فلما كانت الليلة ٣١٩

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن زمرد قالت في نفسها: بعد أن وصلت إلى هذا الأمر، لعل الله يجمعني بسيدي في هذا المكان، إنه على ما يشاء قدير. ثم سارت فسار العسكر بسيرها حتى دخلوا المدينة، وترجل العسكر بين يديها حتى أدخلوها القصر، فنزلت وأخذها الأمراء والأكابر من تحت إبطَيْها حتى أجلسوها على الكرسي، وقبَّلوا الأرض جميعًا بين يديها. فلما جلست على الكرسي أمرت بفتح الخزائن ففُتِحت، وأنفقت على جميع العسكر، فدعوا لها بدوام الملك، وأطاعها العباد وسائر أهل البلاد، واستمرت على ذلك مدة من الزمان وهي تأمر وتنهى، وقد صار لها في قلوب الناس هيبة عظيمة من أجل الكرم والعفة، وأبطلت المكوس، وأطلقت مَن في الحبوس، ورفعت المظالم؛ فأحَبَّها جميع الناس، وكلما تذكرت سيدها تبكي، وتدعو الله أن يجمع بينها وبينه. واتفق أنها تذكرته في بعض الليالي، وتذكرت أيامها التي مضت لها معه، فأفاضت دمع العين، وأنشدت هذين البيتين:

شَوْقِي إِلَيْكَ عَلَى الزَّمَانِ جَدِيدُ
وَالدَّمْعُ قَرَّحَ مُقْلَتِي وَيَزِيدُ
وَإِذَا بَكَيْتُ بَكَيْتُ مِنْ أَلَمِ الْجَوَى
إِنَّ الْفِرَاقَ عَلَى الْمُحِبِّ شَدِيدُ

فلما فرغَتْ من شعرها مسحت دموعها، وطلعت القصر، ودخلت الحريم، وأفردت للجواري والسراري معازل، ورتَّبت لهن الرواتب والجرايات، وزعمت أنها تريد أن تجلس في مكان وحدها عاكفة على العبادة، وصارت تصوم وتصلي حتى قالت الأمراء: إن هذا السلطان له ديانة عظيمة. ثم إنها لم تدع عندها أحدًا من الخدم غير طواشيَّين صغيرين لأجل الخدمة، وجلست في تخت الملك سنة، وهي لم تسمع لسيدها خبرًا، ولم تقف له على أثر، فقلقت من ذلك، فلما اشتد قلقها دعت بالوزراء والحجَّاب وأمرتهم أن يُحضروا لها المهندسين والبنَّائين، وأن يبنوا لها تحت القصر ميدانًا طوله فرسخ، وعرضه فرسخ، ففعلوا ما أمرتهم به في أسرع وقت، فجاء الميدان على طِبق مرادها، فلما تم ذلك الميدان نزلت فيه، وضربت لها فيه قبة عظيمة، وصفَّت فيه كراسي الأمراء، وأمرت أن يمدوا سماطًا من سائر الأطعمة الفاخرة في ذلك الميدان، ففعلوا ما أمرتهم به، ثم أمرت أرباب الدولة أن يأكلوا فأكلوا، ثم قالت للأمراء: أريد إذا هلَّ الشهر الجديد أن تفعلوا هكذا، وتنادوا في المدينة أنه لا يفتح أحد دكانه، بل يحضرون جميعًا ويأكلون من سماط الملك، وكل مَن خالَفَ منهم يُشنَق على باب داره. فلما هلَّ الشهر الجديد فعلوا ما أمرَتْهم به، واستمروا على هذه العادة إلى أن هلَّ أول شهر في السنة الثانية، فنزلت إلى الميدان، ونادى المنادي: يا معاشر الناس كافة، كلُّ مَن فتح دكانه أو حاصله أو منزله شُنِق في الحال على باب مكانه، بل يجب عليكم أنكم تحضرون جميعًا لتأكلوا من سماط الملك. فلما فرغت المناداة وقد وضعوا السماط، جاءت الخلق أفواجًا، فأمرتهم بالجلوس على السماط ليأكلوا حتى يشبعوا من سائر الألوان، فجلسوا يأكلون كما أمرتهم، وجلست على كرسي المملكة تنظر إليهم، فصار كل مَن جلس على السماط يقول في نفسه: إن الملك لا ينظر إلا إليَّ. وجعلوا يأكلون، وصار الأمراء يقولون للناس: كلوا ولا تستحوا، فإن الملك يحب ذلك. فأكلوا حتى شبعوا وانصرفوا داعين للملك، وصار بعضهم يقول لبعض: عمرنا ما رأينا سلطانًا يحب الفقراء مثل هذا السلطان. ودعوا له بطول البقاء، وذهبت إلى قصرها. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