ماذا تعني: أشهد أنْ لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله؟
في هذا الشهر الكريم، شهر رمضان الذي تزداد فيه عواطفنا الدينية اشتعالًا، ونعبِّر عنها في مظاهر خارجية عديدة بالإكثار من النوافل، والمشاركة في الموالد، والزيادة في أنوار المآذن والمساجد، وتسبيح الله وحمده بالتمتمات في الطرقات، وحمل المسبحات في وسائل النقل العامة، ونَهْر المُفطرين والإزراء بهم، والتكالب على شراء مستلزمات شهر رمضان من بضائع مستوردة، بعد تدبير الدولة العملة الصعبة لهذا الغرض، والإفطار الراقص والسحور. في وسط هذا كله يتريث المتأمل منا في دينه، ويفكِّر في أصوله، ويحصي أركانه، فيجد أن أول ركن من أركان الإسلام هو الشهادة، شهادة أنْ لا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا رسول الله كما هو معروف في الحديث المشهور: «بُني الإسلام على خمس …» وهي الشهادة التي نُطلِقها قبل كل صلاة، والتي أصبحَت عنوان المسلم، فإن قالها عصَم دمَه ومالَه، ودخل في زمرة الجماعة، وأصبح فردًا في الأمة له ما لها من حقوق، وعليه ما عليها من واجبات، والتي أصبحت شعارًا على أعلام كثيرٍ من الدول التي لها تاريخٌ إسلامي، ثم يسأل نفسه ماذا تعني: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله بالنسبة للعصر الحاضر؟
هي عبارةٌ مركَّبة تتكون من ثلاث عباراتٍ بسيطة؛ أولًا: أشهد أنْ. ثانيًا: لا إله إلا الله. ثالثًا: وأنَّ محمدًا رسول الله.
أولًا: ماذا تعني: الشهادة؟
يظن الناسُ خطأً أن الشهادة تعني مجرَّد قول، فإذا ما لفظ الإنسان الشهادة فهو مسلم. ومع أن هذا التفسير هو الذي أخذه المرجئة من الفِرق الكلامية، وأبو حنيفة من الفقهاء، إلا أنه يجعل إعلان الشهادة إعلانًا مجانيًّا بلا ثمن، وقولًا فارغًا بلا مضمون؛ فما أسهل أن ينطق الإنسان بالشهادة باللسان دون أن يعنيها بالفكر أو يشهد بها بالوجدان أو أن يصدِّقها بالعمل. وهذا هو حالنا جميعًا عندما نسمعها قبل كل صلاة في الأذان، وعندما نرفع إبهامنا ناطقين بها ونحن راكعون في التشهد في آخر الصلاة، وعندما نرى جنازةً في الطريق العام، وعندما نرى مصيبة وقد حلَّت بفرد أو جماعة، وعندما نميِّز أمتنا عن غيرها من المِلل.
فإذا كنا أكثر جرأة، وأكثر التزامًا، وأكثر استنارة، فإن القول قد يصحبه فكر، فنعني بعد النطق بالشهادة بأن الله موجود، وبأنه واحد، ولكن هذا الفكر المسطَّح الذي يجعل من الألوهية قضية إثبات أو نفي، أو مجرد قضيةٍ عددية تشير إلى أن الله عدده واحد، لا يزيد عن القول المجرد؛ فهو فكرةٌ مجردة أيضًا لا مضمون لها؛ فكلنا نعلم أن الله واحد، ولكن ما هي متطلَّبات هذه المعرفة؟ وماذا تعني هذه المعرفة بالنسبة للشعور وكيان الفرد؟ وماذا عن أثرها في العالم الخارجي؟ لا شيء؛ فهي معرفةٌ جرداءُ عرجاء، ولو كنا نعلم جميعًا أن الله واحد لما أشركنا به شيئًا، ولا يعني الشرك إثبات أن الله عدده اثنان أو أكثر، بل يعني الإشراك في الدوافع والغايات، وكثيرٌ منا تحركه دوافع الهجرة إلى الخارج أو الكسب غير المشروع في الداخل، أو البحث عن الجاه والسلطان، أو الجري وراء الجنس المكبوت؛ فمعرفة أن الله واحد هي معرفة العجائز إن لم تتحقَّق متطلَّباتها.
