الباب الأول

في حدود مملكة العرب سنة ٧٤٣ ميلادية الموافقة سنة ١٢٦ هجرية وفي قتال الأموية والعباسية وخلافتي المشرق والمغرب، وفيه أربعة مباحث

المبحث الأول: في شوكة بني أمية

كانت كلمة العرب نافذة في ثلاثة أقسام من الأرض: آسيا وأفريقيا وأوروبا؛ فقد ملكوا في آسيا من براري جبل الطور إلى قفار ما وراء النهر، ومن وادي كشمير إلى منحدر جبل طوروس على البحر الأبيض، وملكوا أطراف الأناضول كسيسيليا وقبادوقة ونبطش، وكذا سائر مملكة الأكاسرة، بل ملكوا ما عجزت عنه الأكاسرة الساسانية بسرعة حين بعثوا قُوَّادًا فتحوا ما وراء نهري جيحون والسند وبلاد بخارى وصغد وجعلوهما إقليمًا واحدًا، ثم إقليم ما وراء النهر، وأطاعوا على بحر جرجان إقليم خوارزم، وملكوا في أوروبا جميع بحيث جزيرة إسبانيا ما عدا بوغازات بجبل أستورية، وملكوا إقليم سبتيمانية وجزيرة قبرص وجزائر بلياره وجزيرتي أقريطش ورودس وشمال إفريقية وجميع البلاد الممتدة من بوغاز جبل الطارق إلى برزخ السويس، وقسموا سواحل البحر الأبيض إلى حكومتين إحداهما بالمغرب تشتمل على الأقاليم القديمة اليونانية، وهي أقاليم بيزاسين وإفريقية القنصلية ونوميديه والبربر الرومانية والسيتينية ومولاتيانيا الطنجية، والأخرى بالمشرق، وهي عمالة مصر وبرقة البحرية يأخذ صاحبها الجزية التي رتبها ابن العاص على من ببلاد النوبة، ويبعث كل سنة إلى بلاد السند سفراء يطلبون مع الشمم والأنفة الخراج السنوي، وكان تخت هذه المملكة المساوية تقريبًا مملكة قياصرة رومية المدائن في إيطاليا مدينة دمشق، التي بنى فيها الوليد الأول ذلك المسجد الذي عُدَّ من عجائب المصنوعات الدنيوية وهدمه تيمورلنك سنة سبعمائة هجرية.

المبحث الثاني: في العلوية والعباسية

أسلفنا أن للحجازيين والعراقيين مقالًا في اختصاص بني أمية بالخلافة حتى تأهب سكان الجهة المشرقية من آسيا للتعصُّب مع أهل الكوفة والبصرة اللتين كانتا ميدانين لعصيان الأموية، فسفك فيهما دماء كثيرة، وكانت العلوية أحزابًا متفرقة الكلمة يدعو كل منها إلى رئيس ويخطئ الحزب الآخر، وما زالوا كذلك حتى ظهر عليهم بنو العباس مدعين أن أبا هاشم عبد الله بن محمد بن علي بن أبي طالب المعروف بابن الحنفية أوصى إليهم بالخلافة قبل أن يموت مسمومًا بإذن سليمان بن عبد الملك؛ فانضم إليهم حينئذٍ من العلوية من يَوَدُّونَ زوال بني أمية، واستعد العراق كله لحمل السلاح نصرة إلى بني العباس الذين بانت مقاصدهم منذ نازع زيد هشام بن عبد الملك في الخلافة.

