الفصل الخامس عشر

السبب الزائف (أخْذُ ما ليس بعلةٍ عِلةً)

false cause; non causa pro causa

تتقاطَرُ الأحداثُ في الزمان،
لا تأبَقُ منه
موثوقةً بآناتها دائمًا،
ولكن غير موثوقة بجاراتها بالضرورة.

***

(١) لماذا تحدُثُ الأشياء؟

يميل البشرُ بطبيعتهم إلى تفسير الأحداث وإدراك سببها؛ ولذلك أسَّسُوا العلم، الأصيلَ منه والزائف. ما سببُ المرض؟ ما سبب الدمار، والحروب، والكسوف والخسوف، والزلازل، والأعاصير، والركود الاقتصادي …؟ إن في جِبلَّة العقل البشري أن يربط الأشياء لِتُكوِّن نمطًا أو هيئةً أو شكلًا، وأن يصل النقاطَ المنفصلة، ويملأ الثغرات، لِيَستوِي له نمطٌ ذو معنى لديه، وهو يرتبك ويتأزم إذا لم يميز أنماطًا؛ لأن به ولوعًا بالتنبؤ، ورغبةً في السيطرة على الأحداث.

تَطَّرِد الأحداثُ أمام الإدراك البشري في أنماطٍ معينة من التصاحب والتعاقب والتجاور في المكان والزمان، فيَسْتَلُّ من ذلك «علاقات ارتباط» تثير فيه عادة «التوقع»، وقد تترسخ فيه عادة التوقع فتحول علاقة «الارتباط» correlation إلى «عِلِّية» (سببية) causality،١ فكلما ارتبط حدثان معًا في الزمان والمكان كان ذلك دليلًا عنده على أن أحدهما «عِلَّة» (سبب) cause للآخر، وكلما تَعاقَب حدثان كان سابقُهما سببًا للاحق.
كل ذلك حسنٌ وجميل، وهل العمل العلمي، في شطرٍ كبيرٍ منه إلا اقتفاء للارتباطات التجريبية وتشييد نظريات علمية تفسر هذه الارتباطات بلغة الضرورة القانونية nomic necessity؟٢ تأتي المغالطة، على كل حال، عندما يخلط العقل بين «المعية»  togetherness/association و«السببية» causality، ويجعل مجرد الارتباط بين حدثين دليلًا على أن أحدهما سبب للآخر، دون أي بَيِّنةٍ أبعد من ذلك cum hoc ergo propter hoc.
إن إثبات وجود علاقة سببية بين حدثين يستلزم أكثر من مجرد الارتباط: يستلزم الاطِّراد الدائم، والارتباط الدائم بين نمطي الحدثين، إيجابًا وسلبًا، وعدم وجود أي أمثلة مضادة، ذلك أن مجرد «المعية» قد يكون مَرَدُّه إلى:
  • (١)
    المصادفة البحتة coincidence.
  • (٢)
    وجود سببٍ ثالثٍ أعم من وراء كلا الحدثين، وتسمى المغالطة عندئذ: «إغفال سببٍ مشترك» ignoring a common cause، أو «المعلول المزدوج» joint effect.
  • (٣)
    كما أن الاتجاه الحقيقي للعلاقة السببية قد يكون معكوسًا، وتسمى المغالطة هنا: «الاتجاه الخطأ» wrong direction.

(٢) الخلط بين السببية ومجرد المصادفة

  • (١)

    وُجِدت ارتباطات شبه تامة بين معدل الوَفَيات في حيدر أباد بالهند من ١٩١١ إلى ١٩١٩ وبين تغييرات في عضوية الرابطة الدولية لعلماء الميكانيكا خلال نفس الفترة، ولا يمكن لأي عاقل أن يعتقد حقًّا في وجود أي شيء يتجاوز المصادفة المحضة في هذه الواقعة العجيبة (والتافهة في الوقت نفسه!)

  • (٢)

    وُجد ارتباطٌ إحصائي وثيق بين مستويات تمويل الفنون في بريطانيا وبين أعداد طائر البطريق في القطب الجنوبي!

  • (٣)

    وُجد ارتباط كبير بين أعداد طائر اللقلق في أماكن معينة من أوروبا وبين معدل المواليد من الأطفال. (من الخَطَل أن نستدِل من هذا الارتباط وحده على أن وجود طائر اللقلق سبب لولادة الأطفال!)

