الباب الثالث

في فتح مصر وفارس وإفريقية وما وراء نهر جيحون من سنة ٦٣٨ إلى سنة ٦٨٠ ميلادية الموافقة ١٧ إلى سنة ٦١ هجرية، وفيه ثمانية مباحث

المبحث الأول: في فتح مصر وحالها حين ملكها ابن العاص

كان في القسطنطينية وكل إقليم تابع لها أحزاب من الروم ذوو ديانات مختلفة أبدت ضغائن بينهم، إلا أن من في القسطنطينية كانوا يسترون مقاصدهم الباطنية بمناظرات في العلم اللاهوتي، بخلاف من في تلك الأقاليم؛ فإنهم كانوا يتحولون من النزاع في العقائد الدينية إلى مسألة اختلاف جنسية أممهم الموجب لإشهار السلاح بينهم، كما شوهد ذلك في مصر؛ فإن فيها إذ ذاك أناسًا من الأروام متغلبين عليها متدينين بمذهب الرومانيين وآخرين من ذرية الأمة المالكة لمصر في عهد البطالسة متدينين بمذهب «أوتوقيس Entychès» من اعتقاد أن عيسى إله تجسد، وليس بشرًا. انضم إلى هذا الحزب يعقوب البرادعي أسقف مدينة إيدسة التي محلها الآن يافا، فأغراهم على إشهار السلاح على الحزب السالف، فاتَّبَعُوه ثم مات سنة ثمان وسبعين وخمسمائة بعد الميلاد فارتاح منه المصريون الذين رَضُوا رياسة المقوقس عليهم لما له من المهارة والحيل وولايته مصر زمن إغارة أنوشروان عليها، فأخذ يجبي الخراج لنفسه من غير أن يبعث منه شيئًا إلى ملوك القسطنطينية ولا إلى ملوك المدائن، فكثر ماله وغمر أبناء وطنه بالعطاء، فازداد نفوذ كلمته عليهم، وأتى إليه من النبي سفير فبعث هدايا قبلها ؛ ولذا كان حليفًا نافعًا للمسلمين.

وقد أسلفنا أن ابن الخطاب — رضي الله عنه — رجع بعد فتح المقدس بعمرو بن العاص ليوجهه إلى مصر؛ لما له من العزم والحزم والشجاعة في فتح الشام ووقائع الإسلام الأولية، ثم أذن له في التوجُّه إلى الديار المصرية، فسافر من غَزَّةَ بأربعة آلاف مقاتل بلغوا مدينة بيلوزة قرب الطينة بناحية دمياط، وهزم المصريين في مدخل برزخ السويس، وسار فعسكر أمام مدينة فامية مفتاح إقليم الوجه البحري من مصر، وأخذها بعد شهر سنة ثمانِ عشرة من الهجرة، فكان له سلوك طريق الساحل الموصلة إلى جميع المدن حتى إسكندرية، إلا أنه توجه في الصحراء الممتدة من النيل إلى السويس حتى بلغ قصر الشمع، فلبِث يعاني فتحه سبعة أشهر لم يحصل فيها على طائل لاتفاق الروم والقبط المحاربين بها تحت قيادة المقوقس، الذي غَرَّهُم بعد وجبرهم على ترك القلعة على أن يعترفوا بحكم المسلمين عليهم ويدفعوا لهم في كل سنة دينارين ويبقى على دِينِه من أراد منهم، ثم دخل ابن العاص القصر سنة عشرين واتخذه تخت حكومته.

المبحث الثاني: في فتح الإسكندرية

لما دخل ابن العاص القصر تشتَّت الروم ثم اجتمعوا في كوم شريك، فسار إليهم وهزمهم واقتفى أثرهم حتى اجتمعوا بالإسكندرية، فحاصرها حتى ملكها ٢١ دسمبر سنة ٦٤١ ميلادية الموافقة ٢١ هجرية، بعد أربعة عشر شهرًا من حصارها، وفر حزب من الروم إلى السفن وبقي داخل المدينة حزب آخر أرادوا الفتك بالمسلمين؛ فأخرجهم ابن العاص وتَبِعُهم حتى شتت شملهم وعاد إلى الإسكندرية، فوجد مَن فَرُّوا إلى السفن عادوا إليها، وقتلوا محافظًا عليها من رؤساء المسلمين، فأخرجهم وتردَّدَ في أن يغنم ما في الإسكندرية ويهدمها أولًا، وكتب بذلك كتابًا إلى ابن الخطاب — رضي الله عنه — فلامه على ذلك فوضع الجزية والخراج، ورتب لتحصيل ذلك رجالًا من القبط لمعرفتهم درجات الناس ولغتهم، فتحصلت أموال كثيرة صرف معظمها في مصالح الديار المصرية، كتجديد بحر القلزم العتيق الذي كان يصل النيل بالبحر الأحمر، وهَمَّ بحفر برزخ السويس ليصل بحر دمياط بالبحر الأحمر، فمنعه ابن الخطاب لئلا يفتح للروم طريقًا إلى مكة والمدينة، وبنى الفسطاط بدل منف التي انهدمت. وكان المصريون يضطربون إذا لم يبلغ النيل الارتفاع المعلوم زمن الفيضان فنقص ابن العاص أذرع المقياس.

