الباب الرابع

في دولة السلجوقية وانعدام التحكُّم الديني الذي كان للعباسية، وغارة المغول والأتراك المشرقية وزوال حكم العرب من قسم آسيا، وفيه عشرة مباحث

المبحث الأول: في طباع السلجوقية وفتوحاتهم

تبع طغرلبك أقوام من الأتراك مثل السرمانية الذين جالوا في غرب أوروبا، واخترقوا إسبانيا حتى وصلوا إلى بوغاز جبل طارق، ومثل الأقوام البلغارية والأوارية والمجرية والخزارية والبتشينجية والقومانية والمغولية، الذين خربوا مرات كثيرة بلاد أوروبا والأقاليم الغربية من قسم آسيا، سُمُّوا بالسلجوقية تبعًا لرؤسائهم السلجوقية، وكان عصر غارتهم الذي هو أبهى أعصرهم من سنة خمسٍ وخمسين وألف إلى سنة اثنتين وتسعين وألف ميلادية، وما زالوا معترفين بالطاعة لطغرلبك المتقدِّم في فتوحاته إلى داخل إقليمَيِ الجزيرة وأرمينية حتى مات سنة اثنتين وستين وألف.

فخلفه ابن أخيه المسمى ألب أرسلان فحذا حذوه في الفَخَار والظَّفَر، واستولى على إيالة سيسيليا وأسر السلطان «ديوجين Diogène» الروماني، وأخذ منه الأقاليم التي افتتحها حنا زيميسيس فأحسن معاملته بتعظيمه اللائق به.

فذكر بخطبة مكة اسمه مع اسم الخليفة العباسي بدل الخليفة الفاطمي، وأخذ جرجستان وانقاد له معظم آسيا، وبلغت عساكره مائتي ألف والرؤساء تحت يده ألفًا ومائتين، وهَمَّ بالإغارة على مملكة تركستان، وإذا رجل من خوارزم قتله بخنجر فخلفه ابنه جلال الدين مُلك شاه.

وكان التتار والمغول في أطراف آسيا حافظين لطباعهم الأصلية باقين على حالتهم الخشنة، لا يعرفون ناصرًا غير السيف المسلول، والأقوام الأُخَر من التتار والمغول الذين يقتربون كثيرًا من غربي آسيا والمعروفون في التاريخ من ابتداء القرن الخاص بعد الميلاد باسم الأتراك، تغيرت إذ ذاك أحوالُهم؛ لممارستهم التمدُّن ومخالطتهم للنسل العربي، حتى ذهبت الأوصاف الثقيلة التي كان عليها السيتيون الأقدمون، واشتغلوا بالفلاحة والتجارة، ولكنهم كانوا متكبِّرين شديدي الحب للقوة الحاكمة؛ ولذا أضاعوا كل شيء، وارتَضَوْا أن يكونوا أَرِقَّاء لأجل تحكُّمهم على عقل سيدهم بنوع من الحصر والقسر الجسماني الذي يُخمِل الفطنة العقلية.

وقد أغار هؤلاء السلجوقية على مملكة الفرس، فوجدوا في جميع جهاتها إخوانًا لهم من جنسهم في صفوف العدو، وأخذوا يسألون بني العباس أن يقلدوهم حكم ما فتحوه من البلاد، وكانوا مائلين للحرب ذوي حَمِيَّةٍ وحماسة حين إرادة العرب الاستراحة وممارسة الفنون التي يناسبها الهُدُوُّ والصلح؛ ولذا كانوا متمكِّنِين من الاستقلال بالسلطنة؛ فإنهم حين انتصروا على اليونان، وأخذوا منهم آسيا الصغرى، وأوسعوا ممالكهم حتى كانت من نهر السند إلى بوغاز القسطنطينية، ولكنهم لم يعرفوا تنظيم دولتهم؛ فإن غالب جهاتها كان خاليًا من الحكام المدبِّرين مع ما انضم إلى ذلك من تنازع الرؤساء المستقلين في تقسيم السلطة الملوكية، وكان ذلك سببًا في تمكين المغول منهم حين انقضَّ جنكزخان على الأقاليم الغربية من آسيا في ابتداء القرن الثالث عشر بعد الميلاد.

