الدين والرأسمالية١
إنه لمن أشد الأمور عجبًا أن تُثار باستمرار قضية «الماركسية والدين» ويوميًّا، في جميع أجهزة الإعلام، وكأن الماركسية هي الخطر الداهم على ديننا ودنيانا، دون أن نعلم بأن هذه المعركة المفتعَلة المثارة هي في الحقيقة أثرٌ من آثار الاستعمار الثقافي في البلاد؛ هذا الاستعمار الذي أراد — حفاظًا على مصالحه الاقتصادية والعسكرية في المنطقة، ووقوفًا في وجه حركات التحرر الوطني والتقدم الاجتماعي، وتشويهًا لمواقف كل من يساندونها من قوى الحرية والسلام — الترويج بأن الماركسية مضادةٌ لتعاليم الدين ومفسدةٌ لحال الدنيا وضياعٌ في الآخرة، وينصب نفسه مدافعًا عن الدين والدنيا معًا. والحقيقة ليس القصد هو حماية الدين؛ فالغرب ما زال يعيش صليبيته، ولكن بصورٍ جديدة، متعدِّدة الأشكال، يدافع عن الإسلام والمسلمين، والقصد من ذلك معاداة الحركات الوطنية والقوى التقدمية والنظم الاشتراكية حتى يخلو للاستعمار الجو، ويظل في نهبه للثروات، وفي إيقاع البلاد في شباك الأحلاف. وهو ما كانت النظم الرأسمالية تفعله في الغرب منذ القرن الماضي، وما زالت تروِّج له الكنيسة الغربية حتى اليوم دون جدوى، أمام تقدم الأحزاب الاشتراكية، واتساع قواعد الأحزاب الشيوعية، وازدياد شعبيتها بين الجماهير. وما لم تنجح النظم الرأسمالية فيه في الغرب، تُعيد الكرة الآن في البلاد النامية، مستغلةً عدم وضوح فكرها، وعدم تبلور أيديولوجياتها وتديُّنها وإيمانها، ومرورها بفترة من التخلف الحضاري، وتبعية مثقَّفيها للغرب، وتقليدهم له.
وإنه لمن أشد الأمور غرابة ألا تُثار قضية «الرأسمالية والدين»، وهي الأخطر بالنسبة لمجتمعنا الحالي؛ فإذا كنا نعني بجديةٍ ما نقوله باستمرار، وما سطَّرناه في مواثيق الثورة عشرات المرات، وما وقَّعنا عليه وأجزناه على مدى ربع قرن، أعني «حتمية الحل الاشتراكي» تكون «الرأسمالية» حينئذٍ هي الخطر الداهم على حياتنا. وإذا كان واقعنا في مصر بدخله المحدود، وكثافته السكانية يفرض الطريق الاشتراكي للتنمية، تكون الرأسمالية هي العدو الأكبر للتنمية، والمعوِّق الأساسي لها. إن عدم إثارة القضية، قضية «الرأسمالية والدين» تدُل على أننا لا نرى غضاضة في أن نكون رأسماليين ومتدينين، أو متدينين على الطريقة الرأسمالية، وأن الرأسمالية والدين متفقان فيما بينهما في الأهداف والوسائل؛ ففي الإسلام الأول كان الأغنياء يجهِّزون جيوش المسلمين بأموالهم، وكان منهم كبار الصحابة والمبشَّرون بالجنة؛ فلا مانع أن يقوم أغنياء المسلمين اليوم بما قام به أغنياؤهم بالأمس، حتى يبارك الله لهم في الرزق، ويضاعف الأجر والثروات. وإذا كانت الرأسمالية تقوم أساسًا على نشاط الفرد وحريته المطلَقة، فالدين أيضًا لا ينكر على الفرد حريته ونشاطه. والحقيقة أننا على هذا النحو نكون رأسماليين ونظن أننا متدينون، رأسماليون في الحقيقة، ومتدينون في المظهر، وكثيرًا ما ندافع عن الرأسمالية ونظن أننا ندافع عن الدين، وكثيرًا ما نظن أننا ندافع عن الدين، ونحن في الحقيقة ندافع عن الرأسمالية.
وهدفنا هنا هو توضيح هذا الخلط الشعوري أو اللاشعوري بين الرأسمالية والدين في وجداننا القومي، حتى يمكننا تخليص الدين مما علق به من آثار الاستعمار، أعني التصورات الرأسمالية للعالم، وأن نفسِّر الدين تفسيرًا يفرضه واقعنا الحالي، فيكون ديننا هو الصورة أو القالب، وواقعنا هو المضمون. وهذا واجبنا وواجب فقهاء المسلمين الذين نيط بهم الاجتهاد في الدين، وتطبيق أحكام شريعته، بدل أن نكون جميعًا ضحية الاستعمار الثقافي في البلاد، ونؤمن بالطاغوت ونظن أننا نؤمن بالله.
ومهمتنا هي تصحيح أوضاعنا الثقافية، والكشف عن المعارك الحقيقية التي يفرضها واقعنا، وتتحقق بها مصالحنا، واستبدالها بالمعارك الوهمية التي نشرها الاستعمار بيننا إبعادًا لنا عن واقعنا، وعن رؤية مواطن مصلحتنا الحقيقية إيهامًا منه وخداعًا. مهمَّتنا هي الوقوف أمام الأخطار الفعلية دون المتوهَّمة، وتوضيح موقفنا الحضاري. وكثيرًا ما يخطئ الغرب حساباته، ويظن أن الاستعمار الثقافي باقٍ إلى الأبد، وأن الجماهير في البلاد النامية ستظل راسخةً في تخلفها الحضاري، وأن مثقَّفيها سيظلون إلى الأبد ممثِّلين للثقافة الغربية في أوطانهم، يعملون لصالح الأجنبي، ويستغلهم الأجنبي للدفاع عن مصالحه، وإعادة حكم البلاد بطريقٍ غيرِ مباشرٍ عن طريق وكلاء في البلاد، ولكن إحساسًا منا بمسئولية المثقَّفين وهم طلائع الجماهير الشعبية، فقد آن الأوان لتوضيح هذا الالتباس في ثقافتنا الوطنية، ونحن بصدد إقامة النهضة الحالية، من أجل ترسيخ قواعد الثورة وأسسها النفسية والفكرية، والقضاء على جميع معوِّقات التنمية والتغير الاجتماعي.
