مقالات في اليسار الديني

(أ) محمد، الشخص أم المبدأ؟١

في هذه المناسبة الكريمة، المولد النبوي الشريف، يحق لنا أن نقول كلمة الحق؛ إذ «لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق، ظاهرين على من ناوأهم، حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال». وكلمة الحق في أواخر القرن الرابع عشر وأوائل الخامس عشر الذي يعيش فيه جيلنا هي أننا نعيش في شعورنا محمدَ بنَ عبد الله، رسولَ الله وخاتمَ النبيين، بطريقةٍ مخالفة للشرع، نبَّه عليها محمد بن عبد الوهاب، وحذَّر منها. وقد ترسَّبَت هذه الطريقة من تراكماتٍ تاريخية طويلة من العلوم الإسلامية القديمة، التي عظَّمَت محمدًا كشخص وتناسته كمبدأ، وكرَّمَته كرسول على حساب الرسالة. والدليل على ذلك:

  • (١)

    أصبح محمد في علم أصول الدين الذي صاغت الأشاعرة عقائده محورَ العقيدة مع الله؛ فعقائدنا خمسون، اثنان وأربعون في الله، وثمانية في الرسول؛ كلها في صفاته: الأمانة، والفطنة، والتبليغ، والصدق، ومنع أضدادها مثل الخيانة والتهور والكتمان والكذب، وتركنا العقائد كمبادئ وأصول عامة مثل التوحيد، والعدل، والحُسن والقُبح العقليَّين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما أصَّل المعتزلة. أخذنا الشخص وتركنا المبدأ.

  • (٢)

    وفي التصوف أصبح محمد عقيدةً مشخَّصة كذلك «الحقيقة المحمدية» التي تجعل محمدًا قديمًا، كائنًا قبل الخلق، مشاركًا لله في الصفات، منه خرج الكون، وصدرَت أشعة الشمس، وسطع نور القمر. ومنه نزل المطر، وسار السحاب، وهبَّت الرياح. وأصبحنا نقول في محمد ما يقوله النصارى في المسيح. وبالرغم من رفض فقهائنا القدماء هذه العقيدة إلا أنها ظلت مسيطرةً حتى الآن على عقائد الصوفية المعاصرين.

  • (٣)
    وقد تُنسب الشريعة الإسلامية أحيانًا خطأ إلى محمد؛ فيُقال الشريعة «المحمدية»، وهي الشريعة الإسلامية التي بلَّغ بها الرسول يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وانتهزها المستشرقون فرصة، فسمَّوا الإسلام كله المحمدية، والمسلمين المحمديين، أسوة بالمسيح والمسيحية والمسيحيين.

    وضعنا اسم محمد على حوائط المساجد مع الله، وأحيانًا مع أسماء الخلفاء الراشدين، مع أنه لا يجوز وضع أية لوحات على حوائط المساجد حتى ولو كانت أسماء الأنبياء والخلفاء، بل وكتبناها على عربات اليد لدى الباعة المتجولين، وعلى المركبات العامة وفي المطاعم الشعبية، وكتبناه على قِطع بلاستيك نعلِّقها في العربات. وإذا كنا أغنياء كتبناها مع «ما شاء الله»، والمصحف، والقرآن على رقائقَ من ذهبٍ نُحلي بها الأعناق والصدور.

  • (٤)
    كما أننا قد حوَّلْنا زياراتنا لمكة، وهي المقصد الأساسي للحج، كعبة إبراهيم، أبي الأنبياء، والمسلم الحنيفي الأول، وجعلناها زيارة إلى قبر الرسول، وهو غير المقصود من الحج؛ فالإسلام قد حرَّم بناء المساجد على قبور الأنبياء والأولياء أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ، وهو ما نبَّهَت عليه الحركة الوهابية أيضًا، التي نشأت في الحجاز لهذا السبب، بما في ذلك قبر الرسول.
  • (٥)

    أن المدائح النبوية التي تكثر في أجهزة الإعلام؛ أعِنَّا يا رسول الله، أغِثْنا يا رسول الله، يا حبيبي يا رسول الله، يا شفيعي يا رسول الله، سيدي يا رسول الله … إلخ تجعلنا نقف على أبواب الوساطة والشفاعة التي حرَّمها الفقهاء، ومنعها المعتزلة من قبلُ، والتي قاومَتْها معظم الاتجاهات الإصلاحية الحديثة.

  • (٦)

    أن احتفالاتنا بالمولد الشريف على طريقة الطرق الصوفية: السير في المواكب، رفع البيارق، إطلاق البخور، الضرب بالدفوف، التمايل بالأجسام، الأناشيد والسماع، إقامة السرادقات، مد الموائد … إلخ، قد ورِثناها من عصور التخلف؛ فقد كانت الاحتفالات والمواكب وسيلة الحكام لإضفاء الهيبة على نفوسهم وهم يتصدَّرونها، رغبةً منهم في السيطرة والتحكُّم في رقاب العباد، بل قد تبدأ الاحتفالات بالنصر قبل معارك النصر، والاحتفالات بالجلاء قبل إتمام الجلاء.

  • (٧)

    أن ما يحدث في الموالد من ظواهر مصاحبة، مظاهر البغي والفسوق، ونقل الأمراض، وتكلفة الدولة ما لا طائل لها به، من حيث توفير المواد الغذائية مثل السكر بالعملة الصعبة، والاتجار بالحلوى من أصحاب رءوس الأموال بهدف الربح والاستغلال، ووقوف الشحاذين على أبواب المساجد، وطرقهم أبواب المنازل، تجعل الدين الشعبي قد طغى على الدين الشرعي.

    كل ذلك يُرجعنا إلى القرآن الكريم لنعرف ما هي الصورة الشرعية لمحمد فيه، وهل يسمح القرآن بكل هذه المظاهر للتشخيص، تشخيص الرسالة في الرسول، وترك الرسالة كمبدأ؟

والحقيقة أن القرآن أشار إلى الرسول على أربعة أنحاء:
  • (١)
    آيات بها مخاطبةٌ مباشرة بكاف المخاطب أو ضمير المخاطب مثل وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ أو قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا … إلخ. وهي لا تشير إلى محمد الشخص، بل إلى المخاطب العام؛ أي إلى نموذج الوعي الإنساني الذي يدخل الوعي الشامل في حوار معه. الوعي الإنساني يسأل والوعي الشامل يجيب. وقد يكون السؤال باللفظ أو بالحركة؛ فكلاهما دلالة.
  • (٢)
    آيات بها ذكرٌ للرسول مثل يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ، يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ وهي كلها تعني الرسول كحامل للرسالة، وليس الرسول بشخصه.
  • (٣)
    آيات يُذكَر فيها النبي؛ مثل يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ، يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ، وهي نداءات كلها توجهات عملية الغرض منها توجيه الأمة وليس تكريم الرسول بشخصه.
  • (٤)
    آيات يُذكر فيها محمد، وهي لا تتجاوز أربع آياتٍ من بين آلاف الآيات التي تكوِّن مجموع القرآن الكريم، وهي:
    • (أ)
      وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ (٣: ١٤٤)، وتدل الآية على أن الشخص فانٍ، والرسالة باقية، وأن محمدًا ميت، والإسلام قائم؛ وبالتالي لا يمكن التضحية بالمبادئ من أجل الأشخاص؛ فالقرآن يهاجم عبادة الأشخاص، هذا الداء الذي ينتشر في معظم الثورات، خاصة في البلدان النامية، والذي يهدِّد معظم الأيديولوجيات، عندما يضحِّي معتنقوها بالمبادئ من أجل الأشخاص.
    • (ب)
      مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (٣٣: ٤٠). وتعني الآية أن الشخص لا يُورث، ولا يمكن لأحد أن يدعي انتسابه إليه بخلافة أو وصية. محمد رسول الله، بلغ الرسالة وعلى الأجيال حملها ونشرها وتحقيقها على حدٍّ سواء. رسالته نهاية تطور الوحي واكتماله في الرسالة العامة.
    • (جـ)
      وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (٤٧: ٢). وتشير الآية إلى أن محمدًا ليس هو الشخص بل المبدأ، هو الرسالة المنزلة وليس الرسول المنزل إليه، هو الحق المتبع وليس الحقيقة المحمدية.
    • (د)
      مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ (٤٨: ٢٩). وتعطي الآية درسًا في الوحدة الوطنية في الداخل في مواجهة الخارج؛ فهناك طريقان؛ الأول محمد والذين معه أي المؤمنون، أهل الوطن الواحد الذين يتراحمون فيما بينهم، لا يطغى فريق على فريق، ولا يدَّعي أحد الإيمان والوطنية ويكفِّر الباقي ويخوِّنه. والثاني جبهة وطنية واحدة في مواجهة الأعداء، أشداء على الكفار دون التقرُّب إليهم، والسعي لهم، والجري وراءهم وأخذهم أولياء من دون الله، يبتغون لديهم نصرًا.

