المال في القرآن (تحليل المضمون)١
إن طريق التنمية اللارأسمالي في البلاد النامية مرتبط أشد الارتباط بتراثها القديم وبثقافتها الوطنية، ولمَّا كان هذا التراث وهذه الثقافة في جوهرهما دينيَّين، أصبح من الضروري معرفة موقف الدين من التنمية، وكيف يمكن أن يساهم في تكوين نظامٍ اقتصادي يرعى مصالح الأغلبية. وتزداد الأهمية إذا ما عرفنا كيف يُستغَل الدين في البلاد النامية لصالح النظم الرأسمالية، بالتركيز على التفاوت في الرزق، كمظهر من مظاهر القدَر الإلهي، وعلى الاستثمار القائم على الربح، وعلى الملكية الخاصة بلا حدود أو شروط، وعلى النشاط الاقتصادي الحر، ما دام صاحب رأس المال يؤدي ضريبة المال أو العقار في صورة الزكاة، فأصبح الدين وسيلةً لتدعيم النظام الرأسمالي أمام أعين الجماهير، ولا تستطيع له دفعًا.
مهمتنا هنا هي تقديم بديلٍ آخر عن تصور الدين لأحد مظاهر النشاط الاقتصادي، ألا وهو المال، لمعرفة ما إذا كان تصوُّر الدين للمال أقرب إلى التصور الرأسمالي أم الاشتراكي أم أنه تصورٌ خاص يمكنه تطوير المجتمع وتنمية موارده الاقتصادية على نحوٍ رأسمالي بالضرورة، دون الوقوع في التصورات الاشتراكية الطوباوية أو الدينية أو الخُلُقية. قد يحتوي الدين على تصورٍ علمي للمال ووضعه في المجتمع وصلته بالنشاط الإنساني، وقد يكون هذا التصور أكثر تطابقًا مع وجداننا القومي أكثر من أي تصورٍ نظري آخر في أحد النظم الاقتصادية. وعلى هذا النحو، لا يُتهم هذا التصور بأنه مستورد أو دخيل، أو أنه لا ينبع من تراثنا وتربتنا وأخلاقنا وروحنا، كما هو معروف في التهمة الشائعة التي تُلصق بكل تصور لا رأسمالي للدين.
وسأبدأ أولًا بتحليل لصورة الآيات، أعني أشكالها اللغوية، ثم أُثنِّي بتحليل المضمون؛ أي معانيها، من أجل الانتهاء إلى تصورٍ عام للمال في «القرآن»؛ أي في آخر مرحلة من مراحل الوحي الذي اكتمل فيها، وأصبح أيديولوجية.
أولًا: تحليل الصورة
-
(١)
ذُكر لفظ «المال» في القرآن في صوره المختلفة ٨٦ مرة؛ أي إنه موضوعٌ مهم تناوله الوحي بالبيان والتفصيل، وليس موضوعًا عارضًا، ويعادل موضوع النبوة (ذُكر لفظ «النبي» بصوره المختلفة ٨٠ مرة). كما يعادل موضوع الوحي (ذُكر لفظ «الوحي» بصوره المختلفة ٧٨ مرة)؛ فالحديث عن «المال» في الوحي حديثٌ أصيل، وليس إسقاطًا من مذاهب معاصرة عليه، وليس شدًّا للوحي إلى مذاهبَ مغايرة له، وليس استعمالًا للوحي، حتى يقول ما يريده صاحبُ مذهب أن يقول.
-
(٢)
وقد ذُكر لفظ «المال» في القرآن في صورتَين مختلفتَين؛ مرة غير مضاف إلى الضمائر (المال، مالًا، الأموال، أموالًا) ٣٢ مرة، ومرة أخرى مضافًا إلى الضمائر (ماله، مالِيَه، أموالكم، أموالهم) ٥٤ مرة؛ مما يدل على أن المال قد يكون له وضعٌ مستقل في العالم عن النشاط الإنساني، لا يُضاف إلى أحد، فردًا أو جمعًا، وقد يدخل في علاقة مع الآخرين، في صورة نشاط وجهد واستثمار. والمال المستقل عن النشاط ينبئ عن أنه وضعٌ طبيعي، لا يمتلكه أحد، بل موضوع في الطبيعة أو واقعةٌ مستقلة؛ فكل مال لا يُمتلك بالضرورة بل هو موجودٌ قبل نشاط الإنسان في مقولة الوجود وليس في مقولة الملكية؛ فكل محاولة لإثبات ملكية المال تُغفِل وضع المال المستقل غير المضاف إلى الضمائر، وتجهل وضع المال كظاهرةٍ طبيعيةٍ في العالم في صورة ثرواتٍ طبيعيةٍ في الأرض قبل أن تدخل في أية علاقة مع الإنسان، المال هنا مجرد إمكانية للعمل وللنشاط، وليس فقط واقعًا دافعًا على هذا النشاط. ولمَّا كانت الإضافة أكثر شيوعًا من عدم الإضافة (٥٤ – ٣٢) كانت علاقة المال بالآخرين هي محور نظرية المال؛ أي المال المستغَل، المستثمَر، بعد أن أصبح طرفًا في علاقة مع الإنسان. المال لا يظل في بطن الطبيعة بل يستغله الإنسان؛ لذلك لا يمكن اكتناز المال أو تخزينه أو منعه من السيولة والحركة؛ فالمال للاستعمال وليس للاكتناز، المال حركة وليس سكونًا، المال طرف في علاقة مع الإنسان من حيث هو نشاط وحركة، وفعل وجهد، وطاقة وتولد، فإذا كانت البلاد النامية تعاني من نقص في الاستثمار الداخلي، بالرغم من وجود المال في أيدي الطبقات العليا، بما يتمتعون به من قوةٍ شرائيةٍ ضخمة تسمح لهم باستهلاك الأموال، أو بتهريبها، أو باستثمارها في عقارٍ غير منتج أو مضاربة أو عمولة أو سمسرة، فكل ذلك اكتنازٌ للمال دون جهد ونشاط. ومن هنا أتى تحريم الربا؛ لأن المال لا يولِّد المال تلقائيًّا، بل الجهد هو الذي ينمِّي المال ويُكثره.
