الباب الأول

في جغرافية بحيث جزيرة العرب وفيه ستة مباحث

المبحث الأول: في آراء القدماء في حقيقة بحيث جزيرة العرب

بلاد العرب واسعة سطحها، ضعف سطح مملكة فرنسا تقريبًا، قدره علماء هذا العصر من أوروبا بمائة وستة وعشرين ألف فرسخ مربع محاطة بالماء في ثلاث جهات، ومتصلة في الجهة الرابعة بإفريقية وآسيا، وحدودها في الشرق والجنوب والغرب الخليج الفارسي وبحر الهند والبحر الأحمر، وفي الشمال الغربي برزخ السويس — كان ذلك قبل فتح القنال — وخط نهايتها من الشمال مبدؤه غزة، ويمر بجنوب بحيرة البحر الميت وبشرق نهر الأردن، ويمتد من دمشق إلى نهر الفرات حتى ينتهي إلى الخليج الفارسي.

ولم يعرف القدماء صفة داخل بلاد العرب، بل لم يكن لليونان والرومان دراية تامة بتقسيمها؛ ولذا اقتصر على عبارات قليلة في بحيث جزيرة العرب المؤرخ «هيرودوطوس Hérodote» اليوناني الذى ساح وجمع فوائد في أخلاق المصريين وأهل أذربيجان وأتى بعده «إيراتستينس Eratosthéne»، و«أغاتارشيد Agatarchide»، و«بليناس pline»، و«أريان Arrien»، و«استرابون Strabon»، و«ديودور السيسيلياني Diodore de sicile»، فدوَّنوا في فوائدها أكثر مما قاله ذلك المؤرخ، لكنهم نسبوا إلى بلاد العرب في غالب عباراتهم ما يُجلب إليها من الهندستان للتجارة.
ويظهر أن «بطليموس Ptolémée» الفالوذي كان أعلم القدماء بحقيقة بلاد العرب، ومع ذلك لم يكن تقسيمه لها إلا اجتهاديًّا؛ ولذا لم يعتمده علماء الجغرافية من العرب، قَسَّمَ بلاد العرب إلى ثلاثة أقطار كبار، الحجاز ونجد واليمن، وجعل الحجاز شاملًا لبحيث الجزيرة التي بين الخليجين المتفرِّعَيْن من البحر الأحمر في نهايته الشمالية وجعل نجدًا ممتدًّا من شرقي هذين الخليجين إلى حدود الشام وجزيرة دجلة والفرات، ومن الجهة الشرقية من مبدأ طول الخليج الفارسي إلى بحر الهند، وجعل اليمن الجزء الجنوبي من بلاد العرب، وعدَّ فيه من الأقوام ستة وخمسين ومن المدن والقرى والمينيات ستًّا وستين ومائة، منها ست مدائن كبيرة، وخمس مدائن ملوكية. ولم تتفق كلمة المؤلفين في تحديد امتداد هذا القسم الثالث؛ فقد بالغ فيه بعضهم بما يخرج عن حد القياس، وحصره آخرون بين الجبال المجاروة للأقيانوس الهندي، وآراء العرب في تقسيم بحيث هذه الجزيرة أحسن، لموافقتها شكل البلاد وجميع ما دُوِّنَ من تواريخ العرب في سائر الأعصر.

وأما حدودها العامة فهي التي أسلفناها، إلا أنها لا تشمل على رأيهم بحيث جزيرة طور سينا ولا صحاري كلدة والشام، كما يُعلم من ترجمة جغرافية الإدريسي.

المبحث الثاني: فيما اختاره العرب في تقسيم بلادهم وفي بحيث جزيرة طور سينا وصحاري الشام وكلدة وغيرهما وبلاد العرب الحقيقية

