الباب الثاني

في رفعة وانحطاط جاه العباسية واجتهادهم في جمع قوتهم بمركز واحد من سنة ٧٥٢ إلى سنة ٨٤٦ الموافقة سنة سبع وثلاثين ومائة إلى سنة اثنتين وثلاثين ومائتين هجرية، وفيه ثمانية مباحث

المبحث الأول: في عظمة العباسية وسيرة هارون وابنه المأمون

تولى السفاح أول العباسية الخلافة، وخلفه أخوه أبو جعفر الذي قاتل وهو شاب مع أعيان عائلته، فلقب بالمنصور، ثم ولي الخلافة وحكام الأقاليم على عادتهم من تصرفهم كيف شاءوا في القوة العسكرية وخزينة المملكة؛ فإنهم كانوا يصرفون خزائن الخراج في لوازم الأقاليم ومصالحها ثم يرسلون ما زاد عن ذلك إلى الخليفة؛ فأبطل ذلك وجعل من أصول حكومته استبدال العمال بغيرهم حينًا بعد حين، وعزل ذوي العشائر عن القيام بتدبير المصالح، ولم يكترث بصداقة الناس، بل أضاع كل من خشي طمعه في الخلافة ولو خدمه سابقًا كالأمير عبد الله وأبي مسلم الخراساني المدمرين لبني أمية؛ فانقاد إليه الناس واحترموه كما شاء، وحصل من الأموال نحو سبعمائة وخمسين مليون فرنك.

خلفه الهادي والمهتدي اللذان بالغ المؤرخون في حسن سيرتهما وسيرهما، وأعقبهما هارون فمحا ذكر محاسنهما بما جبل عليه من الشجاعة، والكرم، وعلو النفس، واتباع الحق والرجوع إليه حيث أخطأ، وتدبير مصالح الأمة، ومحبة الوقوف على أحوالهم وأمانيهم لتوصيلها إليهم. أضاء في زمنه فخر البرامكة الذين هم من الفرس، وحرضوه على إحياء الفنون والتجارات والصنائع، ثم وُشِيَ بهم إليه فقتل أعظم وزرائه الفضل وجعفرًا البرمكي كسائر العائلة التي مكث فخرها ظاهرًا نحو قرن، ومع اتصافه بشريف الخصال الذي أبقى له الذكر بالبلاد المشرقية، خلفه ابنه الأمين خاليًا عن فضيلة ما من فضائله؛ فنفر الناس عنه ورأوا ما لأخيه المأمون في حكمه بخراسان من العدل وحسن السياسة؛ فأقبلوا عليه، وتولى الخلافة سنة ٨١٣ ميلادية، ورأى التعلُّم سبيل النجاة من المخاوف، فلم يرتض أن يكون تقدم الفنون منوطًا بسخاء الخليفة، بل قرر لها أموالًا، ووقف عليها أوقافًا دائمة فتحت بها مدارس في جميع جهات المملكة، وأحضر لديه كثيرًا من علماء اليونان والفرس والقبط والكلدانيين، وأباح لهم الاستخدام في الوظائف الأميرية، ومحا بذلك ما اعتيد من إبعاد الأجانب كالمعتزِلة عن مجالس المؤمنين، ثم عاد الناس إلى ذلك زمن المتوكل؛ فأثار إذ ذاك علماء الإسلام ببغداد الغارات على ما نشأ بخراسان من مذهب الزنادقة المؤلَّف من عقائد مجوسية وإسلامية، وكان الهادي قتل كثيرًا من أهل هذا المذهب الذي اتُّهِمَ به المأمون، فأخذ يشدد العقوبة على المعتزلة لتسكن أعداؤه عنه.

وبالجملة: المأمون وإن كان أقل شهرة من والده هارون إلا أنه أعلى منه رتبة بمعارفه وعلو قريحته، غير أنه جازى طاهرًا على حسن خدمته بإعطائه خراسان وراثةً، فخلفه ذريته وتعدوا منكرين نعمة بني العباس على أبيهم، فكان ذلك أول تمزيق لشمل الخلافة المشرقية؛ فإن ذلك بعث حكام الأقاليم الأخرى على أن يماثلوهم في الاستقلال بكل حيلة ووسيلة.