-
(٣)
ويُذكر لفظ «المال» غير مضاف في صورتَين؛ مرة نكرة (مالًا، أموالًا) ١٧ مرة، ومرة معرفة (المال، الأموال) ١٥ مرة؛ مما يشير إلى أن المال معروف وليس مجهولًا، وأنه معلوم وليس خفيًّا (هذا بالإضافة إلى المال المعرَّف بالإضافة إلى الضمائر)؛ فالمال يدخل في نظامٍ اقتصادي، ونعرف مصدره واستثماره وتنميته ومآله. لا يُترك المال هباء لا ندري من أين أتى؟ وكيف تكاثر؟ وأين انتهى؟ بل يُدرس، ويتقنَّن مساره؛ فالمال له نظرية يقوم عليها وليس مجرد موضوع أو شيء يخفَى ويستتر. وقد يكون التعريف بألف ولام التعريف (المال، الأموال) ٧ مرات وقد يكون بالإضافة (مال الله، مال اليتيم، أموال اليتامى، أموال الناس) ٨ مرات، مما يدل على أن التعريف بالمال لا يأتي من كونه موضوعًا طبيعيًّا معروفًا في العالم، بل يكون تعريفه بنسبته إلى الآخرين، والآخرون هم الناس أولًا (ذُكرت «أموال الناس» ٤ مرات) ثم أموال اليتيم واليتامى ثانيًا (ذُكر مال اليتيم مرتَين، وأموال اليتامى مرة) ثم مال الله ثالثًا (ذُكر مال الله مرةً واحدة)؛ فالمال للناس؛ أي للجماهير وللعامة وللأغلبية ولأصحاب المصلحة الحقيقية، وعلى رأسهم اليتامى والمحتاجون ومَن لا عائل لهم، وليس للمكتفين الذين تفيض الأموال عن حاجتهم؛ فالمال لا يكون إلا عند صاحب الحق، والحق يتحدد بالحاجة. والمال هو أيضًا مال الله وليس ملكًا لأحد، ولم يظهر في القرآن ولو مرةً واحدة أن المال هو مال الأغنياء والمترفين!
-
(٤)
ويُذكر لفظ «المال» غير المضاف في صيغتَين؛ مرة مفردًا (المال، مالًا) ١٨ مرة، ومرة جمعًا (الأموال، أموالًا) ١٤ مرة؛ فالمال قد يكون مفردًا، وقد يكون جمعًا عندما يتراكم، ولكن المال في صيغة المفرد أكثر شيوعًا من المال في صيغة الجمع، مما يدل على أن تراكُم المال في أموال يكون أقل حدوثًا، فإذا حدث فإنه يكون للاستثمار، وتكون أموال الناس؛ فالتراكم لا يكون للفرد، خاصة وأن كل الحالات التي أضيف فيها المال في صيغة «أموال» كانت لنسبتها إلى الناس في صيغة «أموال الناس».
-
(٥)
ويُذكر لفظ «المال» غير مضاف في حالات الإعراب الثلاث، مرةً مرفوعًا (مرتَين)، ومرةً منصوبًا (١٧ مرة) ومرة مجرورًا (١٣ مرة). فالمال لا يأتي مرفوعًا إلا فيما ندر؛ أي إن المال لا يمكن أن يكون فاعلًا أو مبتدأً أو خبرًا؛ لأن المال لا يفعل من تلقاء ذاته، بل يفعل من خلال الجهد الإنساني (تحريم الربا)، ولا يكون مبتدأ أو خبرًا لأن المال ليس موضوعًا ولا محمولًا في قضية خبرية، بل هو موضوع للنشاط والجهد. وفي المرتَين اللتين ذُكر فيهما «المال» مرفوعًا أخذ معنًى سلبيًّا مثل الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا (١٨: ٤٦) أي يكون المال لا قيمة له، يكون ظاهرًا خادعًا، وعرَضًا لا جوهرًا أو مثل يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٢٦: ٨٨)؛ فالمال هنا ليس بذي منفعة في المواقف المصيرية؛ حيث يتحدد فيها عمل الإنسان، وحيث يتم فيها تقييم جهده ونشاطه ومسار عمره؛ فالمال ليس مقياسًا للتقييم بل العمل هو المقياس، ولا يُغني الكم عن الكيف، ولا الموضوع عن الذات، ولا الإمكانية عن التحقُّق.فإذا أتى لفظ «المال» مجرورًا فإنه يكون أكثر شيوعًا من وروده مرفوعًا (١٣ – ٢)؛ فإن الجر يأتي إما بالإضافة مثل «ذا مال» أو بالعطف مثل وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا. والإضافة والعطف لا يدلان على وضع اللفظ؛ فالمضاف إليه يرجع إلى وضع المضاف، والمعطوف يرجع إلى وضع المعطوف عليه، ولكن الأهم هو ورود اللفظ مجرورًا بحروف الجر (١١ مرة) مما يدل على أن المال في حركةٍ مستمرة منه وإليه. وذلك لأن حروف الجر المستعمَلة قبل اللفظ هي إما «من» (٥ مرات)، وإما «ب» (٣ مرات)، وإما «في» (٣ مرات)؛ فالجر بالحرف «من» هو الشائع وهو يدل على سحب المال وأخذه واسترجاعه مثل وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ (٢: ٤٧) أو وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ (٢: ١٥٥) أو إعطائه للآخرين مثل وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللهِ (٢٤: ٣٣) أو أخذه أو سحبه من الآخرين ظلمًا وعدوانًا مثل لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢: ١٨٨). والجر بالحرف «ب» يدل على إعطاء المال وعدم استبقائه أو حجزه. وقد يكون هذا العطاء لشراء الذمم والإفساد كالرشوة مثل أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ (٢٧: ٣٦) أو لامتحان الشعور ومعرفة صلابة الذات، واختبار القدرات من أجل التوعية لها، وتقوية نشاطها مثل وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ (١٧: ٦) أو وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ (٧١: ١٢). أما الجر بالحرف «في» فإنه يشير إلى أن المال يجمع بين الحركتَين معًا، الأخذ والعطاء، الدفع والجذب من وإلى، وهو ما يُسمى بالمشاركة مثل وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ (١٧: ٦٤)، وهي حركة المال الخارجية، أو التكاثر وهي حركة المال الداخلية. وحركة المال الداخلية سلبية مثل وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ وهو التكاثر بلا جهد ونشاط وعمل واجتهاد، ومثل وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ (٥٧: ٢٠)؛ أي تكاثر الأموال بلا غاية أو هدف، بل من أجل التكاثر والاكتناز وليس من أجل التنمية والتطوير.