فإذا كنا أكثر التزاما، وأبعد نظرًا، وأعمق شعورًا، أصبح للشهادة معنًى يحياه الإنسان، ويشعُر به؛ ومن ثم تكون المعرفة بأن الله موجود وواحد أكثر التصاقًا بحياة الإنسان ووجدانه، يشعُر بمعنى العبارة، ويُحس بمضمونها، ويُدرك أثرها في النفس، فإذا قال الشهادة فإنه يعنيها ويشعر بها، ولكن يظل أيضًا هذا الفهم على مستوى العجائز؛ لأنه لا يحقق مطالبًا في الخارج، ولا يتجاوز عالم الإنسان الداخلي. يظل الله كدافعٍ شعوري مطويًّا، مكنونًا، مخزونًا، حبيسًا في النفس، لا يدفع ولا يحرِّك، لا يبعث ولا ينشِّط، وكثيرًا ما تُزيحه الدوافع الحسية الأكثر التصاقًا بحياة الناس المباشرة، فيتحرك الإنسان بدافع الكسب أو الشهرة أو الجنس أو الخوف أكثر مما يتحرك بدافع الألوهية، وكثيرًا ما تزاحمه هموم الحياة اليومية، فيتحرك سعيًا وراء الرزق والمواد الغذائية المدعمة من الدولة أكثر مما يتحرك بالألوهية الدفينة.
فإذا كان التزامنا واضحًا، وكنا نبغي دفع الثمن الذي يتطلَّبه قول «لا إله إلا الله»، وكنا أكثر التصاقًا بالواقع، وأكثر التحامًا بمشاكل الجماهير، وأكثر استعدادًا للتضحية، وأشدَّ جرأة، وأقلَّ خوفًا، وأكثر نقاءً وطهارة، وأقلَّ انغماسًا في الوظائف والروتين، تتحول الشهادة من الداخل إلى الخارج؛ فلا تكون قولًا فحسب، ولا معنًى فقط، ولا شعورًا وكفى، بل تكون عملًا يتحقق به هذا القول بالفعل، ويُحيل معناه إلى واقع، ويتحول الشعور من رضًى واستكانة إلى حركة ونشاط، وتنطلق الدوافع الحبيسة والطاقات المعطَّلة وتنصرف في الواقع تجرف ما يصدُّها، وتُعيد البناء، وتتحول الجماهير إلى حركة في التاريخ. وهذا ما عُني به الفقهاء والمصلحون الاجتماعيون عندما فرَّقوا بين توحيد النظر وتوحيد العمل، وأن الثاني هو حق الأول ومضمونه، وأن انهيار المسلمين يحدُث إذا ما أخذوا توحيد النظر وتركوا توحيد العمل، وأن صلاحهم وتقدُّمهم وفلاحهم إنما يأتي بدفع ثمن التوحيد، ألا وهو العمل.
فالشهادة إذن لا تعني فقط القول أو التشهد، بل تعني أن يكون الإنسان حاضرًا في جماعة ويشهد على عصره، ويقول هذا مرضٌ أقضي عليه، وهذا فقرٌ في مجتمع الأغنياء، وهذا احتلالٌ لأراضي المسلمين، وهذا تخلُّف لدى خير أمة أُخرجَت للناس؛ فالشهادة من «شهد» أي الإعلان، والدحض، والفضح، والإثبات، والنفي، وأخذ الموقف، والانتصار للحق. تعني الشهادة رؤية أحوال العصر والحكم عليها بأحكام الله، فإذا شهد الإنسان على عصره بالقول وبالعمل، وفضَح الانفصام بين الفكر والواقع، وأظهَر المسافة بين كلام الله والأوضاع الاجتماعية، ومات دون غايته فإنه يصبح شهيدًا؛ فالشاهد على عصره هو الشهيد في عصره، والشهيد عند قومٍ هو الشاهد على أحوالهم، وبلا مساومةٍ أو إعلانٍ لإنصاف المفردات. الشهادة إذن هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كل مكانٍ حل فيه الإنسان، وفي كل جماعة يحطُّ عليها، أن يغيِّر الإنسان المنكر باليد؛ أي بالفعل، وبالقول؛ أي بالجهر بالحق، وبالقلب حتى يظل شعوره طاهرًا نقيًّا، وحتى لا تفسَد الضمائر والذمم أمام الرشاوى والإغراءات، أو التهديدات والتلويح بالعقوبات.