-
(١)
تحرص النظم الرأسمالية على أن تجعل الله خارج الطبيعة، فيما وراء العالم، خارج الزمان والمكان، يستحيل تصوُّره أو إدراكه، ولا يمكن رؤيته أو التفكير فيه، ولكن يمكن الابتهال إليه ومناجاته، وطلب العون منه عند الحاجة؛ وبالتالي يتوجه شعور الجماهير إلى خارج العالم، مبتعدًا عن هذا العالم، تاركًا إياه في قبضة صاحب رأس المال، بعد أن خلا له الجو من المنافسة، وسيطر عليه واحتكره. وكلما اتجه شعور الجماهير خارج العالم ازداد إحكام سيطرة صاحب رأس المال عليه. وفي ذلك يقول فلاحٌ سوداني: كنتُ سعيدًا في أرضي، أزرع حقلي، وأرعى ماشيتي، وفي يومٍ ما، أتاني إنسانٌ متوشح بالسواد وفي يده كتاب، وبعد مدة رحل، فوجدتُ الكتاب في يدي والأرض في يده!
فإذا تأزمت أحوال الناس، واشتد الكرب، وعم الفقر، ابتهل الناس إلى الله، ودعَوه لقضاء الحاجة فيفرح صاحب رأس المال، ويتصدق، ويفرج الهم والكرب، ويقضي حوائج الناس، كالخليفة يقذف بأكياس النقود يمينًا ويسارًا وهو في موكبه على رافعي الأيادي إلى السماء؛ فالله هو الواهب والعاطي، الرازق والمنعم؛ وبالتالي يتعود شعور الناس على السؤال، وينتظرون العطاء. وهذا ما تريده النظم الرأسمالية من بناءٍ نفسي للجماهير. ونحن عندما ندعو الغني، ونسأل المعطي، ونبتهل إلى الوهَّاب إنما نكون أسرى التصورات الرأسمالية للدين، في حين أننا أصحاب حق ولسنا أصحاب سؤال، وأن لنا حقًّا في رأس المال نطالب به دون استجداء، وأن لنا حقًّا في الأرض ولسنا طلاب هِباتٍ أو معونات.
وأحيانًا نتصور الله والعالم معًا في تصورٍ هرمي، كلما صعِدنا إلى أعلى وصلنا إلى كمالٍ أكثر ونقصٍ أقل، وكلما نزلنا إلى أسفل وصلنا إلى كمالٍ أقل ونقصٍ أكثر، وفي القمة يُوجد الكمال المطلَق الذي ليس به نقص، وفي القاعدة يوجد النقص المطلَق الذي ليس فيه كمال، وهكذا تتفاوت الدرجات والمراتب بين الأعلى والأدنى أو بين الكمال والنقص. والحقيقة أن هذا التصور ليس من الدين في شيء، بل هو التصور الرأسمالي للعالم الذي يعبِّر عن البناء الطبقي للمجتمع، والذي يرسِّخه النظام الرأسمالي في نفوس الناس والذي يعتمد على الحركة الاجتماعية الصاعدة والهابطة؛ فكلما صعدنا إلى أعلى ازدادت الأقلية غنًى وقلَّت فقرًا، وكلما هبطنا إلى أسفل ازدادت الكثرة فقرًا وقلَّت غنًى؛ فالصلة بين الواحد والكثير هي صلة الأقلية بالأغلبية، والصلة بين الله والعالم على هذا النحو هي في حقيقة الأمر الصلة بين صاحب رأس المال والعمال.
وأحيانًا أخرى نتصور الصلة بين الله والعالم تصورًا ثنائيًّا يقسم الكون إلى قسمَين؛ أول وآخر، صوري ومادي، أبدي وزماني، باقٍ وفانٍ، خالق ومخلوق، علة ومعلول، ونظن أن ذلك التصور هو ما يفرضه الدين، وهو في الحقيقة ليس من الدين في شيء، بل هو وليد النظام الرأسمالي، أو هو صورة النظام الرأسمالي على المستوى النفسي والذهني؛ لأن ذلك من شأنه أن يجعل العالم سالبًا، لا قوام له بذاته حتى لا تعيه الجماهير ولا تشعر بقيمته، ولا تهتم به، وحتى يستطيع صاحب رأس المال الاستحواذ عليه، والسيطرة على مقدَّراته، واستغلال ثرواته، واحتكار أسواقه، فإذا كان المتدين قد أوعز إليه بإيثار الآخرة على الدنيا، والروح على البدن، والخالق على المخلوق، فإن ذلك يحدث حتى يمكِن للرأسمالي أن يعيش حرًّا طليقًا في الدنيا، يعمل في العالم كيفما يشاء، بل يقوِّي الرأسمالي الوازع الديني على هذا النحو الرأسمالي عند الجماهير، فيُكثر لها البرامج الدينية، وينشُر المدائح النبوية حتى تجد الجماهير ما يُلهيها عن الدنيا، ثم لا مانع أن يشارك صاحب رأس المال في هذه الشعائر الدينية مرةً كل أسبوع في المناسبات والأعياد حتى يلبس لباس التقوى، وهو في الحقيقة يتستَّر وراءها ويُخفي حقيقة أمره، وهو الاستحواذ على العالم، والسيطرة على ثرواته، واستغلال القوى البشرية لصالحه.
-
(٢)
وكثيرًا ما نظن أن التديُّن هو العكوف على الغيبيات وعالم الأسرار، والمعجزات والكرامات، ونهزُّ رءوسنا إعجابًا وطربًا، وشوقًا وعجبًا. والحقيقة أن هذا ليس من الدين في شيء، بل ما تُصوره الرأسمالية لنا على أنه دين، مغالاةً منها في التديُّن من أجل التستُّر على ما يدور في نظامها من استغلال واحتكار، وتصريفًا لطاقات العامة ونشاطها فيما لا يقوِّض دعائم النظام، بل على العكس فيما يدعمه، ويقوِّي أركانه بالتفات الناس إلى ما هو أبقى وأروع، وطلبها السعادة في معرفة الله والاتحاد به، وفي الانفصال عن العالم وإسقاطه من الحساب؛ ولذلك تُكثر النظم الرأسمالية من بناء المساجد، وإقامة الشعائر، وتدعيم الطرق الصوفية، والاحتفال بالموالد، والتأليف في الغيبيات، وإدارة النقاش والمناظرة حولها. يجسِّد النظام الرأسمالي الغيبيات في مظاهرَ حسية حتى يكون للدين مضمونٌ من داخله، وليس مضمونًا اجتماعيًّا من واقع الناس.