أما إذا أتى المال منصوبًا فهو أكثر حالات الإعراب شيوعًا من الرفع والنصب (٢ – ١٣ – ١٧)، وهو يدل على أن المال موضوع للنشاط وأنه يقع عليه الفعل، وأنه طيِّع في يد الإنسان، وقد يأتي أولًا بمعنًى سلبي، وضعًا لارتباط الشعور بالمال، وإدانة له مثل وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (٨٩: ٢٠) حتى يظل الشعور الإنساني مستقلًّا عن طرفه الآخر وهو المال؛ فجمع المال ليس هدفًا في ذاته دون استثمار الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (١٠٤: ٢) وليس صرفه هدفًا في ذاته؛ فذاك استهلاك بلا إنتاج يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (٩٠: ٦)، وليست كثرة المال في ذاتها قيمة للإنسان، بل القيمة في نشاطه وعمله وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (١٩: ٧١) أو وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (٧٤: ١٢). كما أن كثرة المال أو قلته ليست زيادةً في القيمة الذاتية للإنسان أو نقصانها؛ فالكم ليس مقياسًا للكيف أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا (١٨: ٣٤) أو أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا (١٨: ٣٩) أو وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا (٩: ٦٩) أو زِينَةً وَأَمْوَالًا (١٠: ٨٨) أو أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا (٣٤: ٣٥). وقد يأتي ثانيًا بمعنى عدم الاقتراب من أموال الآخرين وهم المحتاجون واليتامى والناس، وليس من بينهم الأغنياء، مثل وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ (٦: ٣٤) أو إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا (٤: ١٠) أو وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ (٤: ١٦١) أو لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ (٩: ٣٤)؛ فالمال للحاجة، ومكانه الطبيعي عند المحتاج، وأخذ المال من المحتاج هو قضاء على الحياة، والمال من أجل المحافظة على الحياة واستمرارها. وقد يأتي ثالثًا بمعنى إعطاء المال، والتخلي عنه، وإعطائه لمن هم أشدُّ حاجةً من الإنسان مثل وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ (٢: ١٧٧) أو القيام بالأفعال تحقيقًا لرسالة وليس انتظارًا لأجر مثل وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ (١١: ٢٩). هذه المعاني الثلاثة للفظ «المال» في حالة النصب تثبت أولًا استقلال الشعور الإنساني عن المال، ثم تؤكد ثانيةً ضرورة محافظة الإنسان على هذا الاستقلال، وذلك بإعطاء المال مَن هو في حاجة إليه، ثم تُبرز في النهاية ضرورة إعطاء المال لمن هو أشد حاجة من الإنسان، وإيثار الآخر على النفس؛ فاستقلال الشعور ليس واقعة فقط، بل هو واقعة يُحافظ عليها بالحركة والنشاط، وبمقاومة الرغبة في الاستحواذ على ما لدى الآخرين، وبإيثار الآخر على الذات؛ فالحاجة هي التي تحدِّد اتجاه المال وحركته بين الناس، فيتجه المال إلى مَن هو في حاجة إليه.
-
(٦)
أما «المال» المضاف إلى الضمير فإنه يُذكر مرةً مضافًا إلى ضمير المفرد (ماله، مالِيَه) ٧ مرات، ومرةً أخرى يُذكر مضافًا إلى ضمير الجمع في صيغة الجمع (أموالكم، أموالنا، أموالهم) ٤٧ مرة؛ أي إن المال لا يدخل في علاقة كثيرة مع الفرد، بل إنه علاقة جماعية (٧ – ٤٧)، فإذا ما دخل في علاقة مع الفرد فإنه يكون مالًا منفردًا وليس أموالًا بالجمع؛ فالفرد لا يمكنه أن يجمع المال، بل إن تراكُم الأموال يكون من عمل الجماعة.
-
(٧)
ويكون «المال» مضافًا إلى ضمير المتكلم مرةً واحدة (مالِيَه) أو الغائب (ماله) ست مرات ولكنه لا يكون أبدًا مضافًا إلى ضمير المخاطب في صيغة «مالك». وكأن الذي له المال إما أنا المتكلم بنسبة ضئيلة، أو هو الغائب بنسبة كثيرة تربو على ستة أضعاف؛ فالمخاطب لا مال له والمتكلم له مال نسبي، أما الغائب فهو الذي له كل المال تقريبًا؛ وبالتالي تكون هناك طبقات ثلاث:
- (١)
طبقة المُعدمين، وهم المخاطب، الذين لا يملكون شيئًا، وهم الجماعة الحاضرة الموجودة التي تحتاج إلى مَن يُخاطبها، والتي هي مهيَّأة لحياة الوعي والإدراك.
- (٢)
طبقة الفقراء، وهم المتكلم، الذين يملكون أقل القليل، وهي الطليعة الواعية التي بالقَدْر الذي تملك تكون في تحالف مع الطبقة الأدنى، طبقة المُعدمين.