ونقل عن بعض المؤرخين أن ابن العاص شاور ابن الخطاب — رضي الله عنه — فيما يفعل بكتبخانة سرابيون الشهيرة التي بالإسكندرية، فأمره بإحراقها قائلًا إن كانت مخالفة للقرآن فمضرة أو موافقة فغير نافعة. وهو بعيد عن الصدق؛ فإنه فعل وحشي لا يصدر حال الهدوء والسكون. على أن دعوى عدم نفعها إذا كانت موافقة ضعيفة أو باطلة لا يصح نسبتها إلى هذا الخليفة المشهود له بوفور العقل لدى سائر الأمة؛ ولذا لم يذكرها أحد من المؤرخين المعاصرين له — رضي الله عنه — ولو فرض صدور أمره بإحراقها فما كان إلا لمقدار قليل؛ فإن معظمها أُحْرِقَ في عهد الملك تيودوس سنة ثلاثين وتسعمائة بعد الميلاد.

وأتلف ابن العاص سور الإسكندرية عند قيام سكانها على المسلمين؛ فإن عثمان بن عفان — رضي الله عنه — عزله عن مصر حين ولي الخلافة، فعز ذلك على المصريين لحسن تدبيره، ثم هجم الروم على الإسكندرية وأخذوها؛ فخاف القبط أن ينتقم الروم منهم على ما كان من جبنهم وخيانتهم، فبعثوا إلى عثمان — رضي الله عنه — سفراء يرجونه إعادة ابن العاص إلى ولاية الديار المصرية، فعاد وحاصر الإسكندرية، وأُرِيقَتْ دماء كثيرين من المسلمين حال هجومهم على السور، فحلف ليهدمنه، فهدمه وبنى الموضع الذي أوقف فيه عساكره جامعًا سماه جامع الرحمة.

المبحث الثالث: في غزو المسلمين بلاد النوبة وبلاد برقة وسائر فتوحاتهم الواصلة إلى صوفيطولة المعروفة بصفطورة

لما فتح ابن العاص مصر وجَّه سنة ٦٤٣ ميلادية، الموافقة سنة ثلاثٍ وعشرين جيشًا ملك بلاد النوبة وضرب عليها جزية، ثم سار ابن العاص بجيش ملك به «سيرينة Cyrênaïqu» وسائر الإيالة حتى برقة، ثم رجع إلى مصر ليستعد لفتح شمال إفريقية، فعزله عثمان بن عفان — رضي الله عنه — بعبد الله بن سعد الذي فتح فتوحات شمال إفريقية سنة أربع وعشرين، وحاصر سنة سبع وعشرين طرابلس فقابس، ثم رفع عنهما الحصار لفتور همة من معه بالتفاتهم إلى المغانم بعد أن كان القصد توسِعة الدائرة الإسلامية، لكن ابن سعد أمر بعد ذلك الزبير فسار بجيش قابله البطريق «غريغوار Grégoire» حاكم جميع الأقاليم الرومية التي في غرب إفريقية بمائة وعشرين ألفًا من البربر والروم قرب مدينة يعقوبة، فهزمه الزبير بعد أيام وقتله وسبى ابنته وأغار على إقليم بيزاسنة — المسمى الآن بلاد النخل أو الجريد — وعلى البلاد التي كانت تحت يد القنصل الروماني وتحتها مدينة قرطاجنة، وعلى إقليم «نوميدية Numidie» (المسمى الآن إقليم قسطنطينة)، وعلى موريتانية القيصرية وموريتانية السيتفية اللتين من جملتهما إقليمَا مدينة الجزائر ومدينة تِلِمْسَانَ، ثم أغار على الجزء الذي لم يَكُنْ تحت أيدي «ويزيغوط Wisigoths» إسبانيا من إقليم موريتانية الطنجية (المعروف الآن ببلاد مراكش وفاس وطنجة)، وأغار على مدينة صوفيطولة (المعروفة بصطفورة)، وانقاد له جميع بلاد طرابلس، ولم تبقَ مدينة من ابتداء صحراء برقة إلى بوغاز جبل طارق إلا أسلمت لأمر الزبير، وأدت إليه الجزية التي كانت تدفعها لقيصر الروم، وقد فرق من الغنيمة على كل فارس ثلاثة آلاف دينار وعلى كل راجل ألف دينار، فبعثه ابن سعد ليبشر أمير المؤمنين عثمان بن عفان بالنصر، فأصعده منبر رسول الله ليقص ذلك على الناس، ثم أخذ ابن سعد من روم قرطاجنة وغيرها مليونين وخمسمائة ألف دينار جزية، وعاد بجيوشه إلى مصر، فتعجب سلطان القسطنطينية من دفع الروم هذا المقدار، وادَّعى أن نوابه بتلك البلاد خانوه، فطلب منهم خراجًا أكثر مما أخذه منهم أولًا. ثم طلب الإمبراطور «قونستانت Constant» الثاني من حاكم ذلك الإقليم الإفريقي مثل ما أخذه ابن سعد، فأبى والتجأ إلى معاوية وقد آلت إليه الخلافة، فحرضه على فتح هذا الإقليم وأراه ضعف الروم وخصوبة الإقليم.