السؤال إذن: أيهما أحق أن يُتَّبع: محمد الشخص أم المبدأ؟

(ب) مصر بين الأمان والطغيان٢

إن حب مصر ليس وليد الظروف، وليس نابعًا من شمسها الدافئة، وسمائها الزرقاء، وأرضها الخضراء، كما تعلَّمنا في المدارس، بل هو حبٌّ نابع من إيماننا بالله ومن قراءتنا لكتابه؛ فمصر مذكورة في القرآن الذي نتلوه آناء الليل وأطراف النهار؛ فلا إيمان إلا بمصر، وكل مهاجرٍ من أرض مصر فإنه يترك إيمانه وراءه، فكيف ننزع القلب والأحشاء؟ فما هي صورة مصر في القرآن؟

ذُكرَت مصر خمسَ مراتٍ في القرآن الكريم بصرف النظر عن معنى «مصر» هل هي مصر الدولة التي نعيش فيها أم مصر القطر والمكان المنخفض. وقد يكون هذا التداخل بين الخاص والعام هو إحدى صفات مصر.

  • (١)
    مصر بلد الاستقرار والسكن، ومكان للعيش والحياة، يأتيها الناس، ويتخذونها قبلة ومقرًّا. وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً (١٠: ٨٧). يسكنها الأنبياء وذووهم، وتعيش فيها القبائل، وتعمُرها الشعوب. صحراء تحتاج إلى تعمير، وأرضٌ تستدعي البناء عليها من أهلها، إن تركناها بلا تعمير استعمرها غيرنا، واستوطن فيها، وبنى فيها البيوت، وأقام المستوطنات، وأنشأ فيها المزارع، وشيَّد فيها المعسكرات؛ لأن أهلها لم يستقرُّوا فيها، ولم يبنوها، ولم يحوِّلوها إلى كتل بشرية تحمي حدودها، وتمنع غزوها، وتصدُّ العدوان عليها.
  • (٢)
    مصر بلد الأمان؛ فلا حياة دون أمان، ولا استقرار دون أمن. فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِينَ (١٢: ٩٩). كان يوسف في مصر آمنًا، ودخل أبواه مصر آمنَين، ولا يعني الأمن في مصر إنشاء أجهزة للأمن تقضي على أمن المواطنين، بل أن يشعر الإنسان أنه يعيش في بلد آمن، آمن على نفسه، آمن على أهله، آمن على عمله ومستقبله، آمن على قوله وفعله، آمن على فكره ورأيه. والأمن ليس فقط هو الأمن الغذائي، بل الأمن الفكري، والأمن السياسي.
  • (٣)
    مصر بلد الكرم والسخاء، يجد فيها الغريب موطنًا له ومستقرًّا، مواطنًا لشعبها، ابنًا لأُسرها. وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا (١٢: ٢١). ليست مصر إذن بلد الدخلاء عليها الذين يأتون لسلب ثرواتها، ونهب أرضها، والاستيلاء على خيراتها، وتهريب أموالها، واستهلاك دخلها، والاستحواذ على مدَّخراتها. لا يعني الكرم بيع ماء النيل، ورهن قناة السويس، وإهداء قطعة من الساحل الشمالي؛ فالعطية من نِتاج مصر وعَرق مصر وليس من أرض مصر أو ثروات مصر.
  • (٤)
    مصر بلد الزراعة والنماء، ومصدر الخير والرخاء. لمَّا ضاق بنو إسرائيل بشظف العيش، وملُّوا الطعام الواحد سألوا موسى البقول والقِثَّاء والفول والعدَس والبصل، فقال موسى اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ (٢: ٦١)؛ فما زالت مصر بوفرتها ومحصولها مطمعَ مَن تضيق بهم الأرض، ومَن تعزُّ لديهم مصادر المياه؛ فمصر هي ريفها وقراها، وشعبها هو فلاحوها ومزارعوها.
  • (٥)
    وأخيرًا، مصر بلد الطغيان يتحكَّم فيها فرعون، يمتلك كل شيء فيها، أرضها وأنهارها، نيلها وشعبها، ويحتقر مواطنيها وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (٤٣: ٥١). وكأن مأساة مصر ليست في مستقرِّها وأمنها وكرمها وخيرها، بل في نظامها السياسي، الذي يقوم على حكم الفرد، وإذلال الشعب، واحتقار المواطنين.

(ﺟ) الشورى في الإسلام٣

لقد كثُر الحديث من قبلُ عن الشورى في الإسلام كلما أراد المسلمون الفخر بتراثهم المجيد، وبالدين الحنيف، وبالشريعة الغَراء، أو كلما ضاق بهم العصر ذرعًا، ووجدوا في الشورى متنفسًا لمآسيهم وضيقهم. ولقد ذكَر القرآن لفظ «شور» ثلاث مرات؛ الأولى ليجعل التشاور أساس الحياة العائلية فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا (٢: ٢٣٣)؛ أي أساس الجماعة الصغيرة. وفي المرتَين الثانية والثالثة يذكر اللفظ مشيرًا إلى الحياة الاجتماعية الكبيرة؛ أي في الحياة السياسية في وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ (٤٢: ٣٨) كتقرير واقعٍ فعلي للمسلمين؛ فالشورى من طبائع الأمور، وفي وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ وهو أمرٌ إلهي إذا ما سارت الأمور ضد الطبيعة.

وقد بيَّن الحديث النبوي فضائل الشورى؛ فقال عليه الصلاة والسلام: «إذا استشار أحدكم أخاه فليُشِر عليه.» فالشورى واجبة عند السؤال، والتخلي عنها أو الصمت والكتمان لا يجوز كالشهادة سواء بسواء، وقال عليه الصلاة والسلام: «المستشار مؤتمن إن شاء أشار، وإن شاء لم يُشر.» فالشورى أمانة في عنق المستشار، عليه أن يُشير إن عرف وألا يشير إن لم يعرف، كما قال عليه الصلاة والسلام: «المستشار مؤتمن. فإذا استُشير فليُشر بما هو صانع لنفسه.» فالشورى ليست للآخر دون الذات، وليست للغير دون الفرد، بل هي أولًا تطبيق على النفس قبل الآخرين. وقال أيضًا: «ما تشاور قومٌ قط بينهم إلا هداهم الله لأفضل ما يحضرهم.» وفي لفظ «إلا عزَم الله لهم بالرشد أو الذي ينفع.» فالشورى تُحضر ما هو أفضل عند الناس، وما هو أعقل وأنفع لهم؛ لأن الشورى أخذ لاعتبار المجموع، وضمان لعدم سيادة الهوى والانفعال أو تغلُّب المصلحة الشخصية؛ ولذلك قال الرسول: «إن أمتي لن تجتمع على ضلالة، فإذا رأيتم اختلافًا فعليكم بالسواد الأعظم.» فالاختلاف في الرأي طبيعي، واختلاف الأئمة رحمة بينهم، واجتماع الأغلبية على رأي يجعله أقرب إلى الصواب، والرأي الصحيح هو الذي يُجمع عليه أبو بكر وعمر لقول الرسول: «لو أنكما تتفقان على أمر واحد ما عصيتكما في مشورة أبدًا.» فالجمع بين مثالية أبي بكر وواقعية عمر هو الرأي الصائب، الذي لا يضحي بالواقع من أجل المثال، أو بالمثال من أجل الواقع.

ولم يكن الرسول مسيطرًا ولا جبارًا، وكما وصفه القرآن لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ (٨٨: ٢٢)، وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ (٥٠: ٤٥). كان الرسول يشير على الناس حتى لقد قال عنه أبو هريرة: «ما رأيت أحدًا أكثر مشورةً من رسول الله.» لقد شاور الرسول أصحابه في الحرب وفي السلم، في أمور الدنيا والمعاش. راجَعَه أصحابه، وتقبَّل رأيهم فيما لم يأتِه فيه وحي؛ فالحرب خدعة، والناس أعلم بشئون دنياهم. ولما سأل عليٌّ الرسول: ماذا نفعل بعدك إن وقع لنا أمر؟ فقال: «اجمعوا العابدين من أمتي واجعلوه بينكم شورى، ولا تقضوا برأيٍ واحد.»