- (٣)
طبقة الأغنياء، وهم الغائب، الذين يملكون كل شيء تقريبًا، والذين يكونون طبقةً مناقضة لطبقتَي المُعدمين والفقراء؛ فالطبقة المتوسطة إذن أقرب في تحالفها إلى طبقة الفقراء منها إلى طبقة الأغنياء.
فإذا ما أُضيف «المال» إلى ضمير المتكلم (مَالِيَهْ) فإنه يشير إلى استقلال شعور الإنسان عن المال، وأن قلة المال أو كثرته لم تؤثِّر في وعي الإنسان مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (٦٩: ٢٨).وإذا ما أُضيف إلى ضمير الغائب (ماله) فإنه مرة يكون فاعلًا (٣ مرات) ومرةً يكون مفعولًا به (٣ مرات)، ولكنه لا يكون مجرورًا أبدًا مما يدل على أن احتفاظ الفرد الغائب بماله بصورةٍ ثابتة لا يؤخذ منه شيء هو أمرٌ غير طبيعي؛ فالمال لا يسكن بل هو في حركةٍ دائبة منه وإليه طبقًا لنشاط الإنسان وفعله. وفي حالة كونه فاعلًا فإنه يكون قيمةً سلبية، ولا يكون بديلًا عن شعور الإنسان واستغلاله، ولا عن عمله ونشاطه مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (٧١: ٢١) أو وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (٩٢: ١١) أو مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (١١١: ٢). وفي حالة كونه مفعولًا به، فإنه يشير أيضًا إلى نفس الحقيقة السابقة، وهي أن خلود الإنسان لا يكون بما جمع من مال، بل أيضًا بما عمل بالمال، وكيف استثمره يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (١٠٤: ٣)، فإذا ما تم الإنفاق منه رغبةً في دفع المال وتحريكه، فإن هذا الإنفاق يكون في صورة نفاق ورياء، تسكينًا للجماهير أو مزايدةً في الدين أو تأجيلًا لثورة، هذه كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ (٢: ٢٦٤)، ولكن السبيل إلى الإنفاق هو إعطاء حق الآخر من المال في الزكاة الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (٩٢: ٢٨).
- (١)
-
(٨)
أما لفظ «المال» المضاف إلى ضمير الجمع في صيغة الجمع (٤٧ مرة) فإنه يُضاف إلى ضمير المتكلم مرتَين (أموالنا)، وإلى ضمير المخاطب ١٤ مرة (أموالكم) وإلى ضمير الغائب ٣١ مرة (أموالهم) مما يدل على أن المتكلمين ليس لديهم أموال، وأن المخاطَبين يأتون في الدرجة الثانية، ولكنَّ الغائبين هم الذين يكتنزون الأموال (٢ – ١٤ – ٣١). هناك إذن طبقاتٌ ثلاثة:
- (١) طبقة الفقراء، وهم نحن، المتكلمون، الذين لا يملكون مالًا تقريبًا إلا في أقل القليل؛ فالمال لا يُوجد في أيدي مَن يطالبون به، ومن لا مال لهم هم الذين يتكلمون، وطلب المال حقٌّ لمن لا مال له. وحتى في هذَين الاستعمالَين، مرةً يكون المال مرفوعًا ليدل على استقلال الشعور عنه شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا (٤٨: ١١)، ومرةً يكون مجرورًا إعلانًا عن المشاركة في الأموال أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ (١١: ٨٧).
- (٢) الطبقة المتوسطة، وهم أنتم، المخاطَبون الذين يملكون بعض الأموال؛ فالتوجه بالخطاب إلى الحاضرين ضرورةٌ من المتكلمين الذين لا يملكون شيئًا؛ فالخطاب الاجتماعي كلامٌ ممن لا مال له إلى مَن له مال. وفي استعمال هذه الصيغة يأتي مرةً اللفظ فاعلًا أو مبتدأً (أربع مرات) لإثبات استقلال الشعور عن المال، وأن المال لا يكون بديلًا عن قيمة الشعور الممثَّلة في الجهد والنشاط إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ (٨: ٢٨)، (٦٤: ١٥). كما أن المال ليس سبيلًا للرقي والتقدم بالضرورة، بل قد يؤدي إلى التخمة والترف وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى (٣٤: ٣٧). وكل مشروعٍ يجعل من كثرة المال وسيلةً للرفاهية والترف، وبديلًا عن الالتزام بمبدأ والدفاع عن قضية يكون مشروعًا مفلسًا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ (٦٣: ٩)، ثم يظهر اللفظ مرةً أخرى مفعولًا به (٥ مرات)، مبينًا حق الآخر في المال وعدم الاعتداء على أموال المحتاجين، وعدم أخذها زورًا وبهتانًا، سرقةً ونصبًا واحتيالًا بالتلاعب بالأسعار، أو باحتكار الأسواق، وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ (٢: ١٨٨)، (٤: ٢٩)، فذلك اكتناز للمال، وإضافة مال إلى مال، وتجميع لرءوس الأموال وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (٤: ٢). كما تبدو أهمية استثمار المال دون صياغة، واستثماره فيما هو منتج وليس فيما هو مستهلَك ضائع؛ فضَياع المال في الاستهلاك سفه، واستثماره في الإنتاج زيادة ونماء، وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا (٤: ٥)؛ فقيام المال بالاستثمار، وضياع المال بالاستهلاك، فإذا ما حدث الاستثمار بنشاط الإنسان وجهده ينمو المال ويكثر، ويصبح الأجر مطابقًا للجهد وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (٤٧: ٣٦). وأخيرًا يظهر اللفظ أيضًا مجرورًا (٥ مرات) للتأكيد مرةً ثانية على ضرورة عدم استغلال رأس المال لجهد الآخرين، وعلى الكف عن هذا الاستغلال عندما يُولد المال بلا جهد، وعلى إرجاع رأس المال للإنسان وإلا صادرته السلطة الشرعية وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (٢: ٢٧٩)، وذلك من أجل إعادة استثمار المال بلا استغلال لجهد الآخرين أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ (٤: ٢٤). وأفضل استثمار للمال هو بذله في قضيةٍ عامة تهم مصالح المسلمين، وعلى رأس القضايا جميعًا، الجهاد وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ (٩: ٤١)، وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ (٦١: ١١)؛ فذاك هو الاختبار الحقيقي لطريقة استعمال الإنسان للمال لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ (٣: ١٨٦).