خلفه المعتصم سنة ٨٣٣ ميلادية، فكان محسنًا كريم النفس، غير أنه اتخذ من غلمان الترك حرسًا جددوا بعد في الدواوين إفراطات، وخلفه الواثق سنة ٨٤٢ ميلادية، وكان شجاعًا محاميًا عن الفنون يحرض الناس على الصنائع، ويحب الخير لسائرهم، اهتدى بعقله إلى القول بأزلية القرآن التي أقام أحمد بن نصر الحجة عليها، ولم تتكدر خلافته إلا بمشاجرات في العقائد الدينية.

وبالجملة قد استعمل صدر الخلفاء العباسية شوكتهم في تذكية عقول العرب وتنمية معيشتهم؛ فقد أحدثوا كثيرًا من المكاتب والمدارس التعليمية والمحالِّ الإحسانية، وأنشئوا مدائن بجوار بغداد وطرقًا وخانات وأسواقًا وخلجانًا وفساقي مياه، وحضوا على اكتساب التجارة وسائر الفنون حافظين الأمم المجاورة لممالكهم من الاضطرابات التي كانت زمن التعصب الإسلامي.

حاصروا سنة إحدى وسبعين وسبعمائة ميلادية مدينة دوريلة بإقليم فريجيا، فهزمهم اليونان وطردوهم في السنة التالية عمَّا ملكوه بإقليم سليسيا من المدن اليونانية؛ فقابلهم المنصور بجيوش أخذوا مدينة مليتينة بإقليم قبادوقة، وخربوا جميع بلاد سليسيا، وهزموا جيوش اليونان على نهر ميلاس في إقليم بمفليا، ثم سقاهم المهدي مصائب وهزائمَ أخرى من سنة خمس وسبعين وسبعمائة إلى سنة خمس وثمانين وسبعمائة ميلادية، وبعث ابنه هارون بجنود ظهروا أمام القسطنطينية وبها الملكة إيرينة Irêne وصية قسطنطين قبرونيم أيست من نجاة المدينة، فرضيت برجوع مدائن سليسيا إلى الخلفاء ودفعها كل سنة ستين ألف دينار جزية، ورجع الرشيد بغنائم عظيمة وأكثر من ستة آلاف أسير، ثم ولي الخلافة وأرادت إيرينة قتاله سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة ميلادية؛ فأرسل جيوشًا إلى أقاليم أناضول، وبعث سفنًا لتخريب جزائر اليونان التي في البحر الأبيض المتوسط؛ فأخذوا هذا البحر وخربوا أرخبيل جزائر اليونان وأقاليم فريجيه وبيتينيه وليديه، وأعدموا السفن البحرية من خليج سطالية، فرضيت الملكة بدفع الجزية، وفادت أسراها بأسرى المسلمين على شاطئ نهير بإقليم سليسيا، ثم خلفها في المملكة «نيسيفور Nicéphore»؛ فعزم على محاربة العرب وبعث إلى هارون كتابًا يدل على تكبُّره فأجابه بما نصه:

بسم الله الرحمن الرحيم

من هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى الملك نيسيفور كلب الروم، قرأت كتابك يا ابن الكافر، والجواب ما ترى لا ما تسمع.

فانقاد لدفع الجزية المقررة، ونُصِرَ عليه هارون في عدة محاربات خرب فيها بلاد اليون، وأحرق هرقلة، ونهب سواحل أقاليم بمفيليه وميزية وليدية، وأشرف على أخذ جزيرة رودس فدافعه سكان قاعدتها.

ولما ولي المأمون الخلافة استدعى من القسطنطينية عالمًا يسمى «ليون Léon»، فأبى «توفيل Théophile» ملك القسطنطينية، فكان بينهما سنة ٨٢٥ ميلادية حرب نصر فيها توفيل، وطمع في إعادة ما أخذه المسلمون من بلاد القسطنطينية، فصمم سنة ثلاثٍ وثلاثين وثمانمائة ميلادية على حرب العرب، وحارب المعتصم زمنًا طويلًا، وأخذ سنة ستٍّ وثلاثين وثمانمائة مدينة سوزوبترا مسقط رأس المعتصم، فهدم مبانيها وذبح جميع رجالها واسترقَّ نساءها وأطفالها، فحلف المعتصم لينتقمنَّ منه، وسار بجيش هائل أخذ به مدينة عمورية سنة أربعين وثمانمائة ميلادية، وفعل بأهلها ما فعله توفيل بأهل سوزوبترا، ومكث إلى سنة اثنتين وأربعين وثمانمائة ميلادية يحارب اليونان ويجول في دولتهم فيحكم على المدن بأداء الجزية.