ثانيًا: ماذا تعني: لا إله إلا الله؟
من الناحية اللغوية الصِّرفة وتركيب الجملة، العبارة منفية بلا ومستثناة بإلا، وإذا أردنا معرفة معناها كما يقول علماء اللغة وينصحون، وكما تعلمنا في المدارس نُسقِط النفي ونُسقِط الاستثناء، فإذا فعلنا ذلك مع عبارة «لا إله إلا الله» وأسقطنا لا ثم أسقطنا إلا كان لدينا «إله الله» أو «إله إله» أو «الله الله» وهذا يُسمَّى في لغة المنطق تحصيل حاصل؛ إذ أنا نجعل الموضوع محمولًا، والمحمول موضوعًا، أو أن نكرر الموضوع مرتَين أو المحمول مرتَين. وفي كل الحالات لا تفيد العبارة شيئًا على مستوى النظر أو المعنى.
ولكن العبارة تدل على موقف عملي، وبتعبيرٍ أدقَّ تدل العبارة على فعلَين من أفعال الشعور يقوم بها المؤمن؛ فأفعال الإيمان كلها أفعالٌ شعورية؛ الأول فعل الرفض في قول الإنسان «لا إله»؛ أن يرفض الإنسان كل آلهة العصر المزيَّفة، وأن ينفيها، ويفضحها، ويدمغها، ويقضي عليها باليد واللسان والقلب؛ فتلك شهادته عليها. وكل عصرٍ له آلهته، وآلهة عصرنا هي المال، والسلطة، والجاه، والجنس، وغيرها، وهي آلهة لأنها تمثِّل أقوى الدوافع فينا؛ فالكل يبحث عن المال، ويجري وراءه لاهثًا، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، ولا يراعي الإنسان في ذلك قانونًا، ولا يرعى حرمة، لا تهمه إلا العمولات، والسمسرة، والمضاربة، والتحايل على القانون، والتهرب من الضرائب، والسعي لدى الولاة من أجل تراخيص الاستيراد والتصدير، والاتجار في السوق السوداء. وقد يبحث آخرون عن السلطة، حبًّا في السيطرة، ورغبةً في التحكم في رقاب الناس، فيتزلفون إلى الحكام سعيًا وراء المناصب، ويبرِّرون قراراتهم إسراعًا منهم في التأييد، ويباركون خطواتهم، ويُثنون على أشخاصهم، ويجعلون أنفسهم مدَّاحين ومُنشدين، انتظارًا للمن والسلوى، وكثيرًا ما تطول قوائم الانتظار. وقد يبحث فريقٌ ثالث عن الشهرة، ويتوق إلى أخذ المراكز الأولى، وإلى تصدُّر المجالس حتى تتحقق ذاتيَّته المنسية، ويكثُر الحديث عنه في أجهزة الإعلام، ويُضحَّى بالمصلحة العامة من أجل تأكيد أدوارهم المدَّعاة، ويقضون على الوحدة الوطنية من أجل قيادة تبحث عن دور. وقد يبحث فريقٌ رابع عن تحقيق رغبةٍ جنسية مكبوتة، ويعبَّر عن ذلك في الإشارات المستمرة إلى الجنس في أحاديثنا، وفي نكاتنا الشعبية، وفي ذكر شارع الهرم بملاهيه ولياليه، وفي الإكثار من الحفلات الراقصة، وإثارة المشكلات القانونية حول القُبلات العلنية، أو في فرض الرقابة عليها في الإعلانات الدعائية، أو عدِّها في الأفلام حرصًا على الرواج، أو المبالغة في التعفُّف والتأنُّف والاشمئزاز، والتشدُّق بالطهارة والإعلان عن التمسُّك بالدين، وفرض الحجاب، وعدم لمس المحارم حتى لا ينتقض الوضوء، وعدم مجالستهم حتى لا يحضُر الشيطان!
