ماذا تعني أسباب النزول؟١

إن أهم ما يميز هذا الشهر الكريم هو نزول الكتب السماوية فيه، التوراة، والإنجيل، والزبور، والقرآن؛ فهو شهر الوحي ورسالات السماء شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ.

وقد تصوَّر الناس خطأ أن الحديث عن القرآن يتم عن طريق الحديث عن كلام الله الأبدي، فيجعلونه صفةً من صفات الله، كما فعل علماء أصول الدين القدماء، أو يجعلونه الكتاب المدوَّن أي المصحف المغلَّف بالقطيفة الحمراء، الموشَّى بالذهب إن أمكن، والمغطَّى بالحرير، والمقبَّل بالشفاه، والموضوع على المكاتب أو في العربات، وفي واجهات عرض مَحالِّ التحف الشرقية، أو المكتوب المُزركَش على لوحة أو على حبة قمح أو على بيضة، كما هو الحال في متاحفنا الشرقية.

وكلتا النظرتَين خطأ؛ فالقرآن وإن كان كلام الله إلا أنه أنزل إلينا لصالحنا إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ، وحديث الله إلينا؛ فالمقصود هو نحن البشر، والهدف هو مصلحتنا؛ وبالتالي يكون إرجاع كلام الله إلى الله ثانيًا مضادًّا لمقصد الوحي، ولغرض الله في حديثه إلينا؛ فاعتبار كلام الله صفةً لله مضادٌّ لكلام الله نفسه الذي أتانا ليُبلغنا الرسالة، وليُشير علينا بما فيه مصلحتنا.

والقضية ليست نزول القرآن من عند الله مباشرةً أو في اللوح المحفوظ أولًا ثم بعد ذلك إلينا؛ فكل ذلك رجم بالغيب، وقول بالظن، وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا. إنما القضية كلام الله هذا الذي نفهمه ونتلوه، ونفهمه ونفسِّره، ونجد فيه تحقيقًا لمطالبنا، وحلًّا لمشاكلنا، ودرءًا لمآسينا.

ونخطئ عندما نشغل بالنا بكيفية التبليغ، هل كان الرسول وهو بشر يأخذ صورةً ملائكية أم هل كان الملاك يأخذ صورةً بشرية؟ هل كان الملاك يأتي وله صوتٌ مثل صوت الجرس أم كان ينفث في روع الرسول؟ هل كان الملاك يأتي الرسول في نومه أم في يقظته؟ كل ذلك لا شأن لنا به؛ فبذلك لم نؤمر، وعن مثل هذه الأمور حرم السؤال. مهمتنا بعد وقوع الكلام وحدوثه وإنزال القرآن محسوسًا لدينا نسمعه ونقرؤه ونفهمه ونفسِّره، ونطبِّقه ونستفيد منه في حياتنا العملية.

ما يهمنا إذن هو نزول القرآن أو وقوعه، وأهم ما يميِّز القرآن على الكتب المقدسة الأخرى هو أنه نزل مُنجمًا؛ أي مفرقًا طبقًا للحوادث، وحسب الظروف، وبناء على مقتضيات الواقع ومتطلباته، وقد استدعى ذلك انتباه المناهضين للإسلام وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً وكان الرد من القرآن أيضًا كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ أي حتى يعيه الإنسان مع واقعه، وحتى يحفظه ولا ينساه؛ فالواقع هو حامل الآيات وحارس الذاكرة وحافظها.

ما يهمُّنا إذن هو نزول القرآن، وهو ما وصفه علماء التفسير، وعلماء أصول الفقه باسم «أسباب النزول»، التي أصبحَت شرطًا من شروط التفسير والاجتهاد؛ فماذا تعني «أسباب النزول» بالنسبة للعصر الحاضر؟

(١) الوحي والواقع

تعني «أسباب النزول» أن الوحي لم يُفرض على الواقع ابتداء، بل كان نداءً للواقع ذاته، وأن الجزيرة العربية كانت تبحث عن فكر يُعبِّر عنها، وعن أيديولوجية توحِّد قبائلها، وعن زعيمٍ أو قائدٍ يقودها، وبه تؤدي رسالتها. كانت اليهودية والمسيحية محدودة الانتشار، ولم تكن تعبِّر عن واقع العرب إلا في أقل الحدود. عاش اليهود منغلقين على أنفسهم، محصورين فيما بينهم فكيف يوحِّدون القبائل؟ وعاش المسيحيون فضلاء أتقياء لا يدخلون في معارك القبائل فكيف يتزعَّمونها؟ وكان الحنفاء يحظَون باحترام الجميع؛ فقد كانوا على سنة إبراهيم، جد العرب، فجاء الإسلام لنشر الحنيفية السمحة مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا في صورتها العامة، وهو الإسلام الذي أصبح الرافد الأساسي في الشعور العربي، والمرحلتان السابقتان للوحي جزء من تاريخه.