المبحث الثالث: في سيرة متأخري بني أمية ونصرة العباسية على مروان الثاني

ولي الوليد الثاني الخلافة بعهد من هشام، فلم يعترف بحكمه الدمشقيون لسوء أخلاقه، وولوا بدله يزيد الثاني سنة ٧٤٣ ميلادية؛ فحاول الوليد دخول دمشق وقاتلهم حتى قُتِلَ، فالتجأت أحزابه إلى حمص، وقاتلوا أهل فلسطين الذين حرضهم أحد أقارب يزيد ولم يَنَلْ كل منهما ظفرًا، ورأى مروان الثاني سوء تدبير يزيد الثاني، فطمح إلى الخلافة، وشد أهل الجزيرة أزره، وسار بهم إلى دمشق، فقاتله يزيد ومات موتة عادية سنة ٧٤٤ ميلادية، فأراد أحد إخوته أن يديم القتال، ولم يجد نفعًا فتولى مروان الخلافة والعباسيون إذ ذاك قد ضموا إليهم جميع الأحزاب التي كانت مخالفة لهم، وبعثوا رجالًا حذاقًا جابوا بلاد خراسان ودَعَوْا إلى مبايعة محمد ابن حفيد العباس عم النبي ، فبايعوه حتى مات فخلفه ابنه إبراهيم. وبلغ ذلك مروان فقبض على إبراهيم بن محمد وقتله، فنهض أبو العباس عبد الله أخو إبراهيم إلى خراسان فبايعه أهلها بمرو بدل أخيه، ثم سار في موكب إلى المسجد، فتلا عليهم خطبة حافلة، فقدم مروان إلى خراسان بجيش هائل قاتل به أبا العباس على نهر الزاب، ونزل حين القتال عن جواده ففزع الجواد وخاض وسط المقاتلين؛ فظنوا أن مروان قُتِلَ، فاختلت صفوف العساكر الشامية؛ فهرب مروان واجتاز بسرعة جزيرة النهرين وفلسطين وسار إلى الديار المصرية، وأعداؤه يقتفون أثره حتى قتلوه في كنيسة قبطية وحملوا رأسه إلى الكوفة، فعُرِضَتْ على من بها فعلموا انقراض العائلة الأموية، وأصر أبو العباس على أن ينتقم من الأموية دفعة واحدة أخذًا بثأر أخيه وإراحة لعائلته ممَّا كابدوه من المشاقِّ؛ فأغمد الخناجر في بطون آلاف من الأموية، وخدع منهم بدمشق تسعين أميرًا عمل لهم ضيافة الصلح، وأكمن لهم عساكر طرقوا رءوسهم على حين غفلة بدبابيس، فوُضِعَتْ عليهم ألواح فُرِشَتْ فوقها بسط جلس عليها أبو العباس الملقب من ذاك بالسفاح مع جميع أمراء جيشه يأكلون طعامًا وتحتهم من يكابد خروج الروح من بني أمية الذين قصد السفاح استئصالهم، ونجا منهم عبد الرحمن الأموي فجدد خلافة بالأندلس، وكان المؤسس لدعوة العباسية أبا مسلم الخراساني الذي ولي إقليم خراسان، فنصب على قصره بمدينة مرو علمًا أسود مخالفًا للأموية ذوي العلم الأبيض إشارة إلى حزب العباسية؛ فقامت الحروب الداخلية على ساق.

المبحث الرابع: في خبر أبي العباس السفاح والمنصور وإنشاء بغداد

لما قام الخراسانيون والعراقيون بنصرة العباسية لم يتوطنوا الشام بل توطنوا بابل المعروفة بالعراق، واتخذ السفاح الأنبار دار خلافته حتى مات سنة ٧٥٤ ميلادية، فخلفه أخوه المنصور، وأراد الإقامة بالكوفة، ثم أبى لميل أهلها إلى ذرية فاطمة الزهراء؛ فوضع أساس بغداد سنة ٧٦٣ ميلادية على شاطئ الدجلة بقرب سلجوقية العتيقة حول هضبة كان يُنصب عليها العلم العباسي، وحصنها بسور عليه مائة وثلاثة وستون برجًا، واستحسن المشرقيون استبدال دمشق ببغداد لقربهم، بخلاف المغربيين كأهل إسبانيا والمغرب، فلم يستحسنوا ذلك لبعدهم ولبثوا يدفعون الجزية منتظرين فرصة الاستقلال الذي لم يكن أضر منه على عظمة الإسلام، ثم تحصلوا على ذلك بلا إراقة دماء لرضا المشرقيين بذلك على ما يظهر، ثم انضم الإسبانيون إلى عبد الرحمن الأموي سنة خمس وخمسين وسبعمائة ميلادية، ورضي أهل المغرب فعل حاكمهم عبد الرحمن بن حبيب منفصلين عن خلافتي المنصور ببغداد وعبد الرحمن الأموي بقرطبة، ومنقسمين إلى قبائل على كل منها رئيس مخصوص، وبذلك كان بين المملكة الإسلامية الشرقية والأقاليم الغربية انفصال؛ ولذا وجب علينا أن نقسم تاريخ العرب إلى قسمين؛ بأحدهما حوادث الخلافة المشرقية والإيالة المصرية، وبالآخر أخبار عرب آسيا وإفريقية الحقيقية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