الفروسية

دُعينا مرة — أنا وطائفة من الإخوان — إلى قضاء يومين في ضيعة أحدهم، وكانت قريبة من إحدى الضواحي فركبنا القطار إلى … وهناك وجدنا طائفة شتى من الخيل والبغال والحمير، فتوهمت في أول الأمر أن هناك سوقًا للدواب أو معرضًا لها. ثم علمت أنها لركوبنا. فاخترت من بينها حمارًا صغيرًا وهممت بامتطائه، ولكن صاحب الضيعة وداعينا عزَّ عليه أن يركب «المازني» حمارًا، وجاءني بجواد أصيل وأقسم عليَّ لأركبنَّه. فاستحييت أن أقول له إني أخاف ركوبه، وإنه لا عهد لي بالخيل، ودنوت من بعض الخدم وهمست في أذنه هذا السؤال: «قل لي: كيف تركب هذا الحصان؟»

فتأملني مليًّا ثم قال وعلى فمه طيف ابتسامة: «على ذيله!»

قلت: «على ماذا؟»

وأشاح عني بوجهه. فذهبت إلى الجواد وأدرت عيني في ذيله ثم هززت رأسي وعدت إلى الخادم أسأله: «ألا تظن يا صاحبي أن الأحزم أن أمتطيه قريبًا من العنق لأستطيع عند الحاجة أن أطوقه بذراعي؟»

فلم يزد الرجل على أن قال: «ربما» وانصرف عني إلى سواي، وكنَّا جميعًا في هرج ومرج نصيح ونضحك، وكان لا بد أن أفعل شيئًا فناديت مضيفنا وقلت له: «أريد سلَّمًا.»

قال في دهشة: «سلَّمًا؟ ما حاجتك إليه؟»

قلت: «حاجتي إليه أني أريد أن أصعد إلى ظهر هذا المُجَلِّي يا صاحبي.»

فضحك وقال: «أنا أساعدك» ودفعني على ظهر الجواد دفعة خُيل إليَّ أنها ستلقيني على الأرض من الناحية الأخرى.

وسرنا مسافة على مَهْل ثم وخز أحدنا دابته فمضت تعدو واستحثَّ آخر مطيته، وانطلق بها وراءه، واقترب مني ثالث وأهوى على جوادي بعصا معه، فوثب الجواد وراح يسابق الريح — أو هكذا خُيل إليَّ — وأنا أعلو وأهبط فوقه، حتى أحسست أن أمعائي ستتقطَّع، وأتلمس بيدي شيئًا أمسكه وأتعلق به فيفلت من قبضتي كل ما تصل إليه، فارتميت على عنقه وطوَّقتها، وجعلت أنادي مَن حولي وأناشدهم الذمة والضمير والمروءة أن يوقفوا هذا الشيطان. وأدرك أحد إخواني العطف عليَّ، فصاح بي «ولكن كيف نوقفه ونحن راكبون؟»

فغاظني منه هذا البَلَه ولم يفتني ما في الموقف من فكاهة على الرغم من الألم الذي أعانيه وما أتوقعه إذا ظل الجواد يركض بي، فقلت له: «يا أبله انزل واقبض على ذيل حصاني وشُدَّه.»

وكان أحد الخدم قد أدركني وأمسك باللجام ورد الجواد، فما أسرع ما انحدرت عنه، وكأنما أعجبتني جلستي على الأرض، فأخرجت سيجارة وأشعلتها وذهبت أُدخِّن، وجاءني مضيفنا على أتانه فسألني: «أتنوي أن تقعد هنا إلى الأبد؟»

فأغضيت عن سؤاله وقلت: «إن بي حاجة إلى الشعور بثبات الأرض بعد كل هذا التقلقل وتلك الزعزعة.»

قال: «ولكنك لا تستطيع أن تظل جالسًا هكذا. إن أمامنا سير ساعة.»

قلت: «سألحق بكم إذن، أو أرجع إذا كان لا بد من ركوب هذا الزلزال.»

قال: «ولكن لا يليق أن تركب حمارًا.»

قلت، وقد صار في وسعي أن أضحك: «في وسعك أن تعلِّق ورقة تكتب فيها أنه جواد مُطَهَّم.»

قال: «لا تمزح، قم اركب حماري هذا.»

قلت: «إذا كان الحمار عاليًا فما الفرق بينه وبين الجواد؟»

قال بلهجة اليائس أو المنتقم: «إذن خذ هذا.»

وأشار إلى جحش قميء مهين يركبه خادم، لا سرجَ عليه ولا لجام له، فقمت إليه وامتطيته بوثبة واحدة وبلا مُعين.

واعترضتنا قناة عريضة عليها ألواح مثبتة تقوم مقام الجسر، وبين الألواح والماء تحتها مترٌ على الأقل، فلما توسَّطها الجحش بدا له أن يقف، وراقه منظر الماء، فأجال فيه عينيه برهة ثم خطا إلى حافة الجسر — ولم يكن له حاجز — ومد عنقه إلى الماء، فظننت أنه قصير النظر وأنه يفعل ذلك ليكون أقدر على رؤية خياله في الماء واجتلاء طلعته البهية في صقاله، ولكنهم قالوا لي: إنه كان يريد أن يشرب. فنزلت عنه وقلت له: «يا عزيزي إن من دواعي أسفي أني مضطر أن أتركك إلى الماء وحدك. فإن ثيابي يفسدها الماء وهي غالية إذا كانت حياتي رخيصة.»

ولكنه بعد أن فكَّر قليلًا غيَّر رأيه، إما لأن الصورة التي طالعته في صفحة الماء كانت مضطربة مشوَّهة وعجز الماء عن أداء ما فيها من جمال وروعة، أو لاعتبارات حمارية أخرى لم يكاشفني بها. فأدار وجهه ومضى غير ملتفت إليَّ، غير أني لحقت به بعد أن اجتاز الجسر، وقلت له: «تعالَ لا تهرب مني يا صاحبي» وكنت على ظهره قبل أن يتمكن من الاعتراض أو الاحتجاج أو الإفلات.

ويطول بنا الكلام إذا أردت أن أصف كل ما أمتعني به من الفكاهات العملية، فقد كان فيه عناد وصلف، وكان يأبى أن يتوسط الطريق ولا يرضيه إلا أن يحك جنبه في كل ما يلقاه من شجر أو عربة أو حائط، وكان ربما وقف وغرس رجليه في الأرض. ونام. وتعودت منه ذلك وفطنت إلى أنه ذو مزاج مستقل، فكنت أتركه واقفا حتى ينتبه من هذه الإغفاءات، أو يعود إليَّ من سبحات عقله السقراطية، فنستأنف المسير وحسبي وحسب القراء أن أقول لهم: إني أسفت على فراقه لما انتهت الرحلة، وتمنيت لو أن صحبتنا كانت أطول.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