- (٣) طبقة الأغنياء، وهم الغائبون الذين يملكون المال والثروة، كالملَّاك الغائبين، والمهرِّبين، وأصحاب رءوس الأموال، وهم الطرف المقابل للطبقة الفقيرة والطبقة المتوسطة، وهم الذين يُشار إليهم بأصبع الاتهام، بأنهم كنَزة الأموال. ومن حيث الاستعمال يأتي لفظ «أموالهم» مرفوعًا (٥ مرات) للإشارة إلى أن كنز المال ليس بديلًا عن جهد الإنسان ونشاطه وعمله لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ (٣: ١٠)، (٣: ١١٦)، (٥٨: ١٧)، وإلى أن كثرة المال لا تدل على قيمة في ذاتها فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ (٩: ٥٥)، (٩: ٨٥). ويأتي اللفظ مرةً أخرى منصوبًا (١٢ مرة) للإشارة إلى استحالة أخذ أموال اليتامى، وهم المحتاجون، وأن من يكنزون الأموال إنما قد كنزوها حتمًا من أموال المحتاجين وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ (٤: ٢). أو وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ (٤: ٣) أو فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ (٤: ٦) أو للحث على إنفاق المال وعدم اكتنازه، وضرورة سيولته واستثماره؛ فالمال للمحتاج، والمال للإنفاق مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ (٢: ٢٦١)، (٢: ٢٦٥) أو الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ (٢: ٢٦٢). هذا الإنفاق من أجل قضية، ومن أجل تحقيق هدف والحصول على نتيجة إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ (٩: ١١). فإذا حدث ذلك أتت أموال الأغنياء إلى من ينفقها في سبيل الغاية وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ (٣٣: ٢٧). أما الإنفاق من أجل التظاهر الاجتماعي، أو من أجل المزايدة في الدين وادعاء التقوى، أو من أجل الحصول على مصلحةٍ أكبر فهو نفاق ورياء وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ (٤: ٣٨). وكذلك الإنفاق من أجل هدم المبدأ وإعاقة تطبيقه، ومن أجل استغلال الناس واستبعادهم، فهو مقاومة للحق، واستعمال المال ضد الأمانة وليس من أجلها إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ (٨: ٣٦). وأخيرًا يأتي اللفظ مجرورًا من أجل بيان سيولة المال وحركته وعدم ثبوته وسكونه في خزائن أصحاب المال. فالمال للإنفاق من أجل القضية وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ (٤: ٣٤)، والمال للجهاد في سبيل الله وليس تكسبًا بقضايا الدين وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ (٤: ٩٥)، فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ (٤: ٩٥)، وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ (٨: ٧٢)، (٩: ٨٨)، (٤٩: ٢٥)، وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ (٩: ٢٠)، أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ (٩: ٤٤). والذين لن يجاهدوا بأموالهم ستضيع أموالهم؛ إما بالخسائر الطبيعية، أو بثورات المعدمين ضدهم رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ (١٠: ٨٨). والمال للمشاركة؛ وهو ملك للجميع، لكل فردٍ حقٌّ فيه. وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (٢٤) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (٧٠: ٢٤)، وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (٥١: ١٩). وذاك أمرٌ تشريعي، وليس متروكًا للصدقة أو للزكاة أو للإحسان خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا (٩: ١٠٣)؛ فمال الملَّاك الغائبين هو في نهاية الأمر مال الجماعة، لا يجوز لأحد أن يستحوذ عليه، أو أن يمتلكه.
- (١)
ثانيًا: تحليل المضمون
- (١) المال مال الله، يورثه لمن يشاء من عباده الصالحين؛ فملكية المال في الإسلام لله وحده، وضعه الله بين أيدينا وديعة نصرفه فيما أمر الله له أن يُصرف، للمحتاجين والفقراء أي لمن لا مال لهم، وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللهِ الَّذِي آتَاكُمْ (٢٤: ٣٣)، المال وديعة بين يدَى الإنسان لا يجوز له الاستحواذ عليه فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ (٤: ٦). ويتم نقل المال إلى المحتاج علنًا، فذاك حقه العلني فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ. (٤: ٦)؛ فحركة المال ليس فيها سر، ولا تتم عن طريق التسرُّب أو الخفاء أو ما يُسمَّى بلغتنا عن طريق «التهليب»؛ فالمال مال الله يوجَّه إلى الآخرين، وليس إرثًا أو احتكارًا أو ملكًا لأحد. حركة المال وانتشاره تخضع لقوانينَ اجتماعية، وليست حقًّا مكتسبًا لفرد دون فرد، فإذا ما خضع المال لهذه القوانين أصبح في يد الجماعة التي تستثمره لصالح الجماعة وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا (٣٣: ٢٧). وبتعبيرٍ آخر، المال مشاركة بنص القرآن وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ (١٧: ٦٤) وليس استحواذًا. المال يتحرك بين الأفراد كتحرك الماء بين الأواني المستطرقة طبقًا للحاجة وليس من أجل الزيادة، وطبقًا للاستثمار وليس من أجل الاكتناز، فإذا ما حاول أحدٌ أو جماعة وقف حركة المال تدخَّلَت السلطة الشرعية وفكَّت حصار المال، وأخذت حقَّ الآخرين فيه خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا (٩: ١٠٣)، والصدقة ليست