وكانت الجزية التي أخذها ابن الزبير من سكان هذه البلاد في مقابَلة حمايتهم من غارات البربر المستقلين بحكم أنفسهم؛ فإنهم كانوا ينزلون على حين غفلة من جبل أوراسيوس (المعروف الآن بجبل أوراس)، فينقضُّون على المدائن الحصينة، فيذبحون الجنود المنعزلة عن الجموع وينهبون المواشي ومحصول الأراضي، ثم يعودون إلى جبالهم التي لم تَقْدِرْ قواد عساكر الروم على اقتفاء أثرهم فيها، بل حاولوا منع تلك الغارات الدورية فلم يُجْدِ ذلك شيئًا، فأخذوا يسالمونهم، وعقدوا مبايعة معهم حتى انقادوا لابن الزبير بعد تلك النصرة التي أبدى فيها من الشجاعة ما أخذ بألباب جميع الناس.

المبحث الرابع: في الإغارة الثانية للمسلمين على شمال إفريقية ومآثر معاوية بن حديج وعقبة بن نافع

لما أظهر حاكم إفريقية ما سبق إلى الخليفة معاوية بن أبي سفيان، وجَّهَ — رضي الله عنه — سنة خمس وأربعين معاويةَ بن حديج والي الديار المصرية بجيش فتح إقليم بيزاسينة وجميع سواحل البحر الأبيض، ثم عدة مدائن منها جلولاء التي فرق من غنيمتها على كل مجاهد ثلاثمائة دينار، فولى الخليفة على ما فتح من أقاليم إفريقية لتدبير أمورها الداخلية وتوسِعَة دائرة الفتح عقبة بن نافع؛ لما له من الشجاعة المخبورة وسلامة الطوية والكرم وشرف النفس، فتوجه وأخذ يجاهد بجنوده شمال إفريقية حتى بلغ المحيط الأطلنطي، فقال: اللهم رب محمد لولا أن أمواج هذا البحر تعوقني لذهبت لأنشر مجد اسمك العظيم في أقصى حدود الدنيا. وبنى قرب مدينة قرطاجنة مدينة سماها القيروان، فخلفت قرطاجنة المعاصرة لرومية المدائن، وصارت كرسي إفريقية. ثم عمل بإفريقية غزوات سريعة التقدم منها غزوة بعيدة عاد منها متخلفًا عن جيشه في أكابر رجاله، فانقض عليه البربر كالجراد فقاتلهم بأصحابه حتى استشهدوا، فسار البربر إلى القيروان وطردوا منها المسلمين، فتقهقروا إلى مدينة برقة سنة ٦٨١ ميلادية الموافقة سنة اثنتين وستين هجرية.

المبحث الخامس: في أخبار الفرس وفتح بلادهم

انتشر الإسلام بمشارق الأرض حين انتشاره بمغاربها؛ فإنه لم يتجاوز سنة ثلاث عشرة شواطئ الفرات، فما أتى بعد ذلك أربعون سنة حتى ظهر في شرق الفرات وبلغ نهري جيحون والسند.