(٣) إغفال سبب مشترك neglect of a common cause

(المعلول المزدوج joint effect)

يكثر الخلط بين المَعِية والسببية حين يتم إغفال سببٍ مشترك للحدثين كليهما؛ أي حين يكون الحدثان ناتجين عن حدثٍ ثالث، أو معلولين لعلةٍ مشتركة.

أمثلة

  • (١)

    قبيل اندلاع الحروب يتزايد معدل التسليح لدى الأطراف المتصارعة؛ إذن زيادة التسليح تؤدي إلى اندلاع الحروب. (ربما يكون الصواب أن التوتر والخلاف بين الأمم يفضي إلى كل من التسلح والحرب.)

  • (٢)

    الحمى (ارتفاع الحرارة) تؤدي إلى الطفح الجلدي. (قد يكون فيروس الحصبة هو السبب من وراء كلٍّ من الحمى والطفح الجلدي.)

  • (٣)

    وُجد ارتباطٌ قويٌّ بين معدلات بيع الأيس كريم وبين معدلات الجريمة؛ إذن تناول الأيس كريم يؤدي إلى ارتكاب الجرائم! (الصواب أن ارتفاع حرارة الجو هو السبب في ارتفاع معدلات الجريمة (بما يُفضي إليه من توتر قلق) وفي ارتفاع مبيعات الأيس كريم.)

  • (٤)

    كلَّما كبر مقاس حذاء الطفل كان خطُّه أفضل! إذن كبر حجم القدم يُسهِّل عملية الكتابة! (الصواب أن النمو المتصل للطفل يؤدي إلى كلٍّ من زيادة حجم القدم ونمو القدرات المدرسية جميعًا بما فيها خط اليد.)

  • (٥)

    ثمة انخفاض ملحوظ في البارومتر أثناء هبوب عاصفة؛ إذن العاصفة سببت انخفاض البارومتر. (الصواب أن انخفاض الضغط الجوي هو سبب كل من العاصفة وانخفاض البارومتر.)

  • (٦)

    كشفت التحليلات وجود بكتريا معينة بكمية كبيرة لدى أحد المرضى، فاستنتج الطبيب أن البكتريا هي سبب المرض، ثم تبيَّن أن البكتريا غير ذات خطر وأن هناك فيروسًا هو سبب كلِّ من المرض ونمو البكتريا الانتهازية التي تكاثرت نتيجة ضعف المريض.

  • (٧)

    خلال العشر سنوات الأولى من انتشار أجهزة التليفزيون في أي بلد من البلدان وُجِد أن معدلات جرائم القتل ترتفع إلى الضعف؛ إذن التليفزيون هو السبب في العنف. (الصواب أن انتشار أجهزة التليفزيون هو مجرد عَرَض لتغيرات اجتماعية عريضة النطاق، تشمل اكتمال بنيةٍ تحتيةٍ كهربائية، وتَكَوُّن طبقة وسطى كبيرة قادرة على شراء أجهزة التليفزيون وغيرها من الأدوات، من السذاجة إذن أن نَعُد التليفزيون في هذه الحالة متغيرًا مستقلًّا تمامًا.)

  • (٨)

    في بعض الولايات الأمريكية وُجد أن معدلات الإدمان تتزايد مع زيادة الفقر؛ إذن الفقر يؤدي إلى الإدمان. (الصواب أن التمييز العنصري في هذه الولايات كان يُفضي إلى الإحباط والتراخي فيؤدي إلى كلٍّ من الفقر والإدمان معًا.)

مثل هذه الطريقة التبسيطية في التفكير لن تؤدي إلا إلى حلول تبسيطية، ولن تؤدي الحلول التبسيطية إلا إلى الفشل وإهدار الوقت والجهد، ما دام «السبب المشترك» common cause يَقْبَع هناك آمنًا من الملاحظة والرصد، وبالتالي من التناول والعلاج.

(٤) الاتجاه الخطأ (للعلاقة السببية) wrong direction

في هذه المغالطة نجد العلاقة بين العلة والمعلول (السبب والنتيجة) معكوسة، حيث يؤخذ المعلول كعلة وتؤخذ العلة كمعلول.