وتَبعه الخلفاء الراشدون في سنته، ولم يحيدوا عنها. قال عمر: «الرأي الفرد كالخيط السحيل، والرأيان كالخيطَين المبرمَين، والثلاثة الآراء لا تكاد تُقطع.» فمعارضة الرأي بالرأي فضل، وتعارُض الآراء أفضل. وقال عمر أيضًا: «الرجال ثلاثة؛ رجل ذو عقل ورأي فهو يعمل عليه، ورجل إذا أحزنه أمرٌ أتى ذا رأي فاستشاره، ورجلٌ حائرٌ بائر لا يأتي رشدًا، ولا يطيع مرشدًا.» العقل يجمع عليه الناس، فإن غاب الرأي وجبَت المشورة. أما سيادة الهوى وغياب الشورى فتخبُّط وضياع. وقال أيضًا: «صاحب الحاجة أبلَه لا يُرشد إلى الصواب، فلقِّنوا أخاكم وسدِّدوا صاحبكم.» وذلك لأن صاحب الحاجة يريد الحصول عليها، ويكون مأخوذًا بها مما يدفعه إلى عدم تقدير الأمور؛ ومن ثَم وجبَت الشورى والنصح. وقال عمر: «من دعا إلى إمارة نفسه أو غيره من غير مشورة من المسلمين فلا يحل لكم ألَّا تقتلوه.» وقال أيضًا: «لا خلافة إلا عن مشورة.» وقال عليٌّ: «الاستشارة عين الهداية. وقد خاطر من استغنى برأيه.» والمشورة لا بد أن تكون عند مَن هو أهلٌ لها، كما قال طلحة «لا تشاور بخيلًا في صلة، ولا جبانًا في حرب، ولا شابًّا في جارية.» فالمشورة لا بد أن تكون عند مَن تجرَّد عن المصلحة والهوى؛ فلا يُستشار حاكم في حكم، أو تاجر في سلعة. وقيل أيضًا: «لا تُشِر على مستبد، ولا على وغد، ولا على لحوح، ولا على معجَب، ولا على متلوِّن.» فالمستبد يشير بالاستبداد، والوغد يشير بالرذيلة، واللحوح يشير بما يسعى جاهدًا إليه، والمعجَب يشير بما يزهو به، والمتلوِّن يشير حسب الحاجة والظرف. وقد قيل أيضًا: «خف الله في موافقة المستشير؛ فالتماس موافقته لؤم، وسوء الاستماع منه خيانة.» فإعطاء المشورة لا بد أن يكون بناءً على خوف من الله، وإلا كانت موافقة المستشير لؤمًا وخيانة. وقال أبو الحسن البصري: «اعلم أن من الحزم لكل ذي لب ألَّا يُبرمَ أمرًا، ولا يُمضيَ عزمًا إلا بمشورة ذي الرأي الناصح، ومطالعة ذي العقل الراجح.» وقال عمر بن عبد العزيز: «إن المشورة والمناظرة بابا رحمة، ومفتاحا بركة، لا يضل معهما رأي، ولا يُفقَد معهما حزم.» وقال لقمان الحكيم لابنه: «شاوِر من جرَّب الأمور؛ فإنه يعطيك من رأيه ما قام عليه بالغلاء وأنت تأخذه مجانًا.»

والمشورة لا تعني طلَب الرُّخَص والسلطات الاستثنائية؛ فقد قيل: «من طلب الرُّخَص من الإخوان عند المشورة، ومن الأطباء عند المرض، ومن الفقهاء عند الشُّبه فقد خدع نفسه.» المشورة تكون من أجل العزائم وليس من أجل الرُّخَص، ولتحقيق المبدأ العام وليس للاستثناء أو العزل. هذا في حالة المشورة الفردية، كما هو الحال في سؤال المفتي من أجل الاجتهاد في الأحكام. أما المشورة الجماعية التي تتعلق بالصالح العام فإنها تتطلب أمورًا ثلاثة؛ الأول أنه لا يجوز الفصل برأيٍ شخصي فيما يتعلق بالصالح العام؛ فمصلحة الجمهور تحتاج إلى رأي الجمهور. والثاني أنه لا يجوز التعدي على حقوق الآخرين؛ فمصلحة الآخر مقدمة على مصلحة الفرد. والثالث أنها مسئوليةٌ عامة كالولاية العامة، وليست مجرد اجتهادٍ شخصي بناءً على رأي أو هوًى، هي جزءٌ من المؤسسات العامة في الدولة.

وعند أبي الأعلى المودودي تتطلب آيات الشورى في القرآن الكريم عند تطبيقها في الولاية العامة عدة أمور:
  • (١)

    الحرية الكاملة في التعبير عن الرأي، وأن يتوجه المستشارون إلى ولي الأمر إذا ما بدَر منه خطأ أو تقصير، فإن رأَوا الخطأ لا يصلح ويستقيم عزلوا قادتهم وأولي أمرهم، واستبدلوا غيرهم؛ لأن تصريف أمور الناس مع سد أفواههم وتكبيلهم وتركهم دون علم بها إنما هو كفرٌ صريح. وقد فصَّل الفقهاء قديمًا وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بدايةً بالنصيحة، حتى العزل، ثم الخروج.

  • (٢)

    مسئولية تصريف أمور المجتمع على كاهل مَن يتم اختياره برضا الناس، لا ذلك الناتج عن الإرهاب والتخويف، أو المُشترَى بالطمع والحرص، أو المتحقق بالتزوير والخداع والدجل؛ فالإمامة كما يقول الفقهاء عقد وبيعة واختيار. ولا تجوز الإمامة بالشوكة؛ أي بالاستيلاء على السلطة بالقوة، حتى ولو استتب الأمن.

  • (٣)

    اختيار من يحصلون على ثقة الشعب للتشاور مع القائد، ويخرج عن هؤلاء من يفوزون بتمثيل الشعب عن طريق الضغط والإكراه والنفوذ، وشراء الثقة والأصوات بالمال والرشاوى، أو بالتزوير والخديعة والمكر والتحايل.

  • (٤)

    أن يُشيروا بما يمليه عليهم علمهم وإيمانهم وضميرهم، وأن ينالوا حرية الرأي كاملةً تامة، وإلا فسوف يشيرون بما يخالف ضميرهم وإيمانهم وعلمهم، خوفًا أو طمعًا أو تحيزًا، أو مراعاة لمصلحة جماعةٍ ما، فيصبح الأمر خيانة وغدرًا وتبريرًا لسلطة الحكام وقراراتهم.

  • (٥)

    التسليم بما يُجمع عليه أهل الشورى أو غالبيتهم. أما أن يستمع ولي الأمر إلى آراء جميع أهل الشورى، ثم يختار ما يراه هو نفسه بحريةٍ تامة، فإن الشورى في هذه الحالة تفقد معناها وقيمتها. الشورى إذن ملزمة للحاكم، وإلا كانت مجرد زخرفٍ من القول.

والخلافة في الإسلام ليست بمُلك ولا سلطة، وإنما هي رعايةٌ عامة للأمة لإقامتها على الشرع الحنيف، وردع القوي عن الضعيف في الداخل، وصيانة الإسلام ودفع المعتدي من الخارج. وهي لا تنعقد إلا بإرادة الأمة، والسلطان الذي يؤتاه صاحب الخلافة هو من الأمة لا سلطان له عليها إلا منها. ولما سأل عمر: أملك أنا أم خليفة؟ قال له سلمان: إن أنت جبَيت من أرض المسلمين درهمًا أو أقل أو أكثر ثم وضعتَه في غير حقه فأنت ملكٌ غير خليفة. وقال له آخر: الخليفة لا يأخذ إلا حقًّا ولا يضعه إلا في حق. والملك يعسفُ الناس، فيأخذ من هذا، ويعطي هذا.

والخليفة لا يتولى إلا بمشورة المسلمين، وفي هذا خطابُ أبي بكر المشهور: «إني وليتُ عليكم ولستُ بخيركم، فإن أحسنتُ فأعينوني، وإن أسأتُ فقوموني. أطيعوني ما أطعتُ الله فيكم، وإن عصيتُ فلا طاعة لي عليكم.» وقال عمر: «إني لم أزعجكم إلا أن تشتركوا في أمانتي فيما حملتُ من أموركم فإني واحد كأحدكم، وأنتم اليوم تُقرُّون بالحق، خالفَني من خالفَني، ووافقَني من وافقَني، ولست أريد أن تتبعوا الذي هواي.»

والرقابة على الخليفة واجبٌ على المسلمين، وتذكيره بالشرع وتقويمه بعد النصيحة واجبٌ على العلماء. وفي ذلك يقول أبو بكر: «إذا رأيتموني استقمتُ فاتبعوني، وإن رأيتموني زغتُ فقوِّموني.» وكذلك قال عمر: «من رأى فيَّ اعوجاجًا فليقوِّمه.» فقال له أحد القوم: «لو رأينا فيك اعوجاجًا لقوَّمناه بسيوفنا.» فقال: «الحمد لله الذي جعل في هذه الأمة من يقوِّم اعوجاج عمر بسيفه.» ولقد تعرَّض عثمان لأشد أنواع النقد وأقذعها، ولم يحاول أن يُسكِت أحدًا بقوَّته وسطوته ونفوذه، بل كان يردُّ دائمًا على ما يوجَّه إليه من اعتراضاتٍ على مسمعٍ من الناس ومرأًى. كذلك قابل عليٌّ تجريحات الخوارج له في عهده بصدرٍ رَحْب. وحدَث أن قُبض على متهم، فأحضروه إليه، وكانوا يكيلون له السباب علنًا، حتى أقسم أحدهم أمام الناس لأقتلن عليًّا. ومع ذلك أطلق سراحهم، وقال لرجاله أن يردُّوا عليهم بما شاءوا من القول، لكنه لم يتخذ ضدهم إجراءً عمليًّا؛ لأن المعارضة بالقول واللسان ليست جُرمًا يستحق أن يقبضَ عليهم به.