أما الوثنية فلم تكن مكونًا أساسيًّا من مكوِّنات الشعور العربي، بل كانت لا تتجاوز سطحه، ولا يؤمن بها أحدٌ إيمانًا يقوم على التصديق والبرهان.

نستدل من ذلك إذن على أن الواقع له أولوية على الفكر؛ وبالتالي يكون الإسلام بلغة العصر دينًا واقعيًّا من الأساس، وليس فقط في التشريعات، على ما هو معروف في مبادئ الاستدلال «لا ضرر ولا ضرار» أو «الضرورات تبيح المحظورات». وذلك يعني أنه مطلبٌ من مطالب الواقع، وأن الواقع هو الذي نادى به، وهو الذي فرضَه؛ فلم يأتِ عنوة، ولم يُفرض غصبًا.

وهذا ما قد نسيناه في حياتنا المعاصرة، عندما نحاول فرض الدعوات السياسية بالسلطة، ونشر المذاهب والاتجاهات عن طريق الدولة، والناس تتساءل عن معنى هذا ومغزى ذاك، حيارى، تقلِّب وجوهها في السماء باحثة عن شيء يعبِّر عن واقعها، كما عبَّر الإسلام أول مرة عن واقع الناس في الجزيرة العربية. وتكون النتيجة لامبالاة الناس أمام ما يُعرض أمامها من مذاهب واتجاهات، وبحثها في ملفاتها القديمة، فتجد الموروث بعبله، وبكل ما فيه من حشوٍ فتَجتَره بلا وعي وبلا انتقاء، أو تجد إغراء الجديد فتقلِّده، وتنعم بتحقيق أشواقها نحو التحديث والتجديد، وفي كلتا الحالتَين لا تجد الناس فكرًا يعبِّر عن واقعها كما عبَّر الوحي من قبلُ.

وكذلك عندما يحاول مثقفونا فرضَ الأفكار والمذاهب الفنية على أذواق الجماهير، التي لا تتذوق هذه الأفكار وهذا الإبداع الفني، لعدم ثقافتها وأميَّتها وجهلها بقواعد الفنون الحديثة يشكون من سلبية الجماهير، ولامبالاة الناس، في حين أن التغير الاجتماعي لا يأتي عن طريق فرض أفكار على الناس، بل عن طريق التعبير عن واقعها بالفكر وبالفن، وصياغة مآسيها بالنظر وبالتصوير، والتعبير عن أشواقها في أيديولوجيةٍ كاملة كما فعل الإسلام أولًا.

(٢) النص والمصلحة

وتعني «أسباب النزول» أيضًا أن هذا الواقع يمكن إدراكه بالفطرة، ويمكن للآخرين الاتفاق عليه وموافقته والتصديق به؛ فقد كان عمر يدرك واقع المسلمين ومصلحتهم بفطرته، وكان يطالب النبي بوحيٍ في هذه المسألة، أو في تلك الواقعة، ويدرك بحواسه الوحي المطلوب، ثم يأتي الوحي مصدقًا لإدراك عمر.

وكان الرسول يُثني دائمًا على هذا الذي صدَّقه الوحي؛ فعمر هو الذي أدرك بفراسته خطورة الخمر على العقل، وعلى الحياة العامة، فجاء الوحي محرمًا لها، وهو الذي أدرك خطورة غواية المسلمين في الطرق العامة، فنزلت آية الحجاب، وكان يدرك بفطرته متى يجب السلام ومتى تحين الحرب، متى تُعقد المعاهدات ومتى تُنقض، متى تجب الطاعة ومتى تحين الثورة. كان يدرك بفطرته متى تجب الملكية ومتى يُفرض إلغاؤها، متى يُطبَّق الحد وفي أي ظرفٍ يُوقَف، ومن عمر خرج فقه عبد الله ابن مسعود، ومنه تأسَّس فقه مالك، وعن مالكٍ عُرفَت المبادئ العامة للاجتهاد، المصالح المرسلة، ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن.