فإذا ما استطاع الإنسان بفعل الرفض هذا القضاء على آلهة العصر، ويا ليته يعيش حتى يقضي على واحدٍ منها فقط، قام الشعور بالفعل الثاني «إلا الله»، وأثبت حقيقةً إيجابية، وهي أنه يُوجد إلهٌ حق هو الله، مبدأ عام شامل يتساوى الجميع أمامه؛ وبالتالي لا يمكن لأحد أن يفسِّر الله لحسابه الخاص؛ فالمبدأ العام الشامل يعم الأفراد جميعًا، ولا يمكن لأحد أن يجعل الله يعمل لحسابه الخاص؛ فالمبدأ الشامل لا تحيُّز فيه ولا موالاة لأحد على حساب آخر، فإذا ما اعتبَر أحدٌ أن الله يعمل لحسابه الخاص فتكبَّر وسيطر على رقاب الناس، فإنه يصبح إلهًا من آلهة العصر وجب القضاء عليه، وإنزاله من على عرشه المزيَّف، فكيف يجعل الإنسان نفسه إلهًا؟
فعلى المسلم الذي يقول «لا إله إلا الله» بدل المرة عشرات المرات كل يوم أن يرفض ثم يقبل، يرفض آلهة العصر المزيفة، وبلغة العصر أن يكون ثائرًا رافضًا للأوضاع القائمة التي يدَّعي فيها الأفراد الألوهية باستحواذهم على السلطة وتركيزهم الأموال في أيديهم، ثم يقبل الانتساب إلى مبدأ يتساوى الجميع أمامه؛ أي أن يكون بانيًا لمجتمعٍ جديد لا طبقية فيه ولا سيطرة ولا تحكُّم فيه؛ فلا يوجد هدم بلا بناء، ولا يوجد بناء بلا هدم، ولا يوجد سلب بلا إيجاب، ولا إيجاب بلا سلب. مهمتنا إذن في النقد الاجتماعي، وبيان عورات العصر ومآسيه، ثم إعادة بناء الأمة طبقًا لمبادئ الحرية والعدل والمساواة.
وهذا هو معنى التوحيد الذي تُشير إليه شهادة أنْ لا إله إلا الله. يعني التوحيد التحرُّر الوجداني من كل قيودٍ قاهرةٍ للإنسان حتى يصبح الإنسان حرًّا في قراراته وسلوكه وأفعاله. كما يعني أيضًا المساواة الاجتماعية؛ فالكل بشرٌ متساوٍ أمام مبدأ واحد، لا فرق بين أبيض وأسود، حاكم أو محكوم، كبير أم صغير، قوي أم ضعيف. ويعني ثالثًا التكافل الاجتماعي؛ إذ لو حدث وظهرَت فروق بين الطبقات، فإن واجب الأمة إعادة البناء الاجتماعي من جديد، حتى يبقى المجتمع اللاطبقي هو الدليل الوحيد على أن الناس سواسية كأسان المشط، والثورة المستمرة على إقامة مجتمع العدل والمساواة.
يلزم في عصرنا إذن أن نقول «لا» ثم أن نقول «نعم». نقول «لا» لآلهة العصر؛ فهذا معنى «لا إله»، ثم نقول «نعم» للمبدأ الواحد الذي يتساوى أمامه الجميع؛ فهذا معنى «إلا الله»؛ ومن ثَم تكون روح عصرنا الذي يبارك ويؤيد، ويقول آمين آمين، ليس في الإمكان أبدع مما كان، روحًا لا يرضاها الإسلام، وليس من روح الله، ولكن روح الإسلام والتي تنبع من روح الله هي روح الرفض الممثَّل في «لا إله»، أن يعيش الإنسان في عصره رافضًا؛ أي ناقدًا، ناصحًا، جاهرًا بالحق، داحضًا للباطل، والشهيد هو الذي يقول كلمة الحق في وجه الحاكم الظالم.
ليتنا نُوفِّي «لا إله إلا الله» حقها بأن نعطيها مضمونها كلمة كلمة، وألا يكُف المسلم عن أن يقول «لا»؛ فما أكثر آلهة العصر، وقد يموت المسلم ولم يُوفِّ بعدُ «لا» حقها!