لم يكن التاريخ إذن في مراحله الأولى إلا تحققًا للمبادئ العامة للشورى؛ فالمثال ليس خارج التاريخ، بل واقع فيه. وفرقٌ بين هذه الشورى القديمة وبين مجلس الشورى حديثًا. اختلفَت المسميات وإن اتفقَت الأسماء!

اعتمدنا في ذلك، على دراسة لأبي الأعلى المودودي أظنها «الشورى في الإسلام» ووجدتُ في المسوَّدتَين الأوليَين الإشارة إلى صفحات ٣٥-٣٦، ص٩٣-٩٤، ص٢١٨-٢١٩.

الجهاد٤

تحليل لفظي من القرآن

ورد لفظ الجهاد في القرآن حوالي أربعين مرة، بمشتقاته وصيَغه المختلفة: «جاهد، جاهداك، جاهدوا، تجاهدون، يجاهد، يجاهدوا، يجاهدون، جاهد، جاهدهم، جاهدوا، جهد، جهدهم، جهادًا، جهاده، مجاهدون، مجاهدين.» وتدور كل هذه الصور حول معنًى واحد هو بذل الوسع والمجهود، وتحمُّل المشقة في ذلك؛ فالجهد مشقة، والجهد طاقة، الجهد وسع الطاقة، والجهد بلوغ غاية.

وتحليل لفظ «الجهاد» في القرآن يبيِّن لنا المعاني الآتية:

(١) الجهاد فعلٌ أوحد

الجهاد فعلٌ أوحد لا يمكن مقارنته بأي فعلٍ آخر يساويه حتى ولو كان فعلًا شرعيًّا؛ فالجهاد أول الأفعال الشرعية وجامعها كلها. ومهما قيل في أفعال التكليف من حلال وحرام وواجب ومندوب ومكروه، فإن الجهاد أمُّ هذه الأفعال؛ أي هو الواجب وجوبًا محضًا، إن لم يكن هو التكليف نفسه، إذن لا يوضع الجهاد مع فعلٍ آخر حتى ولو كان مندوبًا أو واجبًا؛ لأن الجهاد يندُّ عن تصنيف التكليف والخيار بين أفعاله: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ (التوبة: ١٩). وهو الدافع الإنساني الذي هو أقوى من كل دافعٍ آخر، بل هو الدافع الذي يُمحى أمامه كل دافعٍ آخر ويذوب فيه: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا (التوبة: ٢٤)؛ فلا يكفِّرن عن الجهاد إلا الجهاد، ولا مكان للقانعين الراضين بين المجاهدين.

(٢) الجهاد امتحان واختبار

جهد بالرجل؛ أي امتحنه واختبره؛ فالجهاد امتحان واختبار، وهو الكفيل بإظهار المؤمن من المنافق، الصادق من المرائي؛ فالله يمتحن العبد في إيمانه بدرجة استعداده للتضحية الفعلية، ولا كسب ولا نصر إلا بعد هذا الاختبار: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (آل عمران: ١٤٢). الجهاد إذن تمحيصٌ للإيمان، واختبارٌ لرسوخه، ولن يُترك الإنسان لقوله وما يتشدَّق به دون تمحيص واختبار: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ (التوبة: ١٦)؛ فليس كل من ادَّعى الجهاد مجاهدًا، وليس كل من دعا إلى الجهاد مجاهدًا؛ فقد يكون كلاهما أول الناكصين. إنما الواقف في الخَطْب، الثابت في البلاء هو المجاهد حقًّا: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (محمد: ٣١).

(٣) الجهاد حربة الإيمان

الجهاد هو رأس الإيمان، وحربته تنطلق منه تلقائيًّا، دون إذن أو سماح، وإلا فهو النفاق والرياء؛ فالمؤمن مجاهدٌ بالطبع؛ لأن إيمانه يأبى عليه القعود والتخاذل والتحجُّج وتلمُّس الأعذار: لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا (التوبة: ٤٤)؛ فالإيمان تقدُّم والنفاق تراجُع، والجهاد سبقٌ والرياء تقاعد: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا (التوبة: ٨١). والمؤمن لا ينهزم ولا يستسلم بل يجاهد. فالجهاد والانهزامية ضدان، والمجاهد والقاعد طَرفَا نقيض: فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً (النساء: ٩٥)، وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (النساء: ٩٥). والجهاد حقٌّ على المؤمنين عامتهم وخاصتهم، شراذمهم ووجهائهم؛ فالمؤمن الذي لا يربطه بهذا العالم إلا لقمة خبزه وسترة جسده هو السبَّاق للجهاد، أما وجيه القوم المتثاقل بالأحمال وبما كنز وجمع وملك وتمالك فهو آخر المجاهدين: وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ (التوبة: ٨٦)؛ لذلك، استنفر القرآن الناس للجهاد: انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ (التوبة: ٤١) حتى يستطيع كل مؤمن أن يُبرز إيمانه ويوضِّحه بالفعل. والاستنفار حالة حرب واستعداد له وتهيئة سبله؛ ولذلك أيضًا يربط القرآن الإيمان بالجهاد، كلما ذكر الإيمان ذكر الجهاد: تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ (الصف: ١١)؛ فالجهاد هو الذي ينبثق من الإيمان الراسخ لا من إيمانٍ مُزعزَعٍ مشكوكٍ فيه؛ فالمجاهد الواثق من قضيته أثبَت وأصلَب في القتال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ (الحجرات: ١٥). والإيمان قد يحتِّم الهجرة وترك الأهل والوطن لفتح ميادينَ أخرى له في مكانٍ آخر، وهذا جهاد كذلك؛ فالمؤمن يجاهد في كل مكان، وقد جُعلَت له الأرض ميدانًا: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ (الأنفال: ٧٢). كذلك، وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ (الأنفال: ٧٥).

(٤) الجهاد بذل وفداء:

لا يوجد جهاد من عدم، إنما الجهاد هو جهادٌ بشيء، بالمال وبالنفس؛ فالمجاهد هو الذي يعطي ولا يأخذ، وهو الذي يهَب ولا يسأل، وهو الذي يضحِّي بما معه، لا من يتطلَّع إلى غيره؛ فالجهاد بذل لا مكسب، وتضحية لا احتراف، ومن يعمل يعمل لله دون جزاء من الناس. المجاهد هو الذي يهَب ماله ونفسه لا الشحيح بوَرقه وبحياته: الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ (الأنفال: ٢٠). ولا يطلبن من أحد فوق طاقته وكذلك لا يقبل من مؤمن أقل من طاقته؛ فالجهاد حسب الوسع والطاقة؛ فجهاد المفكِّر حسن النصيحة، وجهاد العامل إتقان عمله، وجهاد المعلم صدق قوله، وجهاد القائد حسن استشهاده، وجهاد الحاكم عدل حكمه؛ فالجهاد نية وموقف وعمل: وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ (التوبة: ٧٩).

(٥) الجهاد تأكيد للشخصية

الجهاد جهادٌ للنفس أولًا، وهو تحقيقٌ للشخصية الإنسانية وتأكيدٌ لإرادتها وفعلها، وهو السبيل للحفاظ على هذه الحياة التي وهبها الله لها: وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (العنكبوت: ٦). الجهاد إذن فيه مصلحة العباد، وتهيئة سبلهم، وليس ضياعًا أو موتًا أو عدمًا. ويتم الجهاد بحرية كاملة وعن علم، فلا يُجبرن أحد على التضحية وإلا ذهب متثاقلًا يجرُّ أقدامه، أو قاتل مُزعزَعًا لا يدري من أمره شيئًا، يتم الجهاد إذن عن رؤيا واضحة لقضايا الجهاد، وهي القضايا المصيرية التي تجتازها الأمة الإسلامية. الجهاد جهادٌ عن وعي، ومن جاهد غير واعٍ كان مخاطرًا بالهزيمة: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا (لقمان: ١٥). وأجهَد نفسه تعني أبرزَ موقفه وأوضَح فكره. والجهاد لا يدعو إلى الخوف أو التخوف: يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ (المائدة: ٥٤)، بل إن الجهاد مدعاةٌ للثبات ولرِباطة الجأش والغِلظة على الكافرين: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ (التوبة: ٧٣)؛ فلا تواني في الجهاد ولا انتظار، ولا تهاون ولا مصالحة، الجهاد هو الجهاد الكبير، الجهاد العام الشامل الذي ينهض فيه المسلمون للدفاع عن أوطانهم ومقدساتهم: فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (الفرقان: ٥٢).