فبنظرتنا نحن، وبالتحامنا بالواقع، يمكن صياغة حلول لمشاكلنا، تكون بالضرورة مصداقًا للوحي؛ فواقع مصر بدخله المحدود لا يقبل إلا مجتمعًا لا طبقية فيه، وواقع مصر بأرضها المحتلة لا يقبل إلا توجيه موارد البلاد وطاقاتها لطرد المحتل، وواقع العالم الإسلامي بتركيز ثرواته في يد الأغنياء، وشيوع المجاعة والقحط والجفاف وسوء التغذية والأمراض والأمية لدى عامة المسلمين، لا يقبل إلا بإعادة توظيف المال العام لخدمة الجماعة، وردِّ أموال الأغنياء إلى بيت المال.

فالواقع هو الذي يفرض نفسه، وهو أبلغ من كل نص، يختلف في تفسيره المتحذلقون، كلٌّ على هواه، دفاعًا عن مصلحته، الواقع هو مصدر النص ومنبعه، والبداية بالواقع هو الرجوع إلى المنبع والمصدر الأساس.

(٣) الحديث بدون مناسبة

وتعني «أسباب النزول» أننا نختار من الوحي في كل مناسبة ما نجد فيه حلًّا لمشاكلنا ومآسينا. إن كل محاولة لتفسير الوحي ككلٍّ وأخذه جملةً واحدةً معارضة لطريقة نزول الوحي في البداية، وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ أي إن القرآن يحتوي على حلولٍ لمشاكلَ عدة لا يُؤخذ منها إلا ما ساعد على حل مشاكل الناس، وإلا استمع الناس إلى كل شيء ولم يأخذوا أي شيء! فالوحي قد حوى كل شيء، وبه حلول لمشاكل قد تظهر في أي عصر، وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ؛ فليس الهدف هو عرضها كلها واستحسانها والثناء عليها، جمعَت فأوعَت، وإلا كنا كمن يحفظ قاموسًا للغة حتى يتقن اللغة، دون أن يأخذ من المفردات ما يحتاجه في موقفٍ معين. ومهما حفظ فإنه ينساها؛ لأنها معرفة لم تُوظَّف ولم تُستخدَم، في حين أن الكلمات التي يعيها الإنسان في موقف تلعثمه وبحثه عن المفردات وهو بصدد الحديث هي التي تبقى نظرًا لشدة المحنة وكثرة الاستعمال.

أما ما يحدث اليوم من نشرٍ للوحي، ما نحتاجه وما لا نحتاجه، وكأننا نعلن عن سلعة في أجهزة الإعلام، فهي محاولاتٌ للتعمية والتغطية والتستر على ما يدور في الواقع، وتملُّق لحس الجماهير الديني وترك لمشكلاتها وأزماتها وضنكها وهمِّها، أو نخطب في المصلين ونذكُر لهم محاسن الصلاة ونحُثهم على الصلاة! وكأننا نريد إعطاءهم ما لديهم من قبلُ، أو ندعو الفقراء إلى الفقر ونقول يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ! أو نقول للجياع «جوعوا تصحُّوا»، أو نقول لمجتمعٍ يعاني من التفاوت الطبقي وسوء توزيع الدخل القومي وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ، أو نتحدث عن عالم الجن والملائكة في مجتمعٍ يعاني من الجهل والتقليد والتسليم ونحاول تأسيسه على عقلانية واستنارة، أو نذكُر الحور العين، والجنان والأنهار، والأشجار والظلال في مجتمعٍ محروم لا مأوى له ولا طعام فنُسكنه ونُشبعه عن طريق التمني والخيال، ولا ندري أن لكل مقامٍ مقالًا.

إن الحديث عن الدين بلا مناسبة، بل لمجرد المهنة أو التجارة أو لملء الأوقات في أجهزة الإعلام، أو للتكسب، أو للدعاية والإعلان؛ كل ذلك لا يرضاه الإسلام.

أما الابتهالات والتواشيح والمدائح فكلها ليست من الإسلام في شيء، بل غناءٌ لأناسٍ يبكون، وطربٌ لأناسٍ مهمومين، ومدح حيث يكثر المدَّاحون.

لقد سُمي الفقهاء من قبل «أهل التنزيل»؛ لأنهم حاولوا استنباط شريعة تصلُح للناس في حياتهم، ونحن على درب الفقهاء نسير.

١  روز اليوسف، العدد ٢٥١٩، ٢٠ / ٩ / ١٩٧٦م. وقد بدَّل رئيس التحرير العنوان إلى «القرآن ليس تحفة شرقية» وصدَّره بعبارة «والإسلام يرفض الكلام في الدين بلا مناسبة».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