أمثلة

  • (١)

    انتشار مرض الإيدز ناتج عن زيادة الثقافة الجنسية. (العكس هو الصحيح: وهو أن زيادة الثقافة الجنسية ناتجة عن انتشار الإيدز وتَخَوُّف الناس منه.)

  • (٢)
    يزداد انتشار الأمراض الفِصامية بين الطبقات الاجتماعية الدنيا؛ إذن تَدَنِّي الطبقة الاجتماعية يُؤدِّي إلى الفصام العقلي. (الصواب أن المرض العقلي المزمن يؤدي إلى تدهور أداء المريض الدراسي والمهني والاجتماعي، فيهبط به شيئًا فشيئًا إلى طبقة اجتماعية أدنى، وهكذا من يُصاب وراثيًّا من نسله، وتُسمى هذه الظاهرة drift phenomenon)
  • (٣)

    وُجِد أن هناك ارتباطًا بين معدل امتلاك السلاح في بعض الولايات ومعدل ارتكاب الجرائم؛ إذن امتلاك السلاح يؤدي إلى انتشار الجرائم. (الصواب أن انتشار الجرائم يُقلِق المواطنين الآمنين فيستخرجون رخص الأسلحة للتحوُّط والحماية.)

(٥) بعد هذا إذن بسبب هذا (المغالطة البَعدِية/بِعَقِبِه إذن بسببه) post-hoc ergo propter hoc a posteriori fallacy

ذات يومٍ في الزمان
أخذ الديك غرورٌ قاتل،
فصاح معجبًا: إنني حقًّا ملك المزبلة، بل مَلكُ العالم،
إني لأستلُّ الفجر من مكمنِه بصياحي،
وبوسعي إن شئت أن أكُفَّ عن الصياح فأجعل الليل سرمدًا،
جذب الصوت شقيًّا كان يفتشُ في المزبلة عن رزقٍ،
فجعلَ من الديك وجبةً دسمة
هذا ولم يزل الفجر يطلع على الأرض إلى يومنا هذا.
يصيح الديك قبل الفجر، ثم يأتي الفجر وينبلج الصباح، إذن صياح الديك يُطلع الصبحَ ويسُلُّ الشمسَ من مكمَنِها، هكذا فَكَّر الديكُ وهكذا تمضي «المغالطة البعدية» a posteriori fallacy، تفيد المغالطة البعدية أنه ما دام شيءٌ ما قد أتى بعد شيءٍ آخر فهو إذن قد أتى بسببه، لقد حدث بعَقِبِه إذن فقد حدث بسببه، أليست المعلولات دائمًا تأتي في أعقاب العِلل؟
إن المعلومات لتأتي حقًّا بعد عِلَلها، غير أن هذا «شرطٌ ضروريٌّ» necessary condition لعلاقة العلية وليس «شرطًا كافيًا» sufficient condition، فلكي يوصف حدث ما «أ» بأنه «سبب» لحدث آخر «ب» ليس يكفي أن يأتي قبله، فإثبات علاقة العلية يتطلب ما هو أكثر من مجرد التعاقب أو الارتباط: يتطلب أن جميع أفراد فئة «ب»، في عينات وافرة وممثِّلة للفئة «ب»، تأتي دائمًا وأبدًا بعد جميع أفراد فئة «أ»، وتغيب دائمًا «ب» في غياب «أ»، مع شيء من التجاور في المكان والزمان، وغياب أي عامل آخر قد يكون وراء حدوث الاثنين معًا … إلى آخر ذلك مما فَصَّله البحث العلمي عن شروط إثبات العلاقة السببية، والطرائق العملية والإحصائية لإثبات ذلك.

أما الاكتفاء بمجرد التعاقب الزمني كدليل على علاقة السببية فهو تفكير شديد الفجاجة والسوقية، وهو سوقي لأنه يتسم بالشيوع والدخل، وبه يَتَقَوَّم كلُّ التفكير الخرافي والسحري وحكايا العجائز والوصفات الطبية الشعبية وثرثرة مجالس الفراغ والتبطُّل.