ثالثًا: ماذا تعني: الشهادة الثانية «وأن محمدًا رسول الله»؟
ويظن الناس خطأً أن محمدًا رسول الله تعني تعظيم الأنبياء وعلى رأسهم محمد، وتبجيله بشخصه، والحديث عنه، وذكر محامده وفضائله، بل إنه في كثير من الأحيان تطغى الشهادة الثانية «وأشهد أن محمدًا رسول الله» على الشهادة الأولى «أشهد أنْ لا إله إلا الله» ويكثر الحديث عن حب محمد، وحب آل البيت، وشفاعة محمد على نحوٍ لا يرضاه الإسلام، وبطريقةٍ مستحدَثة لم يعرفها الصحابة الأوائل. وفي أحسن الأحوال يُوضع «الله» و«محمد» كل منهما في إحدى الشهادتين، «الله» في «لا إله إلا الله» «ومحمد» في «محمد رسول الله» والحديث عنهما على مستوًى واحد، كما حدث في عقائدنا المتأخرة عندما أصبح قطبا التوحيد الله ومحمد؛ أي الإلهيات والنبوات، بل وأضاف المتأخرون، في عصور تخلُّفنا وانهيارنا، ضمن العقائد التي يجب على كل مسلمٍ معرفتها، أسماء أولاده ذكورًا وإناثًا، وأسماء آبائه وأجداده، وأسماء زوجاته. وفي أحسن الأحوال تبقى الشفاعة جزءًا من العقائد الأشعرية التي ورثناها، يبتهل الشيخ ويطلب شفاعة محمد، ويبتهل المسلمون وراءه ويطلبون أيضًا شفاعة الحبيب، وطلب الشفاعة يأتي من قومٍ لا يثقون بأعمالهم، وليس لهم قيمةٌ من ذواتهم، ويعتمدون على الواسطة في تسيير أمورهم. وقد قوَّى الصوفية هذا التيار بتركيزهم أيضًا على شخص محمد، وحديثهم عن الحقيقة المحمدية، الخالدة، الأزلية، الأبدية التي منها خلق كل شيء، الأرض والسماء، والأنهار والبحار، والنباتات والأشجار، والإنسان والحيوان. ونزيد على ذلك الاحتفال بالمولد النبوي، والتركيز على شخص محمد، وننسى قولة أبي بكر: «من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت.» هذا بالإضافة إلى الهبوط الطبيعي في وعي الناس، وحرصهم على تشخيص الحقائق وتمثيلها في الأشخاص؛ فالوحي هو الله، والإسلام هو محمد.
وكل هذا ليس هو المقصود بالشهادة الثانية «أشهد أن محمدًا رسول الله»، فما المقصود إذن؟ تعني هذه الشهادة الثانية الإعلان عن نهاية تطوُّر الوحي واكتماله في الوحي الإسلامي، وأن الوحي الإسلامي هو آخر مرحلة من مراحلَ طويلة متتالية ظهر فيها الوحي على فترات طبقًا لدرجات الوعي الإنساني وتقدُّمه، وطبقًا للوضع الاجتماعي لكل جماعة يظهر فيها الوحي، وطبقًا للمرحلة التاريخية والوضع الحضاري الذي يمُر به كل مجتمع؛ فعندما كانت الإنسانية في مهدها كانت في حاجة إلى وحيٍ يلائم طبيعتها وعلى مستواها الفكري والنفسي، فجاء الوحي قائمًا على الترغيب والترهيب، والوعد والوعيد، وكان مقياس التديُّن، وبرهان الإيمان هو طاعة القانون المطلَقة مثل قوانين الطعام لتربية الإنسان على السيطرة على نفسه، عن طريق السيطرة على البدن ومحاولة الإنسان الاستقلال عن الطبيعة، وتجاوز غرائزه الأولى ودوافعه واحتياجاته، وقوانين السبت التي يُراعي فيها الإنسان التشبه بالله وتخصيص جزء من حياته له، والكف عن العمل والبيع والشراء وإشعال النار وتحريك الأشياء إعلانًا بأن الإنسان له صلة بالله يومًا في الأسبوع، وإن كان في الأيام الستة الأخرى منغمسًا في العالم، وقانون الطهارة إعلانًا حسيًّا على أن الإنسان قد عقد مع الله عهدًا وميثاقًا مكتوبًا بالدم على أن يكون مطيعًا له خاضعًا لقوانينه ومؤمنًا به، ولو أن البعض حاول تفسير الميثاق على أنه اختيار لشعبٍ معين، ووعد له بالأرض والغنم والنصر إلى أبد الآبدين. كانت مهمة الوحي في هذه المرحلة شد انتباه الإنسان إلى وجود الله، وقدرته المطلَقة المسيطرة على قوانين الطبيعة وعلى مسار التاريخ، حتى يتحرر الإنسان من سيطرة قوى الطبيعة عليه، ومن سيطرة القوى السياسية على مقدَّراته، وأن يكون الإنسان هو المسيطر على الطبيعة، وهو الأساس في كيان الدولة؛ لذلك أجرى الله المعجزات، وتدخَّل في سير قوانين الطبيعة حتى يثبت بالدليل الحسي المباشر وجوده وقدرته. وهذه هي مرحلة الوحي اليهودي.
