الباب الخامس

في إغارات العرب على شمال إفريقية وعلى إسبانيا وفرنسا وآسيا الصغرى وما وراء جيحون وشواطئ نهر السند، وفيه تسعة مباحث

المبحث الأول: في حيازة الأموية أقوى ما يكون من الشوكة

نجت نصرات الحجاج عبد الملك من أعدائه حتى توفي سنة ٧٠٥ ميلادية الموافقة سنة ٨٧ هجرية، ولا اضطراب في مملكته؛ فخَلَفَهُ الوليد أكبر أولاده عشر سنين من سنة سبعٍ وثمانين إلى سنة سبع وتسعين، فخلفه إخوته الثلاثة سليمان ويزيد وهشام من سنة سبع وتسعين إلى سنة ١٢٦ هجرية الموافقة سنة ٧١٥ إلى سنة ٧٤٣ ميلادية، وتخلَّل خلافتهم عمهم عمر بن عبد العزيز؛ فإنه تولى بعهدٍ من سليمان سنة تسع وتسعين؛ فسلك أحسن المناهج حتى مات مسمومًا سنة اثنتين ومائة الموافقة سنة ٧٢٠ ميلادية؛ فخلفه يزيد الثاني إلى سنة سِتٍّ ومائة، فخلفه هشام إلى سنة سِتٍّ وعشرين ومائة الموافقة سنة ٧٤٣ ميلادية. وقد عانى من قبلهم من الأموية فتح القارة الأوروباوية سنة ثلاثٍ وخمسين، فمنعهم الروم بالقسطنطينية من الجهة الشرقية، وما زالت كذلك حتى تولى هؤلاء بعد أبيهم عقب نصرات أدت إلى زعم أن عز المملكة الإسلامية منوط بعائلتهم، فأخذوا يبثون في الناس الحَمِيَّة الحربية حتى أخذوا بعض البلاد المشرقية والإفريقية، ثم أغاروا على أوروبا من الجهة الغربية وبلغوا بوغاز جبل الطارق، ثم سَطَوْا على إسبانيا وفرنسا ونزعوهما من الجرمانيين الحاكمين عليهما منذ ثلاثة قرون، فظهر شرفهم بالممالك الإسلامية على ما فيهم من عدم السياسة؛ حيث اكتفوا من الجزية بقليل احتاجوا معه عند غزوهم الممالك القاصية إلى أموال يؤدون بها لوازمهم، ولم يَقَعْ في زمنهم فتن داخلية لظهور سطوتهم وقوة بأسهم. نعم كان إذ ذاك علوية يضمرون الخروج على الأموية، ويلومون أهل السنة على إبعادهم عليًّا وولديه من الخلافة، واختاروا زيدًا حفيد الحسين إمامًا، ثم تخلَّوْا عنه لطيشهم المعتاد، وهم ثلاثة أحزاب تعصب أحدهم لذرية علي من فاطمة الزهراء، وثانيهم لذريته من غيرها، وثالثهم لبني العباس، زاعمًا أن ذريته من غير الزهراء تنازلوا عنها للعباسية، وما زالوا مُضْمِرِين الخروج على بني أمية حتى أظهروه سنة اثنتين وعشرين ومائة هجرية مع تفرُّق أحزابهم وعدم انضمامهم إلى رئيس جدير بالخلافة، فلم تخشَ الأموية بأسهم واكتفوا بإثارة البغضاء بينهم، ثم قوي حزب العباسية وجعل تحت ألويته من كانوا معضدين للآخرين. وبالجملة فبولاية هؤلاء الأنجال الخلافة عقب نصرات الحجاج المتوالية وفتحهم لهذه البلاد الشاسعة وبثهم البغضاء بين العلوية، كان لهم المجد الباذخ والشرف الأكبر.

