام إذا تهاون في تطبيق الشرع، أو صالح الأعداء، أو ساومهم واستسلم لهم. إمام المسلمين هو فرد بينهم، قدوة لهم، آخر من يأكل، وآخر من يشرب، وآخر من يلبَس، وآخر من يسكُن.
طاعة الحاكم مشروطةٌ بطاعته لله. لقد استقر في وجداننا القومي أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ أي تراث السلطة، أكثر مما استقر، لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن أعظمَ شهادةٍ قول حق في وجه إمامٍ جائر، والساكت عن الحق شيطانٌ أخرس، وهو تراث المعارضة. وفي خطبة أبي بكر نبراسٌ للحكم: «أيها الناس إني وليتُ عليكم، ولست بخيركم، فإن أحسنتُ فأعينوني، وإن أسأتُ فقوِّموني، أطيعوني ما أطعتُ الله فيكم، فإن عصيتُ فلا طاعة لي عليكم.»
(ز) كبوة الإصلاح٨
-
مهمتي هي إقالة الكبوة ووضع أسسٍ لنهضةٍ ثابتة ودائمة ومستمرة.
-
يا ليت للمفكِّرين قدرات الأنبياء في التأصيل النظري والممارسة العملية. ومع ذلك فالعلماء ورثة الأنبياء.
-
أتيتُ إلى المغرب طائعًا وأتركه مكرهًا.
-
سيظل عقلي باستمرار مرتبطًا بالطالب المغربي، وقلبي مع المثقَّف المغربي، وروحي بالمغرب.
(أ) الموقف من التراث القديم.
(ب) الموقف من التراث الغربي.
(ﺟ) الموقف من الواقع.
فالموقف الأول هو الذي يجعلني أبدو مفكرًا إسلاميًّا مجددًا، والثاني يجعلني مفكرًا غربيًّا، والثالث يجعلني مفكرًا اجتماعيًّا سياسيًّا. والحقيقة أنه موقفٌ واحد ابتداءً من الواقع ومن قضايا العصر، والتراث أحد مكوِّناته سواء كان القديم منه في أعماق الجماهير، أو الغربي منه في أذهان النخبة، أنا مفكِّرٌ واحد أعمل في جبهاتٍ ثلاثة مفتوحة عليَّ، وهي مهمةُ عدَّة أجيالٍ منذ فجر النهضة العربية الإسلامية الحديثة، ولم تَنتَهِ بعدُ.
ولكن الذي يحزُّ في النفس هو أكثر من هذا، ما أسمِّيه «كبوة الإصلاح»؛ فقد تعاقب على كل تيارٍ أربعة أجيال: جيل الرواد، وجيل التلاميذ، ثم تلاميذ التلاميذ، ونحن الجيل الرابع وبداية الجيل الخامس. لقد بدأ الرواد بتحديد مشروعهم القومي طبقًا لظروف عصرهم، ومستوى ثقافتهم، ودرجة وعيهم بقضايا العصر، ولكن ما إن يأتي الجيل الثاني حتى يخبو المشروع، ولا يحدث فيه تراكمٌ تاريخي، ورصيد خبرات تجعله يتطور طبقًا للظروف الجديدة وزيادة الوعي وعمق الثقافة. ثم يأتي الجيل الثالث فيخبو المشروع أكثر فأكثر، ويبهت ويتجاوزه الواقع، ويصبح مجرد تاريخ، فإذا ما أتى الجيل الرابع فإنه إما أن يتلاشى، أو يتحول إلى مشروعٍ مضاد، فينقلب على عقبَيه. أعني بكبوة الإصلاح أو النهضة هو عدم حدوث تراكُمٍ تاريخي كافٍ يجعل النهضة تتغير كيفًا ونوعًا، عمقًا واتساعًا؛ وإن الصاروخ الذي يطلقه الرواد سرعان ما يهبط من جديد لدى الجيل الرابع، قبل أن يخترق حُجب الفضاء. مداه قصير، ثم تبدأ من جديد تقريبًا عند كل جيل، من الصفر، وتصبح نهضاتنا وكبواتنا حلقاتٍ متصلة متداخلة ومتطابقة في المركز والمحيط، كلٌّ منها يعود على بدء. مهمتي هي إقالة الكبوة، ووضع أسس لنهضةٍ ثابتة ودائمة ومستمرة، لا تتحول بعد عدة أجيال إلى ثورةٍ مضادة. مهمَّتي ضبط الموقف الحضاري الذي منه نشأَت هذه التيارات الثلاثة.