وكل ذلك ليس من الدين في شيء؛ ففي الإسلام لا يعلم الغيب إلا الله، أما الإنسان فلا يتعامل إلا مع عالم الشهادة، وكانت الشريعة الإسلامية كلها قائمةً على عالم الشهادة، بل كانت العقائد الإسلامية كلها تجد دليلها في عالم الشهادة؛ فإيماننا بالغيبيات، وحديثنا عنها، وتصويرنا إياها، وخلافنا حولها وتكفيرنا من ينكرها أو يُؤَوِّلها؛ كل ذلك إيمانٌ على الطريقة الرأسمالية؛ حيث نكون ضحية الإفراز الرأسمالي للدين؛ حيث نؤمن بالرأسمالية في الدين ونظن أننا نؤمن بالدين ذاته.
ولما كان عالم الغيب والأسرار لا يمكن إدراكه بالعقل بل بالقلب، تحوَّل الدين إلى إيمانٍ صوفي تصبح فيه الإشراقيات موضوعًا ومنهجًا؛ ومن ثَم تكثر الطرق الصوفية، ونظن أن التدين هو التصوف، وكلما أوغلنا في الدين أوغلنا في التصوف، بكل قيَمه السلبية، ومواجيده وأذواقه، وخداعه وإيهاماته. وأصبح من العجيب أن يقوم النظام الرأسمالي على الترشيد في الاقتصاد وعلى التصوف في الدين، وكأن الإيمان على الطريقة الرأسمالية يجعل العقل وسيلةً لتدبير أمور الدنيا فحسب، بالحساب، والكم والقياس، والقوانين، أما شئون الآخرة وأمور الدين فلها الوجدانيات، والعاطفيات، والأذواق، والمواجيد؛ وبالتالي يتحقق كمال الإنسان وإشباعه لرغبات العقل ومقتضيات القلب، فينهب صاحب رأس المال ثروات الأمم، ويبتهل، ويتصوف، ويتعبد!
وكل هذا ليس من الدين في شيء؛ فالدين لا يعتني إلا بهذا العالم الذي يسير وفقًا لقانونٍ يدركه الإنسان بالعقل، حتى يمكنه السيطرة عليه، وإخضاعه لسلطانه، للاستفادة منه في معاشه، والعقل يشمل الحس والتجربة الداخلية والخارجية معًا، ويقوم الإنسان بتنظيم العمل في العالم بكل قواه، لا فصل في ذلك بين عقل وقلب؛ فالتصوف، هو التصوف في العمل، وفي النشاط، وفي الإنتاج، وليس التصوف الفارغ الذي لا مضمون له.
-
(٣)
يظن الناس أن الممارسة الدينية هي إقامة الشعائر، وأن المسلم هو من أقام قواعد الإسلام الخمس؛ الشهادة، والصلاة، والزكاة، والصوم، والحج؛ فالشهادة نقولها، والصلاة نقيمها، والزكاة ندفعها، والصوم نحرص عليه، والحج نتسابق إليه. الشهادة لا تكلِّفنا إلا عبارتَين، والصلاة لا تأخذ من يومنا أكثر من نصف ساعة من أربعٍ وعشرين، والزكاة لا تأخذ من أموالنا إلا ربع العشر من فائض الأموال، ومَن له ذلك الآن؟! وزكاة الفطر شيء لا يُذكر بجانب نفقات إفطار رمضان وكمالياته المحلية والمستوردة. والحج نربح منه أكثر مما نخسر، نربح الدعاية والإعلان، ولباس التقوى للشهرة أو للتجارة، أو نكتفي بالعمرة السياحية أو التجارية التي نحمل فيها ما خف حمله وغلا ثمنه. ولا مانع من كتابة الشهادتَين في ملصقاتٍ مذهبة أو في لوحاتٍ مُبروَزة، ونعلِّقها في دُورنا ومكاتبنا أو نُشيِّد المساجد ونضيء مآذنها، ونضع فيها مكبرات الصوت، ونتألم من فوضى جمع الزكاة، ونطالب بإقامة مؤسساتٍ متخصصة يديرها أهل البر والتقوى ورجال الدين والحكومة لجمعها وصرفها، ونحمل هم شهر الصيام صيفًا أو شتاءً، عملًا أو راحةً، نفقات وتكاليف، ونبتهل إلى الله أن تصيبنا القرعة في الحج، وأن ييسر لنا سُبل الحصول على العملة الصعبة من السوق السوداء. هذا الخلط بين الدين والتجارة، بين هموم الدنيا وهموم الآخرة، هو الذي يكشف عن تسرُّب الفكر الرأسمالي ونُظمه في إيماننا وفي ممارستنا للشعائر. وفي أحسن الأحوال تُقام الشعائر في تقوى وصلاح دون إعلان أو متاجرة. وفي هذه الحالة يحفظ المسلم نفسه من شرور الدنيا ويتقي متاعبها، ويعكُف على العبادة، ويكون أقرب إلى الصوفي الذي يقاسم الرأسمالي الكون، للأول الآخرة وللثاني الدنيا، فيطمئن الرأسمالي على أرضه، ويضمن أنْ لا منافس له فيها.
وفي كلتا الحالتَين، نكون ضحيةً، ضحيةَ التفسير الرأسمالي للدين الذي تروِّج له النظم الرأسمالية والممارسة الرأسمالية للدين؛ فنظن أننا نعبد الله ونطيعه ونحن في الحقيقة نعبد رأس المال ونطيعه عن وعي أو عن غفلة؛ فالإسلام كما هو معروف ليس عبادات بل معاملات، بل إن المعاملات ذاتها أعلى درجةً في العبادات. هذا هو الطريق الأصعب، والممارسة الشاقة؛ فكل عمل عبادة، الفلاح في أرضه، والعامل في مصنعه، والتاجر في متجره، والطالب في معهده، والجندي في ميدانه. ليست العبادة ماذا يفعل الإنسان في نصف ساعة يوميًّا خمسَ مرات، بل ماذا يفعل الإنسان في يومه على مدى أربع وعشرين ساعة. ليست العبادة ماذا يفعل الإنسان داخل دور العبادة، ولكن ماذا يفعل الإنسان خارجها، في منزله وفي الطريق العام. ولن يكون الحساب عن إقامة الشعائر، بل عن العقل فيم فكَّر؟ وعن المال فيم أُنفق؟ وعن الجهد فيم بُذل؟ وعن الوقت فيم ضاع؟ العلم عبادة، والعمل عبادة، والنكاح عبادة، وتحرير الأرض عبادة، والقضاء على التخلف عبادة، ومحاربة الاستعمار عبادة، والقضاء على الاستغلال والاحتكار عبادة، والدفاع عن حقوق المستضعفين في أي مكانٍ عبادة. إن كل مَن يريد قصر العبادة وحصرها في إقامة الشعائر لهو ضحيةٌ للاستعمار الثقافي في البلاد وللتصوُّر الرأسمالي للدين.