المبحث الثاني: في فتح المسلمين شمال إفريقية من سنة ٧٠٤ إلى سنة ٧٠٨ ميلادية الموافقة سنة ٧٥ إلى سنة ٩٠ هجرية

سلف أن عقبة بن نافع بلغ بالجنود الإسلامية أقصى سواحل البحر الأطلنطيقي، ثم انضم البربر والروم فطردوه من القيروان إلى بلاد برقة، تاركًا ما فتحه من إفريقية حتى نُصِرَ عبد الملك على منازعيه في الخلافة، فأمر الحسن والي الديار المصرية بالمسير إلى شمال إفريقية، فسار وأخذ القيروان التي بناها ابن نافع، ثم حاصر مدينة قرطاجنة ذات الحصون المنيعة، فأخذها وفَرَّ من بها من الروم إلى سفن بميناها وإلى صقلية والأندلس إلا أناسًا استوطنوا مدينتي سطفورة وبيزرت، حتى أتى إليهم من القسطنطينية مدد خرج على السواحل وعاد بلا حرب سنة ٧٠٤ ميلادية الموافقة سنة خمس وثمانين هجرية، وجمع الحسن من إفريقية غنائمَ خافَ أن يضعها بالقيروان، فتسطو عليها قبائل البربر الساكنة بجبل أوريس تحت حكم كاهنة متنبِّئة تدعي أن لها مددًا إلهيًّا ونصرًا سماويًّا، وأخبرت بأشياء فوقعت؛ فانتشر صيتها سريعًا، ولم تَرَّ العرب إلا نهابين، فأقامت عليهم سائر قبائل البربر؛ ولذا خشي منهم الأمير حسن، فعاد إلى مصر ليضع بها تلك الغنائم، ويستعد لهؤلاء البربر الذين خربوا زمن عوده جميع ما فتحه، وهجموا على العرب واليونان، فسار هذا الأمير بجيش هائل، وأخذ يحتال على قتل تلك الكاهنة، فأعدمت الزرع والمدائن؛ لتكون سواحل البحر الأبيض قفارًا تهلك فيها الجنود الإسلامية جوعًا، فأخذ هذا الأمير يخاطر بنفسه حتى قاتلها وقتلها في الحرب، فأخذ بلاد السواحل وداخل البلاد الإفريقية سنة ٧٠٨ ميلادية الموافقة سنة ٩٠ هجرية، وقدر على البربر جزية وعاد إلى مصر بعد أن ولَّى على تلك البلاد موسى بن نصير، فبَثَّ بينهم سنة إحدى وتسعين إلى سنة ثلاث وتسعين من العدالة وحسن التدبير ما نظمهم في سلك جيشه وجبرهم على اتِّبَاعه حيث شاء، فنوى أن يجتاز بوغاز الطارق ليُغِيرَ على إسبانيا.

ولكثرة غنائم إفريقية التي أتى بها الحسن ارتحل كثير من العرب إلى إفريقية لاكتساب الثروة، فبثُّوا هناك القرآن المجيد، ووافقوا البربر في حب الحرية والاستقلال والعيشة البدوية والحط والترحال والسلب والنهب مع عزة النفس وإكرام الضيف، فكان البربر أقوى المعضدين للعرب حتى حاربوا إسبانيا فأبى بعض البربر معاشرتهم، وذهبوا إلى جبال إيالة الجزائر، فلم تزل بها ذريتهم المسماة بالقبائل إلى الآن.

