الصغار والكبار

قلت لابني عصر يوم، وفي نيتي أن أزجره زجرًا قويًّا عن العبث بكل ما تصل إليه يده: «أتحب أن تخرج معي اليوم؟» وسبقته إلى الباب الخلفي المفضي إلى الصحراء، وقلما كنت أستصحبه لتعذر السير عليه في الرمال، فرمى الكرة ومضى يعدو خلفي ليلحق بي. فلما اطمأن بنا السير شرعت أستقصي معه ما يعلم وما يجهل وما ينبغي أن يعلم، وكانت خلاصة دفاعه — بألفاظي أنا لا بألفاظه هو — أنه يكلف العلم بأشياء عديدة يجد عسرًا في فهمها وإدراكها، مضافًا إلى ذلك أنه لا يدري كيف يمكن أن تعنيه هذه المعارف التي يُطلب منه الإلمام بها؟! وأن كثيرًا مما يشتهي أن يعرفه ويلَذُّ له ويمنعه أن يحيط به، لا يجد مَن يدله عليه.

هذا فيما يتعلق بالعلوم والمعارف، أما من حيث السلوك والسيرة، فالمسألة أدق والمشكل أشد تعقدًا، ذلك أنه لا يزال يُلقَّن — في المدرسة وفي البيت — أن للخير والشر آثارًا ونتائج تحيره جدًّا حين يتأملها أو يحاول أن يردها إلى أسبابها، مثال ذلك: أنه غافلنا مرة واقتطف من الكرمة عنقودًا اضطره اقتطافه إلى المخاطرة بالتسلق، وأكله، ولم يكتمني أنه كذب حين سُئل في ذلك فقال: إن العنب كان يثب إلى فمه. ومن العجيب — في رأيه هو — أنه كان في ذلك اليوم أصح وأنشط وأنه لم يصبه سوءٌ ما، وأن الله لم يعاقبه لا على الكذب ولا على أكل العنب خلسة، ولا على الخطأ في كظ معدته وإدخال طعام على طعام. ولم أكن أتوقع من ابني هذه المحاضرة التي باغتني بها وعارض لي فيها الواقع بما في الكتب وما على ألسنة المربين، فحرت ولم أدرِ ماذا أقول له. وتحلل العزم على تأنيبه وألفيتني أفكر في الطفولة وطبيعتها، وفيما نمسخ به هذه الطبيعة بما نحاول من إكراهها عليه وصبها فيه، ثم تملكني روح العبث الذي أنكره عليه والذي كنت أهم أن أزجره عنه، فقعدت على الرمل وأقعدته أمامي وقلت له بعبارة أقرب من هذه إلى مستوى إدراكه: «اسمع. إني أفكر الآن في تأليف كتاب على نمط جديد، كتاب مدرسي ولكنه يخالف كل ما في المدارس من الكتب، كتاب لذيذ ممتع جدًّا، ولكني لا أستطيع أن أضعه وحدي، بل لا بد لي من معين، فما قولك في معاونتي؟ هل تقبل أن تشاركني في تأليف هذا الكتاب؟»

فنهض إلى ركبتيه وأقبل على وجهي يربت لي خدي بكفيه الصغيرتين ويسألني وهو يضحك: «يا بابا ماذا تقول؟»

أقول: «إني أريد — بمعونتك — أن نصلح هذه الدنيا التي نراها — أنا وأنت — مقلوبة.»

قال: «وكيف تفعل ذلك؟ وكيف أساعدك أنا؟ وماذا يسعني؟»

قلت: «يسعك شيء كثير جدًّا، فليس كونك صغيرًا بمانع أن يكون لك عمل كبير. ولكن لا تربكني بكثرة الأسئلة، وخير لنا وأنجح لقصدنا أن نتقصَّى الموضوع على مهل. ويجب قبل كل شيء أن أكون واثقًا من استعدادك لمعاونتي ومن أنك ستفكر تفكيرًا جديًّا فيما يستقر عليه رأينا.»

فتعهَّد لي بذلك. فقلت له: «أليست شكواك أن الكبار من أمثالي …»

– «ليسوا من أمثالك يا بابا …»

– «حسن، أليست شكواك أن الكبار — غيري — لا يُحسنون تعليم الصغار أمثالك؟»

قال: «نعم.»

قلت ماضيًا في كلامي: «وأن الكبار يُلزِمون الصغار سلوكًا يبدو للصغار غير معقول ويعاملونهم معاملة يمكن أن نسميها غير عادلة؟»

قال: «نعم. وأنا أقول لك لماذا ينبغي دائمًا أن أنام في الساعة الثامنة، لماذا لا يُسمح لي بالسهر أحيانًا مع الكبار إلى أن أحس بالحاجة إلى النوم؟ وإذا لم أنم كما تريد جدتي — حتى في النهار — فإنها تقول لي: إني ولد عنيد.»