وأول إقليم طمحت إليه أنظار العرب إقليم كندة؛ لاشتماله على مدخرات الملوك السلجوقية والفارسية ونضارته بالمياه والسهول الخصبة والبساتين النضرة، لكنهم لو ملكوا هذا الإقليم وسلكوه إلى جهة نهر السند، ورأوا ما فيه من الجبال المقفرة والرمال المجدبة والمساكن المتباعدة لزالت رغبتهم فيه.

وبعث خالد وهو بالعراق إلى المدائن تخت مملكة الفرس كتابًا بتهديدهم، فأمره أبو بكر بحصار دومة الجندل ثم بمسيره إلى الشام، فأبقى بالعراق المُثَنَّى بن حارثة في جمع قليل لا يقدر على حفظ ما فتحه خالد من البلاد المشرقية المأخوذة من الفرس، فطلب من المدينة حين وفاة أبي بكر مددًا يحفظ ذلك، وإن كان بمملكة الفرس عقب جلوس ابنتي كسرى أبرويز اضطراب يمنعهم استنقاذ ذلك من المسلمين.

ثم قلد عمر بن الخطاب أبا عبيدة قيادة الجيش ووجهه إلى الفرس ومعه المثنى بن حارثة دليلًا، فانتصر على الفرس في وقعات نيماريك وسقاطية وقسياطة، فبعث رستم نائب بنت كسرى جيشًا قاتل أبا عبيدة في قس الناطف وهزمه، ورأى رستم قلة نفوذ كلمته فأشرك معه في الكلمة فيروزان، فوقع بينهما فشل انتهز به المثنى نصرته على الفرس في واقعة مهران قرب الموضع الذي بنيت فيه الكوفة بعد، وجال في بلاد الحيرة وعبر الفرات وجزيرة دجلة والفرات، وهزم أمام تكريت نمير وتغلب المعاهدتين للفرس فولَّى رستم وفيروزان يزدجر الثالث بن شهريار بن أبرويز السلطنة، فزال التحزب وتفرق الكلمة بوحدتها التي أخرجت المثنى من العراق إلى الصحراء، ثم مات أبو عبيدة — رضي الله عنه — في قس الناطف لجراح أصابته، ونجا من بقي من العسكر لفتن بين أكابر دولة فارس ولولاها ما نجا منهم أحد.

المبحث السادس: في واقعة القادسية

تولى يزدجر الثالث السلطنة سنة اثنتين وثلاثين وستمائة ميلادية في سادس عشر حزيران المعتبر مبدأً لتاريخ الفرس، وأراد الانتقام من الأمة العربية، فبعث سنة أربع وثلاثين وستمائة الموافقة سنة ثلاث عشرة هجرية رستمًا بمائة وعشرين ألفًا قاتلوا بقرب القادسية سعد بن أبي وقاص متولِّي الجنود من قبل ابن الخطاب، فكان بين الفريقين ثلاث وقائع: واحدة في يوم أرماث لم ينصر فيها أحد، وأخرى في يوم أغواث انتصر فيها العرب، وثالثة في يوم عماس قُتِلَ فيها رستم وانهزمت الفرس وغنمهم المسلمون، فجعل ابن أبي وقاص خمس الغنيمة لبيت المال، وأعطى من الباقي ستة آلاف درهم للفارس وألفين للراجل فرأى ابن الخطاب توزيع الخمس على الجنود، ونفل القراء في العطاء على حسب درجاتهم.

المبحث السابع: في إنشاء العرب الكوفة والبصرة وأخذهم المدائن تخت مملكة الفرس وواقعتي جلولاء ونهاوند وهرب يزدجر ومقاومة هرمزان للعرب

أخذ سعد بن أبي وقاص الحيرة فأنشأ المسلمون بعد سنة الكوفة على ثلاثة أميال من الحيرة في الجنوب الشرقي، فصارت مركز الحكومة وأخذ إذ ذاك عتبة بن غزوان مدينة أبلة قرب الخليج الفارسي، فاختط البصرة على أربعة فراسخ منها، فكانت مركزًا لمتاجر الهند وآسيا الشرقية، وأخذ ابن أبي وقاص أيضًا ساباط ونهرشير وكذا المدائن سنة ٦٣٧ ميلادية، الموافقة سنة ست عشرة هجرية، فبعث إلى ابن الخطاب تاج كسرى الأكبر وعلم دولته.