المبحث الثالث: في إغارة المسلمين على إسبانيا سنة ٧١١ الموافقة سنة ٩٣ هجرية

ملك بحيث جزيرة إسبانيا قبل الهجرة بمائتين واثنتين وعشرين سنة رجال يعرفون ﺑ «الويزيغوط Visigoths»، ملكوا بلاد طنجة وسبتة، وهزموا موسى بن نصير حين حاصر سبتة سنة ٦٤ هجرية الموافقة سنة ٦٨٣ ميلادية، كما هزمه الملك «ويطيزا Vizila» الويزيغوطي سنة ٩١، ثم أخذ الملك «رودريق Roderic» المملكة واسعة الأرض كثيرة الرجال على ما فيها من ضعف الشوكة؛ لتألُّفها من جموع متعادية وجهلهم بالتدبير العسكري، ومطالبة القسس لهم بأموال باهظة، وعدم انتظام شريعتهم المؤلَّفة من شريعة الرومانية وعوائد الجرمانية، وتأخر من في البلاد المنتظمة عن إمداد السلطنة، واستعباد الرعايا بالفلاحة التي تطفئ من القلوب حب الوطن وشرف الأمة، واضطهادات اليهود التي بعثت فيهم البغضاء والحقد على الويزيغوط، وضم رودريق إلى ذلك إساءته الكونت «جوليان Julien» التي كانت سببًا في استيلاء العرب على إسبانيا؛ فإن الوزير موسى بن نصير بعث إلى الخليفة الوليد بن عبد الملك كتابًا وصف فيه إسبانيا وغزارة خيراتها؛ فأذن له في فتحها، مشيرًا إليه بتقديم بربر إفريقية حذرًا من الغدر؛ فبعث إلى إسبانيا اثني عشر ألف بربري مع شجاع مسمى بطارق عارف بسواحل إسبانيا الجنوبية المشرفة على بوغاز الجبل الذي حل فيه هذا الشجاع فسمي بجبل طارق؛ فأرشده جوليان ذو الممالك الواسعة بإسبانيا، وسلم إليه قلعة الجزيرة الخضراء، فجمع رودريق مائة ألف مقاتل قاتل بهم العرب سبعة أيام في سهل غواداليط قرب مدينة كزيريس، مع تزينه حال الحرب الذي قلده فيه أهل ديوانه، وتركوا القتال على أرقاء أغبياء كالبهائم يقاتلون مُكْرَهِين، بخلاف جيش طارق؛ فإنهم لتعودهم القتال وعلمهم أن من استشهد دخل الجنة نسوا قلتهم في جانب مائة ألف، وتأهبوا لقتالهم كتأهبهم لاستقبال النعمة، قال لهم طارق: إن العدو أمامكم والبحر خلفكم، فأين تذهبون؟! ثم حمل على العدو فاخترق جيشهم، فانضم بعساكره إلى المسلمين إياس أسقف إشبيلية — وكان من حزب جوليان — فانهزم رودريق، وألقى نفسه في نهر الوادي الكبير سنة ٧١١ ميلادية الموافقة سنة ثلاث وتسعين هجرية، فأخذ طارق تخت سلطنة الويزيغوطية، وبعث جموعًا أخذوا غرناطة وقرطبة وويرة وملقة واستجة، وسار هو إلى طليطلة فأتى إليه من موسى بن نصير أمر بأن يقف منتظرًا لقدومه؛ فأبى خشية أن تجتمع الأعداء وينتخبوا سلطانًا يجدد لهم قوة، وسار حتى بلغ طليطلة فأخذها بلا قتال، وترك بها عساكر محافظين، وسار إلى شمال إسبانيا؛ فانقاد له جميع البلاد الممتدة من جبل طارق إلى جيحون.

المبحث الرابع: في انتقال موسى بن نصير إلى إسبانيا وترتيبها وعزله وقتل ولده عبد العزيز

حاز طارق من نصراته بإسبانيا فخرًا فحنق منه ابن نصير، وسار إلى إسبانيا بعساكر فتح بهم مدينتي كرمونة وإشبيلية، وحاصر مريدة وبها شجعان ويزيغوط حتى أسعفه ولده عبد العزيز بسبعة آلاف فأخذها، ثم سار ابنه عبد العزيز إلى مرسية، فضرب الجزية فيها على «تيودومير الغوطي Thédemir» المستقل فيها بالإمارة، وسار هو إلى طليطلة حين أخذ طارق إقليمي استريمادور ولوزيطانيا، ثم قابل طارقًا فضربه بالدرة وسجنه وجرَّدَه من قيادة العسكر، فأمره الخليفة الوليد بإطلاقه وإعادته للقيادة، ونسب فتح إسبانيا إليهما خشية أن يستقل موسى بعائلته الكثيرة عن حكم الأموية، ثم فتح موسى أقاليم استورية وطارق البلاد التي خلف نهر ابرة، إلا أنهما تعاونا على فتح سراقسطة لقوة من بها، وفتحا جميع إسبانيا إلى جبال البرانس المسماة أيضًا بجبال الأبواب، ثم لبث ابن نصير يرتب إسبانيا ويجبي جزيتها على المقدار المؤدى سابقًا إلى الغوطيين، مُظهِرًا فيها العدل، حتى عادت إليها رفاهيتها القديمة التي لم تتحصل عليها زمن الغوطيين، ثم وضع لها قوانين مخالفة للقوانين الشرعية التي وكل إليه العمل بها مريدًا قطع ارتباطها بالخلافة الأموية؛ فبعث سليمان بن عبد الملك بعد أن ولي الخلافة إليه وإلى طارق، فحضر طارق فقيرًا غير متَّهَم باختلاس شيء من الأموال، فأثنى عليه الخليفة بما حازه من النصرات، وحكم عليه بالإقامة عنده في آسيا خشية أن ينضم إليه من البرابرة جموع لشهامته وعظيم فخاره، وحضر ابن نصير إلى دمشق بجمع من الأسرى، فضربه سليمان ونفاه إلى مكة، وولداه عبد العزيز وعبد الله حاكمان إذ ذاك بإفريقية وإسبانيا؛ فخاف سليمان أن يستعينا بما في أيديهما على الانتقام منه، فأمر بقتلهما فقُتِلَا سنة ٧١٦ ميلادية الموافقة سنة ثمانٍ وتسعين هجرية؛ فمات والدهما حزنًا.