قلت: «هذا صحيح، وإذا اتفق أنْ دار أمامك حديث وبدا لك أن تقول كلمة كغيرك من الجالسين، زعموا أن هذا منك قلة أدب وسوء سلوك، أليس كذلك؟»

فهزَّ رأسه مرات وهو لا يستطيع النطق من الإغراق في الضحك ومضيت أنا في ملاحظاتي التي شاقته وأعجبته وأرضته فقلت: «وإذا رأوك تلعب بالكرة قالوا لك: إنك شقي وإن اللعب بالكرة غير محمود، وإذا سكتَّ ولم تلعب ولم تتكلم، زعموا أنك سيئ الطبع، أو ادعوا أنك مريض وسقوك على كره منك ملء فنجان من زيت الخروع …»

فقاطعني متممًا لي ملاحظاتي: «وإذا كانوا يبحثون عن شيء ولا يجدونه ظنوا أني أنا الذي خبأته، ثم إذا وجدوه حيث وضعوه نسوا أنهم هم الذين فعلوا ذلك واتهموني أنا، وأجادلهم وأبيِّن لهم أن لا دخل لي في ذلك كله، فيختمون حوارهم معي بأنهم تعبوا من الكلام معي كأني أنا لم أتعب أيضًا من سماع كلامهم.»

فقلت بدوري مقاطعًا: «وإذا كسروا قلة أو كوبًا لم يسألوا عيونهم لماذا لم ترها؟ كأن عيونهم ليست مكلفة أن تبصر شيئًا أبعد من أنوفهم، بل راحوا يتساءلون عمن وضع القلة هنا. كأن واضعها هو المسئول …»

قال: «أما إذا كسرتها أنا فالويل لي من شيطان يجب أن يُحبس في غرفته منفردًا.»

قلت: «وإذا كلَّفوك أن تأتي بشيء ولم تجده لأنه ليس في المكان الذي بعثوا بك إليه، أو لأن شخصًا نقله، فإنك تكون في رأيهم ولدًا خائبًا وغبيًّا لا يفهم.»

قال: «وأنا دائمًا المخطئ وهم أبدًا على صواب حتى صرت واثقًا أني لا يمكن أن أكون مصيبًا في عمل أو قول، وهذا يحيرني جدًّا ويربكني يا بابا.»

قلت: «أظن الآن أن موضوع الكتاب صار واضحًا ظاهر الحدود بيِّن المعالم، وسنقلب فيه المسألة ونجعل الصغار هم العقلاء الحكماء الذين لا يخطئون أبدًا، والكبار هم الأغبياء البلداء الذين لا يصيبون والذين يحتاجون إلى الرقابة والإرشاد والتأديب والزجر.»

فطار الغلام من الفرح، ووثب على رجليه وانهال عليَّ تقبيلًا وألحَّ عليَّ بالسؤال: «أصحيح ما تقول يا بابا؟»

قلت: «نعم. وسنسميه «المختار في تهذيب الكبار»، ونجعل الصغار هم الذين يبقون في البيت لتدبير شئونه، والكبار هم الذين يذهبون إلى المدرسة ونُلبِسهم ما يلبس التلاميذ والتلميذات الآن من البذلات القصيرة ونقص لجدتك شعرها ونخرجها في قبعة من قبعات البنات الصغيرة ونضع لها على صدرها «مريلة» ونبعث بها إلى المدرسة، وإذا لم تحفظ دروسها عاقبناها بالوقوف ووجهها إلى الحائط، وإذا أكثرت من اللعب حرمناها الحلوى، وإذا لم تنم في الساعة الثامنة عددناها سيئة الخلق عنيدة ولم نخرج بها للرياضة يوم الجمعة.»

قال: «ويجب أن نحرِّم عليها اللعب إلا مع لداتها من الجَدَّات نظائرها، وإذا وجدناها تلاعب واحدة من الشوابِّ عاقبناها بالحبس في غرفتها، وإذا جلست ساكتة أو لم تتناول طعامها بإقبال أنمناها في سريرها وجرعناها ملء كوب من زيت الخروع، وإذا كرهت طعمه أو تقززت من مذاقه قلنا لها: إنه يفيدها وإننا نحن نعرف ما يصلح لها وما لا يصلح، وإذا جلست معنا واشتركت في الحديث انتهرناها بنظرة، فإذا لم تكفَّ أفهمناها أن الكبار لا يصح أن يقاطعوا الصغار …»

قلت: «وإذا سألتنا — أعني إذا سألت الصغار — عن شيء نجهله قلنا لها: إن هذا الأمر لا تستطيعين فَهْمه وإدراكه الآن، والسيدة المهذبة يجب ألا تُكثِر من الأسئلة أو تحشر أصابعها فيما لا تفهم.»

