الباب الثالث

في القرآن

هو كتاب مجيد واجب التعظيم لا يَمَسُّهُ إلا المطهرون، أبان ما لله على عباده وما لهم عليه من الحقوق، ضرب فيه من كل مثل وما فرَّط فيه من شيء، جمع فأوعى فضائل ورذائل وحقائق وطاعات ومعاصي، نزل على رسول الله مُنَجَّمًا حسب الوقائع، فكان رابطة بين قبائل العرب مؤسسًا للوحدة الدينية، سوره أربع عشرة ومائة تختلف طولًا وقصرًا ولا تتجاوز السور الأربعون الأخيرة خمسين آية، ولا تنقص عن ثلاث، وهو مكي إلا ثمان عشرة سورة فمدنية، وأقدم المصاحف مكتوب بالخط الكوفي على رق غزال، وأما المكتوبة بالخط النسخ فلا يتجاوز تاريخها القرن الثالث من الهجرة.

دين الإسلام

جاء جبريل في زي أعرابي، فقال للنبي: علام بُنِي الإسلام؟ فقال: : بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلًا. فقال جبريل: لقد صدقت إنه لهو كذلك. وكان جبريل ينزل إلى النبي بأمر ربه، فإذا نزل غشي عليه وتحدَّر منه العرق، وكانت الصحابة يمتثلون أمره ويجتنبون نهيه ويُعظِّمونه ويُوقِّرُونه حتى تُوُفِّي وبويع بالخلافة أبو بكر الصديق — رضي الله عنه — فصعد المنبر وقال: أيها المسلمون من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌّ لا يموت، واذكروا قوله تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ، وقوله تعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ، وقوله تعالى: قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا، وقوله تعالى: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ الآية.

ونزل القرآن منجمًا على حسب مقتضيات الأحوال كما سلف، فما نزل ردًّا لقول الكفار: لَسْتَ مُرْسَلًا قوله تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ إلى وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ. ونزل ردًّا لقول النصارى إن عيسى ابن الله، قوله تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا إلى ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ. ونزل في أنصاري له ابنان أراد إكراههما على الإسلام قوله تعالى: لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ إلى وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. ونزل في اليهود والنصارى والصابئين قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ إلى وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ.

ذكر الله والملائكة والأنبياء في القرآن

نزل قوله تعالى: يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ … إلخ؛ إشارة إلى طريق علم الرسول ما أوعدهم به من قيام الساعة أو إهلاك الله إياهم الدال عليه قولُه تعالى: أَتَى أَمْرُ اللهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ. ونزل في توسط الملائكة بين الله وأنبيائه في تبليغ الرسالات قوله تعالى: الْحَمْدُ للهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا إلى عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. ومن أفضل الملائكة جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل، ومن مواضع ذكر الجن قوله تعالى: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ إلى وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا، وهم مثل الأنس يُحاسَبُون يوم القيامة. وورد في حق إبليس قوله تعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ إلى قوله: فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ، وقوله تعالى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ، وقوله تعالى: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، وقوله تعالى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ إلى بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا.

ومن الإخبار بالغيب في القرآن قوله تعالى: غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ إلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، ونزل في الإسراء: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا إلى إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ.

ذكر الثواب والعقاب في الدار الآخرة

قال تعالى في ذلك اليوم: لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ إلى قوله: إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ، وقد أعد الله من الملائكة منكرًا ونكيرًا للسؤال، وجبريل لوزن الأعمال بميزان عرضه السموات والأرض، يؤخذ للمظلوم من حسنات الظالم إن كانت له حسنات وإلا ضُمَّ إليه من سيئات المظلوم؛ فيُثاب العبد أو يعاقب على حسب رجحان حسناته أو سيئاته، ويساق المجرمون على الصراط وهو أرق من الشعرة وأحدُّ من السيف، فيُنبَذون في النار والمؤمنون الناجون يجوزونه مختلفين في السرعة على اختلاف مراتبهم، وأسرعهم من يجوزه في أقرب من لمح البصر، وفي ذلك قوله تعالى: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ إلى قوله: عُرُبًا أَتْرَابًا * لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ، والثواب والعقاب يعم الذكر والأنثى لقوله تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، ولقوله تعالى خطابًا للنبي حين طالبته أزواجه بما ليس عنده من زينة الدنيا: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا.