المبحث الخامس: في التقسيم السياسي لإسبانيا وعزها ومبادئ انحطاط العرب

قسمت إسبانيا أولًا إلى أربعة أقسام:
  • الأول: الشامل لبلاد الأندلس ما بين البحر الأبيض المتوسط ونهر الوادي الكبير، ومن مدنه: قرطبة وإشبيلية وملقا واستجة.
  • الثاني: الشامل لجميع البلاد الوسطى من إسبانيا، يحده من الشرق البحر الأبيض المتوسط ومن الغرب حدود لوزيتانيا المعروفة بالبرتغال، ومن الشمال نهر دويرو، ومن مدنه: طليطلة وبلنسية وقرطاجنة ومرسية والبيضاء.
  • الثالث: شامل لبلاد غاليسيا ولوزيتانيا، ومن مدنه: مريدة إيغورا وكوامبره وزمورة وسلمكية.
  • الرابع: يمتد من نهر دويرو إلى جبال برينات على شاطئ نهر ابرة، وينتهي في الغرب بحدود غاليسيا، ومن مدنه: سرقسطة وطرطوشة وطرَّكونة.

ثم ألحق بهذه الأقسام إقليم خامس خلف جبال برينات، وهو عبارة عن بلاد سبتيمانية، ومن مدنه: نربونة وكركاسون وماجلون ولوريفيا.

وقد رتب عبد العزيز بن موسى بن نصير على كل قسم حاكمًا كبيرًا يخبره بما تعزم عليه الويزيغوط من الفتن ليتداركه، ووضع عساكِرَ دمشق في قرطبة، وحمص في مدينتي إشبيلية ونيبلة، وعساكر قنسرين في جهن، وفلسطين في صيدونية والجزيرة الخضراء، وبلاد فارس في كزيريس، واليمن في طليطلة، والعراق في غرناطة، ومصر في مرسية ولسبونة وغير ذلك من الجنود المحافظين، وعمل بمقتضى الشروط المنعقدة مع الويزيغوط من تسليمهم الأسلحة والخيل للفاتحين، وارتحال مَن أراد منهم بعد تخليته عن سائر أمواله وأمتعته، وبقاء من شاء مع حفظ مالهم من المنقولات والعقارات والكنائس بشرط أن لا يبنوا غيرها، وأن يدفعوا خراجًا لا يزيد عن عُشر محصولهم.

ولِمَا للعرب من حسن المعرفة بالزراعة وتدبير التجارة نشروا في بلاد إسبانيا من الفلاحة طرائقَ مبنية على التجربة والمشاهدة؛ فزرعوا فلواتها، وعمروا مدائنها، وربطوا بينها علائق تجارية؛ فظهرت بها الرفاهية، وصفا العيش حتى كان بين العرب والبربر بغضاء أدَّت إلى أن إحدى قبائل البربر تقوم للمدافعة عن واحد منها، فإذا بعث الحاكم عساكر من المشرقيين لإطاعة تلك القبيلة استعانت بسائر قبائل البربر للمدافعة عنها، فنسي المشرقيون ما بينهم من الشقاق، وخيف أن تكون مقاتلة عامة بين الجنسين، وانضم إلى ذلك أن شاميين هاجروا إلى إسبانيا وطلبوا للتوطن أمكنة لم يُعْطَوْهَا، فملكوا بأسلحتهم مدينة، وحارب قوم من هؤلاء الغرباء في إسبانيا قبائل البربر العاصية بإفريقية زمنًا طويلًا، ثم نزلوا بإسبانيا سنة ٧٤٢ ميلادية الموافقة سنة ١٢٥ هجرية، وخربوا إقليم الأندلس وأمر الأمير بصدهم، فنصروا عليه وملئوا بحيث جزيرة إسبانيا مفاسد انتهت بعد قدوم والٍ من دمشق سنة ٧٤٢ إلى سنة ٧٤٦ ميلادية الموافقة سنة ١٢٥ إلى سنة ١٢٩ هجرية بتحويله همة هؤلاء إلى الحرب في غير إسبانيا، على العادة التي استعملها ولاة إسبانيا بعد عبد العزيز فمكثت هادئة خمس عشرة سنة.