خلفه الواثق فكان لليونان معه من هذه السنة إلى سنة سِتٍّ وأربعين وثمانمائة محاربات استنقذوا فيها ما أخذه هارون الرشيد من المدن في أقاليم سليسيا، وقد قفلت العرب بوغازات جبل قوقاز سنة سبع وثمانين وثمانمائة لمنع الأتراك الخزر الذين أغاروا زمن هارون على بلاد أرمينية، فأخذوا منها مائة ألف أسير.

المبحث الثاني: في اهتمام العباسية بنشر التمدُّن في الممالك المشرقية

لم تهتم العباسية بممالكها المغربية، وهي إفريقية وآسيا، وتركوا من بشمال إفريقية يدبرون أحوالهم كما شاءوا، بل أطلقوا للعائلة الأغلبية التصرُّف في إفريقية مكتفين بذكر أسمائهم في خطبة الجمعة وقبل ذلك إبراهيم بن الأغلب من هارون الرشيد، فاستولى جميع بلاد المغرب وكأنهم لم يلتفتوا إلى إسبانيا مؤمِّلين رجوعها إليهم لما فيها من الفتن؛ ولذا ربط الرشيد علائق المودة مع «شرلمانيه Charlmagne» ملك الفرنسيس، وأخذ كل منهما يهادي الآخر، ولم ينتقم المأمون من لصوص أندلسيين أتوا بسفنهم فنهبوا سواحل الإيالة المصرية سنة عشرين وثمانمائة ميلادية، وأحرقوا الإسكندرية وذبحوا كثيرًا من أهلها.

وبالجملة لم تلتفت العباسية إلى خلفاء الأموية بقرطبة لاشتغالهم بتدبير النظام، وإنشاء المحاكم الشرعية، وربط العلائق التجارية بين الأقاليم المختلفة، ونشر سائر العلوم والصنائع حين رأوا ميلًا إلى ذلك من عرب الممالك الشرقية الذين أخذوا يعرفون التمدن وفوائده.

المبحث الثالث: في شكل الحكومة العباسية وإيرادها

كان للعباسية ديوانان: ديوان وارد وصادر أموال المملكة، وديوان النظر في مصالح الرعية وأحكام الدولة يُصَدِّقُ على الأحكام الصادرة من الخلفاء، ثم استبدلوا الأول بأربعة دواوين لمرتبات العسكر، والخراج، وتولية أرباب الوظائف الصغار، ومقابلة الحساب وتعديله. ثم اتخذوا حاجبًا يُدْخِلُ سفراء الملوك إلى الخليفة ويحكم في القضايا المهمة عند رفعها إلى الخلفاء؛ ليريحهم من النظر فيها، واتخذوا وزيرًا ينظر في القضايا قبل بتِّهم الحكم فيها، ثم جددوا خَرَاجًا على أراضي المسلمين وكذا اليهود والنصارى، مع جزية مقدارها من الغني ثمانية وأربعون درهمًا والمتوسط أربعة وعشرون والفقير اثنا عشر، سوى ما يرد من عوائد الجمارك، واستخراج المعادن، وإجارة أراضٍ، وإرث من لا وارث له وغير ذلك.

بلغ وارد المملكة سنةً في زمن الرشيد أربعة ملايين وأربعمائة وعشرين ألف دينار ومائتين واثنين وسبعين مليونًا وثلاثمائة وخمسة آلاف وثمانمائة درهم، والدينار إذ ذاك يساوي مثقالًا أو اثنيْ عشر فرنكًا إلى ثلاثة عشر، والدرهم يساوي ستة دوانق، وكل ستة دراهم تساوي سبعة مثاقيل.

المبحث الرابع: في الأعمال العامة والإدارة زمن العباسية

لما كانت عليه مالية العباسية من حسن الانتظام شرعوا في أعمال مهمة؛ فرتَّبُوا ببغداد ديوان ضبط يمنع عدوان بعض الناس على بعض، ويحفظ الأملاك لأربابها، ونظموا عسَّاسين يطوفون ليلًا لمنع الشر، ورأوا عرب البادية عادوا بعد انقطاع الحروب إلى العيشة في البيداء مع النهب والسلب، فرتبوا لقافلة الحج أميرًا يحفظها.