المبحث الثاني: في سلطنة الملك شاه وتقسيم ممالكه بعده وانحطاط دولة السلجوقية

إلى هذا السلطان ينسب التاريخ الجلالي، وهو رزنامة فارسية صححها له عمر الفلكي، فكانت أصح من الرزنامة الإفرنجية المسماة بالرزنامة الغريغوارية.

تسلطن سنة اثنتين وسبعين وألف ميلادية؛ فأخذ يوسع مملكته، وخطب باسمه في مكة والمدينة وبيت المقدس وبغداد وأصفهان والري وسمرقند وبخارى وكشغار والجزيرة والشام وفلسطين، أمر قريبه الأمير سليمان فجال برجالٍ فَتَحَ بهم أرمينية الكبرى وجرجستان والبحر الأسود والبحر الأبيض وإيالة البانية وإيالة أرمينية الصغرى سنة ١٠٨١ ميلادية، وسار حتى بلغ بوغاز القسطنطينية المسمى بُسفور، وفَرَّ اليونان من بلاد آسيا التي افتتحها الأمير سليمان وجال الملكشاه في أقاليم تركستان، وبلغ قائد جيوشه أتزيز الخوارزمي شواطئ نهر النيل وصده المستنصر بالله، فهجم على مدينة بيت المقدس ونهب ما فيها، وامتدت مملكة هذا السلطان من بوغاز القسطنطينية إلى نهر السند، وأُسِرَ في إحدى غزواته مع رثاثة هيئته التي أدرجته في زمرة الأسرى، فدبر خروجه وزيره نظام المُلك الذي أنشأ في أيامه ببغداد المدرسة الحنفية والمدرسة النظامية، وعمل عدة مساجد وطرقًا وخلجانًا سهل بها الارتباط بين جميع أهل المملكة التي ما زال هذا الوزير بها مدبرًا ساعيًا في نشر العلوم وتقدُّمها، حتى وَشَى فيه بعض أعدائه إلى هذا السلطان، فعزل هذا الرجل الجليل القدر الذي كان عامود المملكة، ثم قتله الإسماعيلية وسِنُّهُ ثلاثة وتسعون سنة.

مات السلطان ملكشاه سنة اثنتين وتسعين وألف ميلادية، فقسم أولاده الأربع: محمود وبارقيا روق وسنجار ومحمد المملكةَ إلى ممالك أربع: بلاد الفرس وكرمان والشام والأناضول، بعد أن كانت بينهم من سنة اثنتين وتسعين وألف إلى سنة أربع وخمسين ومائة وألف ميلادية حروب أفنت رجالهم بلا فائدة وعصتهم حكام المدائن، ثم توطن الأمير أرطق سنة سِتٍّ وتسعين وألف ميلادية مدينة بيت المقدس متأملًا فيما يوصله إلى السلطنة، ثم هَيَّأَ سلطان الموصل الشوكة لابنه نور الدين، ثم أخذ حاكم من خوارزم بيت الفتن في البلاد السلجوقية حتى استقلَّ بحكمها سنة سبعٍ وعشرين ومائة وألف ميلادية قهرًا عن سنجار سلطان بلاد الفرس الذي كان آخر العائلة السلجوقية، وفتح خلفاء هذا الحاكم أقاليم ما وراء النهر وخراسان والعراق الفارسي وكرمان، فجددوا المملكة الغزنوية وبقي تحت أيديهم الأقاليم الملاصقة لشاطئ نهر السِّنْدِ، حتى جعلت الغورية كرسي السلطنة المحمدية ببلاد الهند في مدينة لاهور من سنة ثلاثٍ وثمانين ومائة وألف إلى سنة خمسٍ ومائتين وألف ميلادية، ثم في مدينة دلهي، ونهبوا مدينة بينارس، وأخذوا إقليم بنغالة، ووجد من عائلتهم ملوك الأفغان في إقليم باروباميزوس القديم.

المبحث الثالث: في شوكة الأمير محمد بن الملكشاه وسلطان خوارزم وفي سلطنة العرب إذ ذاك وإحياء الخلفاء العباسية بعض ما كان لهم من الحكم

أخذت الغورية مملكة الغزنوية، ولبِثَت تحت أيديهم خمسًا وعشرين سنة؛ فأغار عليهم السلطان محمد وسلبهم الأقاليم الغربية، فعَلَا شأنُه حتى أغار عليه المغول من سنة ثمانٍ ومائتين وألف إلى سنة ثماني عشرة ومائتين وألف، وقَوِيَتْ شوكة السلجوقية في القرن الحادي عشر بعد الميلاد، ففوض القائم الحكم لهم من سنة خمسٍ وخمسين وألف إلى سنة أربعٍ وسبعين وألف، وبقي في بغداد لا حكم له خارجها.