بحيث جزيرة طور سينا منحصرة بين خليج السويس وخليج أبلة، وتمتد في الشمال إلى البحر الميت، سكن العبريون براريها الرحبة بعد خروجهم من مصر، ثم صارت إقليمًا رومانيًّا يسمى فلسطين الثالثة، وكرسي حكومته مدينة بترة وجبال طور سينا وخور وغريب محال لوقائع وحوادث ذُكرت في التوراة، وصحاري الشام والجزيرة وكلدة المعروفة بصحاري دمشق وحلب وبغداد وبصرى، تمنع سكان آسيا الصغرى وبلاد الفرس من الوصول إلى بحيث جزيرة العرب، وقفارها تزهد فيها الملوك الفاتحين لو لم تَكُنْ طريقًا مختصرًا للمتاجر الآتية من الهندستان إلى أوروبا ومن اليونان وإيطاليا إلى المشرق؛ فإن المسافر من مَصَبِّ نهر الفرات على طريق مستقيم إلى دمشق يصل بسهولة إلى مينيات البحر الأبيض المتوسط بخلافه إذا صعد في هذا النهر إلى جهة جبال أرمينية، فإنه يُجبر على اجتيازها والمرور بطول جميع الأناضول؛ وبذا يتكبد مشاق ومصاريف جسيمة، وهذا هو السبب الأكبر في أن مدينة تدمر المبنية بتلك الصحراء كانت ذات أهمية، لحمايتها القوافل التجارية، ثم خربتها الجيوش الرومانية، فحكم العرب بالتدريج على تلك الطرق التي بين المشرق والمغرب، ولتعوُّدهم على المعيشة البدوية من الحط والترحال ومعرفتهم بقواهم الحربية، صاروا ملوكًا يتصرفون في تلك البقاع بلا منازع، ثم ظهر في تلك الأقطار تدريجيًّا مملكة الحيرة والأنبار وقبيلة النبط وقبائل غسان.

وفي خلف تلك البراري من الجنوب بلاد العرب الحقيقية المنقسمة ثمانية أقاليم:
  • الأول: الحجاز الواقع في الجنوب الشرقي من بحيث جزيرة طور سينا وفي طول ساحل البحر الأحمر.
  • الثاني: اليمن الذي في جنوب الحجاز.
  • الثالث: حضرموت الواقع في ساحل بحر الهند وفي شرق اليمن.
  • الرابع: إقليم مهرة في شرق حضرموت.
  • الخامس: إقليم عمان المتصل في الشمال بالخليج الفارسي، وفي الجنوب والشرق ببحر الهند، وحَدُّهُ من الجنوب الغربي إقليم مهرة.
  • السادس: الحساء المُسمَّى أيضًا بالبحرين لأهمية الجزائر التي تجاوره، ولامتداده بطول الخليج الفارسي من ابتداء إقليم عمان إلى نهر الفرات.
  • السابع: نجد في جنوب صحاري الشام، شاغل جميع الجزء الأوسط من بحيث جزيرة العرب وهو ما بين الحجاز والحساء وإقليم اليمامة، أو العروض الذي كانت به مدينة هجر وغالبه هضاب رملية.
  • الثامن: إقليم الأحقاف بين عُمان والحساء ونجد وحضرموت ومهرة.

وإنا نعرف الآن وصف جميع هذه الأقاليم على السواء، وأما السياحون من الفرنج فخططوا بعض تلك الأقاليم، ولم يجدوا سبيلًا إلى تخطيط البعض الآخر، وعَمِلُوا في أيامنا هذه لبلاد الحجاز واليمن رسومًا خالية عن مواطن كثيرة، وجهلوا في هذا العصر بلاد عسير التي تتصل بهذين الإقليمين، ويعمرها قوم أولوا عزم وإقدام في الحروب.

وإذا كان هذا حال معرفتهم بسواحل البحر الأحمر الذي يسهل الدخول فيه بسبب وضعه الطبيعي، فما بالك بداخل بلاد العرب الذي لم يطلع على جميع طوله إلا إفرنجي واحد مرة وهو الخواجه «سيتزان Seetzen» جابه من الخليج الغربي إلى الخليج الشرقي؛ أي من سواحلها الجنوبية والشرقية التي شرع الإنكليز الآن في رسمها.