ورتبوا أوقافًا لإحياء المساجد والمدارس، وبنى الهادي في الدرب الممتد من بغداد إلى مكة خانات وصهاريج تلجأ إليها الحجاج والقوافل من الحر والعطش، ورتب بين الحجاز واليمن من الخيل والجمال بريدًا يوصل الأخبار إليها، كما رتب معاوية بن أبي سفيان بين بنادر المملكة العربية سعاة لذلك.

وابتكر المهدي تولية مُحتَسب يؤتمن على الضبط والربط البلدي، يطوف بالأسواق حينًا بعد حين بجنود، ينفذ بهم أوامر ديوان الضبطية، ويحقق أوزان ومكاييل البياعين؛ فإن وجد مخالفًا أدَّبه فورًا أمام حانوته. وقد جمعت العباسية ما ببغداد من الدفاتر المشتملة على أوامر أسلافهم ليرجعوا إليها.

وبالجملة قد أبدوا أولًا الحَمِيَّة في الحروب، ثم عدَلُوا عنها إلى تحقيق العز والرفاهية لمملكتهم؛ حيث أخذوا يحرضون الناس على استعمال أذهانهم في الأمور النافعة حتى وصلوا سريعًا إلى درجة علية في التمدُّن،وتقدموا على اليونان في التجارة والصنائع والفنون الأدبية وغيرها التي ظن اليونان أن لا مسابق لهم فيها.

المبحث الخامس: في الفلاحة والصنائع زمن العباسية

استخرجت العباسية معادن الحديد في خراسان والرصاص في كرمان، ونسجوا الأقمشة في مدائن العراق والشام، لا سيما الموصل وحلب ودمشق، واستخرجوا الغاز والنفط وطينة الأواني الصينية ورخام طوريس والملح الأندراني والكبريت، وأظهر ذوو الفنون الميكانيكية تقدُّمات يشهد بها ما بعثه الرشيد إلى شرلمانيه ملك الفرنسبس من الساعة الكبيرة الدَّقَّاقة التي تَعَجَّبَ منها أهل ديوانه، ولم يمكنهم معرفة كيفية تركيب عدتها، ومع ذلك لم يَكُنْ في عصر العباسية أهم من صناعة الفلاحة التي بمهارتهم فيها أظهروا مزايا فواكه الفرس وأزهار إقليم مازندران.

المبحث السادس: في الفنون الأدبية والصناعية زمن العباسية

كان فنَّا النقش والحفر متقدِّمَيْن لدى العرب الجاهلية الصانعين التصاوير الإنسانية والتماثيل الإلهية، حتى جاء القرآن الكريم بمنعهما، فوقفا عن التقدُّم حتى اشتغل بهما العباسية في غير تلك التصاوير، فتقدموا فيهما كفَنَّي المويسيقى والعمارة؛ فقد بنوا مباني فاخرة ببغداد والبصرة والموصل والرِّقَّة وسمرقند، وشغفوا مع ذلك بالعلوم الأدبية، فأحضروا من القسطنطينية أحسن الكتب اليونانية وترجموها إلى العربية، وفتحوا ببغداد مدرسة ألسن لتربية المترجمين تحت نِظَارة طبيب نسطوري، ورتبوا خمسة عشر ألف دينار لمدرسة يتعلم بها مجانًا ستة آلاف تلميذ من الفقراء والأغنياء، وأنشئوا كُتبخانات رخصوا الدخول فيها لمن أراد، فانتشرت اللغة العربية في سائر جهات آسيا حتى تكلموا بها بدلًا عن لغتهم، واعتاد المأمون ومن اقتدى به بعده حضور الدروس العامة التي يلقيها المدرسون، وأطلعوا شموس العلوم الرياضية، وبَنَوْا أرصادًا بها آلات عجيبة للاستكشاف الفلكي ومستشفيات يمتحن فيها من أراد أن يوظف عدة امتحانات ومعامل كيماوية لاستكشاف النباتات، إلا أنهم وقعوا في ضلالات بتصديقهم بمظنونات التنجيم وبالمسائل النظرية المتعلقة بعلم كيمياء الفضة والذهب المسماة بالصنعة الإلهية وعلم جابر، لكنها ساعدتهم على التقدُّم في علوم مكتسبة بالمشاهدة.