المبحث السادس: في إغارة عرب إسبانيا على فرنسا من سنة ٧١٩ إلى ٧٣٢ ميلادية الموافقة سنة ١٠١ إلى سنة ١١٤ هجرية

كان موسى بن نصير متأهبًا للإغارة على الأمم التي بين بلاد فرنسا التربونية وخليج القسطنطينية، فعزله خليفة دمشق من حكم إسبانيا، فلم تتقدم الفتوحات الإسلامية في غرب أوروبا، وانحلت عزائم العرب وتجردوا عن الحماسة والحَمِيَّة، فانتهز الفرنج الاسترازيون الفرصة بائتلاف بعضهم ببعض ومقابلتهم طوفان إغارة العرب بِسَدٍّ مانع لا يمكن اجتيازه.

وكانت العرب أخذت جزءًا من جنوب فرنسا تابعًا لمملكة ويزيغوط، وأخذ الأمير علقمة إقليم سبتمانية سنة إحدى ومائة هجرية، وأنزل في تربونة جمعًا من المسلمين واتخذها مركز أعمال حربية وتوجه العرب إلى إقليم برغونيا، وبلغوا مدينة طلوشة تخت تلك البلاد سنة ثلاث ومائة، فهزمهم أميرها «الدوق أودس Le due Eudes»، فعدلوا إلى شواطئ نهري الرون والسون وأخذوا مدينة بونة، وانقاد للجزية من في سنس وألبيجو ورويرغ وجفوادن وفيلاي، وأخذ عنبسة خليفة علقمة في الإمارة مدينتي قرقشونة ونيمة، وسار حتى بلغ إقليم برغونية ونهب ما في مدينة أتون سنة سبع ومائة، وأُخِذَتْ مدينة أوينيون سنة اثنتي عشرة ومائة.
وعزم الأمير عبد الرحمن على فتح سائر فرنسا، فسار إلى إقليم طرَّكونة وجبر حاكمه على أن قتل نفسه حين حاصره في مدينة «بويسردا Puycerda»، ثم أغار على إقليم «أكستانة Aquitaine»، وأخذ مدينة بردو عنوة بعد أن هزم الدوق أودس على شاطئ نهر غارون وعبر نهر دردونية فنصر، وذكر له كثرة ما في دير ماري من الأموال فسار إلى مدينة نوبرة للاستيلاء على هذا الدير.

وما زال الفرنج إلى الآن ينسبون إلى العرب جميع التخريب الذي يَرَوْنَ الآن آثاره في الأقاليم التي أغاروا عليها، وهؤلاء العرب الذين هم أقل اغتيالًا وخشونة طباع من الأقوام الهونية أو النرتمانية قد هوَّلَت الفرنج في شأنهم، مع أنهم كانوا في جميع الوقائع ذوي لطف عند الانتصار، وسبب ذلك ما ارتسخ في عقول الفرنج من الخوف والنَّفَرَة من العرب؛ فإنهم كانوا ذوي وجوه كالحة من حر الشمس، وأعينهم مخيفة مع شدة عدو خيلهم وغرابة ملبسهم، وتجريدهم سيوفهم وتكلُّمِهم بلغة لا يعرفها أهل تلك البلاد لنشر دين جديد عند هؤلاء النصارى المملوءة قلوبُهم بتعليمات أساقفتهم، الذين كانوا لا يتفوَّهون إلا بالألفاظ الدالة على البغضاء والعداوة لهؤلاء العرب، المنكرين ألوهية عيسى بن مريم على خلاف ما يعتقده هؤلاء النصارى من التثليث.

