فلما كانت الليلة ٤٣٨

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الجارية قالت لسيدها: يا سيدي، احملني إلى هارون الرشيد الخامس من بني العباس، واطلب ثمني منه عشرة آلاف دينار، فإنِ استغلاني فقُلْ له: يا أمير المؤمنين، وصيفتي أكثر من ذلك، فاختبرها يعظُم قدرها في عينك؛ لأن هذه الجارية ليس لها نظير، ولا تصلح إلا لمثلك. ثم قالت له: إياك يا سيدي أن تبيعني بدون ما قلت لك من الثمن؛ فإنه قليل في مثلي. وكان سيد الجارية لا يعلم قدرها، ولا يعرف أنها ليس لها نظير في زمانها. ثم إنه حملها إلى أمير المؤمنين هارون الرشيد وقدَّمها له، وذكر ما قالت، فقال لها الخليفة: ما اسمك؟ قالت: اسمي تودُّد. قال: يا تودُّد، ما تحسنين من العلوم؟ قالت: يا سيدي، إني أعرف النحو، والشعر، والفقه، والتفسير، واللغة، وأعرف فن الموسيقى، وعلم الفرائض، والحساب، والقسمة، والمساحة، وأساطير الأولين، وأعرف القرآن العظيم، وقد قرأته للسبع وللعشر وللأربع عشرة، وأعرف عدد سوره وآياته وأحزابه وأنصافه وأرباعه وأثمانه وأعشاره، وسجداته وعدد أحرفه، وأعرف ما فيه من الناسخ والمنسوخ، والمدنية والمكية، وأسباب التنزيل، وأعرف الحديث الشريف درايةً وروايةً، المسند منه والمرسَل، ونظرت في علوم الرياضة والهندسة، والفلسفة وعلم الحكمة والمنطق، والمعاني والبيان، وحفظت كثيرًا من العلم، وتعلَّقْتُ بالشعر، وضربت العود، وعرفت مواضع النغم فيه، ومواقع حركات أوتاره وسكناتها؛ فإنْ غنَّيتُ ورقصتُ فتنتُ، وإن تزيَّنْتُ وتطيَّبْتُ قتلتُ، وبالجملة فإني وصلت إلى شيءٍ لم يعرفه إلا الراسخون في العلم.

fig13
وكان سيد الجارية لا يعلم قَدْرها، فحمَلها إلى أمير المؤمنين وقدَّمَها له.

فلما سمع الخليفة هارون الرشيد كلامها على صِغَر سنِّها، تعجَّبَ من فصاحة لسانها، والتفت إلى مولاها، وقال: إني أُحضِر مَن يناظرها في جميع ما ادَّعته، فإنْ أجابَتْ دفعتُ لك ثمنها وزيادة، وإن لم تُجِبْ فأنت أولى بها. فقال مولاها: يا أمير المؤمنين، حبًّا وكرامة. فكتب أمير المؤمنين إلى عامل البصرة بأن يرسل إليه إبراهيم بن سيَّار النظَّام، وكان أعظم أهل زمانه في الحجة والبلاغة والشعر والمنطق، وأمره أن يُحضِر القرَّاء، والعلماء، والأطباء، والمنجمين، والحكماء، والمهندسين، والفلاسفة؛ وكان إبراهيم أعلم من الجميع. فما كان إلا قليل حتى حضروا دار الخلافة، وهم لا يعلمون الخبر، فدعاهم أمير المؤمنين إلى مجلسه، وأمرهم بالجلوس فجلسوا، ثم أمر أن تحضر الجارية تودُّد فحضرت، وأظهرت نفسها وهي كأنها كوكب دري، فوُضِع لها كرسي من ذهب، فسلَّمت ونطقت بفصاحة لسان، وقالت: يا أمير المؤمنين، مُر مَنْ حضر من العلماء، والقرَّاء، والأطباء، والمنجمين، والحكماء، والمهندسين، والفلاسفة؛ أن يناظروني. فقال لهم أمير المؤمنين: أريد منكم أن تناظروا هذه الجارية في أمر دينها، وأن تدحضوا حجتها في كل ما ادَّعَتْه. فقالوا: السمع والطاعة لله، ولك يا أمير المؤمنين. فعند ذلك أطرقت الجارية وقالت: أيكم الفقيه العالم المقرِئ المحدِّث؟ فقال أحدهم: أنا ذلك الرجل الذي طلبتِ. قالت له: اسأل عمَّا شئتَ. قال لها: أنت قرأتِ كتابَ الله العزيز، وعرفتِ ناسخه ومنسوخه، وتدبرت آياته وحروفه؟ قالت: نعم. فقال لها: أسألك عن الفرائض الواجبة، والسنن القائمة، فأخبريني أيتها الجارية عن ذلك، ومَن ربك؟ ومَن نبيك؟ ومَن إمامك؟ وما قبلتك؟ وما إخوانك؟ وما طريقتك؟ وما منهاجك؟ قالت: الله ربي، ومحمد نبيي، والقرآن إمامي، والكعبة قبلتي، والمؤمنون إخواني، والخير طريقتي، والسنة منهاجي. فتعجَّبَ الخليفة من قولها، ومن فصاحة لسانها على صِغَر سنها، ثم قال لها: أيتها الجارية، أخبريني بِمَ عرفتِ الله تعالى؟ قالت: بالعقل. قال: وما العقل؟ قالت: العقل عقلان؛ عقل موهوب، وعقل مكسوب … وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