الوضوء والصلاة والصوم والزكاة

الصلاة من أركان الإسلام الخمسة، وأركانها وشروطها كالوضوء وغيره مقررة في الفقه، ونزل في وجوب المحافظة عليها قوله تعالى: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا للهِ قَانِتِينَ، وقوله تعالى: فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ إلى قوله: إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا، وقوله تعالى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى.

ويؤذَّن للصلاة خمس مرات في اليوم على مكان مرتفع أو مئذنة، وكان أول إنشائها فوق المساجد زمن الوليد، وفرضت صلاة الجمعة في هذا اليوم بنص قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ وليس المأمور به مجرد الأعمال الظاهرة، بل هي مع موافقة الباطن؛ لها لقوله تعالى: وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ إلى قوله: لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ، وقوله تعالى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ إلى قوله: وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ، والصوم من تلك الأركان وزمنه شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن إلى سماء الدنيا لقوله تعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ إلى وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.

والزكاة واجبة على الحر، وهي ما يخرج من نفس أو مال بشرائط معلومة، ويجب أن لا تُتبع بأذى لقوله تعالى: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ، وفيها ورد قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ إلى وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ، وقوله تعالى: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ إلى وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ، ونزل في مؤديها رياءً قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ إلى وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ.

الآداب المأمور بها في القرآن

منها في الوالدين ما في آية: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (نسخت بآية الميراث وحديث لا وصية لوارث)، وآية: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إلى وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ.

ونزل في أداء الشهادة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ إلى فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا، وفي حق مال اليتيم آية: وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ إلى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، وفي إقامة الوزن بالقسط آية: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ إلى أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ، وفي النفاق: الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ إلى وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ، وفي الاستغفار: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَحِيمًا.

وما فرط القرآن من شيء من تلك الآداب التي قوامها الحكمة وأُسُّهَا العدل والإحسان، وغايتها قصد سبيل الحق، والصد عن محجة الضلالة، والخروج من ظلمات الرذائل إلى أنوار الفضائل، والتطهر من شوائب النقص، والتحلي بزينة الكمال.

وما قصدنا بإيراد ما سلف إلا أن يكون لهذه الشريعة دليل على تقدس غايتها وحرمة مذهبها ورفعة حكمتها وموافقتها لما أُنْزِلَ من قبلُ على الرسل الكرام، فبذلك يهتدي البصير إلى فضل القرآن المجيد؛ إذ جمع فأوعى ما أَوتِيه النبيون قبلُ من البينات.

إقامة الحجة على من رَمَوْا دين الإسلام بالوحشية وسرد شواهد على كرم أخلاق النبي وسخائه ومضاء عزيمته وثبات جَنانه وزهده وشظف عَيْشه

مما يدل على عمى بصائر هؤلاء وصمم آذانهم عن الحق وزلل أقدامهم عن سبيل الصدق والرشد: ما في القرآن الكريم من الآيات الناسخة لما أَلِفَتْهُ العرب من القبائح؛ كالأخذ بالثأر والتظاهر بالعدوان مثل ما كان ولا يزال شائعًا في أوروبا من التبارز والتفاخر، وكقتل البنات درءًا للعار أو حذرًا من الفقر؛ فمما يدل على نسخ الأول قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ إلى وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ، وقوله تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إلى آخر سورة النحل. وعلى نسخ الثاني قوله تعالى: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ، وقوله تعالى: وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا.

وأما أخلاقه وأفعاله فكانت غاية في الكمال، منها عفوه عن ألدِّ أعدائه بعد فتح مكة، وحلمه في الأخذ بحقوق الحرب من القبائل، وأسفه على قضائه على بعض، وعدم استعانته بما له من عظيم السطوة والسلطة على إجابة داعي القسوة؛ ولذا كان يحاول بالحث العود بمن خرج عن الحد من أصحابه إلى حدود الاعتدال، ومنها إباؤه إشارة عمر عليه بقتل الأسرى بعد واقعة بدر وصفحه عمَّن قتل عمه حمزة، وقوله: اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد. حين أخذ بثأر قريبه من بني جذيمة.