(٦) الجهاد حق الله

كما أن الجهاد هو حق الإنسان، هو حق الله أيضًا، لا ابتغاء ثناء أو مديح أو مكسب أو مغنم، بل لإعلاء كلمة الله، ولتأكيد شرعه: وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ (الحج: ٧٨)؛ فكما أن الزكاة حق المال، والصلاة حق الشهادة، فالجهاد حق الله، ومن لا يجاهد فإنه يُسقِط حق الله من حسابه، وأي حق؟! إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي (الممتحنة: ١). ويتم ذلك بأخذ الوسائل والسبل لذلك؛ فلا جهاد بدون خطة وعتاد ما دام هناك المجاهدون في سبيل الله: اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ (المائدة: ٣٥)؛ فبمقدار ما يتهيأ العدو للقاء بمقدار ما نستعد للقائه بوسائله وسبله. بعد ذلك يفتح الله على المؤمنين وينصرهم نصرًا مؤزرًا؛ فالجهاد هو سبيل الهداية، وطريق الحق: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا (العنكبوت: ٦٩)، وسبيل الجهاد هو الطريق إلى بيت المقدس، أولى القبلتَين، وثالث الحرمَين.

(ﻫ) الصبر٥

لقد بدأَت قيمٌ جديدة تغزو نفوسنا، ونُربِّي عليها شعوبنا. والحقيقة أنَّا في غنًى عنها؛ لأنها كامنة في النفوس. تعمل فينا، وتؤثِّر في سلوكنا، ولا نستطيع لها دفعًا. ومن أمثال ذلك «الصبر»؛ فقد ورثناه عن الصوفية وغنَّيناه، وضربنا به الأمثلة، واستشهد به الآباء والأجداد، وعلَّقنا على حائطنا «الصبر مفتاح الفرج».

صحيح أن القرآن الكريم يذكُر فضيلة الصبر (١٠٣ مرة) ولكننا نُسيء تأويله، ونجعله يسير على وتيرةٍ واحدة لإعطاء معنًى واحد، هو الاستكانة والقبول والرضا، وعدم الثورة أو الغضب أو الرفض. الصبر في القرآن ليس قبولًا للضيم، وتحملًا للمهانة والأذى، وجرحًا للكرامة الوطنية، بل هو صبر وعزيمة، فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ (٤٦: ٣٥). ولا بد أن يسبقه جهاد، ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا (١٦: ١١٠). ويتلوه الرباط، اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا (٣: ٢٠٠)؛ فالصبر ليس ضعفًا أو استكانة، وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (٣: ١٤٦). والصبر لا يكون إلا في الحرب والقتال وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ (٢: ١٧٧). ويكون نتيجة للعمل والجهاد، وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (٣: ١٤٢)، والصبر هو أن تغلب الفئة القليلة الفئة الكثيرة، إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ (٨: ٦٥)، فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ (٨: ٦٦) وليس صبر الكثير على القليل، والأغلبية على الأقلية.

وفي نفس الوقت، يبيِّن القرآن أيضًا أن أمام الحقائق الدامغة فالصبر لا فائدة منه، ولا يرجى منه شيء، سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (١٤: ٢١). وعذاب الجحيم لن يفيد الصبر منه شيئًا، اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ (٥٢: ١٦). كما أن الصبر يجوز مع الذين يُرجى منهم شيء، وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ (١٨: ٢٨)، وليس على الأعداء الذين يتربَّصون بالمسلمين. الصبر إذن موقفٌ مؤقت، حركةٌ سلبية، اختمارٌ لوقت الفورة والغضب، وتغيُّر الموازين، وانقلاب القوى.

كما يبيِّن القرآن أن الصبر لا يصح في كل الحالات؛ فالصبر على الباطل باطل، إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا (٢٥: ٤٢). كذلك لا يمكن الصبر على جهل وعدم معرفة بالأمور، وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (١٨: ٦٨)، بل إن لفظ الصبر والضجَر منه هو فاتحة العلم، وبداية المعرفة، وطريق الفهم، سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (١٨: ٧٨)، والأنبياء أنفسهم يضيقون بالصبر ذرعًا، إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (١٨: ٦٧). والشعب الذي يتضرَّر من الصبر يحصل على ما يريد، وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ (٢: ٦١). بعد ذلك أعطى الله بني إسرائيل خير مصر. وأخيرًا يضيق القرآن ذرعًا بالصبر؛ لأن الصبر شيمة الكافرين في تحملهم عذاب النار، فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (٢: ١٧٥).

(و) الحب٦

إننا ندعو إلى الحب بيننا، ونريد إقامة مجتمعنا على الحب، ونتصور الحب على أنه تخلٍّ عن الحقوق، وتركٌ للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فنُحب السارق والسمسار، ونعشَق الحارس والجلَّاد. تصوَّرنا الحب على طريقة الانفتاح، سداح مداح، بلا شروط وبلا مقابل. ويتضح ذلك في أغانينا بالاستمرار في الحب بالرغم من الهجران؛ فتُقبِّل الضَّيم والهوان باسم الحب. ويغذِّي الصوفية ذلك في النفوس، فنستشهد بأقوالهم. صحيحٌ أن القرآن تحدث عن الحب، وجعل الحب فعلًا من أفعال الله ولكننا كعادتنا نأخذ من القرآن ما نريد ونترك ما لا نريد، ونؤمن ببعض الكتاب، ونكفر بالبعض الآخر.

لقد ذكر القرآن أن الله يحب (ست عشرة مرة)؛ فالله يحب التوابين، والمتطهرين، والمتقين، والمحسنين، والصابرين، والمتوكلين، والمقسطين، والذين يقاتلون في سبيله صفًّا كأنهم بنيان مرصوص. ولكنه ذكر أيضًا أن الله لا يحب (ثلاثًا وعشرين مرة)؛ أي إن الله لا يحب أكثر مما يحب؛ فالله لا يحب الكفر والإثم. وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (٢: ٢٧٦). ولا يحب الخيانة والإثم، إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (٤: ١٠٧). والخيانة إثم وكفر، إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (٢٢: ٣٨). والله لا يحب الخائنين، إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (٨: ٥٨). والله لا يُحب الفرِحين بأنفسهم، إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (٢٨: ٧٦). كما أنه لا يحب المختالين الفخورين بأنفسهم زينةً ولباسًا، أناقة ومظهرًا، صورةً وإعلامًا، وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (٥٧: ٢٣). والله لا يحب الجهر بالسوء، والهجوم على الآخرين، والنيل من إيمانهم ومن وطنيتهم، لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ (٤: ١٤٨). والله لا يحب الفساد، وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (٢: ٢٠٥). كما أنه لا يحب الإسراف، وتجديد القصور، وتبذير الأموال، إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (٦: ١٤١). والله لا يحب الظلم، وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٣: ٥٧). كما لا يحب الاعتداء، إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٢: ١٩٠)، فإذا كان الله لا يحب الكفر، والإثم، والخيانة، والعُجب بالنفس، والعجز، والاستكبار، والجهر بالسوء، والفساد، والظلم، والاعتداء، فكيف يحب الإنسان هكذا بلا تمييز بين موضوعات الحب؟ الحب سهل وعدم الحب صعب؛ فالإيجاب أسهل على النفس من السلب، لا يُوجد حب بلا عدم. كلاهما واجهتان لعملة واحدة.

كما يذكُر القرآن أن الحب قد يكون وهمًا وخداعًا، وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ (٢: ٢١٦). كما أنه قد يكون لسرابٍ خادع ووهمٍ باطل، لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (٦: ٧٦)، وقد لا ينتُج عنه عملٌ صالح بل قد يؤدي إلى العصيان، وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ (٣: ١٥٢)؛ لذلك يركِّز القرآن على أن الحب ليس على الإطلاق بل هو مشروط بالطاعة وبالعمل الصالح، قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ (٣: ٣١)؛ فالحب علاقة متبادلة بين طرفين، وليس من طرف واحد، هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ (٣: ١١٩). وهي علاقة بين الإنسان والإنسان أو بين الإنسان والله، فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ (٥: ٥٤). كما أن شرطه الإنفاق، لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ (٣: ٩٢)، وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ (٢: ١٧٧)، وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (٧٦: ٨).

والأكثر من ذلك فإن القرآن يُدين الحب الذي لا يُوضع في محله؛ فالحب يتحدد بموضوعه وليس بصورته؛ فلا يستطيع الإنسان أن يحب الضلالة والعمى، فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى (٤١: ١٧). ولا يستطيع أن يحب الكفر، لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ (٩: ٢٣). ولا يحب العاجلة تاركًا الباقية، إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (٧٦: ٢٧)، ولا يحب الدنيا، ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ (١٦: ١٠٧). ولا يحب الشهوات، زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ (٣: ١٤). ولا يحب الفاحشة، إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ (٢٤: ١٩). ولا يحب المال، وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (٨٩: ٢٠). ولا يحب أن يُحمد بما لم يفعل، وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا (٣: ١٨٨). ولا يحب أن يتخذ أندادًا لله، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ (٢: ١٦٥). ولا يحب التكاسل والاتكال وملكية العقار، وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ (٩: ٢٤).

