فلما كانت الليلة ٤٩٥

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك براخيا قال لبلوقيا: إنك سافرت في هذين اليومين مسيرة سبعين شهرًا، ولكنك لما ركبت الفرس فزعت منك، وعلمت أنك ابن آدم، وأرادت أن ترميك عن ظهرها، فأثقلوها بهذين الجملين. فلما سمع بلوقيا هذا الكلام من الملك براخيا تعجَّبَ، وحمد الله تعالى على السلامة، ثم إن الملك براخيا قال لبلوقيا: أخبرني بما جرى لك، وكيف أتيتَ إلى هذه البلاد؟ فحكى له بلوقيا جميع ما جرى له، وكيف ساح وأتى إلى هذه البلاد، فلما سمع الملك كلامه تعجَّبَ منه، ومكث بلوقيا عنده مدة شهرين.

فلما سمع حاسب كلام ملكة الحيات تعجَّبَ غاية العجب، ثم قال لها: أريد من فضلِك وإحسانِك أن تأمري أحدًا من أعوانك أن يُخرِجني إلى وجه الأرض حتى أروح إلى أهلي. فقالت له ملكة الحيات: يا حاسب كريم الدين، اعلم أنك متى خرجت إلى وجه الأرض تروح إلى أهلك، ثم تدخل الحمام وتغتسل، وبمجرد ما تفرغ من غُسْلك أموت أنا؛ لأن ذلك يكون سببًا لموتي. فقال حاسب: أنا أحلف لك ما أدخل الحمام طول عمري، وإذا وجب عليَّ الغُسْل أغتسل في بيتي. فقالت له ملكة الحيات: لو حلفتَ لي مائة يمين ما أصدقك أبدًا، فإن هذا لا يكون، واعلم أنك ابن آدم ما لك عهد؛ لإن أباك آدم قد عاهَدَ الله ونقض عهده، وكان الله تعالى خمر طينته أربعين صباحًا، وأسجد له ملائكته، وبعد ذلك نكث العهد ونسيه وخالَفَ أمر ربه.

فلما سمع حاسب ذلك الكلام سكت وبكى، ومكث يبكي مدة عشرة أيام، ثم قال لها حاسب: أخبريني بالذي جرى لبلوقيا بعد قعوده شهرين عند الملك براخيا. فقالت له: اعلم يا حاسب أن بلوقيا بعد قعوده عند الملك براخيا ودَّعَه، وسار في البراري ليلًا ونهارًا حتى وصل إلى جبلٍ عالٍ، فطلع ذلك الجبل فرأى فوقه ملكًا عظيمًا جالسًا على ذلك الجبل، وهو يذكر الله تعالى ويصلي على محمد، وبين يدي ذلك الملك لوح مكتوب فيه شيء أبيض، وشيء أسود، وهو ينظر في اللوح، وله جناحان؛ أحدهما ممدود بالمشرق، والآخَر ممدود بالمغرب، فأقبَلَ عليه بلوقيا وسلَّمَ عليه، فرَدَّ عليه السلام. ثم إن الملك سأل بلوقيا وقال له: مَن أنت؟ ومن أين أتيتَ؟ وإلى أين رائح؟ وما اسمك؟ فقال بلوقيا: أنا من بني آدم من قوم بني إسرائيل، وأنا سائح في حب محمد ، واسمي بلوقيا. فقال: ما الذي جرى لك في مجيئك إلى هذه الأرض؟ فحكى له بلوقيا جميع ما جرى له، وما رأى في سياحته؛ فلما سمع الملك من بلوقيا ذلك الكلام تعجَّبَ منه، ثم إن بلوقيا سأل الملك وقال: أخبرني أنت الآخَر بهذا اللوح، وأي شيء مكتوب فيه، وما هذا الأمر الذي أنت فيه، وما اسمك؟ فقال له الملك: أنا اسمي ميخائيل، وأنا موكَّل بتصريف الليل والنهار، وهذا شغلي إلى يوم القيامة. فلما سمع بلوقيا ذلك الكلام تعجَّبَ منه، ومن صورة ذلك الملك، ومن هيبته، وعِظَم خِلْقته.

ثم إن بلوقيا ودَّعَ ذلك الملك، وسار ليلًا ونهارًا حتى وصل إلى مرج عظيم، فتمشَّى في ذلك المرج، فرأى فيه سبعة أنهر، ورأى أشجارًا كثيرة؛ فتعجب بلوقيا من ذلك المرج العظيم، وسار في جوانبه، فرأى فيه شجرة عظيمة، وتحت تلك الشجرة أربعة ملائكة، فتقدَّمَ إليهم بلوقيا ونظر إلى خِلْقتهم، فرأى واحدًا منهم صورته صورة بني آدم، والثاني صورته صورة وحش، والثالث صورته صورة طير، والرابع صورته صورة ثور، وهم مشغولون بذِكْر الله تعالى، ويقول كلٌّ منهم: إلهي وسيدي ومولاي، بحقِّك وبجاه نبيك محمد أن تغفر لكل مخلوق خلقته على صورتي وتسامحه؛ إنك على كل شيء قدير. فلما سمع بلوقيا منهم ذلك الكلام تعجَّبَ، وسار من عندهم ليلًا ونهارًا حتى وصل إلى جبل قاف، فطلع فوقه فرأى هناك ملكًا عظيمًا، وهو جالس يسبِّح الله تعالى ويقدِّسه، ويصلِّي على محمد ، ورأى ذلك الملك في قبض وبسط، وطي ونشر، فبينما هو في هذا الأمر إذ أقبل بلوقيا وسلَّمَ عليه، فردَّ الملك عليه السلام، وقال له: أي شيء أنت؟ ومَن أين أتيت؟ وإلى أين رائح؟ وما اسمك؟ فقال بلوقيا: أنا من بني إسرائيل، من بني آدم، واسمي بلوقيا، وأنا سائح في حب محمد ، ولكن تهت في طريقي. وحكى له جميع ما جرى له، فلما فرغ بلوقيا من حكايته، سأل الملك وقال له: مَن أنت؟ وما هذا الجبل؟ وما هذا الشغل الذي أنت فيه؟ فقال له الملك: اعلم يا بلوقيا أن هذا جبل قاف المحيط بالدنيا، وكل أرض خلقها الله في الدنيا قبضتها في يدي، فإذا أراد الله تعالى بتلك الأرض شيئًا من زلزلة، أو قحط، أو خصب، أو قتال، أو صلح، أمرني أن أفعله، فأفعل وأنا في مكاني، واعلم أن يدي قابضة بعروق الأرض. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