حين نضع جانبًا ذلك التصور اليومي عن العلة والمعلول، ونتأمل الأمر بدقة وحيدة وعمق نجد أننا، رغم توهمنا فهم الآليات التي يؤدي بها كل حدث إلى الآخر، لا نشهد في الحقيقة شيئًا اسمه «العِلِّيَّة»، وكل ما نشهده هو تواترات وارتباطات وتتابعات من الأحداث، بحيث تَئُول فكرة السببية في النهاية إلى «توقعنا» للاطراد والارتباط، تقترب الإصبعُ من اللهب فتتألم، فنسمي اللهب «سببًا» cause والألم «مسبَّبًا» effect أو «معلولًا» أو «نتيجة»؛ لأننا نتوقع الثاني كلما حدث الأول، ونحن بالطبع نلفق تفسيرات لنملأ الثغرات غير المرئية بين الحدثين، فكيف عرفنا أن هذه الأحداث غير المنظورة هي الأسباب حقًّا؟! لا شيء … إنها تتوالى دائمًا ويعقب بعضها بعضًا!٣ هذه الفجوة في معرفتنا هي مرتعٌ خطيبٌ وملاذٌ آمنٌ للمغالطات.

كان مؤرخو الإغريق دائمًا يُفسِّرون الكوارث الطبيعية كنتاجٍ لأفعال البشر، فإذا حدث زلزالٌ مروِّعٌ مثلًا ودَمَّر مدينةً بكاملها، فإن هيرودوت يعمد بهمةٍ وجد إلى تفصيل الأحداث البشرية السابقة على الزلزال، ثم يستنتج أن المذبحة التي ارتكبها أهل المدينة، مثلًا، قبل الزلزال كانت سببًا في وقوعه.

وقد قدم عالم الاجتماع الأمريكي جراهام سَمنَر نظريته فيما أسماه ﺑ «الطرق الشعبية» أو «العادات الشعبية» folkways، التي ترد الأحكام الأخلاقية إلى مظاهر لا عقلية في أساسها، لقوى اجتماعية هي ذاتها غير عقلية، هذه الطرق الشعبية هي عادات شعبية مستقلة عن أفكارنا عنها، ولا تسير حسب قواعد معقولة، وهي لا تتفق إلا مع المزاج أو الموقف العام لزمانها ومكانها المعينين، ولها ما يمكن أن يُعد حياةً خاصة بها، ذلك أن سمنر يرى أنها تولد وتكبر وتموت ولا يمكن أن يؤثر فيها تأثيرًا يُذكر إلا قوى قليلة (منها التعليم)،٤ من هذه الطرق ما هو ناتج عن استدلال خاطئ، وبخاصة خطأ «السبب الزائف»، يقول سمنر: إنَّ الطرق الشعبية قد تكوَّنت بطريق المصادفة، أو بواسطة فعلٍ غير عقلاني وقائم على معرفةٍ زائفة، من ذلك أن وباء الطاعون لما تَفَشَّى في مولمبو Molembo عقب وفاة أحد البرتغاليين اتخذ الأهالي كل الاحتياطات الممكنة لكي لا يموت رجلٌ أبيض بعد ذلك في بلدهم، ومن ذلك ما حدث في جزر نيكوبار على أثر وفاة بعض من السكان الأصليين كانوا قد بدءوا لتوهم في مزاولة حرفة الخزف، إذ انفض الجميع عن مزاولة هذا الفن ولم يَقرَبه أحد بعد ذلك على الإطلاق، ومن ذلك ما حدث في إحدى قرى جنوب أفريقيا حين أهدى البيضُ رجلًا من البوشمن عصا مرصعة بالأزرار كرمزٍ للسيادة، إذ توفي الرجل وخلف العصا لابنه، وسرعان ما توفي الابن، فأعاد البوشمن العصا إلى من أهداها خشية أن يموت الجميع، وقد تصادف مرة أن انتشر الجدري بين شعب الياكات بعد أن شهدوا جَمَلًا لأول مرة، فوقر في ظنهم أن الجمل هو الذي أحدث المرض … وبوسعنا أن نجمع ما لا يُحصى من هذه الشواهد، وهي في الحقيقة تمثل الطريقة المتبعة في الاستدلال العقلي لدى الشعوب البدائية، فمن عادة هؤلاء الأقوام إذا حدث شيءٌ «بعد» شيء آخر أن يستدلوا من ذلك أنه حدث «بسببه».٥

وما تزال هذه الطريقة في التفكير تعشش في أذهاننا حتى اليوم، فالتسونامي الآسيوي سببه تفاقم ذنوب البشر (مع أن التسونامي نتاج زلزال تحت المحيط ناجم عن انزلاقٍ طبقي، والضحايا ربما كانوا أقل أهل الأرض ذنوبًا) وإعصار كاترينا سببه السياسة الأمريكية (مع أن الأعاصير سببها حركة الرياح فوق ماء المحيط)، وما دامت هناك حقًّا فجوة في معرفتنا، فلن يمكنك أن تُقنع من مال به هواه إلى تفسيرٍ معينٍ دون سواه.