إنما الحب المطلوب هو للإخوان الذين هاجروا من ديارهم؛ أي لجماعة المؤمنين الذين يجتمعون فيما بينهم على هدف، ويكوِّنون حزبًا، يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا (٥٩: ٩). الحب للسجن عندما تدعو الحاجة دفاعًا عن شرف الكلمة وكرامة الوطن، قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ (١٢: ٣٣).

(ز) الكراهية٧

يحاول فكرنا السياسي في هذه الأيام تعليل كل ما يحدث في واقعنا من قلقٍ اجتماعي ورفضٍ لسياستنا الاقتصادية بالكراهية والحقد والضغينة وغياب المحبة والألفة! فإذا ما تخلَّصنا من الكراهية تخلَّص واقعنا من كل مآسيه، وتخطَّينا بأمانٍ وسلامٍ عنقَ الزجاجة عام ١٩٨٠م، ثم انتقلنا إلى عالم الرفاهية عام ٢٠٠٠م، منزل ومرسيدس لكل مواطن! وتؤثِّر فينا هذه الدعوة لما عُرف عن شعبنا من كرم وحب وسلام. وعلى فرض صحة هذا التعليل يظل السؤال هو: كراهية من، وكراهية ماذا؟ صحيح أن القرآن يندِّد بالكراهية، كراهية المجرمين والكافرين والمشركين للحق، ولكنه أيضًا يندِّد بكراهية الناس للجهاد بأموالهم وأنفسهم، وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ (٩: ٨١). كما ينبه القرآن على أننا قد ننخدع فنكره شيئًا وهو خير لنا، وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ (٢: ٢١٦) حتى لا نقع فريسة الوهم والخداع، ونُعيد الحساب باستمرار.

وينبِّه القرآن أيضًا على شيء نغفُل عنه، ونُصِم آذاننا دونه، وهو كراهية من؟ وكراهية ماذا؟ فبعض الناس تجب كراهيته عن حق. والله نفسه يكره جهاد المنافقين، كَرِهَ اللهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ (٩: ٤٦). وكره خروجَهم للقتال لأنهم يخرجون بلا حماس ولا اقتناع، يَبْغون الإضرار بالمؤمنين، كما أن الله في نفس الوقت الذي حبَّب إلينا الإيمان كرَّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ (٤٩: ٧)؛ فكراهية الكفر واجبة، وكراهية الفسوق فرض، وكراهية العصيان أمر، ولكن الأهم من ذلك هو كراهية مَن يأكل لحم أخيه ميتًا، أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ (٤٩: ١٢)، بل إن التكوين الصوتي لفعل «فكرهتموه» يدل على شدة الكراهية؛ فكلٌّ من السمسار والمضارب يأكل لحم أخيه لأنه يتكسَّب بلا جهد. والمرتشي يأكل لحم أخيه لأنه يأخذ مالًا بغير وجه حق. وقابض العمولات يأكل لحم أخيه لأنه يختلس على وجه شرعي، ويأخذ أجرًا مضاعفًا، مرةً من عمله ظاهرًا ومرةً أخرى يزيد عليه مئات المرات باطنًا دون تناسب بين الجهد والكسب. إن من يتهرَّب من الضرائب، ومن يتاجر بأقوات الناس، ومن يكسب أضعاف أثمان السلع، ومن يختلس المال العام، كلٌّ منهم يأكل لحم أخيه فوجبَت كراهيته بأمر الله. وكُل من يدعو إلى لفظ الكراهية فإنه يريد للغير أن يأكلوا لحومنا فوجبَت كراهيته وكراهيتهم.

وينبِّه القرآن أيضًا على أننا نحب بعضَ ما نكره، وأن الكراهية عاملٌ إيجابي؛ فقتال الأعداء مكروه للنفس ولكنه واجب، كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ (٢: ٢١٦). والأم تحمل وليدها وتضَعه كرهًا، وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا (٤٦: ١٥)، ولكنه محبَّب إلى النفس، والمؤمن قد يكره أيضًا عن حق، وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (٨: ٥).

الكراهية إذن ليست شرًّا على الإطلاق. بل قد تكون خيرًا مثل كراهية الظلم والنفاق والطغيان، وكراهية القعود والتخلُّف عن القتال، وكراهية الاستغلال والاحتكار والاكتناز. وإذا كان الله يُحب ويَكره فلماذا يُحب الإنسان على الإطلاق، وتحرُم عليه الكراهية؟٨

(ﺣ) الصلاة والنفاق٩

الصلاة فعل من أفعال الإنسان العادية التي يقوم بها في حياته اليومية؛ فهي إذن موضوع دراسة للسلوك الإنساني في شتى صوره. كذلك النفاق أحد مظاهر هذا السلوك الإنساني. ونجد في الآيات القرآنية نفس الوصف للصلاة والنفاق، والإيمان والنفاق مثل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى (٤: ٤٣). وكأن الصلاة لا صلة لها بالسلوك، هذه نقرة وتلك نقرة أخرى، ومثل: وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى (٤: ١٤٢)، وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى (٩: ٥٤) وكأن فعل الصلاة ثقيلٌ على النفس، يقوم به المصلي بلا حماس أو وازع، مجرد أداء واجب أو أمر بلا اقتناع. ومثل: وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً (٨: ٣٥) مثل معظم صلوات الناس اليوم. أما الإيمان والنفاق فالشواهد عليهما كثيرة يذكُرهما القرآن في وصف سلوك الإنسان عندما يؤمن بالله فقط ساعة الشدة والضرر، ولا يعرفه إلا في المصائب، فإذا كشف الله الضر ترك إيمانه كأن لم يؤمن بالأمس! وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ (١٠: ١٢)، ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (١٦: ٥٤)، وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٣٠: ٣٣)، وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ (٣٩: ٨)، والشواهد على ذلك كثيرة وواضحة لكل قارئ للقرآن، والتجربة الإنسانية تؤكد هذه الشواهد النقلية، والقرآن يصف بعض التجارب الدينية فعلًا وإيمانًا؛ فما هي أواصر القربى بين الصلاة والنفاق بناء على هذه التجارب؟

يقع التشابه بين التجربتين في انفصام القول والعمل؛ فالمنافق يقول غير ما يعتقد، والقول عنده ليس تعبيرًا عن مضمون شعوره، بل إيهام لمستمعه بما يرضيه؛ أي إنه يعبِّر عن شعور الآخر ليحوز رضاه، أو ثقته، أو لينال مغنمًا منه. وهو لا يقول شيئًا؛ لأن القول يصدر أساسًا عن قصد، وقصد المنافق يكمُن بينه وبين نفسه دون أن يعبِّر عنه. والمصلي أيضًا قوله منفصم عن عمله. والتمتمة التي يقوم بها يقول شيئًا من غير مضمون لإيهام مستمعه بالصوت. أما ما يُحسه ويشعُر به فهو لا يعبِّر عنه أبدًا. وقد يطغى عليه فيشرد ذهنه. وهو في هذا الشرود أصدق لأنه يعبِّر تعبيرًا شعوريًّا عما يُحس به في باطنه وعما يوده ويرجوه قاضيًا على القول الذي لا يعبِّر عن باطنه أبدًا.

والمنافق له قصدٌ مزدوج. له قصده الذي يعبِّر عن جوهره وماهيته وهو ما يُخفيه، ولا يظهره إلا في حياته الخاصة وبين المنافقين. وقصدٌ آخر يتبناه، يُحاول أن يعيشه. وهذا القصد الوهمي هو الذي يعبِّر عنه في قوله عندما يتحدث، والمصلي أيضًا له قصدٌ مزدوج؛ فالقصد الخفي الذي يعبِّر عن جوهره هو الصلاة بحكم العادة، لرؤية الآخرين ولكي يراه الآخرون. هو حب الثناء، والرغبة في الاطمئنان الاجتماعي وعدم الشذوذ عن المألوف. وهو خوفٌ مما يظنه الناس على أنه مرذول، وقد يكون خوفًا طبيعيًّا مما قد يلحق به إن تخاذل من آثارٍ لا يرضاها على نفسه، آثار مباشرة أو غير مباشرة. أما القصد الآخر الذي يُوهِم به فهو ما يُسمِّيه الإيمان أو الله موضوع الإيمان؛ ففعله يصدُر عن قصد وعن اعتقاد عادة وخوفًا، ثم يُوهِم بهذا القصد المركَّب المتبنَّى.