(١) إعادةُ بناء التراث القديم دون الوقوف منه موقف الدفاع، كما هو الحال في التيار الإصلاحي، أو موقف الهجوم كما هو الحال في التيار العلمي العلماني، أو موقف الانتقاء كما هو الحال في التيار الليبرالي الوطني. الموقف النقدي من التراث هو الذي يُعيد تأسيس الإصلاح، عقلانية في التوحيد والعدل، في العقليات والسمعيات.
(٢) تحجيمُ الغرب، وردُّه إلى حدوده الطبيعية حتى تنتهي المركزية الأوروبية، وينتهي نقل المعرفة من الأستاذ إلى التلميذ؛ وبالتالي تبدأ الشعوب الأوروبية إبداعاتها الذاتية، ويُعاد كتابة تاريخ الحضارة الإنسانية، ومساهمة كل حضارة فيها بنوعٍ من العدل والمساواة، فينتهي مركَّب العظمة عند الآخر، ومركَّب النقص عند الأنا، وكأنها دوراتٌ تاريخية متعاقبة بين الأستاذ والتلميذ على مستوى الحضارات. ومن يدري فلربما كنا قادرين على أن نكون خالقين كما كنا في الماضي؛ ونبدأ دورةً ثانية لحضارتنا نقوم فيها بدور الأستاذ والآخر بدور التلميذ، تُشاركنا في ذلك الشعوب التاريخية أو شعوب الشرق، من الصين والهند، ويبدأ تاريخ الشرق من جديد.
لكن الأمر مختلفٌ عندنا في المجتمعات الإسلامية ولدى شعوب أمريكا اللاتينية؛ ففي أمريكا اللاتينية ظهر «لاهوت الثورة» أو «لاهوت التحرر» على يد الرهبان الشبان، مثل توريز، جواتيريز، كامارا وغيرهم، من أجل حل التناقض، وملء الفراغ، بين دور الكنيسة المحافظ والمتعاون مع الإقطاع والرأسمالية الأمريكية، وبين الماركسية المعارضة التي لا تعتنقها إلا النخبة. يقوم اللاهوت الثوري إذن بإعطاء الجماهير الكاثوليكية أيديولوجيةً ثورية مستحدَثة من ثقافتها الوطنية، وهي المسيحية، وفي نفس الوقت يتم تأويلها طبقًا لقضايا الإقطاع والقهر العسكري والسياسي والإقطاع الزراعي والرأسمالية الصناعية، ولا يقول اللاهوت الثوري كله بالعنف والكفاح المسلح؛ فإن كان توريز ينادي بذلك، وقام به بالفعل، فإن كامارا يدعو إلى ذلك بالسلم والدعوة بالكلمة. والعنف في حقيقة الأمر هو عنفٌ مضاد؛ أي أنه ردٌّ على العنف القهري بالعنف الثوري.
