هل يمكن إقامة نهضة على أسس أشعرية؟١

لا تُقام نهضة إلا على أسسٍ فكرية يُعاد عليها بناء القديم، وإلا ظل القديم هو الأساس النظري للنهضة الجديدة، وغير قادر على أن يعطيها أسسًا نظرية؛ وبالتالي تفشل النهضة لعدم التطابق بين الموروث القديم كأساسٍ نظري وبين تحديات العصر التي تقوم النهضة استجابةً لها.

وتقوم نهضتُنا الحالية التي بدأَت مواكبةً للإصلاح الديني، أو بعدها بقليل، على نفس الأسس التقليدية التي بُني عليها تراثنا القديم في معظمه، وهي الأسس الأشعرية التي استقرَّت في الوعي التاريخي ابتداءً من القرن الخامس الهجري حتى الآن؛ أي بدايات القرن الخامس عشر، وبعد أن حُسِم الصراع بين التيارات الفكرية لحساب الأشاعرة منذ ألف عام، ولم تكن هناك محاولات في عصرنا الحالي لتغيير هذه الأسس إلا محدودة جدًّا، وبطريق نسبي كما فعل محمد عبده، عندما بقي أشعريًّا في التوحيد، وأصبح معتزليًّا في العدل. وبالرغم من هذا التحول النسبي في الأسس النظرية لحركة الإصلاح الديني إلا أنها ظلت في مجموعها أشعرية، وكأن استقلال الفكر وحرية الإرادة؛ أي العدل الاعتزالي، لا يبقى طويلًا دون استناد إلى التوحيد الاعتزالي؛ أي الله، كمبدأ تتساوى فيه الذات والصفات، وأن هذَين المبدأَين إذا ما ارتكزا على التوحيد الأشعري؛ أي الله كشخص، تزيد فيه الصفات على الذات؛ فبالرغم من أهمية تركيز الحركة الإصلاحية الحديثة على استقلال العقل وحرية الاختيار إلا أنهما بقيا تحت المظلة الأشعرية؛ فهناك مناطق لا يستطيع العقل أن يصل إليها بمفرده ويحتاج فيها إلى وصي، وهذا الوصي هو النبي كما يقول محمد عبده؛ فما زالت هناك قوًى خارجية تسيطر على قوى الإنسان والطبيعة يحتاج إليها الإنسان في أوقات عجزه، ويطيع لها الكون بتغيير مساره.

والأخطر من ذلك وفي مقابل هذا التحول النسبي، أو تطعيم الأشعرية السائدة ببعض الاعتزال القديم، الذي لم ينجح كثيرًا ولم يستمر، اتحدَت الأشعرية بالتصوف وازدوجَت به، فأصبح التصوف أيضًا أشعريًّا في أسسه، وأصبحَت الأصول الأشعرية التمهيدات الفكرية للطرق الصوفية. وسادت الأشعرية أيضًا في الفقه بسيادة المذهب الشافعي دون الحنفي أو المالكي؛ فقد كان معظم الأشاعرة شافعية، وكثيرٌ من الأحناف معتزلة. كما سادت الأشعرية الفلسفة الإشراقية التي تشارك الأشعرية في نفس الأسس النظرية، كما هو واضح عند ابن سينا خاصة؛ وبالتالي أصبحَت الأشعرية هي الرافد الرئيسي في ثقافتنا القومية.

ويروِّج بعضنا اليوم للأشعرية، ويجعل نفسه شيخها دون مراعاة لظروف العصر، وحسن الاختيار من البدائل المطروحة طبقًا لمرحلتنا الحالية وظروفنا الاجتماعية؛ إما طلبًا للشهرة والدعاية، أو دفاعًا عن النفس في شخص القديم، خاصةً ولو كان هذا القديم هو الأساس النفسي والثقافي الذي تقوم عليه السلطة السياسية؛ فهو مطلبٌ سياسي في صورةٍ علمية، وموقفٌ مزدوج ينم عن الرغبة في السيادة في السياسة والثقافة، وفي ممارسات الطرق الصوفية.