إن الشهادة تعني رفض كل آلهة العصر المزيَّفة؛ فنقول «لا إله»؛ أي إننا نرفض مَن تصوَّرنا أنها آلهة؛ مثل الجاه، والقوة، والسلطان، والربح … إلخ، فإذا تخلصنا منها ظهر لنا الله الحق فنقول «إلا الله»، وهو المبدأ الواحد الشامل الذي يتساوى أمامه جميع العباد؛ فالشهادة ليست قولًا بل عمل وتضحية، ومعارضة وثورة، ومقاومة واستشهاد؛ فآلهة العصر ما أكثرها! ومناضلوها ما أقلَّهم! إن الصلاة لا تعني الشعائر بل تعني جهد الإنسان الدائم، وعمله المستمر من أجل تحقيق هذا المبدأ الواحد الشامل، وما يتضمنه من نظمٍ اجتماعية تجد الناس فيها صلاحها. ولا تعني الزكاة إرضاءً لنزعة الإنسان، وضمان الكسب له ما دام قد دفع ما طُلب منه؛ ففي المال حقٌّ غير الزكاة، لا تعني الزكاة تبرئةً للذمة من حقوق الغير، بل تعني بداية تأكيد حق الغير حتى يتساوى الإنسان مع الآخرين فيما بين يدَيه. ولا يعني الصوم الشقَّ على الأنفس ثم إرضاءها بعد ذلك، بل يعني مشاركة الناس فيما بين يدَي الإنسان، وأن المجتمع الإسلامي لا فقر فيه ولا جوع، ولا يعني الحج رحلةً سياحية أو تجارية أو دعائية أو تبرئةً للذنوب، بل يعني مؤتمرًا عامًّا للمسلمين جميعًا للاجتهاد في المسائل العامة، التي بها صلاح الناس وعموم البلوى، وكلنا نعلم ذلك ونوافق عليه، ولكن ممارسة الدين على الطريقة الرأسمالية هي في الغالب تقليد، وسهولة، وإرضاء للضمير بأيسر السبل وأرخصها.
-
(٤)
وما زلنا نكرر خطأً شائعًا روَّجه فيما بيننا الاستعمار، الثقافي، وصدَّره إلينا الغرب بعد أن فشل في استعماله، ألا وهو الصراع بين الروحانية والمادية؛ فكل من يؤمن بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر يكون رُوحانيًّا، وكل مَن يؤمن بالمجتمع وبالتغير الاجتماعي وبالتحليل الإحصائي وبالعوامل الاقتصادية يكون ماديًّا، فندافع عن روحانيةٍ نظرية، وهي الروحانية التي تروِّج لها النظم الرأسمالية؛ إذ تريدها نظرية حتى يمكنها السيطرة على النواحي العملية، وتريدها مجردة حتى يمكنها أن تتعامل مع المحسوس وأن تستحوذ عليه، وتريدها فارغةً بلا مضمون حتى تحتكر هي المضمون وتبتلعه في بطونها. والحقيقة أن كل مَن يؤمن بالروحانية على هذا النحو الفارغ، الخالي من أي مضمون، يكون ضحية الفكر الرأسمالي والاستعمار الثقافي.
وفي حقيقة الأمر هذه الروحانية العرجاء هي المادية بعينها؛ لأنها تجعل العالَم المادي لا روحانية فيه؛ ومن ثم تنشط النظم الرأسمالية في هذا العالم، وتفعل ما تريد، تستغل وتحتكر، وتسيطر وتتلاعب، فإذا تم لها ما تريد ذهبَت إلى الروحانية الفارغة ووفَّتها حقها بالكلمات والشعارات، أو الممارسة الشعائرية والطقوس، فتطمئن النفس وتبرأ، ثم تعود من جديد إلى العالم تفعل فيه ما تشاء بلا قانون أو حدود.
هذه الروحانية المميتة القاتلة للروح هي التي حذَّر منها الإسلام مرارًا بقوله لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ … وهي التي نبَّه عليها الرسول في التطبيق، ونوَّه بها الصحابة في الممارسة؛ فالذي يعمل بيدَيه ويُطعِم أخاه العابد في المسجد يكون أخوه أعبد منه، واليد السوداء المشقَّقة من العمل الغليظ يدٌ يُحبها الله ورسوله، والقدَم التي تسعى في سبيل الله عونًا للجار أو دفاعًا عن الحمى قدمٌ تشبَّعَت بالروحانية؛ فروحانية الإسلام ذاتُ مضمون، روحانية الأرض والطبيعة والكون. وهنا تُمحى التفرقة بين روحانيةٍ فارغة وماديةٍ صمَّاء، وتكون الروحانية هي المادة النشطة المتحركة، والمادة هي الروحانية المتجسِّمة المتحققة؛ فالعالم كله روح وكله مادة لا انفصام بينهما، وهذا هو أحد معاني التوحيد، ولكننا حتى الآن ما زلنا ضحية الروحانية العرجاء، ونؤمن بالدين على الطريقة الرأسمالية. -
(٥)
ويظن الناس أن هذا العالم قد خُلق لينتفع به الإنسان الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا؛ ومن ثَم تتحول قيَم الناس إلى قيمٍ استهلاكية خالصة، يكون مطلبهم هو إقامة مجتمع الرفاهية والوفرة. وما دام الإنسان قد آمن بالله، كتبه ورسله واليوم الآخر، وأقام الشعائر وأركان الدين، فإن من حقه أن يتمتع بما وهبه الله من رزق، فيتزوج أكثر من مرة، ويسكن، ويأكل، ويشرب، وينعم برزق الله، ويكون الأخ المسلم أول من يُهرَع إلى الموائد، وأول من يقفز إلى الصلاة، وأول من يجمع المال، وأول من يدفع الزكاة. وهذا أيضًا أثر من آثار الرأسمالية في الدين؛ فالدين يضع كل شيء في خدمة القضية، ألا وهي تحقيق الأمانة على الأرض، ويبعث على التعفُّف، ويدعو إلى تجاوز الحياة الدنيا إحساسًا منه بالرسالة؛ فالقيم الإسلامية قيمٌ إنتاجية خالصة فيها نفع للناس. وكلها تهدف إلى تحقيق المصلحة العامة، والأخلاق الإسلامية من عفة وزهد وتقشُّف وتقوى، هي في الحقيقة أخلاقٌ اجتماعية للحد من نمط الاستهلاك؛ لأنه في اليوم الذي يتحول فيه المجتمع من نمط الإنتاج إلى نمط الاستهلاك، ومن مجتمع النضال إلى مجتمع الرفاهية، ينهار كما لاحظ ابن خلدون.