أما بالنسبة لنا فقد نشأ الانبعاث الإسلامي كقانونٍ تاريخي؛ فنحن الآن في دورتنا الثانية، بعد أن اكتملَت الدورة الأولى في القرون السبعة الأولى، التي أرَّخ لها ابن خلدون. ثم تلتها قرونٌ سبعة تابعة لتدوين نتاج الدورة الأولى في عصر الشروح والملخَّصات والموسوعات الكبيرة. ومنذ قرنَين تقريبًا نحاول أن نبدأ دورةً ثانية للحضارة الإسلامية، ولكن لما كبا الإصلاح من الأفغاني إلى محمد عبده إلى رشيد رضا إلى حسن البنا، وفي كل مرة يفقد شيئًا من حرارته الأولى. وقد حاول حسن البنا إكمال مشروع الأفغاني بتجنيد الجماهير، مما جعل الإخوان أقوى جماعةٍ إسلاميةٍ منظَّمة شهدتها مجتمعاتنا الحالية، ولكن بعد الصراع على السلطة بين الإخوان والثورة في مصر، في ١٩٥٤م، وفي كل مكان الآن، في سوريا والعراق والجزائر وتونس، وُضع الإخوان في السجون تحت أهوال التعذيب لمدة عشرات السنين، واستُشهد من زعمائهم ومفكريهم عبد القادر عودة وسيد قطب، نشأ جيلٌ جديد من الإخوان من داخل السجون يعبِّرون عن «معالم في الطريق» لقلب نظام العالم من الأسود إلى الأبيض، من الجاهلية إلى الإسلام، من الكفر إلى الإيمان، ومن الطاغوت إلى الحرية، من حكم البشر إلى حكم الله. هذا الانبعاث الغاضب الثائر الواقعي بطبيعة الحال يغلب عليه التعصُّب وضيق الأفق، ويرفض الحوار مع كل أيديولوجيات التحديث العلمانية، ومع ذلك فهو يمثل ردَّ فعلٍ على فشل هذه الأيديولوجيات في حياتنا الحاضرة؛ فقد ازددنا احتلالًا وقهرًا وتخلفًا وفقرًا وتجزئةً وتخريبًا وسلبيةً. ونظرًا لأن هذه الجماعات الإسلامية الحديثة لن يُسمح لها بحق التعبير الحر عن نفسها، وليس لها جرائدها أو مجلاتها أو نشراتها أو كتبها، وما زالت مهمَّشة في المجتمع ملفوظة منه، فإنها بطبيعة الحال اتجهَت للعمل السري تحت الأرض، وتتفجر بين الحين والآخر إيجابًا أو سلبًا. الحل إذن هو إعطاء الجميع حقَّ التعبير، وفي إطار الوحدة الوطنية، حتى يتم الحوار المطلوب بين الأحرار وليس بين الجلَّاد والسجناء. هنا يظهر التسامح، ويتسع الأفق، ويظهر الانبعاث الإسلامي جامعًا بين الهوية والحداثة، بين التراث والتجديد، وقادرًا على أن يحقِّق للجماهير مطلبَيها؛ الإبقاء على هُويتها وتراثها ودينها، ثم تلبية حاجات عصرها وتحقيق أمانيها القومية.
مهمَّتنا إبراز تراث المعارضة؛ وبالتالي تنتفي تهمة الإلحاد أو الأفكار المستوردة التي تُلقى على كل مصلح ومغيِّر اجتماعي. كما يُنتزع سلاح الدين من أيدي السلطة والاستعمار، ويصبح الدين لصالح الشعب وليس ضده؛ وبالتالي تتحقق مصالح الشريعة الضرورية التي لأجلها وُضعَت الشريعة ابتداء، المحافظة على النفس والدين والعقل والعِرض والمال. لا أحد يريد أن يبقى في المحافظة التقليدية إلا القليل، ولا أحد يبغي الماركسية أو الليبرالية أو القومية أو الاشتراكية العلمانية إلا القليل، ولكن الجميع يبغي الإسلام العصري المستنير القادر على الإبقاء على هوية الجماهير والدفاع عن مصالحها.
ويتكوَّن المشروع من أقسام ثلاثة:
(أ) موقفنا من التراث القديم، وهي الجبهة الأولى المفروضة علينا من أجل تحديد علاقةٍ سليمة وصحية بالقديم، ويتلخَّص ذلك في إعادة بناء العلوم القديمة طبقًا لمتطلبات العصر، وإعادة الاختيار بين البدائل، سواء كان ذلك في العلوم النقلية العقلية مثل علم أصول الدين وعلم أصول الفقه وعلوم الحكمة وعلوم التصوف، أو في العلوم النقلية الخالصة مثل علوم القرآن والحديث والتفسير والسيرة والفقه، أو في العلوم العقلية والطبيعية الخاصة مثل الرياضة (الحساب، والهندسة، والجبر، والموسيقى، والفلك) وعلوم الكيمياء والطب والصيدلة والحيوان، أو في العلوم الإنسانية مثل اللغة والأدب والجغرافيا والتاريخ.