ومكثت المدرسة البغدادية على رونقها الباهر نحو مائتي سنة تقريبًا، فكان العباسيون في ذلك أسعد حظًّا من شرلمانيه الذي أراد أن يُنقِذَ مملكته من الخشونة والجهالة بتنوير عقولهم بأعلم من في عصره من الفرنج؛ فإن ذلك عدم بعد هلاكه.

المبحث السابع: في فخامة العباسية

لاستحواذ العباسيين على أموال كثيرة مع عدم جيوش دائمة ينفقون عليها، أبدوا من الزينة والزخرفة أعجب المناظر، ومنحوا منحًا وافرة، وعملوا أعمالًا فاخرة؛ نثروا الذهب في قصورهم وبساتينهم ومساجدهم، وأنفق المهدي في حجه ستة ملايين من الدنانير، وصرفت زبيدة زوجة الرشيد مليونًا وسبعمائة ألف دينار على حفر مجرى يوصل إلى مكة المياهَ من الجبال المجاورة لها، وكان لباسها من الديباج المبطن بالسمور أو الأقمشة المنسوجة بخيطان الفضة، ونعالها مزركشة باللآلئ الثمينة، وفرَّقَ المأمون في يومٍ أربعمائة ألف دينار، ونصب في مجلسه عند قدوم سفير اليونان شجرة ذهب حاملة لؤلؤًا على هيئة الثمار، ورتَّب مقترعًا به سهام أكثر من مائتي شخص يأخذ كل منهم سهمه فيجد به أرضًا جسيمة مع ما يلزم لزراعتها من العبيد، ويقال كان بقصره ثمانية وثلاثون ألف بساط منها اثنا عشر ألفًا وخمسمائة مُزَرْكَشَة بالذهب، وبه أيضًا سبعة آلاف خَصِيٍّ منها ثلاثة آلاف من الزنج وسبعمائة خفير وعساكر تحمي الحواشي الخارجة عنه، ووضع المعتصم أساس سامرَّا قرب بغداد على أرض أعلاها بمصاريف هائلة، وبنى بها إصطبلات تسع — على ما قيل — مائة ألف جواد. ولما بلغه العباسية من الفخامة وقوة الشوكة بعث شرلمانيه إلى هارون هدايا ليحمي النصارى الذاهبين إلى بيت المقدس، فأجابه إلى ما طلب، وبعث له أقمشة نفيسة وعطرًا وخشبًا ذكيًّا وفيلًا وخيمة عظيمة على هيئة خيام العرب، ثم بعث الساعة الدَّقَّاقة السالفة.

المبحث الثامن: في مبادئ انحطاط العباسية

لَمَّا لم يكن قانون قاضٍ بتوارث الخلافة هَمَّ عبد الله عم المنصور بتولي الخلافة عند موت السفاح وعهد المهدي بها إلى ابنه الأكبر وهو الهادي، ثم عهد بها للرشيد، وحاول تقديمه على أخيه الأكبر الذي عهد إليه أولًا فلم يمكنه، ووليها الرشيد حتى مات فتنازعها ولداه الأمين والمأمون مع تجديد العلوية دعوى الخلافة في عهد الهادي والرشيد، حتى كان هذا التنازُع الذي أراد المأمون قطعه بصرف الخلافة إلى العلوية الذين لم يُهْمِلُوا إذ ذاك شيئًا من أنواع الفشل والاختلاف، فتَحَزَّب من العلوية ثلاثة وثلاثون ألف رجل جبروه على العدول عن ذلك، وقد مال إلى المعتزلة وأراد العدول عن القرآن إلى قوانين يرى مناسبتها للأطوار والأحوال، وتبعه في ذلك المعتصم والواثق، وقام أهل السُّنَّة وانتصروا عليهم؛ فأخذت الدولة في الانحطاط حتى تنقلت المماليك الترك في المناصب، وتَوَلَّوُا المملكة مع عدم فطانتهم وغلظ طباعهم، فنظروا للرعايا بعين الاحتقار، واشتغلوا بما يخصهم حتى بلغ عدم الحكم وسوء النظام الغاية القصوى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