إحسانًا أو تصدقًا أو تفضلًا، بل هي حقٌّ للآخر في مال الفرد، وإعادة بناء لشعور الفرد وعودته إلى وضعه الطبيعي، وقضاء على اغترابه عن المجتمع وانحرافه عن القانون الطبيعي للمال وهو حركته الاجتماعية، وهو ما يُسمى بلغة الأخلاق أن الصدقة طهارةٌ للنفس وتزكيةٌ لها. والزكاة نفسها في العبادات هي تأكيد على حق الآخر في المال وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (١٧) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (٩٢: ١٨). وليس المقصود منها رشوة اجتماعية وسياسية حتى يُترك الإنسان بماله يفعل ما يشاء ما دام قد دفع ٢٫٥٪ من ماله المخزون الذي مَر عليه الحول دون حركة، بل المقصود هو التأكيد على حق المجتمع في المال، وعلى ضرورة استثماره دون خَزنِه واكتنازه، بل إن حقَّ الآخر في مال الفرد نصٌّ صريح لا يحتمل تأويلًا أو تخريجًا وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (٧٠: ٢٤)، ومرةً أخرى وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (٥١: ١٩). ومشاركة الأموال بين الناس، وحق الآخر في مال الفرد هو الغاية من العبادات وعلى رأسها الصلاة، والصلاة إحساسٌ بالآخر غير المتعين وهو الله، ومشاركة المال هو إحساس بالآخر المتعين، وهو الذي لا مال له أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ (١١: ٨٧).لذلك استحال أن يضيف الغني إلى أمواله مال الفقير، أو أن يأخذ من له مال حق من لا مال له وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (٤: ٢) حتى لا يتراكم رأس المال، وحتى يظل المال سائلًا بين أيدي الناس، متحركًا في الجماعة؛ فإضافة مال الآخر إلى مال الفرد إثم وعدوان، وظلم وبهتان لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢: ١٨٨)؛ فالإثم والزور والبهتان والبطلان ليس في العبادات وحدها، بل أيضًا في خروج المال على نظام استعماله، وعلى مساره الاجتماعي وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ (٢: ١٨٨)، أو يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ (٤: ٢٩)؛ فالإيمان مساوٍ لاستعمال المال حسب الشرع، وحركة المال بين الناس دون استحواذ تعبيرٌ عن الإيمان.ولا فرق في الاستحواذ على أموال الناس بين رجال الدين ورجال الدنيا، بين السلطة الدينية والسلطة السياسية؛ فكلاهما قد يُوقفان حركة المال إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ (٩: ٣٤)، وهو ما يُفسر تاريخيًّا باستمرار تواطؤ السلطتَين الدينية والسياسية على أكل أموال الناس؛ مما يسبِّب الثورة الاجتماعية، التي تُعيد الحركة إلى المال.والآخر هو الفقير المحتاج الذي لا عائل له، الممثَّل باليتيم؛ فاليتيم هو الذي فقد عائله، ولم يعُد له سندٌ إلا من الجماعة. هذا اليتيم له حقٌّ في ماله، إن كان له مال، وهو حق الحاجة والفاقة، ولا يمكن الاقتراب من ماله؛ فالمال يُستعمل عند الحاجة، الحاجة هي التي تحدِّد الملكية، وليست الملكية هي التي تحدِّد الحاجة، لا تُوجد ملكيةٌ مجردة بل تُوجد حاجةٌ ملموسة يجوز عندها استعمال المال وتصريفه وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ (٦: ١٥٢)، (١٧: ٣٤). وأكلُ مال المحتاج الذي لا عائل له هو أكلٌ للنار في البطون؛ أي كسب حرام إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا (٤: ١٠). ومن يفعل ذلك يستبدل الخبيث بالطيب، والحرام بالحلال وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ (٤: ٢).ويتم استثمار المال بالجهد والنشاط وبالعمل؛ فالمال إمكانية حركة ونشاط، وسيلة للإنسان كي يُظهر بها قُواه، ويُحقق بها إمكانياته، ولكن المال لا يولِّد المال؛ ولهذا حُرم الربا لأنه أكلٌ لأموال الناس بالباطل، وزيادةٌ في المال بلا جهد أو عمل أو كد أو نصَب، وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ (٤: ١٦١)؛ فزيادة المال كمًّا لا تعني نماء الإنسان كيفًا، وذلك لأن النشاط هو الذي يغيِّر الكيف وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللهِ (٣٠: ٣٩)؛ فالربا استغلالٌ لحاجات الآخرين، وتكاثُر في المال بلا زيادةٍ مقابلةٍ في الإنتاج، وتسرُّب الأموال من المحتاجين إلى الذين لديهم فائض في الأموال، والتوبة من الربا تعني استرداد الفرد لرأسماله، وإرجاع ربح المال إلى المستدين وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (٢: ٢٧٩). استثمار المال إذن يتم بنشاط الإنسان، وبعَرقه وكَدِّه أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ (٤: ٢٤)، ويتم الاستثمار بالترشيد والتنظير وحسن التصرف وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا (٤: ٥)؛ فالمال من أجل القيام؛ أي الإنتاج والزيادة وليس من أجل الاستهلاك والنقصان، فإذا كان الربا أجرًا بلا عمل فإن نشاط الإنسان قد يكون عملًا بلا أجر؛ لأن نشاطه يهدف إلى تحقيق رسالة، ولا يهدف إلى تحقيق ربح؛ فالربح ليس هو الدافع على النشاط بل الدفاع عن قضية، والانتصار لمبدأ وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ (١١: ٢٩)، فإذا عمل الإنسان من أجل قضية، تحقيقًا لهدف، وتأديةً لرسالة، فإنه لن يَعدَم ما يقيم به حياته وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (٤٧: ٣٦).