على هذه المغالطة السوقية تقوم حِرَفٌ وترتزق طوائف: العِرافة والفأل والتنجيم والرُّقي والتعازيم والكهانة والعلاج الشعبي.

يُبشِّرك العرَّاف بأحداثٍ سعيدة، وتأتيك أحداثٌ سعيدة؛ لأن الأحداث السعيدة تحدث طوال الوقت على كل حال، ويُنْذِرُك المنجِّم بعواقب وخيمة، وتنزل بك نوازل غير سارة؛ لأن النوازل غير السارة تنزل دائمًا على كلِّ حال، ويصف لك المشعوذ حجابًا يشفي مرضك، ثم تُشفَى من المرض؛ لأن أغلب الأمراض يُشفى تلقائيًّا بمرور الوقت (وإلا لما بقي حيٌّ على الأرض إلى اليوم) يتذكر الناس الرميات الصائبة والتوقعات الناجحة، ويتداولونها فيما بينهم مضخَّمة ومُنتقاة، فتستقر في ذاكرتهم دليلًا على صدق العراف أو المنجِّم أو المعالج، بينما تُنسى تلقائيًّا تلك الرميات الخائبة والتوقعات الفاشلة، وهي الأكثر والأعم بما لا يُقاس، وتنسدل عليها ستائر النسيان.

تُسمَّى هذه الظاهرة في العلم «مشكلة درج السِّجلات» (أو درج الملفات) file drawer problem: وهي مشكلة تنجم حين يحاول العلماء تحديد ما إذا كانت نتيجة ما هي حقيقية أم زائفة بناءً على التراث البحثي المنشور، تأتي المشكلة عندما تكون هذه النتيجة هزيلة (أو غير موجودة) ولا تحدث إلا مصادفةً، ومِن ثَمَّ فإن من يقع عليها من الباحثين يُسَجِّلها وينشرها، مصحوبةً بالهتاف والتهليل، أما الباحثون الذين لم يقعوا على هذه النتيجة قَطُّ فإنهم لا ينشرون أبحاثهم عادةً وإنما يلقون بها في أدراج السجلات، هكذا تبدو الظاهرةُ الزائفة حقيقةً علمية، لا لشيء إلا لأن الأبحاث العديدة المكذِّبة لها قد طويت في الأدراج، بينما نُشرت الأبحاث القليلة الشاذة التي تؤيد الظاهرة، فكانت لافتةً للأنظار بصخبها وبريقها.

أمثلة أخرى

  • (١)

    لَبِستُ هذا القميص اليوم وذهبت إلى الامتحان فأجبت عن جميع الأسئلة بإجادة تامة، إذن هذا القميص فألٌ حسن ولسوف أرتديه في كل الامتحانات القادمة. (غني عن البيان أنني أجَدْتُ في الامتحان لأني كنت مستعدًّا له استعدادًا طيبًا بالمذاكرة والدرس، وليس لأنني لبست هذا القميص أو ذاك!)

  • (٢)

    تَكسِفُ الشمسُ، فيُهرَع أفرادُ القبيلة عن بكرة أبيهم، ويظلون يدقون الطبول بعنف، ثم تبرز الشمس من وراء الحجاب، إذن دق الطبول يسترد الشمس ويُخرجها من كسوفها.

  • (٣)

    أصيب حسن بصداع شديد، فعجنت له جدته عجينة من الدقيق والخل وزيت السمك وبول الأرنب، لصقها برأسه ونام، فذهب عنه الصداع بعد دقائق. (كثيرًا ما يذهب الصداع تلقائيًّا بذهاب سببه الحقيقي.)

  • (٤)

    تشوَّشت الصورة في تلفاز سعيد، فخبط بقوة على التلفاز، فانصلحت الصورة، إذن خبط الجهاز هو أيسر طريقة لإصلاح أعطال التلفاز.

  • (٥)

    عطس منصور في منزله بالقلعة، وبعد ثوانٍ وقع تسونامي المحيط الهندي، إذن عطسة منصور فجَّرت كارثة التسونامي.