المبحث السابع: في انتصار كرلوس مرتيل ملك فرنسا على المسلمين في واقعة بواتيه سنة ٧٣٢ ميلادية الموافقة سنة ١١٤ هجرية

دعا هذا الملك أكابر أمته لحمل السلاح وجميع رعاياه لأن يكونوا جنودًا، وسار إلى الأمير عبد الرحمن بعد أن ارتحل عن شاطئ نهر لوار، ووقف بين مدينتي تور وبواتيه منتظرًا لأعدائه، فكان بين الجيشين سنة أربع عشرة ومائة هجرية مناوشات في ستة أيام كان النصر فيها للمسلمين، وهجم كرلوس بمن معه في السابع فسفك كثيرًا من الدماء، وقتل الأمير عبد الرحمن فلقب ﺑ «مرتيل Martel» لنصرته. وفشت بين قبائل المسلمين باليمن ودمشق وإفريقية وإسبانيا فتن حملتهم على فتك بعضهم ببعض؛ فتشتت الباقي وبادروا بالرجوع، ومنعوا من اجتياز الجبال، فسلكوا طريق سبتيمانية وشارل مرتيل وأخوه «شيلد براند Chlidebrand» أخذًا من المسلمين مدينة أوينيون، وغلباهم في واقعة بشاطئ نهر بيره، ولم يقدروا على أخذ مدينة نربونة فهدما ما بشمال نهراود من الحصون ليكون مقفرًا فلا يسكنه العرب، وشَنَّ قواد الأمير عبد الملك الغارات سنة سبع عشرة ومائة هجرية في إقليم بروونسية حتى أخذوه سنة عشرين ومائة من «مورنت Mauronte» حاكم مرسيلية، فاتفق مرتيل و«لويتبراند Luitprand» ملك اللمبردية الذي أغارت العرب على سواحل بلاده «الليغورية Ligurienne»، فألزما العرب التخلي عن تلك البلاد والعود إلى إسبانيا سنة ٧٣٩ ميلادية الموافقة سنة ١٢٢ هجرية، فعدل المسلمون إلى غزوة نصروا فيها بجزيرة سيسيليا.

المبحث الثامن: في حروب بالمشرق وتجديد المسلمين حصار القسطنطينية سنة ٧٠٧ ميلادية الموافقة سنة ٨٧ هجرية

في عهد الملك أبسيمار كان بين العرب والروم من الاغتيال وسفك الدماء ما لم يسمح الدهر بمثله، وعَمَّ أخوه هرقل بلاد الشام بالتخريب والقتل وذبح سكان أرمينية الصغرى من بها من المسلمين المحافظين، فدهمهم من العرب المشرقيين جيش ذبح من ظفر به في طريقه من سكان تلك البلاد وأحرق ساداتها أحياء.

وحاز عبد الملك بن مروان سنة ثلاث وسبعين هجرية نصرات في وقعات عديدة بسيسيليا، منها الواقعة التي بجزيرة إيلوزا المشئومة على الروم لخيانة عساكرهم المستأجَرِين من «الإسكلاوون Esclavon»، ثم كانت سنة أربع وثمانين هجرية ميدان حروب أخرى، وقد أسلفنا أن العرب حاصروا القسطنطينية سنة ثلاث وخمسين هجرية ولم ينجحوا، ثم حاصروها في خلافة سليمان بن عبد الملك وعمر بن عبد العزيز، فقابلهم «ليون Lêon» الثالث المعروف بالإيزوري وأحرق سفنهم، فعادوا في البر ونزلوا في هضاب أبيدوس، وأخذوا مدائن بسواحل مرمرا إلى القسطنطينية، فقاتلهم ليون وتسلط عليهم القحط والطاعون وبرد الشتاء؛ فتركوا ما فتحوا من تلك البلاد التي نزل إليها النصارى المردائية من جبلي لبنان وطور سيناء، فقاتلوا ملكها السيئ التدبير بوستينان الثاني المعزول سنة ٦٩٥ ميلادية الموافقة سنة ٧٦ هجرية، ثم ولي السلطنة سنة ستٍّ وثمانين مريدًا شفاء غليله بالانتقام من العرب، والأمير مسلمة أخو الخليفة الوليد قد ظهر إذ ذاك صيته وانتشر فخاره بغاراته على آسيا الصغرى، أخذ داتيان قاعدة إقليم قبادونة الثانية، وبعث لإحراق جميع الأناضول جمعًا بلغوا مدينة اسكودار المصاقبة للقسطنطينية، وأوقدوا النار في السفن التي بالمينا وعادوا.
وأغار مسلمة سنة ٧١١ ميلادية الموافقة سنة ٩٣ هجرية في عهد الملك «فليبيق Philêpique» على بلاد يونت وليكاوونيه ومدينة أنطاكية الإبيسيدية المسماة الآن آق شهر، وحاز العرب جزءًا عظيمًا من بلاد الأرمن، فحصنوا دروب جبل دربند لصد الأتراك الخزر الممتدة غاراتهم في بعض الأزمنة إلى الموصل، وحاصروا في بلاد بيتينيا مدينة آموريون ويرجام ونيسة، ثم ساروا حتى بلغوا سواحل بحر مرمرا وبوغار القسطنطينية، فقابلتهم الروم بقوة أرجعتهم عن مقاصدهم لاستدعائها عظيم الاتحاد وكثير الجيوش، وكان بذلك فخار للروم؛ حيث دافعوا العرب عن القسطنطينية والمدائن التي في بحيث جزيرة الأناضول والجهة الشرقية من ممالك أوروبا.