وقد فَرَّ يزدجر من المدائن إلى حلون عقب واقعة القادسية، وجمع جيشًا هزمه المسلمون في واقعة جلولاء مجتمع دجلة والفرات، ففر إلى مدينة اصطخر، وأخذ ابن أبي وقاص بلاد بابل المعروفة بالعراق العربي، ثم سار إلى إقليم كردستان بشاطئ الدجلة، فأخذ تكريت والموصل ثم حلوان، فحاربه يزدجر بجهة نهاوند فأثخنهم المسلمون قتلًا، ثم ساروا إلى العراق العجمي وأذربيجان الواقعين بالساحل الجنوبي الشرقي من بحر جرجان المسمى بحيرة الخزر فأخذوا أصفهان فهمدان فقزوين فتوريز، وساروا إلى بلاد خيروان وإقليم أرمينية، فمنعهم بأرمينية الرومانية نصارى هاجروا إليها من الشام وبشمال أذربيجان خزر أزالوا تحصينات بإقليم كوكار، وخربوا إقليمي جرجستان وأرمينية الفارسية، فرجع العرب إلى ناحية كردستان وعبروا دجلة من تجاه الموصل وذهبوا لمساعدة جيش الشام، وفتحوا إقليمي خوزستان وفارسيستان، وأخذوا الأهواز ومدينتي شتر وجنديسابور، وطردوا يزدجر من مدينة جهل منار فهرب بعد مناوشات إلى مرو بخراسان، ونقل إليه النار التي كان يعبدها.

واستعد المرزبان هرمزان لقتال العرب في إقليم سوزيانة الذي فرق في حصونه عساكره، وقاتلهم زمنًا طويلًا حتى بلغه الجهد فسلم نفسه إلى المسلمين، فبعثوه إلى ابن الخطاب — رضي الله عنه — فتعجب منه حين رآه مضطجعًا مع الفقراء على درج المسجد الكبير على ما له من شوكة المُلك والخلافة، فاشتكى الظمأ لينال العفو على عادة العرب من عفوهم عمَّن شرب مياههم، ففهم عمر ما أراد وحلف أن لا يقتل إلا إذا شرب الماء، فكسر المرزبان قدح الماء فعفا عنه وأسلم، ووقعت مملكة الفرس في قبضة الخليفة.

المبحث الثامن: في أخذ العرب إقليمي كرمان ومكران وخراسان وزوال سلطنة الفرس وانقطاع فتوحات العرب في آخر القرن السابع من الميلاد الموافق لسنة ثمانين هجرية

توجهت الجنود الإسلامية قبل فتح شمال مملكة الفرس إلى إقليمي كرمان ومكران اللتين على ساحل بحر الهند، وصدوا نجدة من الهنود إلى خلف نهر السند، ثم توجهوا إلى الري الموصِّل إلى أقاليم هراة ومازندران ومرجيان بشمال خراسان وبلخ وإقليم باروباميزوس وإقليم أراخوسيا (هو الآن بلاد كوكر)، ثم ساروا إلى سجستان، فقاتلهم بها يزدجر بجنوده، وأمدَّه «تايي تسنغ Taï-Tsong» سلطان بلاد الصين والتتار إلى بحر جرجان بخمسين ألفًا غضبوا من يزدجر لفخره بقوته، فكان بينهم وبينه قتال انتصر فيه المسلمون عليهم وأخذوا سجستان، وأخذ الأحنف مرو وهراة وبلخ ونيسابور حين أمره ابن الخطاب بفتح خراسان، وما زال يحارب الفرس حتى أزال بعد شهرين سلطنتهم سنة ٦٥٢ ميلادية، الموافقة سنة ثلاث وثلاثين هجرية؛ فالتجأ يزدجر إلى تابي تسنغ فسلط عليه من قتله على شواطئ نهر مرغال، فانقرضت عائلة أزدشير بن بابك بعد ثلاثمائة وتسع وعشرين سنة شمسية من سلطنتها، ثم ساروا إلى الجهة الشرقية وراء نهر جيحون فلم يملكوا لشدة منازعة الأعداء إلا مدينة ترمذ في أثناء سنتي ٦٧٣ و٦٧٤ من الميلاد، الموافقتين لسنتي أربع وخمسين وخمس وخمسين هجريتين. نعم أخذوا في الجهة الغربية وراء جيحون كرسي خوارزم، وفرضوا الجزية عليها وعلى مدينتي قط وزمخشر سنة ٦٨٠ ميلادية الموافقة سنة إحدى وستين، وشغلوا إقليمي جرجان ومازندران، إلا أن البربر طردوهم من القيروان سنة اثنتين وستين هجرية إلى بلاد برقة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