ونظرًا للفراغ النظري الذي يقبع تحت الأشعرية، فإنه تم تطعيمها مؤخرًا بالتصوف مرة، وبالفقه مرةً ثانية، وبالفلسفة مرةً ثالثة؛ ففي التصوف أخذت الأشعرية السلطة الخارجية والإرادة المطلَقة التي تسيطر على كل شيء. ومن الفقه أخذَت مباحث العلة والأحكام، وأحيانًا العمليات، حشوًا بلا ترابط داخلي. ومن الفلسفة أخذَت مباحث الجوهر والعرَض، وهي المقدمة الطبيعية للإلهيات، أو هي الإلهيات المقلوبة، بل إن رفاعة الطهطاوي مؤسس النهضة الحديثة لم يتخل عن الأسس الأشعرية كما وضعها القدماء، وعرض أفكار التنوير اعتمادًا على الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، ونظر للدولة الوطنية اعتمادًا على التراث القديم ومصادره الفقهية.

ويظل السؤال: هل يمكن إقامة نهضة على أسسٍ أشعرية؟ هل يمكن في نظرية العلم أن نؤسِّسها على أنه لا يُوجد ارتباط ضروري بين النظر والعلم، وأنه مهما نظر الإنسان فإن العلم قد لا يتولد من النظر، بل قد يأتي من مصدرٍ آخر في مجتمع تكثر فيه الإلهامات؟ هل يمكن في نظرية الوجود أن نتصور أن الجواهر قد تعرى عن الأعراض، أو أن الأعراض قد تُوجد بدون الجواهر، تملقًا للسلطة المطلقة، ودفاعًا عن حقها على حساب قوانين الطبيعة، في مجتمع تغيب فيه العلِّية؟ هل يمكن اعتبار الصفات زائدةً على الذات لإفساح المجال للرحمة على حساب العدل، في مجتمع في أمس الحاجة إلى العدل، والرحمة فيه أقرب إلى التحايل المقصود على القانون؟ هل يمكن تصوَّر الذات الإلهية مشخَّصة دون أن تكون مبدأ عامًّا شاملًا يتساوى أمامه الجميع، في مجتمعٍ يعاني من اللامساواة والتفاوت بين الناس؟ هل يمكن تصوُّر العقل قاصرًا في حاجة إلى النقل، في مجتمع يعاني من نقص استعمال العقل؟ هل يمكن اعتبار الإنسان مجبرًا في أفعاله، في مجتمع يئن من القهر والجبر والطغيان؟ هل يمكن تصور الإنسان ما زال معتمدًا في علمه وحياته على قوةٍ خارجية، في مجتمعٍ يُعاني من ترك الاعتماد على الذات ويُكثر من الاعتماد على الآخر؟ هل يمكن التركيز على حياة الإنسان بعد الموت والشفاعة على حساب الدنيا وقانون الاستحقاق في مجتمعٍ مغرق في التصوف، ويعتمد على الواسطة، ولا يربط بين العمل والجزاء؟ هل يمكن جعل الإيمان هو القول دون عمل في مجتمع يكثر فيه الكلام ويقل العمل؟ هل يمكن جعل الإمامة في فئةٍ واحدة، قريش قديمًا والضباط حديثًا، على حساب الصفات الفردية، وفي مجتمعٍ يرزح تحت الشلَلية والانقلابات والطائفية؟ هل يمكن تكفير الفِرق واعتبارها كلها هالكة، وأن الواحدة فقط هي الناجية، في مجتمعٍ تسيطر عليه حكومات الحزب الواحد، والمعارضة فيها في السجون؟٢
١  كُتب هذا المقال بعد حرب أكتوبر ١٩٧٣م، ورغبة صديقنا د. أنور عبد الملك في العودة إلى مصر، والقيام بدوره في نهضتها الحديثة وتأسيس مجلة للحوار الوطني بين الاتجاهات الفكرية التأسيسية المختلفة في مصر بعنوان «النهضة»، وهو الاسم المأثور لديه في كتاباته العديدة منذ رسالته «نهضة مصر»، وهذه هي مقدمة المقال الذي كنتُ أنوي كتابته في ١٩٧٤م، ولكنه لم يتم. وهذه صياغةٌ ثانية له تمَّت في خريف ١٩٨٧م.
٢  انظر بحثنا «اليمين واليسار في الفكر الديني»، في «الدين والثورة في مصر ١٩٥٢–١٩٨١م» الجزء الثاني، في اليسار الديني.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