(ب) موقفنا من التراث الغربي من أجل تحديد علاقة سليمة وصحيحة بالغرب، ردُّه إلى حدوده الطبيعية وتحجيمُه، حتى تتخلص الحضارات الأوروبية من آثاره، ونقلُ المعارف منه إلى الإبداع الذاتي. ويتضمن ذلك إعادة كتابة تاريخ الحضارة الغربية في خمسة أجزاء، عصر آباء الكنيسة، والعصر الوسيط، وعصر الإصلاح والنهضة، وعصر العقلانية والتنوير، ثم عصر العلم والتكنولوجيا.
(ﺟ) موقفنا من الواقع، أو نظرية التفسير، من أجل إعادة تفسير الوحي طبقًا لقضايا العصر. ويتضمن ذلك ثلاثة أجزاء؛ الأول عن العهد القديم، والثاني عن العهد الجديد، والثالث عن القرآن الكريم، «المنهاج» كتفسيرٍ موضوعيٍّ للقرآن ابتداءً من الإنسان والمجتمع والتاريخ. لم يتم إنجاز المشروع إلا في مقدمته الأولى «التراث والتجديد»، والجزء الأول بناء علم أصول الدين. وكما ترى المشروع كبير والعمر قصير ولكن ما العمل؟
ومع ذلك فإن الطالب مظلوم، محاصَر بين الفقر والقهر لا يرعاه أحد. لا يعي أمرَه أساتذتُه من مواطنيه الذين قد يناصبُه بعضهم العداء له وربما الحسد له والغَيرة منه. ولا ترعاه الإدارة التي تُناصبه العداء وتعتبره خصمًا عنيدًا. ولا ترعاه المؤسسة التعليمية والنظم العامة، التي ترى أنها في غنًى عنه، وأن أجهزة الأمن له بالمرصاد.
هذا الحديث بمثابة وداعٍ لشعب المغرب كنتُ أودُّ التعبير عنه بصيغةٍ أخرى وأنا أغادره إلى مكانٍ آخر، كما كان الأفغاني من قبلُ لا يستقر له مقام. لا يرضى عنه خديوي مصر، ولا سلطان تركيا، ولا قيصر روسيا، ولا أميرٌ من أمراء العرب، ولكن إذا غاب بجسده فإن روحه تُرى في كل مكان، وعلى أكتافه قامت كل حركاتنا الوطنية، وحصلنا على استقلالنا. قد تعود الكرَّة وتنتشر أفكار التراث والتجديد حتى في غيابي، ولكن سيظل عقلي باستمرار مرتبطًا بالطالب المغربي، وقلبي مع المثقَّف المغربي وروحي بالمغرب. ولطالما كانت هذه صورة المغرب عند فلاسفة المشرق، حكماء وصوفية؛ فقد كتب السهروَردي «الغُربة المغربية»، أو الغربية، وكتب ابن عربي «عنقاء مغرب» وها أنا ذا أكتب وداعًا لشعب المغرب.
اعترض على طريقتي في إجراء الحوار عندما قلتُ له إنه ليست عندي أسئلةٌ محددة أوجِّهها إليه، وكل ما أريده هو أن أتعرَّف عليه وأناقشه … ولديَّ لذلك مفتاحٌ واحد، هو موضوع الدين والتقدم. وموضوع الرأسمالية والاستغلال، وقال الدكتور حسن حنفي إن هذا ليس منهجًا سليمًا في الحوار؛ فلا بد أن تكون لديَّ أسئلةٌ محدَّدة ومكتوبة بدقة، حتى يستطيع أن يجيبَ عليها. والحقيقة أنه كان على حق … وكنتُ على حق أيضًا؛ فليس من الممكن أن أواجه مفكرًا دون أن يكون لديَّ ما أريد أن أحاوره فيه … كما أنه لم يكن من الممكن أيضًا أن أُعِدَّ أسئلةً معينة لرجل كل المعلومات التي دفعَتْني للتعرُّف عليه — ومعذرة — هي بضع مقالات في الصحف … أغلبها نائم!