ومما يدل على جراءته قتاله بعزم وقوة في غزوة بدر بعد أن شُجَّ وجهه وكُسِرَتْ رباعيته، وخوضه عباب الحرب قبل الصحابة في واقعة حُنَيْنٍ، وحضه لهم على القتال حتى كانت الغلبة لهم.

وأما زهده فلا يختلف فيه اثنان؛ فإنه لم يتحول عن شظف العيش مع ما طالت يده من الأموال والخيرات، رأى الملوك ولم يتَّخذ أبهتهم مع ما بلغ من السلطان الذي لا يبارى والشوكة التي لا ترام، وكان نافذ الأمر والنهي بشوشًا حسن المعاملة مع الرفيع والوضيع حليمًا، لا سيما عند السؤال.

مناسك الحج التي قام بها النبي في حجة سنة ٦٣٢ تشريفًا لأمته

سافر من المدينة في الخامس والعشرين من ذي القعدة سنة هجرية الموافق للثالث والعشرين من فبراير سنة ٦٣٢، معه تسعون أو مائة وأربعة عشر ألفًا من المؤمنين، ونساؤه في الهوادج ومعه الهدي حتى بات في ذي الحليفة وأحرم واقتدى به المسلمون ولَبَّوْا معه، ثم سار متزرًا مرتديًا حتى بلغ مكة صبيحة رابع ذي الحجة الموافق ثالث مارس؛ فطاف بالبيت سبعًا رمل في ثلاثٍ منها وصلى عند مقام الخليل، ثم ختم يومه بالسعي بين الصفا والمروة، وأمر من لم يكُن معه هدي بالحل، وأقبل علي — رضي الله عنه — من اليمن معه الهدي فبقي على إحرامه، ثم سافر بقومه في ثامن ذي الحجة الموافق سابع مارس إلى منى، فأقام بها في خيام ضُرِبَتْ له حتى طلعت شمس الغد، فامتطى ناقته القصواء وسار حتى بلغ عرفات فخطب الناس وهو على متن راحلته، ثم ترجل وصلى الظهر والعصر، ونزل عليه في هذا اليوم وهو على الجبل قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا، ثم مضى حين غربت الشمس إلى المزدلفة فبات فيها حتى طلع فجر عاشر ذي الحجة الموافق تاسع مارس فصلى الفجر ثم وقف بالمشعر الحرام ثم جاوز بطن المحسر مسرعًا، ثم أتى منى بعد رمي الجمرات فنحر هديه وكذا علي — رضي الله عنه — ثم حلق فأخذ الصحابة يلتقطون ما تساقط من شعره، ثم عاد إلى مكة وطاف بالبيت وصلى الظهر. وتسمى هذه الحجة بحجة البلاغ وحجة الإسلام وحجة الوداع؛ لما فيها من تبليغ المناسك للمسلمين وحصولها بعد عزة الإسلام وشيوعه، وتوديع النبي فيها المسلمين ومكة؛ لأنها آخر حَجاته، وما زال المسلمون يقتدون به في ذلك فيهرعون كل سنة إلى مكة ويؤدون مناسك الحج حسب الشروط والآداب المعلومة من الشرع الشريف.

في أن ما كتب من الفرائض لا يخلو عن حكمة

منها الوضوء؛ فإن أصول تدبير الصحة تستدعيه، وفيه فوائد لا يحيط بها إلا ذو دراية بقانون الصحة، وهو فرض بنص قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ إلى لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.

في حكمة تحريم بعض المحرمات

كالخمر فإن تحريمها لضررها، أما البدني فلأنها ترعى الأحشاء وتنخر العظم وتفتت الكبد وتحرق الجوف، وأما المالي فلأن من البَيِّنِ أن المُنْكَبَّ عليها لا ينتهي عنها ولو أصبح خالي الوطاب لا يملك مضغة، فإذا يموت أهله وبنوه في مسغبة لو أن لهم ما أنفقه في سبيل الهوى ليلة لكفاهم شهرًا، وكذلك الميسر فإنه لا ينقص عن الخمر في الضرر المالي، وهما مُحَرَّمَان بنص قوله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ الآية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