(٦) تذييل: الأثر البلاسيبي placebo effect

نَزْغٌ في قلب البحث الطبي
ثمة ظاهرة ينبغي إلحاقها بمغالطة السبب الزائف، وهي ظاهرة طبية لافتة يُقال لها «الأثر البلاسيبي» placebo effect، وهو تَحَسنٌ صِحي، محسٌّ أو ملاحَظ أو مَقيس، لا يُعزَى إلى العلاج، وتعبير placebo هو تعبيرٌ لاتيني يعني «سوف أسُرُّ» أو «سوف أُرضِي»، والبلاسيبو هو دواء، أو إجراء علاجي، يعتقد المعالج أنه خاملٌ أو «لا يَضُر»، قد يكون البلاسيبو حبوبًا من السكر أو من النشا، وحتى الإجراء الجراحي الزائف، أو العلاج النفسي الزائف، قد يُعَد ضربًا من «البلاسيبو».
وفي الدراسات الطبية عن الأثر العلاجي الحقيقي لدواءٍ مقترح يستخدم الباحثون، إلى جانب مجموعة المرضى الذين يعالجون بالدواء، «مجموعة ضابطة» control group تتناول البلاسيبو بدلًا من الدواء الحقيقي، وذلك حتى يتسنَّى ملاحظة الفرق بين تأثير العلاج الحقيقي وتأثير العلاج الوهمي (إذ إن للعلاج الوهمي تأثيرًا!) وقياس مدى أفضلية الدواء الجديد على البلاسيبو، والبرهنة مِن ثَمَّ على أنه علاج حقيقي فعال.
يرد بعض الباحثين هذا الأثر البلاسيبي إلى مجرد شعور «ذاتي» بالتحسن كنتيجة للاعتقاد في العلاج والإيمان بتأثيره الشفائي، ويرده البعض إلى «المسار الطبيعي» natural course للمرض، بما يعتريه من «اشتدادات» exacerbations و«هدآت» remissions وفترات هجوع طويلة وتراجع طبيعي، وربما الشفاء التلقائي التام كمآلٍ طبيعي لكثير من الأمراض والإصابات.
غير أن تراكم الأبحاث وتواتر الملاحظات المؤيِّدة للأثر البلاسيبي يُشير إلى أن الأمر أكبر من مجرد إحساس ذاتي زائف: ثمة تحسن حقيقي مشهود وموثَّق ومَقِيس، حتى في بعض الأمراض العضوية المكينة:
  • يزيل بعض الأطباء أنواعًا من الزوائد الجلدية بدهانها بصبغة خاملة براقة والوعد بأنها تزول مع زوال الصبغة!

  • وفي دراسات عن الربو الشعبي تبين أن استنشاق بلاسيبو يُوسِّع الشعب الهوائية توسيعًا حقيقيًّا مَقِيسًا.

  • وفي التهابات القولون وُجد تحسنٌ حقيقي في خمسين بالمائة من المرضى إثر تعاطيهم دواءً خاملًا (بلاسيبو).

  • ومن الروايات البحثية الفذة ما سجله أحد أطباء القلب بصدد الإجراء الجراحي المعروف بربط الشريان الثديي الداخلي في بعض حالات الذبحة الصدرية (لزيادة المدد الدموي إلى عضلة القلب): فقد وجد الأطباء، بالمصادفة، أن الجراحة الوهمية المتضمنة لمجرد الفتح الجراحي من دون ربط الشريان قد أدت إلى نفس الأثر العلاجي. (وهو تحسن ٩٠٪ من المرضي!)

في ضوء هذه النتائج الملموسة الثابتة ربما يكون التفسير الأمثل لظاهرة «الأثر البلاسيبي» هو التفسير البيوسيكولوجي، فمن الواضح أننا بإزاء ظاهرة معقدة ربما لا يسعها إلا تفسير مركب يضفر التفسير النفسي بتفسير بيوكيميائي: فمن شأن «الاعتقاد» في العلاج، ومشاعر الاهتمام والرعاية، والمساندة والتشجيع والأمل، التي يبثها الموقف العلاجي، أن تستفز في الجسم آلياتٍ فسيولوجية تُفضي إلى أثر فيزيقي حقيقي:
  • قد يكون هذا الأثر من خلال إطلاق «الإندورفينات» endorphins في مواضعها ومساراتها العصبية.
  • وقد يكون من خلال حفز جهاز المناعة.