وحدَّثَتْني عنه أيضًا ابنتي التي تدرس الفلسفة؛ فهو كما يَصِف نفسه في مدرج الجامعة «فقيه» … يترك مقعده على منصة الأستاذ في كلية الآداب بجامعة القاهرة، مرةً كل أسبوع للطلاب ليتحاوروا ويتحدَّثوا … وينتقدوا … معبِّرين عن رأيهم «فالحوار المفتوح بين كل التيارات — في رأيه — هو الذي يخدم قضية الديمقراطية والحرية في مصر، ولقد أضرَّ بالجامعة الخواء الفكري الذي عشناه نتيجة انعدام الديمقراطية! وليس من المهم أن يعتنقَ الشابُّ أي موقفٍ فكري، المهم أن يكون صادقًا وأمينًا، وأن يكون له مذهب وعقيدة … وتأتي المرحلة التالية بعد ذلك، وهي الحوار بين هذه المذاهب، ليبقى الأصلح منها.»
ومن هنا فإن تجربة المنابر رائدة، وينقصها أن يكون لكل منبرٍ صحيفة تعبِّر عنه، وأن تكون السلطة في حيادٍ تام بينها، وألا ينحاز رئيس الجمهورية لمنبرٍ دون آخر، بل يظل أبًا للجمع وربًّا للأسرة. لقد شجَّعَني هذا الذي سمعتُه عنه، أن أطرح أفكاره للمناقشة العامة … بكل ما فيها من جُرأة وجدَّة … وكل ما أتمناه هو أن يقابلها من يريد مناقشتها بوقار العلم، لا بتهريج المعارضة العمياء التي ترفض أن يفكِّر الناس.
نظَّمَت «الرأي» ندوةً فكريةً للأستاذ الدكتور حسن حنفي، أستاذ بقسم الفلسفة، في جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس بالمغرب، شارك فيها السيد كامل الشريف، والدكتور عبد السلام العبادي، وكيل وزارة الأوقاف، وعدد من الزملاء في «الرأي». وأدار الندوة السيد جمعة محاد، المدير العام ﻟ «الرأي»، وعلى مدار الساعة، تحدث المفكر الإسلامي الدكتور حسن حنفي في هموم الأمة الإسلامية، وتناول بالشرح والتفصيل الأوضاع الراهنة للحركات الإسلامية بجميع ملامحها واتجاهاتها، وتناولَت الندوة بواعث الحركات الإسلامية المتطرفة، والعلاقة بين الجماهير والحكام. قضايا كثيرة، من التراث والواقع، والتغريب والهوية. كانت في ندوة «الرأي» التي تحدث فيها الدكتور حسن حنفي.
الحديث عن حقوق المرأة المسلمة التي أعترف بها وشرعها لها ديننا الحنيف لن يتوقف، ما دام هناك نساءٌ مسلماتٌ مؤمناتٌ بهذه الحقوق، وما دام هناك رجالٌ مسلمون يعترفون بهذه الحقوق، ويفهمون الروح السمحة لشريعة الإسلام.
وهذا الحديث يكتسب بعدًا جديدًا، وأهمية خاصة، إذا كان طرفًا فيه واحد من أبرز المفكرين العرب الذين طرحوا قضية الأصالة والمعاصرة في فكرنا الحديث، انحازوا بلا تعصب إلى الأصالة متمثلة في الفكر الإسلامي، شريطة أن يحكمنا العقل وروح الإسلام الثورية الوثابة التي تؤمن بقيمة الإنسان، وحريته وحقه في تقرير مصيره، سواء كان رجلًا أو امرأة، وليس أدل على ذلك من إقرار الدين لحق الفتاة في اختيار شريك حياتها مثلًا. إنه المفكر العربي المصري الدكتور/حسن حنفي، أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة القاهرة، والأستاذ الزائر بجامعة طوكيو في اليابان، والأستاذ الزائر بجامعة الإمارات حاليًّا.