وقد نجحَت التجربة مع البعض وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ، ولكنها لم تنجح عند الأغلبية؛ فقد غضب موسى على بني اسرائيل ودعا عليهم بالتيه، وظلوا في عبادة العجل، والجري وراء الذهب والمال والحظ، وظل الشعور الإنساني على مستوى الطبيعة المادية، خاضعًا لها دون أن يتحرَّر منها ويتجاوزها.
فإذا ما شبَّت الإنسانية عن الطوق، وكبر الطفل، ووصل إلى مرحلة المراهقة المتأخرة، يقل الجانب الحسي ويزداد الجانب العاطفي، ويصبح الإنسان حالمًا، آملًا ناسجًا من خياله عالمًا أفضل، ويصبح قادرًا على إدراك الأمور بحدْسه، وإحساسه بها بوجدانه، فيأتي الوحي مرةً ثانية كي يرتقي بالإنسان لا عن طريق الترغيب والترهيب، والوعد والوعيد وفرض القوانين، بل عن طريق الحب والتراحم والعطف والتقوى والطاعة والتواضع والإحسان، يكون الإنسان في هذه الفترة حالمًا ناظرًا إلى عالمٍ آخر ليس هو هذا العالم، وملكوت هو ملكوت السموات ليس هو هذا الملكوت الذي نعيش فيه. ملكوت الأرض، عالمٌ يختلط فيه الخيال بالتمني، والحُلم بالواقع، وما هو كائن بما ينبغي أن يكون. ويكون التدين أساسًا ليس عملًا من أعمال الجوارح، بل عمل من أعمال القلب، ويغلب العفو على العقاب، والعطاء على الأخذ، والروح على الجسد، والداخل على الخارج، والسلام على الحرب.
وقد نجحت التجربة عند البعض وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ. ولكنها ظلت محدودة لم تؤدِّ إلا إلى إيمان الأبطال والقديسين والشهداء كردِّ فعلٍ على مجتمع لا يؤمن إلا بالقوة والبطش والسيطرة. بالإضافة إلى أن خلاص الفرد لا بد وأن يؤدي إلى خلاص الجماعة، وإلى تأسيس الدولة وهو ما لم يتمَّ بعدُ؛ فقد كان يكفي اكتشاف ملكوت السموات، وكما قال السيد المسيح «مملكتي ليست في هذا العالم».
فلما شبَّت الإنسانية، وبلغَت مرحلة النضج والرجولة، جاءت المرحلة الثالثة من مراحل الوحي الكبرى، والمرحلة الأخيرة تجمع بين القانون والحب، والعفو والعقاب وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ، ويجمع بين الحس والوجدان في العقل، ولا يتطرَّف في جانب على حساب جانبٍ آخر؛ لأن «خير الأمور الوسط»، يجمع بين التجربتَين معًا، ملكوت الأرض وملكوت السماء؛ فالإنسان موجود بين هذَين العالمَين.