وخلفه المقتدي إلى سنة أربع وتسعين وألف، ثم المستظهر إلى سنة ثماني عشرة ومائة وألف، فبعثا إلى ملوك أصفهان تيجانًا وأطواقًا وأساور وسلطات تشريف؛ إشارةً إلى تقليدهم السلطنة على بلاد الفرس، ثم ولي المسترشد الخلافة إلى سنة خمس وثلاثين ومائة وألف، وضعفت شوكة السلجوقية إذ ذاك قصد المسترشد بجيوشه سلجوقيًّا، أراد أن يتولى السلطنة قهرًا وخلفه الراشد إلى سنة ستٍّ وثلاثين ومائة وألف، فأراد مسعود السلجوقي حفيد الملكشاه أن يتولى السلطنة، فأخذ الراشد يدافعه حتى مات وخلفه المقتفي الثاني إلى سنة ستين ومائة وألف، ولم يدافع هذا السلجوقي خشية من سطوته القوية حتى مات، فهزم هذا الخليفة السلجوقية عن بغداد، وانقاد له أهل العراق العربي، فذكروا اسمه في الخطبة مع السلطان السلجوقي الذي لَبِثَ هو ومن بعده يدبرون المملكة من سنة اثنتين وخمسين ومائة وألف إلى سنة ثمانٍ وخمسين ومائتين وألف.

وليس للخلفاء المستنجد والمستضيء والناصر والظاهر والمستنصر المتولِّين من سنة ستين ومائة وألف إلى سنة ثلاث وأربعين ومائتين وألف تدبير في المملكة. نعم كان لهم المحاماة عن التجارة والصنائع والعلوم بلا تعرُّض لهم.

وبنى الظاهر مساجد ومدارس ومارستانًا ومستشفيات، وبالجملة كان للسلجوقية الشوكة التامة في أواخر القرن الحادي عشر، وضعفت في الثاني عشر ضعفًا بَيِّنًا بالأقاليم الشرقية من المملكة العربية، وفي غُرَّةِ القرن الثالث عشر كان ولاة أذربيجان ولارستان وفرسيستان مقتسمين للسلطنة بينهم وبين سلاطين خوارزم وخلفاء بغداد.

وأغارت العرب على الأتراك المعروفين بالتتار المتولين الحكم السياسي حتى انقادوا، فتمسكوا بالإسلام، وتكلموا بالعربية، واحترموا العلماء، وحامَوْا عن المعلومات لِئَلَّا تضيع، واستمدوا أفكارهم.

المبحث الرابع: في حال الأقاليم الغربية من آسيا في غاية القرن الحادي عشر بعد الميلاد وفي الحرب الصليبي المسمى لدى معاشر المسلمين بالجهاد الأول في نصارى أوروبا الصليبية الراسمين الصليب على لباسهم وبيارقهم

أدخل الملكشاه السلجوقي أقاليم الجزيرة والأناضول والشام تحت طاعته، ثم مات سنة اثنتين وتسعين وألف ميلادية، فانقسمت مملكته إلى ثلاثة ممالك لا ارتباط لها ببلاد الفرس قواعدها حلب ودمشق، وكذا قونية الممتدة سلطنتها إلى الأناضول، ثم كان بين ملوك حلب ودمشق تنازُع في أخذ مدن بإقليمَيِ الجزيرة والشام مع عجز الفاطمية إذ ذاك عن إعادتهما تحت حكمهم لانحطاط شوكتهم؛ فإن السلجوقية أخذوا منهم الأقطار الحجازية.