- (٢) تأكيدًا على المشاركة في الأموال، وتطبيقًا لحركة المال في المجتمع، كلما ذُكر المال ذُكر الإنفاق له، والجهاد، بل والبذل منه في سبيل الله؛ أي في سبيل المصلحة العامة، وخدمة للقضية التي بها عموم البلوى كما يقول الفقهاء. مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ (٢: ٢٦١). والإنفاق لا يعني الصدقة، بل يعني استثمار المال وذيوعه وحركته وعدم اكتنازه أو خزنه وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ (٢: ٢٦٥)؛ فالإنفاق هنا أيضًا لا يهدف إلى الربح، بل إلى خدمة القضايا العامة. ويتم هذا الإنفاق سرًّا وعلانية فقط بُغية الشهرة، أو الحصول على مصلحةٍ أكبر الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ (٢: ٢٧٤)؛ فما أكثر الإنفاق الذي يتم رياءً ونفاقًا، أو من أجل إلحاق الأذى والإضرار بالآخرين واستغلالًا لهم، على عكس الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ (٢: ٢٦٢). وفي الإنفاق يتميز فردٌ عن فرد، ويتفاضل مؤمنٌ عن مؤمن؛ فالتفاضل والتمايز ليس في قدْر المال بل في قدْر الإنفاق؛ أي المساهمة بالمال من أجل المصلحة العامة. وبهذا المعنى وحده يفضل الرجال والنساء بما أنفقوا من أموالهم بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ (٤: ٣٤). أما الإنفاق ضد المصلحة العامة، وصدًّا عن سبيل الله، فهو الكفر بعينه إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ (٨: ٣٦)؛ فالكفر ليس هو الكفر النظري، بل هو كيفية إنفاق المال في تخريب الذمم والضمائر، ورشوة الناس، وفي غرس قيَم الترف والنعيم التي هي أبعدُ ما تكون عن قيَم النضال، وتحقيق الرسالة.وإنفاق المال هو جهادٌ في سبيل الله مقرونٌ بجهاد النفس، انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ (٩: ٤١). والجهاد بالمال وصفٌ لواقع مثل وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ (٦١: ١١). كما هو تقرير لسلوكٍ ماضٍ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ (٨: ٧٢). كما هو أمرٌ في الحاضر؛ فالجهاد بالمال لا يعرفه وقتًا ولا زمنًا. والذي يريد التشبه بالرسول فليفعل بالجهاد وبالمال، وليس فقط بإقامة الشعائر وإطالة اللحى لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ (٩: ٨٨). والجهاد بالمال يتم عن اقتناعٍ وليس عن ريبةٍ في نتيجة الجهاد ومآل المال؛ فالعمل التاريخي عملٌ طويل، والاستثمار التاريخي قد لا يبدو في التو واللحظة ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ (٤٩: ١٥)، كما أن الإيمان بالقضية إيمانٌ يقيني لا ريبة فيه حتى يتم الجهاد بالمال عن يقينٍ أيضًا. ويكون الجهاد بالمال على قدْر الطاقة، وقليل المال يعظُم بتكرار البذل والعطاء من الآخرين لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ (٩: ٤٤). وكما يتفاضل الناس بالإنفاق فإنهم يتفاضلون أيضًا بالجهاد بالمال لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ (٤: ٩٥)؛ فالتفاضل ليس في الطبقات الاجتماعية أو في المناصب الإدارية أو في الوجاهة الاجتماعية بل في الجهاد بمال الفرد في سبيل القضية العامة، التحرُّر للبلد المحتل، والتنمية للبلد المتخلِّف فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً (٤: ٩٥). وقد يصل حد الجهاد بالمال إلى الجهاد بكل المال عن طريق تركه كلية، والسعي في سبيل الله تحقيقًا للرسالة، ودفاعًا عن القضية؛ فالإنسان لا يرتبط إلا بالهدف الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ (٥٩: ٨)، وهنا لا يكون فقد المال خسارة بل يكون وجودًا للذات، وانتصارًا للمبدأ، ودفاعًا عن الحق، وإعلانًا عن استقلال الإنسان إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ (٩: ١١١).
- (٣) بعد التأكيد على شيوع المال، وعلى ضرورة الإنفاق له والجهاد به، تأتي الحقيقة الثالثة وهي إعلان استقلال الشعور الإنساني؛ فالذي يُحب المال مُدان لأنه يربط شعوره بشيء آخر غير القضية وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (٨٩: ٢٠)؛ فإذا ما أحب الإنسان المال أكثر من التزامه بالمبدأ ودفاعه عن القضية انهار البناء الاجتماعي، وتوقفَت حركة التاريخ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ (٩: ٢٤)؛ فالشعور السوي هو الذي ينفق المال ويجاهد به على حُبه للمال وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ. (٢: ١٧٧). وهو الشعور الذي لم يغترَّ بالمال ولم يرضخ له.والمال ليس قيمةً في ذاته، بل قيمته من الجهد المبذول في استثماره الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (١٠٤: ٢-٣)؛ أي في استقلال الشعور عن المال. كما أن المال ليس بديلًا عن التصور الصادق للحياة؛ فالمال لا يغني من الإدراك والمعرفة وإلا لأصبح الإنسان «غني حرب»! أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (١٩: ٧٧)؛ فالكم ليس بديلًا عن الكيف، والموضوع ليس بديلًا عن الذات، والمادة ليست بديلًا عن الشعور. والمال لا يعصم من الانهيار؛ فالبناء لا يتم إلا بالكيف ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (٧٤: ١٢-١٧) المال ليس بديلًا عن بناء الشعور واتجاهه، وجمع المال لا يعني بالضرورة زيادة الوعي أو قيمة العمل أو تطور المجتمع، ونقص المال ليس نقصًا في القيمة نظرًا لاستقلال الشعور عن المال وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ (٢: ٢٤٧)؛ فالمال في حركةٍ دائبة، يقل ويكثر، لا يثبُت على حالٍ معين، هو شيءٌ عارضٌ محضٌ لا تتوقف عليه قيمة الإنسان. قلة المال إذن قد تعني عِظَم قيمة الشعور، واستقلال الإنسان إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا * فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ (١٨: ٣٩)، بل إن نقص الأموال قد يكون وسيلةً لازدهار الشعور، وطريقةً لإعلان استقلاله، وشحذًا لهمَّته، وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ. (٢: ١٥٥)؛ فنقص المال دافعٌ لحركة الجماعة، وإشارة بالبنان إلى من لديهم المال الفائض لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ (٣: ١٨٦)؛ فذلك جزء من التجربة الاجتماعية؛ وبالتالي يستحيل الفقر الدائم كما يستحيل الغنى الدائم.