- (١)
أن الإنسان ليس في حاجة إلى وحيٍ جديد فقد اكتمل عقله، وأصبح قادرًا على الإدراك والتمييز؛ فالعقل قادر على أن يصل إلى كل ما أعطاه الوحي من حقائق، وهو قادر على فهمها وتفسيرها وتطبيقها والاستفادة منها في الحياة العملية. وإن أية محاولة الآن لجعل العقل قاصرًا عن الإدراك، وادِّعاء الإلهام والمدَد من السماء أو العين الباطنة التي تُدرِك الحقائق الربانية مباشرة؛ لهو ادعاءٌ باطل يهدف إلى فرض الوصايا على عقول الناس، استغلالًا لها، وتوجيهًا إياها إلى ما تريده قوى التسلط والطغيان؛ ومن ثم فلا مجال للخرافة أو السحر أو الكهانة أو العرافة أو الفأل؛ فكل ذلك مضاد لعمل العقل وتدبيره واستدلاله وبرهانه، ولا مجال للجهل وللأمية فذلك أيضًا نفيٌ للعقل وهدمٌ له، ولا مجال أيضًا للظن أو التقليد أو التشكُّك والحَيْرة والتذبذب بين الأمور؛ فالعقل قادر على الوصول إلى اليقين وإلى حسم الأمور، وباستطاعته الإبداع والخلق واكتشاف الجديد.
إنه لَيكفي الإنسان أن يتبع فطرته الصادقة؛ فالإسلام دين الفطرة، وكل شيءٍ زائدٍ عليها ليس منها، وكل شيء أقل منها يكون ناقصًا والفطرة أكمل منه، وإن أي محاولة لجعل فطرة الإنسان ناقصة، دنيئة، خسيسة، مخطئة، تهدف في الحقيقة إلى فرض الوصايا على الإنسان من حاكمٍ يأخذ برقاب الناس حتى يمنعَ شرورهم ويوجهَهم إلى الخير، أو من مخلِّص للناس من خطاياهم ما دامت الخطايا في لحمهم ودمائهم؛ ومن ثم يفقد الإنسان استقلاله العقلي، ويتبع السلطة الدينية أو السياسية، وهذا ما لا يرضاه الإسلام.
- (٢) إن الإنسان قادر بإرادته على تحقيق كلمة الله على الأرض، وعلى حمل الأمانة التي رضي الإنسان بإرادته الحرة أن يحملها إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ. وليس في حاجة إلى معونة خارجية في صورة معجزة أو غيرها؛ فالله لم يعُد يتدخل في سير قوانين الطبيعة، كما كان الحال في مراحل الوحي السابقة وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ. وإن أية محاولة لفرض الوصايا على أفعال الإنسان، من حيث التوجيه والأمر له، هي في حقيقة الأمر محاولة للقهر وللتسلط؛ فافتراض عجز الإنسان وعدم قدرته يعطي الحاكم الحقَّ في فرض الرقابة عليه، كما أنها حُجة الاستعمار القديم في فرض حمايته على الشعوب لأنها غير قادرة على حكم نفسها بنفسها. إن الإيحاء للإنسان بأنه عاجزٌ يجعله يلجأ إلى وسائل السحر والكهانة، والحجاب والاتصال بالأولياء كي يُحيل ضعفَه قوة، كما أن الإيحاء للشعب بأنه غيرُ قادر على أخذ مصيره بيده، يفرض عليه الوصايا إلى الأبد، من الاستعمار الخارجي، أو من نُظم القهر والسيطرة الداخلية.
إن الإنسان قادرٌ على تحقيق كلمة الله على الأرض، وهو مسئول عن ذلك، وقد عُهدت إليه الأمانة، وتقبَّلها هو بمحض اختياره؛ فهي مسئوليته وحده؛ ولذلك تنجح تجربة الوحي هذه المرة في تحقيق استقلال الإنسان عقلًا وإرادةً، وفي إقامة دولة؛ أي نظامٍ اجتماعي يعيش فيه الناس. وقد نجح محمد رسول الله في ذلك، ولم يكتفِ بأن يكون شهيدَ الحق كغيره من الأنبياء والرسل السابقين؛ فنفس المهمة التي حاولها الأنبياء السابقون ونجحوا فيها لدى أفرادٍ قلائل دون غالبية الناس، حاولها محمد رسول الله ونجح فيها لدى الأغلبية؛ مما يدل على أن الوحي في آخر مرحلة له قد حقَّق بُغيته، ألا وهي إعلان استقلال الإنسان، يصبح خليفة الله على الأرض، أمينًا على الرسالة، ومحققًا للدعوة، بعد أن تحرَّر وجدانه من كل مظاهر القهر من قوى الطبيعة، أو النظم الاجتماعية المسيطرة.
تعني إذن «أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله» أشهد أن الإنسان حرٌّ مستقل، له عقلٌ وإرادة، وأنني هو ذلك الإنسان!