وأعرض المستعلي متولي الخلافة الفاطمية من سنة أربعٍ وتسعين وألف إلى سنة إحدى ومائة وألف ميلادية عن محاربة السلجوقية، بل أخذ يُلقِي بين ملوكهم لنيل المال دسائس دام بها القتال بينهم حتى أخذت بطارقة رومية المدائن تقول لمن في أكناف بلادهم القائوليقية إن الأتراك لوَّثوا قبر المسيح معدن الديانة الواجب حِفْظُهُ مِمَّا لا يليق، فأجابهم من النصارى آلاف كثيرة قدموا تحت قيادة بطرس و«غوتيه Gautier»؛ فهلك من الجيشين كثير ببلاد المجر والبلغار، وقتل سائر من بقي بمملكة قونية، فعاد السلجوقية إلى حروبهم الداخلية حتى قدمت كتائب أخرى صليبية عبرت بوغاز البوسفور وهزمت السلجوقية، واجتازت جبال إيالة سيسيليا، وأخذوا أنطاكية، وتداولوا مع أمراء الشام، وساروا إلى إقليم فلسطين، فانضم العرب إلى الأتراك، وأظهروا الحماسة الدينية للذَّبِّ عن بيت المقدس، وقاتلوا مع الخليفة الفاطمي الذي أخذ المقدس من الأتراك الأرطقية سنة تسعٍ وتسعين وألف، ثم انهزموا وسكن الصليبيون بالمقدس وجوانبه؛ فقَلَّ تقدُّم فتوحاتهم، وتقدم منهم إلى جهة بغداد القائد «بودوين Baudouin»؛ فأخذ من الجزيرة مدينة أيدسة العتيقة المعروفة الآن بأرفة.

المبحث الخامس: في سيرة أواخر الفاطميين من سنة أربع وتسعين وألف إلى سنة إحدى وسبعين ومائة وألف ميلادية وسيرة زنكي ونور الدين وصلاح الدين

ما زالت الحروب الداخلية بين المسلمين الفاطمية والسلجوقية زمن المستعلي متولي الخلافة سنة أربع وتسعين وألف، ومن بعده من الخلفاء الفاطمية إلى سنة إحدى وسبعين ومائة وألف بدون تفكُّر من هؤلاء الخلفاء ووزرائهم في اتحادهم بحُكَّامِ البلاد الشامية لينصروا بهم على أهل الصليب، بل أداموا قتال السلجوقية الذين اشتهر في دواوينهم بالموصل وحلب عماد الدين زنكي الذي لَقَّبَ نفسه بالأتابك، وأنشأ له سنة اثنتين وعشرين ومائة وألف مملكة مستقلة بين إقليمي الجزيرة والعراق العربي، وأخذ الموصل ثم دهم السلجوقي صاحب حلب فأخذها منه سنة سبع وعشرين ومائة وألف، ثم أحيا بين المسلمين بغضاء الفرنج، وأخذ منهم مدينة إيدسة فاستنجد مَن في القدس، وأتى إليهم من أوروبا الملكان لويز السابع الفرنساوي «وقنراد Conrade» الثالث الإنكليزي، فبذلا وُسعهما في أخذ دمشق ولم يُفِدْ ذلك شيئًا، وقد مات إذ ذاك عماد الدين زنكي، وخلفه ولداه سيف الدين، وكذا نور الدين الذي تَمَّمَ مقاصد والده الحربية؛ حيث أكثر من الإغارة على أهل الصليب، ثم أغار على دمشق، فأخذها من السلجوقية لضَعف مَنْ بها بالحرب السابقة، ثم استنجده وزير الديار المصرية لمقاتَلة الخليفة الفاطمي، فأنجده على شروط لم يَفِ بها، فبعث قائده شيركوه بجنود تغلَّب بهم على الديار المصرية، وتقلد الوزارة من قبل الخليفة الفاطمي جبرًا، ثم مات وخلفه في الوزارة ابن أخيه صلاح الدين الأيوبي، وهو كردي شجاع معروف بعزة النفس والذكاء والأمانة والوفاء بالعهود والتقوى والعدل والرفق حال الانتصار وحيازة المعلومات العربية قرنت سلطنته بأعلى درجات التمدن العربي.
عزل العاضد آخر الخلفاء الفاطمية سنة إحدى وسبعين ومائة وألف ميلادية، وأزال من مصر مذهب الشيعة بمذهب أهل السنة، ولم يأذن بالتدريس في المدارس إلا للشافعية، إلا أنه هَمَّ بعصيان نور الدين بن زنكي والاستقلال بحكم الديار المصرية، ثم بلغه موت ابن زنكي فسار إلى الشام، وملك من سنة أربع وسبعين ومائة وألف إلى سنة اثنتين وثمانين ومائة وألف دمشق وحمص وحلب؛ فكان أول من له اليد على الديار المصرية والشامية والفرنج إذ ذاك متنازعون في حكم المدائن والحصون الحصينة، سار أحدهم مخالفًا لرأي الآخرين إلى مكة والمدينة بعساكر نهب بهم قافلة مارة بالبيداء، ومات أكثرهم بصحاري بلاد العرب، فكان لهم بذلك ضَعْفٌ انتهز به الفرصة صلاح الدين بأخذ إقليم فلسطين ثم طبرية، ثم سار إلى المقدس ففتحه عن قرب، فبدَّل جميع هياكلها النصرانية بمساجد إسلامية، وحاصر مدن الفرنج على البحر الأبيض المتوسط، إلا أن المسلمين انهزموا أمام مدينة صور فقوي عزم الفرنج وانتظروا مجيء الملِكين «ريشارد Richard» الإنكليزي و«فيلبس أغسطوس Philihpe Auguste» الفرنساوي، وحصل منهم في الغزوة الثالثة للأمة المحمدية من سنة سبعٍ وثمانين ومائة وألف إلى سنة اثنتين وتسعين ومائة وألف قوة جأش بعد اضطراب، وبذل ريشارد ملك الإنكليز وسعه في تخليص المقدس من سلطان الديار المصرية، فلم يتيسر له ذلك فعاد إلى أوروبا.