المبحث التاسع: في فتح العرب ما وراء نهر جيحون والأقاليم الغربية من الهندستان وما كان للعرب من تأخُّر فتوحاتهم بسوء تدبير الخليفة سليمان بن عبد الملك من سنة ٧٠٧ إلى سنة ٧١٢ ميلادية الموافقة سنة ٨٩ إلى ٩٤ هجرية

خرج من عمان لفتح الهندستان أساطيل إسلامية سنة سِتَّ عشرة هجرية، فأخذت جزيرة طناح القريبة من مدينة بمباي، ومن جزيرة البحر من أساطيل أخرى دهمت في خليج كامبي مدينة بارود، وخرجت أساطيل ثالثة إلى مصابِّ نهر السند، ثم أخذ عبد الله بن عامر سنة ثلاث وعشرين بلاد كرمان وسجستان، ثم حارب والي إقليم مكران وملك السند المتعصِّبَيْن عليه فغلبهما، وأخذ عبد الرحمن بن سمرة بعد ذلك بسنين قليلة إقليم داور ومدينة بوست، فكان مملكتا قبول والسند حدود الممالك العربية حتى غلب المهلب بن أبي صفرة ملك قبول، وألزمه دفع الجزية وعاد منصورًا سنة أربع وستين في عهد معاوية بن أبي سفيان، وخربت أراضي قصدار القريبة من مدينتي كلات وقندابيل، وبعث الحجاج سنة تسع وستين محمد بن قاسم بجيوش إلى شاطئ نهر السند فهزمه الملك الظاهر، وأخذ مدائن ديبل وبيرون وبهمن آباد وألور، واقترب من جبال هماليا وتأهب للإغارة على مملكة قنوج، وبعث الحجاج أيضًا الأمير قتيبة بجيوش هزم بها الترك، وأخذ بلاد خوارزم وما وراء النهر ومعظم مملكة التتار، وأحرق أصنام مدينة فرغانة ونخشب وبيكند وبخارى وسمرقند سنة أربع وتسعين، ومدينة كشغر وأقصوا وخوطان، وبعث إلى ملك الصين اثني عشر سفيرًا هددوه بالإغارة، فغمرهم بعطايا الذهب الوافرة اتقاءً لشرهم، وحكم قتيبة مملكة قبول بشرق سجستان وأخذ منها الجزية، ثم توجه بأساطيله في نهر السند إلى داخل البلاد فلحقه جيش في أرض مكران، وانتشر في سهول مدينة كشمير، ودافعته مدن على شواطئ السند فهزم هؤلاء.

وانتشرت هناك اللغة العربية ودين الإسلام بالتدريج حتى زالت ديانة البوذية. وقد ظهرت الجيوش الإسلامية على شواطئ نهر الكنج، ولم تحفظها كغيرها من الأقاليم؛ حيث لم يكن منها سوى المرور بها.

وإلى هنا وقفت الفتوحات العربية لزوال الميل إلى تكثير الدين من خلفاء بني أمية، بل كانوا يخشون اتساع الأقاليم لإنتاجه طمع قواد الجيوش؛ ولذا فتك الخليفة سليمان بالأمير موسى بن نصير كما سلف وبالأمير قتيبة الذي ضم إلى المملكة الأموية أقاليم كثيرة، وبالأمير محمد بن قاسم الذي أدخل جاهلية الهنود تحت حكم الأموية بحسن تدبيره وسياسته. وبفقد هؤلاء القُوَّاد ذهبت قوة الدولة التي بها حفظ وحدتها، وأخذت شوكة أولاد عبد الملك من ذلك الوقت في الانحطاط.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