  • وقد يكون من خلال تنشيط محورٍ عصبي هرموني هو «محور المهاد التحتي-النخامية-الكظرية» hypothalamo-hypophyseal-adrenal axis.
لعلَّ هذا الهامش الشفائي الذي يتيحه الأثر البلاسيبي (إلى جانب الهجوع التلقائي للمرض) هو الباب الموارَب الذي ينفذ منه الدجالون والأدعياء، والكثير من ألوان ما يُسمى ﺑ «الطب البديل» alternative medicine، إلى الساحة العلاجية: العلاج بالرقى، العلاج بالزار، العلاج بالعطور، «العلاج المِثلي» homeopathy، «الانسجام الحيوي» bioharmonics، «الكيروبراكتيك» (العلاج بتقويم العمود الفقري يدويًّا) chiropractic … إلخ.

قد يقول قائل: وما الضَّير؟! وماذا يُجديني أن أعرف كيف يحدث الشفاء ما دام الشفاء يحدث؟

والجواب أن هذه الضروب من «تناسخات البلاسيبو»، على فوائدها التصادفية في بعض الحالات، إنما تُغشِّي على المسار الجاد للبحث الطبي الحقيقي، وتُضِلُّ عن التماس العلاج الصحيح في مظانه الصحيحة، وتستبدل به هُراءً بلاسيبيًّا «تَفتُّه» لأناسٍ ذاهلين بالمرض غارقين في الأغاليط، إن البلاسيبو لن يستأصل ورمًا، ولن يجبر كسرًا، ولن يكبح صَرَعًا، ولن يُوقف نزيفًا، ولن يغسل كلَى، ولن ينقذ حالة حرجة … ولو كان هامش البلاسيبو يكفي لعلاج الناس لما نشأ المرفق الطبي لدى البشر منذ البداية.

وبعد، فإن تناسخات البلاسيبو تريد أن تبيعنا بضاعةً بأكثر من ثمنها، فالأثر البلاسيبي قائم ومبذول ومتضمَّن ومبيَّت سلفًا في كل دواء وفي كل إجراء علاجي، إنما تسعى الأبحاث الدوائية إلى إثبات جدوى علاجية تتجاوز الأثر البلاسيبي بفارقٍ ذي دلالة.

١  جرى الاتفاق مؤخرًا على أن تُترجَم كلمة cause إلى «عِلَّة» بمعنى سبب طبيعي، وتُترجَم كلمة reason إلى «سبب» بمعنى سبب عقلي.
٢  تُوصَف التفسيرات العلمية عادةً بأنها تفسيراتٌ سببية، على أن هناك فصيلًا من الفلاسفة، هم الوضعيون، يرون أن العلم يتعيَّن عليه أن يكشف الارتباطات correlations (ويصوغها صياغة رياضية قدر المستطاع) وليس عليه أن يحدد أسبابًا، وأما من وجهة النظر القياسية التي ترى أن العلم يُقدِّم تفسيرًا عميقًا للظواهر السطحية، فالتفسيرات العلمية هي تفسيرات سببية قلبًا وقالبًا، على أننا ينبغي ألا نغفل أن بعض التطورات في الفيزياء الحديثة قد كشفت عن أن الضرورة السببية (وتُسمَّى أحيانًا بالحتمية العِلِّية) لا تنسحب على البنية الصغرى (تحت الذرية) للعالم الفيزيائي، وهي ذلك المستوى من الواقع الذي تضطلع بدراسته ميكانيكا الكوانتم.
٣  لاحظ أن تَعَطُّل أي جزء من المسار العصبي لإحساس الألم سوف يجعل اقتراب الإصبع من اللهب غيرَ متبوعٍ بألم.
٤  هنترميد: «الفلسفة، أنواعها ومشكلاتها» ترجمة: د. فؤاد زكريا، الطبعة الثانية، دار نهضة مصر للطبع والنشر، القاهرة، ١٩٧٥، ص٣٧٦.
٥  Sumner, W. G. “Ethics are Relative”, In James A. Gould (Ed.), Classic Philosophical Questions, second edition, Charles E. Merrill Publishing Company, Howell Company, Columbus, Ohio 43216, pp. 84-85.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