إن النعمة الحقيقية والسعادة الأبدية ليست في التنعُّم بمباهج الدنيا، بل في العمل على تحقيق الرسالة، وفي أداء الواجب، وفي أن يترك الإنسان وراءه أثرًا أو سنةً حميدة تتناقلها الأجيال وتتبعها بعده لأن «الآخرة خيرٌ وأبقى». ولا يُوجد مالٌ حلال لإنسان في مجتمع أغلبيته عارية بلا لباس، وفي العراء بلا مأوًى، وجائعة بلا طعام، وأمية بلا تعليم، ومريضة بلا استشفاء؛ فكيف ينعم الإنسان بالمال الحلال في واقعٍ كل ما فيه حرام؟
-
(٦)
يؤمن الناس بالفردية في الدين،٢ ويدافعون عن النشاط الحر القائم على المنافسة وبدافع الربح؛ فقد أكَّد الدين دَور الفرد، وأثبت المسئولية الفردية؛ فلا عجب أن يكون للفرد الحق في ممارسة نشاطه بلا حدود، واستثمار أمواله كما يشاء، وتأجير مَن يعملون له في الأرض أو في المصنع أو في المتجر. وهذا في الحقيقة تفكيرٌ رأسمالي تغَلغَل في الدين؛ فندافع عن الرأسمالية ونظن أننا ندافع عن الدين. صحيحٌ أن الإسلام يؤكد على المسئولية الفردية ولكن في الأخلاق والعمل الصالح، وفي الفَهم والتفسير والتمييز والإدراك، ولكن ليس في الاستغلال والاحتكار، والمضاربة في الأسواق والتلاعب في الأسعار؛ فالجماعة لها حقٌّ في مال الفرد، وليس عن طريق الزكاة فقط، بل كل ما تحتاجه الجماعة، وكل ما يمكن للفرد أن يقدِّمه من أموال للاستثمار؛ فإذا ما استغل الفرد أو احتكر كان من حق الدولة المصادرة للصالح العام، والتأميم ورجوع الملكية للمسلمين، كما أن من حق الدولة تحديد الأسعار، والرقابة عليها، كما هو واضح في وظيفة «الحسبة» في الإسلام.
وقد امتد هذا التصور الفردي الرأسمالي القائم على المنافسة والربح في علاقة المتدين بالله؛ فهو يدفع قرشًا لبناء مسجد في الأرض حتى يبني الله له قصرًا في الجنة، ويسابق إلى الخيرات حتى ينال مكانًا عاليًا في الجنة؛ فالطبقات في المجتمع لها ما يرادفها في درجات الجنة، حتى يحصل الإنسان على أعلاها بالمنافسة والتسابق. وتقوم العلاقة أيضًا على الحساب الكَمِّي؛ فالحسنة بعشرة أمثالها. ويُضاعف الأجر إلى ما لا نهاية؛ ومن ثَم تكون تجارة رابحة تلك التي يعقدها المتدين مع الله.
وفي مناهج الإصلاح تؤمن بأن صلاح المجتمع بصلاح الأفراد، وأن فساد المجتمع بفساد الأفراد، وأن الرسول قد عُني بتربية الأفراد أولًا على مدى ثلاثة عشر عامًا، ثم بعد ذلك أسس بناء المجتمع في عشرة أعوام، ونظن أن هذا هو منهج الدين وهو في الحقيقة أثرٌ من آثار الرأسمالية في الدين؛ فالأبنية الاجتماعية هي التي تحدِّد سلوك الأفراد، والطبقات الاجتماعية هي التي تُفرز قادتها. وقد كان الأفراد الذين رباهم الرسول إفرازًا لطبقة المضطهَدين والمستعبَدين والأذلاء، أو لطبقة الرافضين لفكر قومهم ودينهم وعاداتهم ومُثلهم ومعتقداتهم. وكان ذلك من أجل تربية القادة، وهي الطلائع الثورية للجماهير، وليس من أجل تربية الأفراد لذاتها، وذلك لأن الواقع كان مختمرًا بالثورة، وكانت الجماهير تحتاج إلى فكر يعبِّر عنها، وإلى قادة يوجِّهون نضالها، وهو ما أعطاه الإسلام.
