فلما كانت الليلة ٣٤٠

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن أبا نواس قال: سمعًا وطاعة يا أمير المؤمنين. ثم أنشد هذه الأبيات:

طَالَ لَيْلِي بِالْعَوَادِي وَالسَّهَرْ
فَانْضَنَى جِسْمِي وَأَكْثَرْتُ الْفِكَرْ
قُمْتُ أَمْشِي فِي مَحَلِّي تَارَةً
ثُمَّ طَوْرًا فِي مَقَاصِيرِ الْحَجَرْ
فَرَأَتْ عَيْنَايَ شَخْصًا أَسْوَدَ
وَبُيَيْضَهُ قَدْ تَغَطَّتْ بِالشَّعَرْ
يَا لَهَا مِنْ بَدْرِ تِمٍّ زَاهِرٍ
تَنْثَنِي كَالْغُصْنِ فِي وَقْتِ الْمَطَرْ
فَشَرِبْتُ الْخَمْرَ مَفْتُونًا بِهَا
ثُمَّ أَقْبَلْتُ وَقَبَّلْتُ الْأَثَرْ
فَاسْتَفَاقَتْ وَهْيَ فِي غَشْيَتِهَا
صَفَّقَتْ تَصْفِيقَ أَوْرَاقِ الشَّجَرْ
بَعْدُ جَاءَتْ وَهْيَ لِي قَائِلَةً
يَا أَمِينَ اللهِ مَا هَذَا الْخَبَرْ؟
قُلْتُ: ضَيْفٌ طَارِقٌ فِي حَيِّكُمْ
يَرْتَجِي الْمَأْوَى إِلَى وَقْتِ السَّحَرْ
فَأَجَابَتْ: بِسُرُورٍ سَيِّدِي
أُكْرِمُ الضَّيْفَ بِسَمْعِي وَالْبَصَرْ

فقال له الخليفة: قاتلك الله كأنك كنتَ حاضرًا معنا. ثم أخذه الخليفة من يده وتوجه به إلى الجارية، فلما رآها أبو نواس وكان عليها بدلة زرقاء وقناع أزرق، أكثر التعجبات وأنشد هذه الأبيات:

قُلْ لِلْمَلِيحَةِ فِي الْقِنَاعِ الْأَزْرَقِ
نَاشَدْتُكَ بِاللهِ أَنْ تَتَرَفَّقِي
إِنَّ الْمُحِبَّ إِذَا جَفَاهُ حَبِيبُهُ
هَاجَتْ بِهِ زَفَرَاتُ كُلِّ تَشَوُّقِ
فَبِحَقِّ حُسْنِكَ مَعْ بَيَاضٍ زَانَهُ
هَلَّا رَثِيتِ لَقَلْبِ صَبٍّ مُحْرَقِ
حِنِّي عَلَيْهِ وَسَاعِدِيهِ عَلَى الْهَوَى
لَا تَقْبَلِي فِيهِ كَلَامَ الْأَحْمَقِ

فلما فرغ أبو نواس من شعره، قدَّمت الجارية الشراب للخليفة، ثم أخذت العود بيدها وأطربت بالنغمات وأنشدت هذه الأبيات:

أَتُنْصِفُ غَيْرِي فِي هَوَاكَ وَتَظْلِمُ
وَتُبْعِدُنِي وَالْغَيْرُ فِيكَ مُنَعَّمُ
وَلَوْ كَانَ لِلْعُشَّاقِ قَاضٍ شَكَوْتُكُمْ
إِلَيْهِ عَسَاهُ بِالْحَقِيقَةِ يَحْكُمُ
فَإِنْ تَمْنَعُونِي أَنْ أَمُرَّ بِبَابِكُمْ
فَإِنِّي عَلَيْكُمْ مِنْ بَعِيدٍ أُسَلِّمُ

ثم إن أمير المؤمنين أمر بإكثار الشراب على أبي نواس حتى غاب عن رشده، ثم ناوله قدحًا فشرب منه جرعة واستدامه في يده، فأمرها الخليفة أن تأخذ القدح من يده وتخفيه، فأخذت القدح من يده وأخفته بين أفخاذها، ثم إن الخليفة سحب سيفه في يده ووقف على رأس أبي نواس ووكزه بالسيف، فاستفاق فوجد السيف مسلولًا في يد الخليفة، فطار السُّكْر من رأسه، فقال له الخليفة: أنشدني شعرًا وأخبرني فيه عن قدحك وإلا ضربت عنقك. فأنشد هذه الأبيات:

قِصَّتِي أَعْظَمُ قِصَّةْ
صَارَتِ الظَّبْيَةُ لِصَّةْ
سَرَقَتْ كَأْسَ مُدَامِي
وَامْتِصَاصِي مِنْهُ مَصَّةْ
سَتَرَتْهُ فِي مَكَانٍ
بِفُؤَادِي مِنْهُ غَصَّةْ
لَا أُسَمِّيهِ وَقَارًا
لِلْخَلِيفَةِ فِيهِ حِصَّةْ

وقال له أمير المؤمنين: قاتلك الله، من أين علمتَ ذلك؟ ولكن قد قبلنا ما قلت. وأمر له بخلعة وألف دينار وانصرف مسرورًا.

حكاية الرجل والصحن من ذهب

ومما يُحكَى أن رجلًا كثرت عليه الديون وضاق عليه الحال، فترك أهله وعياله وخرج هائمًا على وجهه، ولم يزل سائرًا إلى أن أقبَلَ بعد مدة على مدينة عالية الأسوار، عظيمة البنيان، فدخلها وهو في حالة الذل والانكسار، وقد اشتدَّ به الجوع وأتعبه السفر، فمَرَّ في بعض شوارعها فرأى جماعة من الأكابر متوجِّهين، فذهب معهم إلى أن دخلوا في محلٍّ يشبه محلَّ الملوك، فدخل معهم، ولم يزالوا داخلين إلى أن انتهوا إلى رجل جالس في صدر المكان، وهو في هيئة عظيمة وجلالة جسيمة، وحوله الغلمان والخدم كأنه من أبناء الوزراء، فلما رآهم قام إليهم وأكرم مثواهم، فأخذ الرجل المذكور الوهم من ذلك الأمر واندهش مما رآه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