قال: «وإذا أكلت من الشيكولاتة أكثر مما يوافقها لا نأخذها إلى السينما وحرمناها مناظر شارلي شابلن وأضرابه.»

ثم رفع إليَّ وجهه وقد بدت عليه أمارات التفكير الجدي وسألني: «ولكن هل نسمح لها بالاختلاط بالرجال وملاعبتهم؟»

قلت: «بقدر. وعلى أن يكون لنا — أعني للصغار — حق المراقبة والتدخل إذا وجدنا أن الضرورة تقتضي ذلك.»

قال: «والدروس التي نتلقاها الآن ألا يتغير منها شيء؟»

قلت: «أكثرها يبقى كما هو، ولكن الموضوع من كتب المطالعة والمحفوظات يتغير؛ لأنه في الأصل مجعول للأطفال، وهذا يعود بنا إلى مشروعنا، فإن الذي أفكر فيه وأريد منك أن تعينني عليه، هو كتاب يحتوي طائفة متخيرة من القصص والموضوعات يتعلم منها الكبار آداب السلوك وما لهم وما عليهم في الحياة، والواجبات المفروضة عليهم نحو الصغار أولياء أمورهم، ولذلك ينبغي أن يُلغى من الكتب أمثال «سمير الأطفال» و«القراءة الرشيدة» للأطفال، فإنها جميعًا لا تصلح لمشروعنا.»

قال: «ومَن يؤلف هذه القصص؟»

قلت: «أنا وأنت، ولسنا نحتاج إلى تعب كبير؛ لأن الأمر لا يتطلب فيما أقدر إلا تحويرًا قليلًا يجعل القصة للكبار بدلًا من الصغار.»

قال: «وهل نطبع الكتاب ونبيعه؟»

قلت: «ولمَ نتكلف وضعه إذا لم نطبعه ونبيعه؟»

قال: «وهل يشتريه الكبار ويقرءونه؟»

قلت: «إذا لم يفعلوا فإن في وسعي أن أوعز إلى نفر من أصدقائي بأن يحملوا في الصحف على الكتاب حملة عنيفة، وبأن يصفوه بأنه مخالف للآداب ومنافٍ لكل ما درجت عليه الإنسانية، وهذا وحده كفيل بترويجه.»

قال: «وهل كل ما يخالف الآداب يطلبه الناس؟»

قلت: «لا أستطيع أن أقول: نعم أو لا، ولكن الذي أريد أن أقوله هو أن حب الاستطلاع يدفع الناس إلى طلب هذا الكتاب الفريد في بابه.»

قال: «وكيف تقرأه جدتي وهي أمية؟»

قلت: «إن الأمية الفاشية بين الكبار من أمثال جدتك مما يسوِّغ مشروعنا ويجعله ضروريًّا، أليس الواقع الآن في الأغلب والأعم أن الجهلاء هم الذين يتولون تربية المتعلمين أمثالنا أو توجيههم في الحياة واختيار ما يصلح لهم؟ والأمر ينبغي أن يكون على نقيض ذلك.»

قال: «ولكن إذا لم نحسن تدبير المنزل أو إذا لم تُجِدِ الصغيرات مثلًا طهي الطعام وتذمر منه الكبار؟»

قلت: «لن يعوزنا كلام نسكتهم به كما يفعلون بنا الآن، وما علينا إلا أن نتهمهم بالبطر والتدلل القبيح ونزجرهم عن ذلك.»

فضحك وقال: «إنك ماهر جدًّا يا بابا، ولا بد أن يكون الكبار قد ضايقوك جدًّا في صغرك فأنت الآن تريد أن تنتقم منهم.»

ثم ألقى إليَّ نظرة خبيثة وهو يسأل: «هل كان أبوك ثقيلًا يا بابا؟»

فتماسكت بجهد وسألته بدوري: «ثقيلًا مثل مَن؟»

قال: «لا أعني مثل أحد ولكنه سؤال، فهل أخطأت فيه؟»

قلت: «كلَّا، ولم يكن أبي ثقيلًا فيما أذكر، وعلى أنه لم تُتح له معي فرصة كبيرة لذلك، فقد مات وأنا صغير.»

•••

وهنا رأيت أن الأحزم أن نعود مخافة أن يسترسل في مثل هذه الأسئلة المحرجة، التي جرها عليَّ التبسط معه في هذا الموضوع. والأطفال — كما يعرف ذلك مَن كابدهم — لا يستطيع المرء أن يتكهن بما يجري في رءوسهم أو يعرف ماذا يتوقع منهم، فإن لهم وثبات غير مأمونة.

فنهضت وطلبت منه أن يفكر في الموضوع، وبينما كنَّا عائدَين سألني فجأة: «وأنت يا بابا هل نضعك مع الكبار أم مع الصغار؟»

فدفعت الباب ولم أُحِر نطقًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