ونفسِّر الإسلام أحيانًا، ونصف انتشاره بأنه دينٌ أتى للصفوة المختارة قبل أن يأتي للدهماء، وأن الرسول ذاته كان من قريش، وهي قبيلةٌ من أشرف قبائل مكة، وأنه كان يدعو القبائل أعلاها فأقلها علوًّا، ويدعو وجهاء القوم ورؤساء العشائر وأغنياء الناس؛ فالصفوة هي النشِطة، القادرة، العالمة التي بها ينتشر الدين في حين أن العامة عاجزة، جاهلة ساكنة لا نصرة فيها أو لها. وهذا هو التفسير الرأسمالي لانتشار الإسلام. صحيحٌ أن الرسول قد دعا رؤساء القبائل وذلك لأنهم القادة، ودعوة القادة فيها دعوةٌ للجماهير ذاتها، وطبقًا للنظام القبَلي الذي تتبع فيها القبيلة رئيسها، إذا دخل الرئيس الدين الجديد دخلَت القبيلة كلها. وفي نفس الوقت لم يمنع ذلك من دخول أفراد القبائل الدين الجديد رغمًا عن رئيس القبيلة. ومع ذلك فقد رفض القرآن هذا المنهج في الدعوة في حادثةٍ مشهورة عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى، فحذَّر القرآن من التوجُّه إلى علية القوم وترك دهمائهم، وكم من القادة فيما بعدُ قد خرجَت من الدهماء!!كما ندعو إلى التغيير عن طريق إعطاء الأولوية للداخل على الخارج، ونستشهد بقول الله: إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ؛ وبالتالي فالأخلاق شرط السياسة، وإعادة بناء الضمائر شرطٌ لإعادة بناء المجتمع، ونذكُر القول المأثور «من أصلح جوانيَّه أصلح الله برانيَّه». وهذا هو الفكر الرأسمالي المتغلغل في الدين؛ إذ يريد النظام الرأسمالي أن يغطي معالم البناء الاجتماعي، وعدم لفت الأنظار إليه، وذلك بإحالة مشاكله وإرجاعها إلى نفوس الناس، وخراب الضمائر، وفساد الأخلاق، فيلتفت الناس إلى نفوسهم، ويتركون الواقع الاجتماعي كما يريده النظام الرأسمالي، ويقلبون النظرة من الخارج إلى الداخل، ويعكُفون على طهارة النفس وتزكيتها، ويكتشفون أن هذا العالم زائل، فيسعد الرأسمالي بما وصل إليه المتدين. وهيهات أن يتغيُّر الواقع بتغير النفس؛ فما دام الواقع كما هو فإن البناء النفسي يظل أيضًا كما هو، ولكن البداية بتغير الواقع، وتحقيق الإصلاح الاجتماعي من شأنه أن يُعيد بناء الأفراد. وهذا لا يمنع من أنه في مرحلة بناء القيادات، والطلائع الثورية يمكن البدء بتوعية الأفراد، وتوعية الجماهير، كجزء من البناء الأيديولوجي للواقع كله، وهي عمليةٌ مواكبة لعملية التغير الاجتماعي تحقيقًا لوحدة الشخصية القومية، وحتى لا يكون الواقع في جانب والأبنية النظرية في جانبٍ آخر. -
(٧)
ويؤمن الناس بالملكية الفردية ويدافعون عن الملكية الخاصة؛ فالدين قد سمح بها، والإنسان هو صاحب الحق الأول والأخير فيما يملك، وهي ملكيةٌ شرعية لا يمكن لأحد أن يصادرها، أو أن يؤممها، أو أن يشارك فيها آخر. والعلم يؤيدها؛ فالطفل يقبض ما تناله يده ويرفض تركه، ويرفض أن يشارك لعبه مع الآخرين، والمرأة تحب الخزين. وهذه هي الرأسمالية في الدين، واستغلال الدين والعلم من أجل تأييد النظام الرأسمالي والأيديولوجية التي قام عليها؛ إذ يدافع الناس عن الدين في صورة الملكية الخاصة، وهم في الحقيقة يدافعون عن الملكية الخاصة في ثوب الدين، كأثرٍ من آثار الاستعمار الثقافي، وكتعبير عن حب الدنيا التلقائي عند الناس؛ فالملكية ليست بالضرورة الملكية الخاصة، بل هناك صورٌ مختلفة للملكية العامة، ملكية الله، وملكية الدولة، والملكية التعاونية، والملكية الجماعية. وهي ملكياتٌ يؤيدها الدين، وشرعَها الفقهاء، ومارستها النظم الإسلامية، ويقول بها عديدٌ من النظم الاقتصادية اشتراكية ورأسمالية على حدٍّ سواء.
فالإسلام لم يعرف الملكية الخاصة ولكنه جعل الملكية لله، والإنسان مستخلَف فيما أودعه الله بين يدَيه، له حق التصرُّف، وحق الانتفاع به، فإذا أضرَّ بالغير، وإذا اختزن دون أن يستثمر كان من حق الحاكم أن يصادره، وأن يجعله ملكيةً عامة للمسلمين. هذا بالإضافة إلى أن لفظة «مال» في اللغة ليس اسمًا؛ وبالتالي لا تشير إلى شيء، بل هي اسم صلة «ما» وحرف جر «ل»؛ أي إنها لفظٌ مركَّب يدل على علاقة بين الشيء والإنسان، وهي علاقة التصرف والانتفاع فحسب. والملكية المذكورة في القرآن (حوالي ١٢٠ مرة) لا تعني الملكية الخاصة، بل الملكية المعنوية مثل ملك اليمين بمعنى الرعاية والعناية، وملك المفتاح بمعنى الائتمان، وملك النفس بمعنى القدرة، وملك خزائن رحمة الله، وملك النبوة، وملك السموات والأرض. المِلكية في الإسلام وظيفةٌ اجتماعية فحسب، يُحسن الإنسان إدارتها، فإذا أساء الإدارة وظف غيره. وتاريخنا مملوء بالحالات السابقة التي حرَّم فيها الحكام والفقهاء المِلكية الخاصة حتى لا يستكين الناس إلى الأرض، ويتركوا الغزو في سبيل الله، فضلًا عن أن المِلكية لا تنتُج عن ممارسة الأخلاق الإسلامية، التي تجعل علاقة المسلم بالعالَم علاقة أداء ورسالة وليست علاقة ملكية.
