اختلاف في التفسير أم اختلاف في المصالح؟١
يخطئ من يظن أن تفسيرًا معينًا للدين هو الدين في ذاته؛ فالتفسيرات متعددة ولكن الدين واحد، وكلها شرعية لأنها تعتمد على نصوص الدين، ولا احتكار في التفسير، ولا تكفير لأحدها دون الآخر.
ولكن كيف تكون التفسيرات مختلفة والدين واحد؟ هل ترجع التفسيرات إلى خلاف في وجهات نظر مجردة أم أنها ترجع إلى اختلاف في المصالح؟
والحقيقة أن قارئ النصوص الدينية ليس عقلًا مجردًا، بل هو إنسان، يعيش في مجتمع، وله مشاكله وظروفه ومصلحته. ولا يمكن أن يُقرأ النص إلا من خلال هذا الوضع النفسي الاجتماعي، سواء في اختيار النص أو في فهمه. ولما تعدَّدَت المواقف والظروف والمصالح والطبقات للمفسِّرين، تعدَّدَت أيضًا تفسيراتهم؛ فليس الخلاف حول معنًى موضوعي للنص المستقل، بل هو اختلاف المواقف الاجتماعية والمصالح الطبقية للمفسِّرين. اختلاف التفسيرات يرجع أساسًا إلى اختلاف المصالح، واختلاف المصالح يرجع في النهاية إلى التركيب الطبقي للمجتمع.
- (١) تفسير الطبقة العليا، وينتقي من النصوص ما يدافع به عن التركيب الطبقي للمجتمع مثل: وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ، وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ، مخرجين النص من السياق؛ فقد تعني الدرجات هنا درجات العلم وليس درجات الربح. وهو التفسير الذي يدافع عن الملكية الفردية، وعن النشاط الاقتصادي الحر ما دام الإنسان يكسب بالحلال، ويُخرج الزكاة حتى ولو وصل ربحه إلى المليون وتجاوزه. وهو التفسير الذي يتبناه رجال الأعمال وأصحاب رءوس الأموال، بناة المساجد، ودعاة التقوى والإيمان، وأصحاب برامج العلم والإيمان وتفسير القرآن، الذين يُسرَق من منازلهم بعشرات الألوف من الجنيهات المجوهرات والحلي الثمينة!
- (٢) تفسير الطبقة المتوسطة، وهو التفسير الذي يدعو إلى حفظ النظام، وعدم التغيير، والإبقاء على الوضع القائم، أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ. والطبقة المتوسطة بطبيعتها انتهازية، تبغي مصلحتها، تستفيد من الطبقة العليا؛ فهي المنفذة لأوامرها والمبررة لأفعالها، والمتطلعة لأنماط سلوكها، في حركةٍ صاعدةٍ سلمية كمكافأة لها على بذل الخدمات، وتستفيد أيضًا من الطبقة الدنيا؛ فهي التي تقضي لها المصالح، وتحقق لها الرغبات، وتطبِّق أو لا تطبِّق لها القوانين، فتأخذ الرشاوى والعمولات، وتستغل حاجات الناس، وتعيش على مآسي الآخرين.
- (٣) تفسير الطبقة الدنيا، وهي طبقة الأغلبية، الطبقة الكادحة، وهو تفسير يعتمد على إبراز حق الأغلبية، دعاته قليلون، وأنصاره مضطهدون، وفكره محاصر، ومتهمون بالشيوعية والإلحاد، وبالكفر والانحلال، وبالدموية والخروج على القانون، وبقلب نظم الحكم بالتنظيمات السرية وبعملاء الاتحاد السوفيتي، وبمنفذي المؤامرات الدولية! وهم الذين يعودون إلى مصالح الناس كأصل التشريع كما يقرر الشرع، ويرون العقائد متصلة بحياة الناس. فالإيمان بالله أمان من الجوع والخوف فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ. تنهار المجتمعات بتشييد القصور فوق الآبار المعطلة، وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ. وهو التفسير الذي يقول بملكية الدولة لوسائل الإنتاج (الماء، والكلأ، والنار) وبالإصلاح الزراعي، وبسياسة للأجور تتناسب مع الجهد في العمل، وبالاعتماد على الذات، وبالتخطيط لصالح الأغلبية.
ولمَّا كان لا يوجد مقياسٌ نظري لمعرفة التفسير الصحيح، وكان الخلاف في التفسيرات النظرية هو في الحقيقة اختلاف في المصالح، فإن التفسير الصحيح إنما ينتج عن صراع القوى الاجتماعية. ويكون السؤال هو: لصالح أية طبقة يتم حسم الصراع الاجتماعي، الطبقة العليا أم الطبقة المتوسطة أم الطبقة الدنيا؟ وما هي القوى الاجتماعية القادرة على حسم هذا الصراع؟