ثم قامت بالتعريف الآتي:
من هو الدكتور حسن حنفي؟
من مواليد القاهرة سنة ١٩٣٥م، تخرَّج من جامعة القاهرة سنة ١٩٥٦م، وحصل على الدكتوراه في الفلسفة من فرنسا سنة ١٩٦٦م، ثم عُين أستاذًا زائرًا بجامعة تمبل بأمريكا وفي جامعة طوكيو باليابان، كما قام بتأسيس الدراسات العليا بجامعة فاس بالمغرب، وهو الآن أستاذ زائر بجامعة الإمارات.
أهم مؤلفاته
بالفرنسية: مناهج التفسير – ظاهريات التفسير؛ أي كيف يُفسر النص «القانوني، الديني، الأدبي، الفنون الشعبية، الحكم والأمثال».
بالإنجليزية: الدين والثورة، والدين والتنوير، والدين والتغير الاجتماعي. أما بالعربية فقد عمل في حقلَين هما:
الترجمة: رسالة في اللاهوت السياسة «لاسبينوزا» – تربية الجنس البشري «للسنج» – تعالي الأنا موجود «لسارتر».
المؤلفات العربية: قضايا معاصرة «كيف يمكن تجاوز الهزيمة؟» – الثقافة الوطنية واليسار الديني – التراث والتجديد «كيف تنهض الحضارة الإسلامية؟» – الكبير «من العقيدة إلى الثورة» إعادة بناء التوحيد – والآن أعيد بناء علوم الحكمة القديمة.
الحالة الاجتماعية: متزوج، وله ثلاثة أبناء، وأسرته تقيم الآن باليابان.
في نطاق التوعية السياسية التي يلتزم بها حزب الدستور الديمقراطي، على مستوى قاعدته الشعبية، نظَّم الحزب بمدينة فاس ندوة حول موضوع: «الشورى عقيدة وممارسة».
ولقد شارك في هذه الندوة، بالإضافة إلى الأستاذَين حماد العراقي، وعبد الواحد معاش، كلٌّ من الدكتور محمود إسماعيل أستاذ التاريخ الإسلامي بكلية الآداب بفاس، والدكتور حسن حنفي أستاذ الفلسفة بنفس الكلية، وأدار الندوة الأستاذ محمد بن زكري، الكاتب العام للحزب بالعاصمة العلمية.
ونظرًا لأهمية الندوة، وما طُرح فيها من أفكار ونظريات حول «الشورى» كنظام للحكم في الإسلام، فقد ارتأينا أن نقدِّم لقُراء جريدة الرأي العام الجزء الأول من الندوة، ويشمل تدخُّل الدكتور حسن حنفي، وتدخُّل الدكتور محمود إسماعيل.
قال الدكتور حسن حنفي في تدخُّله: إن الشورى هي الجانب السياسي من نظرية الإسلام في الحكم التي تشمل جوانب سياسية أخرى، بالإضافة إلى الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والقانونية.
وأكد أن المجتمع الواحد الذي فيه إنسانٌ واحد جائع تبرأ ذمة الله منه. وأثبت أنه لا يجوز أن يكون في المجتمع طبقةٌ مترفة تبني القصور المزخرفة بالنقش العربي، وطبقاتٌ محرومة تعيش في أكواخ الصفيح. وأعاد إلى الأذهان، أن الشورى عقد وبيعة واختيار. وأن الساكت عن الحق شيطانٌ أخرس.
أما الدكتور محمود إسماعيل فقد جاء في تدخله: أن العالم الإسلامي يعاني أزمة، سواء في أوضاعه الداخلية أو في علاقاته الخارجية، مقترحًا عدة حلول يمكن على ضوئها تطبيق الشورى الإسلامية لتجاوز الأزمة الراهنة.
الأستاذ حسن حنفي، المفكر الإسلامي المجدِّد، المهتم بقضايا تجديد التراث العربي-الإسلامي وتأصيل فكرنا المعاصر، يغادر هذه السنة جامعة محمد بن عبد الله «بفاس»، ويُودِّع المغرب مكرهًا.
جوابًا على أسئلة «أنوال» يتحدث عن حياته؛ مصر، التاريخ، تيارات التجديد الفكري في العالم الإسلامي، النظرية والممارسة، التراث، وعن …