وما نقوله في المِلكية نقوله أيضًا في الميراث؛ إذ نقاتل بعضنا بعضًا من أجل الميراث، ويفكر كلٌّ منا في نصيبه راضيًا أو كارهًا، ذكرًا أم أنثى إذا ما تُوفي الأقربون. وهذا أيضًا إيمانٌ بالرأسمالية في ثوب الدين، ودفاعٌ عن الدين وهو في الحقيقة ممارسة للرأسمالية؛ فالميراث، كالملكية، لله وحده في الإسلام، ولم يرد لفظ «الميراث» في القرآن، بل ورد لفظ «الإرث» بمعنى ميراث النبوة، والعلم، والحكمة، والكتاب، والأرض، والجنة، ولم ترِد في أي سياق بمعنى الإرث الشخصي الذي نفرح به ونناله دونما مراعاة لمبدأ تكافؤ الفرص. والآية المشهورة التي تنظِّم الميراث آيةٌ شرطية، قد تحدث الحالة وقد لا تحدث. وإذا كنا نعلم أن المال وظيفةٌ للاستثمار لصالح الجماعة، وأن الجماعة لا بد وأنها محتاجة إليه كان الأوقع أن يترك الإنسان هذا العالم دون أن يترك وراءه شيئًا إلا من العمل الصالح. وهل ورث الأنبياء أو ورِثهم أحد؟
-
(٨)
وكثيرًا ما ندعو إلى طاعة أولي الأمر، ونبرهن على ذلك بأن طاعة أولي الأمر من طاعة الله أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ، وننصب أنفسنا دفاعًا عن السلطات الحاكمة ضد الشعوب. وهذا بالضبط هو الممارسة الرأسمالية للدين، والإيمان بالله على الطريقة الرأسمالية، والإيمان بالرأسمالية في ثوب الدين، وذلك لأن طاعة أولي الأمر تدفع الناس إلى التسليم، وتبعث فيهم الدعة والسكون، وخير وسيلة لذلك هي استغلال طاعة الله التي ترضاها الجماهير؛ فما دامت الجماهير مطيعة لله تكون أيضًا مطيعة للنظام. ولما كانت الجماهير متدينة، وستظل كذلك إلى أجيال قادمة، فإن طاعتها للنظام تكون مضمونة على الإطلاق؛ ومن ثم يتحقق للنظام الرأسمالي ما يبغيه من الإبقاء على الوضع القائم، واتهام كل صور المعارضة بالخروج على النظام؛ ومن ثَم، بالخروج على طاعة الله.
وهذا خروج على الدين، وضياع للأمة؛ فقد قال الدين أيضًا: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.» ولما كان صاحب رأس المال قد عصى الله باستغلاله واحتكاره، وسيطرته على أرزاق الشعب، ونهبه لثروات البلاد، فإن الخروج عليه واجب، وتغيير النظام ضرورة. ولقد بشَّر الدين أيضًا كل من رفع سيفه في وجه حاكمٍ ظالم بالجنة، والرأسمالي ظلَم الناس باستغلالهم والسيطرة على أرزاقهم؛ ومن ثَم كان قلب النظم الرأسمالية وتقويضها واجبًا شرعيًّا على كل مسلم ومسلمة، وكذلك من الدين أيضًا «عجبتُ لرجلٍ لا يجد قوت يومه ولا يخرج للناس شاهرًا سيفه!» والرأسمالي منَع أقوات الناس وكنَزها، وترك المسلمين جياعًا؛ ومن ثم وجب إشهار السيف في وجهه. وقد عبَّر مصلحونا عن ذلك وعلى رأسهم الأفغاني بقوله «عجبتُ لك أيها الفلاح، تشُق الأرض بفأسك ولا تشق قلب ظالمك!» وملَّاك الأرض وأمراء الإقطاع استولَوا على أراضي المسلمين؛ ومن ثَم وجب على جماهير الأمة أخذ حقها واسترداد الأرض؛ لذلك تنشُر النظم الرأسمالية القيَم الخلقية التي تدعو إلى استتباب الأمر واستقرار النظام، وسيادة القانون، وتبشِّر بأخلاق الشرف والأمانة والاستحقاق، وكلها أخلاق تستفيد منها الطبقة الحاكمة والطبقة المتوسطة درعها ومنفِّذ قانونها، وهي التي تحرص على النظام، وتضمن الأمن؛ فهي المستفيدة من الأقلية الحاكمة بقَدْر ما تتلقى من موائدها، وبقَدْر ما ينالها من رشاويها، وهي المستفيدة أيضًا من الطبقة الدنيا باستغلالها لحسابها كما تفعل الطبقة العليا. وتتهم النظم الرأسمالية كل النظم المعارِضة بالإرهاب والعنف، وإراقة الدماء، والتعصب، والتبعية والعمالة، والخيانة، في حين أن الثورة على نظم الاستغلال والاحتكار جزءٌ من الجهاد المقدس، يحرص المؤمنون على نيل الشهادة فيه.
-
(٩)
وكثيرًا ما نقدِّس رجال الدين، نطيعهم طاعةً عمياء لا مراجعة فيها ولا استفسار، ونتخذهم قدوةً صالحة للسلوك، ونُسلمهم رقابنا وثرواتنا. وهذا بالضبط ما تريده لنا النظم الرأسمالية؛ إذ إنها تُقيم لنا مؤسساتٍ دينية، وتدعم رجال الدين كواسطة بين الحق والخلق — وهو ما حذَّر منه الفقهاء جميعًا — يمكن من خلالها السيطرة على المجتمعات، ورجال الدين، في نهاية الأمر، فئة اجتماعية من عِلْية القوم، ويكونون جزءًا من الطبقة العليا، يتمتعون بامتيازاتها، ويعيشون على حمايتها، ويتصدَّرون واجهة القوم، وتأتمر في النهاية بأمرها؛ فهي ولية نعمتها، وسبب بقائها؛ ومن ثَم، فالسلطة الدينية هي الحليف الطبيعي للسلطة السياسية. تستشهد السلطة السياسية برجال الدين كمثلٍ أعلى للسلوك في الطاعة والولاء. ولمَّا كانت الجماهير تثق برجال الدين، إيمانًا منها بالدين، فإنها تأخذ سلوكهم قدوة؛ وبالتالي يتحقق للنظام الرأسمالي ما يبغيه من طاعة الجماهير وولائهم له. وإذا أراد النظام الرأسمالي إصدار قانونٍ زيادةً في الضرائب، أو توفيرًا للعمالة، أو تحديدًا للأجور، فإنه يلجأ إلى رجال الدين، الذين يقومون بدورهم بتبليغه للشعب وتبريره، وتأييده بالنصوص الدينية، قال الله، وقال الرسول، وإلباسه ثوب الدين، فيقبله الشعب راضيًا مرضيًّا، فإذا ثار الشعب بقيادة طلائعه، فإن رجال الدين يقومون بامتصاص ثورته مطالبين بالطاعة والولاء، ومتوعدينه بالويل والثبور، والطرد والحرمان، ومتهمين قياداته بالخروج، وإثارة الفتن، وبث الشقاق، والقضاء على وحدة الأمة!