وكما أن نقص المال ليس بديلًا عن استقلال الشعور، فإن كثرة المال لا تعني بالضرورة استقلال الشعور وقيمة عمله؛ إذ الكم لا يغني عن الكيف فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (١٨: ٣٤). المال مجرد زينةٍ للحياة؛ أي شيء عارض، في مقابل الشعور، وهو الشيء الثابت الجوهري الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا (١٨: ٤٦). المال كالنسل، مظاهر خارجية للحياة اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ (٥٧: ٢٠). وكما يكون نقص المال شحذًا للشعور تكون زيادة المال ضياعًا للشعور، ولتمثُّله للمبدأ والتزامه بالقضية وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (١٧: ٦). وتكون كمًّا بلا كيف وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ (٧١: ١٢)؛ فكثرة المال قد تعني النهاية والفناء، كما حدث الآن في مجتمعات الوفرة والرفاهية أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ (٢٣: ٥٥). وبتعبيرٍ قرآني، قد تكون كثرة المال فتنة كما أن قلة المال ابتلاء وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ (٨: ٢٨). وقد تصبح كثرة المال نقمةً لا نعمةً إذا ما اعتبرها صاحبها بديلًا عن العمل، وقيمةً في ذاتها. عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ * أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (٦٨: ١٣-١٤). وكلما زاد المال زادت الخسارة بزيادة الطغيان، والعمى الذهني رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (٧١: ٢١). وقد كان فرعون كثير المال ولكن هذه الكثرة لم تُغنِه عن العقل والفضيلة رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا (١٠: ٨٨)؛ فكثرة المال وكثرة النسل ما هما إلا ظاهرٌ في الدنيا لا يجوز الحكم عليه طبقًا للجوهر فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ (٩: ٥٥). كثرة المال قد تزيد من قسوة القلب، وتُبعد الإنسان عن طريق الوعي والفضيلة رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ (١٠: ٨٨).والمال ليس سبيلًا للخلاص، وليس بديلًا عن العمل الصالح؛ فالكم لا يُغني عن الكيف، والموضوع ليس بديلًا للذات، والمادة لا تُغني عن المعنى، والشيء ليس بديلًا عن النشاط يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٢٦: ٨٨). المال ليس بديلًا عن الوعي أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (١٩: ٧٧). والمال ليس بديلًا عن الرؤية الصادقة والإدراك السليم والحس البديهي إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا (٣: ١٠، ١١٦). واستهلاك المال لا يغني الإنسان عن بذل طاقته في العمل الصالح يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (٩٠: ٦). ولن يستطيعَ المال حفظَ صاحبه من السقوط والتردي وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (٩٢: ١١).والمال كالسلطان لا يُغنيان عن العمل الصالح مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (٦٩: ٢٨-٢٩)، والتاريخ شاهد على انهيار الشعوب التي اعتمدَت على قوة المال وحده كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا (٩: ٦٩). لن تُغني كثرة المال أو النسل من الانهيار والسقوط؛ فقوانين التاريخ وحركة المجتمعات ثابتة وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٣٤: ٣٥)، بل إن صاحب المال لا يستطيع أن يتقرب بماله أو أن يترقى بما يكتنز؛ فالصعود الاجتماعي من حيث الغنى لا يقابله صعودٌ معنوي من حيث القيمة وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى (٣٤: ٣٧)؛ لذلك يحذِّر القرآن دائمًا من رضوخ الشعور للمادة، وينبِّه على خطورة نزوله عن استقلاله أمام المال شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا (٤٧: ١١) أو قبول المال رشوةً بديلًا عن نقاء الضمير والالتزام بالمبدأ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ (٢٧: ٣٦). ويأتي هذا التحذير بصيغة الأمر يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ (٦٣: ٩).
هذه المعاني الثلاثة هي التي يدور حولها مفهوم «المال» في القرآن، المال حق لله، وحق الآخر، وحق استقلال الشعور الفردي عنه.
- (١)
الطريق اللارأسمالي للتنمية في البلاد النامية هو الطريق الذي ينبع من تراثها القديم، ومن وجدانها القومي، ومن قيمتها وعاداتها وتقاليدها، وهو في الغالب التراث الديني؛ ومن ثَم وجب إعادة تفسيره على نحوٍ يساعد قضية التنمية، ويخدم مصالح الأغلبية.
- (٢)
المال مال الله وليس ملكًا لأحد، ولكن للإنسان حق التصرف وحق الانتفاع وحق الاستثمار، فإذا ما استغل الإنسان الآخر أو احتكر أو اكتنز، فإن من حق السلطة الشرعية استرداد الوديعة؛ لذلك من حق السلطة الشرعية التأميم والمصادرة للصالح العام؛ فملكية المال أقرب إلى الجماعية منها إلى الفردية.
- (٣)
المال حركةٌ اجتماعية بين أفراد الجماعة، لا يجوز اكتنازه أو احتكاره أو الاحتفاظ به، بل هو مالٌ سائل للاستثمار لمصلحة الجماعة. ومن حق السلطة الشرعية التدخُّل لمنع تكديس المال أو اختزانه دون استثمار.