المبحث الثالث: في تخطيط الحجاز

وصفه يجذب النفوس؛ لاشتماله على أعظم مدائن العرب، وهما مكة المشرفة والمدينة المنورة. فأما مكة ففيها مولد النبي ، وكانت تُسمى قديمًا مكورابة، وهي منذ قرون تحجها الناس، وتقصدها للسجود في الكعبة وأمام الحجر الأسود كما حجتها الملائكة على ما قيل. وأما المدينة فتُسمى قديمًا يثرب، ولا بد من أن تكون مقارنة لمكة وليس لهاتين المدينتين من الأرض المحيطة بهما ما يكفي سكانهما؛ ولذا استمدت المدينة من ينبع ومكة من جدة، وبخلال أرض الحجاز كثبان رمال وآكام خصبة، وهي مساكن القبائل وحولها قرى وضياع، وفي تلك الآكام قلاع يُلجأ إليها عند هجوم الأعداء، وبمنحدراتها بعض حبوب وثمار وكلأ للمواشي وعيون ماء، وبقرب أحد تلك الآكام مدينة الطائف، وهي بستان مكة، ولفواكهها شهرة، ويلحق بالحجاز أرض تِهامة، وهي البلاد الممتدة من سفح الجبال إلى البحر، وفيها مدينة قنفذة. وعلماء الجغرافيا لا يطلقون تِهامة إلَّا على الساحل لمقابلته بنجد الذي معناه المحل المرتفع، ويقولون تِهامة الحجاز غير تِهامة عسير وتِهامة اليمن الممتدتين من خولان إلى عدن.

المبحث الرابع: في وصف إقليم اليمن

سُمي بذلك ليُمنه وبركته، وهو الجزء الجنوبي من جزيرة العرب، وفي شماله بلاد عسير، وسكانه يُسَمَّوْنَ لدى القدماء بني حمير، خالَطُوا المصريين والإثيوبيين والفرس وجميع الأمم التي تسافر في بحر الهند، فانتظمت حكومتهم منذ أحقاب، ولم يكن لهم اشتغال بالفلاحة والتجارة وزرعوا البُنَّ آخر الزمان، ولم يمهروا في الفلاحة وطريقة ري الأرض، وإلا لزاد البن الذي هو ينبوع غناهم، خصوصًا مع اعتدال ذلك القطر وارتفاع أراضيه ورطوبته المساعِدة على نمو تلك الشجرة، وفيه الآن عدة مدن رفاهيتها من تجارة البن، وهي مخا وجديدة ولدية وعدن، ومن هذا الإقليم مدينة سبا المسماة أيضًا مأرب ومدينة صنعاء المنافسة لمكة عدة قرون في التلقُّب بتخت جزيرة العرب؛ ولذا اتخذها التبابعة ومن خَلَفَهم عليها من عمال الفرس والحبشة دار إقامة، وهي الآن دار إقامة أقوى أمراء اليمن شوكة، وكان ينقل من جزيرة العرب إلى البلاد الأجنبية تِبرٌ ومواد عطرية، وتستمد العرب من جزائر بحر الهند معظم المعادن النفيسة والبهارات الذكية التي يبعثون بها في الخليج الغربي والخليج الفارسي إلى البلاد الأجنبية.

المبحث الخامس: في وصف أقاليم حضرموت ومهرة وعمان والحساء والأحقاف ونجد

إقليم حضرموت — الذي منه مدينتا ظفار وشيبان — متصل باليمن ومشابه له في المزاج والمزايا الطبيعية، ومنه العود القاقلي، وإقليم مهرة أقل منه خصبًا؛ ولذا استمد سكانه وسائل معيشتهم من البلاد الأُخر. والبحر عندهم كثير السمك يقتاتون به هم ومواشيهم، وإقليم عمان تجاه الهندستان وبه قليل من النحاس والأسرب والتمر والبقول؛ ولذا حُرِمَ من المظهر التجاري ولم يُجلَب إليه محصول الهندستان لعدم شيء فيه يصلح للتبادل، وإقليم الحساء شامل لجميع ساحل الخليج الفارسي من ابتداء أرض عمان إلى بصرى، ويبدو للمسافرين في البحر كآبة وخراب سواحله، حتى يجيء فصل غوص البحر لإخراج اللؤلؤ، فيتغير منظره ويصير مركز تجارة لوفود الناس إلى سواحل البحر؛ ليعاملوا سكان السواحل وجزائر البحرين، وينزل إذ ذاك أفواج من ذوي الحاجات والهرج وقلة النظام في بلاد القطيف والحساء والقطا وجريب، ثم يذهبون بعد ذلك الفصل بمتاجرهم إلى أسواق الهندستان وبلاد الفرس، فيصبح إقليم الحساء بلقعًا رحبًا.

وإلى هنا تم الكلام على الأقاليم الستة البحرية من بحيث جزيرة العرب، وهي الحجاز واليمن وحضرموت مهرة وعمان والحساء، وبقي إقليمان ممتدان في داخلها، وهما:

إقليم الأحقاف: وهو إيالة مقفرة يلحق به في بعض الكتب أرض اليمامة، وحاله مجهول عند الفرنج.