وكل ذلك غريب على الإسلام؛ فليس في الإسلام رجال دين؛ من ثَم فإن ادعاء أية سلطةٍ دينية حقَّ التفسير للدين أو التوجيه للجماهير، فإنه يكون ادعاءً باطلًا لا يُقره الدين، ولا يبغي وجه الله، وكل توسُّط بين الإنسان والله هو توسُّطٌ غير شرعي؛ فلا وساطة في الدين بين العبد وربه. والاجتهاد حقٌّ مشروع للجميع، ولكل مسلم أن يجتهد إذا ما توافَرَت فيه شروط الاجتهاد، العلم بالكتاب والسنة والوعي بمصالح المسلمين، ولكل مجتهدٍ نصيب، وللمخطئ أجر، وللمصيب أجران، وقد حذَّرنا الرسول من تبعية مُدَّعي الاجتهاد وإلا كان ذلك شركًا بالله.
-
(١٠)
وعلى نطاق الأحلاف، يظن الناس أن الغرب المؤمن أقرب إليهم من الشرق الملحد، وأن الرأسمالية الغربية قائمة على الدين في حين أن الاشتراكية الشرقية قائمة على الإلحاد؛ ومن ثَم كان الغرب هو الحليف الطبيعي للمسلمين؛ فهو وإن كان يطمع في أموالنا وثرواتنا إلا أنه لا يطعن في ديننا، في حين أن المعسكر الشرقي يطمع في الأموال والثروات ويطعن في الدين، ويهدم العقائد، وينشر الكفر والإلحاد، ويهدم المعابد؛ فالاستعمار الغربي استعمارٌ للأرض دون هدمٍ للدين ودون قضاءٍ على العقائد والتراث، في حين أن الاستعمار الشرقي استعمارٌ للأرض وهدمٌ للدين وقضاءٌ على العقائد والتراث معًا. الاستعمار الغربي يسهُل استئصاله بالحرب أو بالسلم، في حين أن الاستعمار الشرقي يستحيل استئصاله لأنه يفرض وجوده بالقوة. الحليف الغربي صريح في معاملته، يريد الأرض ويؤمن بالله في حين أن الحليف الشرقي منافق يريد الأرض ويدَّعي الحرية، يسيطر على الشعوب ويرفع شعار الديمقراطية. الحليف الشرقي غير إنسانيٍّ في نظامه، يقهر الفرد، ويكبت الحريات، في حين أن الحليف الغربي إنساني في نظامه، كريم في معاملته، يحترم الفرد، ويدافع عن حرياته؛ هذا هو ما نؤمن به ونظن أنه من الدين، في حين أنه في حقيقة الأمر من ترويج الدعاية الاستعمارية في أذهان الشعوب النامية من أجل إعادة السيطرة عليها، وإدخالها في أحلافها العسكرية، ومناطق سيطرتها ونفوذها.
فالغرب في حقيقة الأمر ينافق في الدين، ويظن أن الإيمان هو تستُّر وتعمية وتغطية على ما يدور في الواقع، ويتهم كل من يضع في الإيمان مضمونًا اجتماعيًّا بالكفر والإلحاد، ويحرص على نشر هذا التصور الضامر للدين، أنه نظرياتٌ أو عقائد أو شعائر أو طقوس. في حين أن المبادئ العامة للنظم الاشتراكية وأهدافها من تحقيق للعدالة الاجتماعية، وتذويب للفوارق بين الطبقات، ومن قضاء على روح الاستغلال ووسائل السيطرة والاحتكار، ومن جعل العمل وحده مصدرًا للقيمة، ومن جعل الحكم للأغلبية والتخطيط لصالحها؛ كل ذلك أقرب إلى روح الإسلام من التستر بالعقائد والشعائر على مظاهر الاستغلال والاحتكار. والذي يهدم العدالة الاجتماعية هو في الحقيقة هادمٌ للدين حتى ولو ملأ الأرض تكبيرًا، وعمرها معابد، وتناثرَت فوقها الصدقات.
إن الشعوب المتحررة حديثًا بعد أن تحرَّرَت من الاستعمار الصريح، العسكري أو الاقتصادي، ما زالت تحت رحمة الاستعمار الثقافي، الذي يبغي الإبقاء على سيطرته على الشعوب وثرواتها، من خلال طبقة من أهل البلاد تدين له بالولاء، بولائها للثقافة الأجنبية وتقليدها لها؛ فبدل أن يحكم الاستعمار مباشرة فإنه يحاول أن يحكم الآن من خلال هذه الطريقة، وهي امتداده في البلاد النامية. وقد آن الأوان للقضاء على الاستعمار الثقافي في البلاد، وتنوير الناس، ورفع الخلط في أذهانهم، ورفع الالتباس في نفوسهم عما يظنون أنه من الدين وهو في الحقيقة من الرأسمالية. وهذا هو دور المثقَّفين الآن.
وصدَّر المقال بالفِقرة الآتية:
الخطايا العشر في إسلامنا اليوم مستوردة من الغرب ولصالح الرأسماليين:
(١) البحث عن الله خارج العالم.
(٢) العكوف على الغيبيات والأسرار.
(٣) الفهم الشكلي للشعائر.
(٤) الصراع بين المادة والروح.
(٥) النزعة الاستهلاكية!
… وخطايا أخرى في العدد القادم.
قضية اليوم في بلدنا ليست «الإسلام أم الماركسية»، وإنما هي بالتحديد: الإسلام أم الرأسمالية!
فالرأسمالية هذه الموجودة في مجتمعنا، وخطرها هو الماثل أمام أعيننا؛ بدليل أن معظم تصوُّراتنا الإسلامية اليوم ليست من الإسلام، وإنما هي تصوراتٌ رأسمالية تسلَّلَت إليه، وإلينا، دون أن نشعر!
وعلى السطور التالية يكشف لنا الدكتور حسن حنفي، أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة القاهرة، هذه الحقيقة المزعجة. ويدُق ناقوس الخطر، للذين هم حقًّا مؤمنون.
خمس خطايا رأسمالية أخرى تسلَّلَت إلى الفكر الإسلامي.
في العدد الماضي ألقى الدكتور حسن حنفي، أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة القاهرة، الضوء على خمس «خطايا» من الفكر الرأسمالي، تسلَّلَت إلى الإسلام في مجتمعنا.
واليوم يواصل الدكتور إلقاء الضوء على خمس خطايا أخرى — يختتم بها حديثه الخطير — وهي:
• حرية النشاط الفردي.
• حق الملكية المقدَّس.
• طاعة «أولي الأمر».
• تقديس رجل الدين.
• التحالف مع «الغرب المؤمن».