وللمنافق شعورٌ مزدوج يظهر في سلوكه العام، قولًا أو عملًا أو شعورًا؛ فهو يقول غير ما يعتقد، ويعتقد غير ما يقول، وإذا حللنا شعور المصلي لوجدناه أيضًا شعورًا مزدوجًا؛ فالمصلي يحيا على مستويَين؛ مستوًى عام ومستوًى خاص؛ فهو شعورٌ عادي غير موجه على المستوى العام، يفعل دون أن يكون هناك أساسٌ نظري لفعله إلا أساس العادة. ثم يقتطع من هذا الشعور جزءًا آخر يوجِّهه على أساسٍ غامض، يظنه أفضل وأسمى من باقي الشعور. ويصدُر عنه فعل أيضًا بحكم العادة، ويظنه فعلًا إراديًّا مبنيًّا على قصدٍ حاضر يعيشه صاحبه في اللحظة، والذي يحدِّد ظهور أحد المستويين أو الآخر هو رؤية الناس له، ومدى تحقيق مصلحة له، إذا ما كان موضوعًا لهذه الرؤية.

ويعيش المنافق في عالمَين؛ عالم الظاهر وعالم الباطن، العالم المرئي والعالم اللامرئي، عالم الشهادة وعالم الغيب، عالم العلن وعالم السر. يكون موجودًا في أحدهما ويظهر عكس ذلك للناس. وكذلك يعيش المصلي في عالمَين؛ الداخل والخارج، الروح والبدن، الدين والدنيا، الله والعالم. يوجد في أحدهما ويظهر للناس أنه يعيش في الآخر.

والسؤال الآن: إذا كانت الصلاة هي تدبر لما يُقال كلمة كلمة؛ أي اتفاق القول مع الشعور، فكيف يمكن تحقيق هذه الوحدة في كل عمل، وفي كل لحظة، حتى يكون الإنسان مصليًا صادقًا، يقوم بالصلاة من حيث هي مضمون لا من حيث هي صورة، ويعيش في عالمٍ واحد لا في عالمَين، وعلى مستوًى واحد لا على مستويَين، يوحِّد بين قوله وعمله، بين داخله وخارجه، بين دينه ودنياه؟ كيف يعيش الإنسان صريحًا، صادقًا مع النفس وفي العالم حتى ولو اتهمه الآخرون الذين يجمعون بين الصلاة والنفاق؟

(ط) أحكام السوق١٠

عرض كثيرٌ من الفقهاء قديمًا لأحكام السوق، ووضعوا فيها ليس فقط ما يتعلق بالبيع والشراء والتسعير والغش، بل أيضًا أحكام الذهاب إلى السوق، والسير فيه، والذهاب إلى الحمام، ونظافة الطرقات، وأوضاع محلات اللهو، وآداب الطريق، ومع ذلك فالموضوعان الغالبان هما التسعير والغش. وباقي الموضوعات مقتطفاتٌ هنا وهناك.

تبدأ أحكام السوق بتحريم الاحتكار. وقد قال الرسول: «الجالب مرزوق، والمحتكر ملعون.» وقال أيضًا: «لا يحتكر إلا خاطئ.» فالاحتكار منعٌ للتداول، ومصادرةٌ على نشاط الآخرين، وتحويل الملكية إلى استئثار وتملُّك وليس مجرد استثمار وتصرُّف، فإذا وقع احتكارٌ فالتسعير واجب. ويُحد لأهل السوق حد لا يتجاوزونه مع قياس الناس بالواجب. وترك السوق بلا تسعير يجعله عُرضةً للاحتكار وغلاء الأسعار والربح الفاحش. والسلطان هو الذي يُسعِّر وليس الله، وإلا كان الله يُسعِّر من أجل السلطان، وكان السلطان يسعِّر ويدَّعي أنه تسعير الله. وقال أبو حنيفة إنه لا ينبغي للسلطان أن يُسعِّر على الناس إلا إذا تعلق به حقُّ ضرر العامة. فإذا رُفع إلى القاضي أمرُ المحتكر ببيع ما فضل عن قوته وقوت أهله على اعتبار السعر في ذلك، فنهاه عن الاحتكار، فإن رفع المتاجر فيه إليه ثانيًا حبَسه وعزَّره على مقتضى رأيه، زجرًا له أو دفعًا للضرر عن الناس، فإن كان أرباب الطعام يتعدَّون ويتجاوزون القيمة تعديًا فاحشًا، وعجز القاضي عن صيانة حقوق المسلمين إلا بالتسعير حينئذٍ يكون بمشورة أهل الرأي والبصيرة، وإذا تعدى أحد بعدما فعل ذلك أجبره القاضي، فإذا كانت حاجة الناس لا تُقضى إلا بالتسعير العادل سعَّر عليهم تسعير عدل. ولا بد من العلم بالسعر قبل البيع والشراء؛ فقد نهى النبي عن البيع والشراء الذي جنسه حلال حتى يعلم البائع بالسعر وهو ثمن المثل، ويعلم المشتري بالسلعة. ومن المنكرات تلقِّي السلع قبل أن تجيء إلى السوق لما فيه من تغرير البائع؛ فإنه لا يعرف السعر، فيشتري منه المشتري بدون القيمة. ولذلك أثبت النبي الخيار. كما لا يجوز البيع والشراء بثَمنٍ للمماكس وبثَمنٍ آخر لغير المماكس (الفصال في الأسعار)؛ فليس لأهل السوق أن يبيعوا للمماكس بسعر والمسترسل الذي لا يماكس، أو هو جاهل بالسعر، بأكثر من ذلك السعر لقول الرسول: «غبن المسترسل ربا.» كما نهى الرسول عن بيع حاضرٍ لبادٍ لقوله: «دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض.» أي لا يكون له سمسارًا لما في السمسرة من ضرر المشترين؛ فإن المقيم إذا توكَّل للقادم في بيع سلعة يحتاج الناس إليها، والقادم لا يعرف السعر، ضَر ذلك المشتري.

فإذا ما تبيَّن أن في السلعة غشًّا فسخ البيع لقول الرسول: «البيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صَدَقا وبيَّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما مُحقَت بيعهما.» فالغش محرَّم في البيع والشراء لقول الرسول: «من غشنا فليس منا.» وقوله أيضًا «لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن.» وينهَى المحتسب عن المنكرات، مثل تطفيف المكيال والميزان، والغش في الصناعات والبياعات والديانات: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (٨٣: ١-٥). وأيضًا أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (٢٦: ١٨١)، وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (١٧: ٣٥)، وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ (١١: ٨٤)، فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ (٧: ٨٥)، وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ (٦: ١٥٢).

والغش على أنواع. يدخل في البيوع بكتمان العيوب وتدليس السلع، مثل أن يكون ظاهر المبيع خيرًا من باطنه، كما قال الرسول: «أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس؟» ويدخل في الصناعات، مثل الذين يصنعون المطعومات، من الخبز والطبخ والعدس والشواء وغير ذلك، أو يصنعون الملبوسات كالخياطين وغيرهم، أو يصنعون غير ذلك من الصناعات؛ فيجب نهيهم عن الغش والخيانة والكتمان. ومن هؤلاء الكيماوية الذين يغشُّون النقود والجواهر والعطر وغير ذلك، فيصنعون ذهبًا، أو فضة، أو عنبرًا، أو مسكًا، أو جواهر، أو زعفرانًا، أو ماء ورد، أو غير ذلك، يضاهون به خلق الله. وتدخل في المحرَّمات العقود المحرَّمة، مثل عقود الربا والميسر، مثل بيع الفرء وكحبل الحبلة والملامسة والمنابذة وربا النسيئة وربا الفضل وسائر أنواع التدليس. وتدخل في ذلك المعاملات الربوية، سواء كانت ثنائية أو ثلاثية، إذا كان المقصود بها جميعًا أخذ دراهم بدراهم أكثر منها إلى أجل؛ فالثنائية ما يكون بين اثنَين، مثل أن يجمع إلى القرض بيعًا أو إجارة أو مساقاة أو مزارعة، طبقًا لقول الرسول: «لا يحل سلف أو بيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك.» مثل أن يبيعه سلعة إلى أجل ثم يعيدها إليه، «من باع بيعتَين في بيعة فله أوكسهما أو الربا.» والثلاثية مثل أن يُدخلا بينهما مُحلًّا للربا يشتري السلعة منه آكل الربا، ثم يبيعها المعطي الربا إلى أجل، ثم يُعيدها إلى صاحبها ينقص دراهم يستفيدها المحلِّل. هذه المعاملات منها ما هو حرام بإجماع المسلمين، مثل التي يجري فيها شرط لذلك، أو التي يُباع فيها المبيع قبل القبض الشرعي، أو بغير الشروط الشرعية، أو يغلب فيها الدين على المُعسِر، فإن المُعسِر يجب إنظاره، ولا يجوز الزيادة بمعاملة ولا غيرها بإجماع المسلمين.