وإقليم نجد: وفيه كثير من الواحات ومراعٍ نفيسه، وخيلُه وجِمَالُه مشهورة بالقوة، ولم يصفه أحد من السلف وصفًا تامًّا.

المبحث السادس: في وصف المنظر العام لبحيث جزيرة العرب وريح السَّموم ورمال الصحراء والندى والأمطار الدورية ومعيشة العرب البدوية

يُعلم من التقسيم السابق أن بحيث جزيرة العرب كوادٍ مثلث الشكل، زاوية رأسه تنتهي بجبل طور سينا بين نهرَيِ اللاذقية والفرات، وله ثلاثة أضلاع؛ أحدها: سلسلة جبال تمتد وسط الشام وفلسطين، وهي المسماة جبل لبنان، ثم ترجع إلى داخل بحيث جزيرة العرب، فتمتد على ساحل البحر الأحمر إلى بوغاز باب المندب. وثانيها: سلسلة أخرى توازي مجرى نهر الفرات والخليج الفارسي، وتنتهي إلى بوغاز هرمز. وثالثها: ممتد بين البوغازين، ويتم بخط من أراضٍ مرتفعة. وأما داخل ذلك الوادي فسهل في غاية الانخفاض، حَرُّهُ أشد ضررًا من حر السواحل لمقاومة حرها بالأمطار بخلافه، وجَوُّهُ مملوء في الغالب بالأبخرة والعفونات المتصاعِدَة من البحر الميت «بحيرة أسفلتيت»، ومن بحيرات أخرى ملحة، وتهب فيه ريح السَّمُوم التي تعرفها العرب برائحة كبريتية تفوح منها فتتلف النبات الذي لم يتم يبسه بأشعة الشمس، وتخنق الإنسان وسائر أنواع الحيوان عند عدم الاحتراس منها، وتغطي جثث الموتى بالرمال، ولا وجود لها قرب سواحل الأقيانوس الهندي، لا سيما في اليمن؛ فإن الهواء هناك نقي دائمًا وفصل الحرارة غير فصل الأمطار، التي إن عدمت خلَّفَها ندى غزير. والأرض مرتفعة تدريجيًّا من ابتداء شواطئ البحر، وبحسب تفاوت الارتفاع يتنوع مزاج الحر ويسهل ري المزارع، وأشعة الشمس التي تسقط في الصيف عامودية تتلطف بعوارض كثيرة أرضية.

وهذه الفوائد الطبيعية قاضية بأن يتوطن سكان بحيث جزيرة العرب هذه السواحل اليمانية دون غيرها، لكن معيشتهم البدوية لما فيها من المحاسن جذبت قلوبهم إلى هذه الصحراء ذات الرمال المُحرقة التي لا تُنبت ذُرَةً شامية ولا أرزًا ولا بُرًّا، وبها مراع ونخيل سريعة النفاد وصهاريج وآبار يغيض ماؤها كل وقت. قال المؤلف «هردر Herder»:

إن بحيث جزيرة العرب التي هي من أشهر الإيالات على الكرة الأرضية يتراءى منها أنها مُعدة بالفطرة الإلهية لأن تُكسِب أقوامها طبعًا مخصوصًا؛ فإن صحراءها الكبرى — المشابهة لبلاد التتار الجنوبية والممتدة من حلب إلى نهر الفرات، ومن مصر إلى الشام — تُبدي كثيرًا من الفَلَوَات الواسعة والقفار الرحبة لأقوام البدو والرعاة الرحالة النزالة. ولم تزل من منذ أقدم الأحقاب يسكنها عرب دأبهم الحط والترحال. وإذا تأملت في عيشة هذه الأمة التي ترى كل مدينة سجنًا، وفي تكبُّرِها المؤسَّس على أقدمية أصلها وعلى عظمة إلهها وسعة لغتها وأشعارها وخفة خيلها، وعلى بارق شواكيها وسمهري رماحها التي تعتقد أنها متوارثة لديها، وأنها كالأمانة المقدسة عندها؛ قلت إن جميع هذه الأشياء قد أعدتها قديمًا لأنْ تظهر بالمظهر العظيم في ثلاثة أقسام من الدنيا ظهورًا مغايرًا لظهور التتار من شمال آسيا. انتهى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