وهكذا ذكر الفقهاء القدماء نماذج من الغش والتدليس في الأطعمة القيِّمة، مثل الخبط قبل الغربلة، وخلط الدهون بالزيت، وبيع الفواكه قبل أن تطيب، وخلط الخبز بالحجارة، والقمح الطيب مع القمح الخبيث، وخلط اللحم السمين باللحم الهزيل، وخلط اللحم مع الفؤادات والبطون، وخلط اللبن بالماء، والعسل الطيب بالعسل الرديء، كل ذلك أمثلة قديمة لها ما يقابلها في عصرنا الحديث، من الغش في الأطعمة، وتوريد الأطعمة الفاسدة التي تجاوزَت تاريخ صلاحيتها، أو استيراد الأطعمة التي لفظَتها المجتمعات الأوروبية، أو التي تصدِّرها للحيوانات؛ لأنها غير صالحة للاستهلاك الآدمي، واستيراد الأطعمة التي بها مخاطر الإشعاعات النووية، أو الملوثة بالأمراض، ما دمنا شعوبًا جائعة تأكل كل شيء لسد الرمق وعدم الموت جوعًا.

وإذا كان القدماء أيضًا قد تكلموا في السوق كظاهرةٍ اجتماعية، طريقة اللباس فيه، والسير في طرقاته بالكعب العالي مع رنة الخلخال، ورش طرقه وكنس الطين، وإهراق الماء أمام الدور، فإن السوق حاليًّا مكان لتهريب الأموال، والسوق السوداء، وتجارة الرقيق الأبيض، وأطنان الأوساخ، والمجاري الطافحة، وشق الجيوب، وعقد الصفقات المريبة، والأطعمة المملوءة بالأوبئة من الباعة المتجولين، والصبية الضائعين، والشرطة المرتشية التي تفرض الإتاوات على فقراء البائعة لتتركهم يحتلون الأرصفة، ولحارس مواقف السيارات، ولباعة المخدرات، ولباعة المسابح والبخور والأذكار والأوراد والمصاحف، ولمقاهي الأدباء، ولأركان الشذوذ الجنسي، وربما أيضًا للمبدعين في المستقبل، وللزعماء، والحركات الوطنية، والمقاومة الشعبية.

فهل يمكن صياغة أحكام السوق كما ورثناها من القدماء طبقًا لظروف العصر الذي نعيش فيه؟ هل نكتفي بالصلوات وإقامة الشعائر في المساجد والزوايا داعين الله بالنجاة، وراغبين في الآخرة، وساعين إلى الجنة وسط الأسواق، أم ننظف الأسواق ونجعلها قابلة لأحكام الشرع؟ وهل الدين في شعائر الزوايا أم في شرائع الأسواق؟

١  كُتب هذا المقال لجريدة «الأهالي»، عام ١٩٧٨م.
٢  كُتب هذا المقال أيضًا لجريدة «الأهالي»، عام ١٩٧٨م.
٣  كُتب هذا المقال لجريدة «الأهالي»، عام ١٩٧٨م. وقد أقمتُه على الحجج النقلية، دون العقلية أو الاجتماعية، وكأني فقيه قديم. وكان أبرز هذه النصوص والشواهد ذاتها جزءًا من النضال ضد التسلط والطغيان. وقد اتبعتُ أيضًا المدرسة السلفية هذه الطريقة، توجيه النص نحو الواقع مباشرة؛ قديمًا عند أحمد بن حنبل وابن تيمية وابن القيم، وحديثًا عند محمد بن عبد الوهاب ورشيد رضا.
٤  كُتب هذا المقال عام ١٩٦٧م، عندما أتى لي مندوب «منبر الإسلام» طالبًا مساهماتي الفكرية، وعارضًا مبلغًا من المال يعادل في المقال الواحد مرتبي ثلاث مرات. ولما كتبتُ له مقالاتي الثلاثة الأولى، وعاد يرتعش، كتبتُ له هذا المقال الرابع والأخير، فطلب صراحةً الكتابة في موضوعات الصبر، والتوكل، والورع، والتقوى، والرضا، والخوف ففهمتُ. انظر «قضايا معاصرة» الجزء الأول، في فكرنا المعاصر، ص١٦٥-١٧٦، دار الفكر العربي، القاهرة، ١٩٧٦م.
٥  كُتب هذا المقال أيضًا لجريدة «الأهالي»، في ١٩٧٨م، في نفس الظروف التي كان يروَّج في مصر وقتها لكل القيم السلبية على أنها قيم الإيمان، من أجل تركيز مفاهيم الطاعة، وترسيخ سلوك الاستسلام لدى الجماهير. وهذه صياغةٌ ثانية من المسوَّدة الأولى كُتبَت في خريف ١٩٨٧م.
٦  كُتب هذا المقال أيضًا لجريدة «الأهالي»، عام ١٩٧٨م، في الوقت الذي كان يروِّج فيه حاكم مصر في ذلك الوقت لقيَم الحب والإيمان، وأخلاق القرية، والطاعة لرب الأسرة وكبير العائلة. وكان الغرض منه إثبات العكس؛ أي شرعية ألا يحب الإنسان بل وأن يكره مثل الله تمامًا. وكان تحت العنوان آية إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ. وهذه صياغةٌ ثانية من المسوَّدة الأولى كُتبَت في خريف ١٩٨٧م.
٧  كُتب هذا المقال أيضًا لجريدة «الأهالي»، عام ١٩٧٨م، لبيان معنى الكراهية الإيجابي، كراهية الظلم والطغيان في الوقت الذي امتلأَت فيه أجهزة الإعلام، بناءً على توجيه النظام في مصر، ضد الحاقدين الذين يروِّجون للحقد الطبيعي وليس للسلام الاجتماعي! وهذه صياغةٌ جديدة من المسوَّدة الأولى كُتبَت في خريف ١٩٨٧م.
٨  كانت هناك محاولاتٌ أخرى لاستئناف هذه التحليلات للقيم السائدة التي تروِّجها أجهزة الإعلام بمعانيها السلبية، من أجل إعادة بنائها ارتكازًا على معانيها الإيجابية، ثم توقفَت بسبب عدم تحمُّس جريدة «الأهالي» لاستئناف المشروع. وكانت أهم الموضوعات كالآتي مصنَّفة طبقًا للميادين الرئيسية:
(١) السياسة: التقدم والتأخر، التخلف والمتخلفون، القعود والقاعدون، الإصلاح والإفساد، القتال، الفوز، العرب والعروبة، سيناء، الحرب والسلام، الأعداء.
(٢) الاقتصاد: الترف والمترفون، الغني والأغنياء، الفقر والفقراء، التجارة، الربح، الثمن، الأجر، الجوع، الإسراف، الكسب، المال، المتاع، الرزق.
(٣) الأرض: التراب، الأرض، الطين، الزرع، العمل، الحديد.
(٤) الاجتماع: الإنسان، الأمة، البشر، الدرجات والمراتب، الظلم والعدل، المسكن، الجهل، السفَه والغفلة، السر والعلن، الترشيد، الفقه، التفكُّر، القرآن، الواقع، السؤال، الحزب والبرهان، القوة والضعف، اليأس والقنوط، الوهَن، الدين، الإسلام، الحاكمية، الأقلية والأغلبية.
(٥) الفكر: ثورة أم إصلاح؟ الإنسان والتاريخ، التعصب، ثورة الأنبياء.
والمنهج المتبع كان واحدًا وهو «تحليل المضمون» اعتمادًا على معاني هذه الألفاظ في القرآن الكريم وتصويبها نحو الواقع. أما في الموضوعات الفكرية فكان الاعتماد فيها على التنظير المباشر للواقع.
٩  كُتب هذا المقال في فترة الشهادة الأولى، بعد هزيمة ١٩٦٧م، فترة «قضايا معاصرة»، بالموازاة مع «التفكير الديني وازدواجية الشخصية»، الجزء الأول، في فكرنا المعاصر، ص١١١–١٢٧. وهو أيضًا محاولة لوصف الدين الشعبي في مقابل الدين الشرعي، وتحليل نفسي للصلاة كما يمارسها بعض الناس في الحياة اليومية، التي تجعل البعض الآخر رافضًا ممارسة العبادات على أنها نوعٌ من الطقوس والشعائر والأشكال الخارجية. والمقال لم يتم، وهذه صياغةٌ ثانية من الفِقرات الأولى تمَّت في خريف ١٩٨٧م.
١٠  كُتب هذا المقال لجريدة «الأهالي»، عام ١٩٧٨م، وكانت الغاية منه إعادة عرض الفقه القديم بناءً على الأوضاع الاقتصادية للعصر. وهذه صياغة ثانية من المسوَّدة القديمة كُتبَت في خريف ١٩٨٧م. انظر أيضًا: يحيى بن عمر، أحكام السوق، تحقيق حسن حسني عبد الوهاب، نشر فرحات الدشراوي، الشركة التونسية للتوزيع. وهناك نشرةٌ أخرى للدكتور محمود علي مكي، مجلة المعهد المصري، مدريد، ١٩٥٦م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