المبحث السادس: في وفاة صلاح الدين وبقاء السلطنة في خلفائه مع علو الشأن حتى جاءت دولة المغول

بعد سفر ريشارد مات صلاح الدين وأعداؤه يَعجبون من علو همته والمسلمون يأسفون على فقده، ثم اقتسم أولاده الثلاثة مملكته، فكان لأحدهم مصر وللآخر دمشق وبيت المقدس ووهاد الشام، وللثالث حلب وهضاب الشام، ثم نهب عمهم الملك العادل سيف الدين أبو بكر مصر ودمشق، وتولاهما من سنة مائتين وألف، وأخذ من الصليبية مدينة طرابلس، وغزا الغزوة الخامسة حين أتوا إلى دمياط، وخلفه ابنه الملك الكامل على مصر وابنه مولى الدين على دمشق، ثم أتى الملك «فريديريق Frédéric» الثاني رئيس الغزوة السادسة إلى إقليم فلسطين، وأهدى إلى مولى الدين هدايا قبِلها منه، وترك له سنة ثمانٍ وعشرين ومائتين وألف بيت المقدس بعد أن سُفِكَتْ فيه دماء كثيرة، وبذل المسلمون عظيم العزائم في المحاماة عنه، وكانت هذه الغزوات من الفرنج مشتملة على الأهوال وسوء المقاتلة، ثم أخذت في التلطف؛ ولذا لا يحكم على غزوات «ماري لويز Saint Louis» سلطان فرنسا بما خطر في بال أهل أوروبا من موازاتها لتلك الحروب.

ورأت سلاطين الأيوبية بعد مولى الدين أن الفرنج أكبر أعدائهم، فطردوهم من جميع ممالك آسيا، وأبقوا لهم على البحر الأبيض المتوسط يافا وعكا وقيسارية وأرسوف وأنطاكية، وأخذوا بيت المقدس ثانيًا فكان تارة تحت حكم سلطان مصر وأخرى تحت حكم سلطان دمشق. وبالجملة كان لأحد ذرية نور الدين جزء من الجزيرة، وكان للأيوبية في ابتداء القرن الثالث عشر من الميلاد اليد على الشام ومصر وبعض إقليم فلسطين وبعض أقاليم بحيث جزيرة العرب، كاليمن الذي فتحه أخو صلاح الدين سنة ثلاثٍ وسبعين ومائة وألف ميلادية، وخلفه فيه أولاده إلى غارة المغول سنة ثمانٍ وخمسين ومائتين وألف، والخطبة مع ذلك باسم الخلفاء العباسية. وأما الفاطمية فلم يكونوا في عصر الأيوبية إلا فرقة ذات اعتقاد مخصوص لا اتحاد بينها.

المبحث السابع: في حزب الباطنية وشيخ الجبل

كان لأبي عبد الله آخر رؤساء الكرمانية التصرُّف المطلق في المتعصبين لمذهبه، فنهج نهجه رجل يسمى حسن الصباح، سافر كثيرًا وتبحر في العلوم وعرف فِرَقَ الدين المحمدي، وأخذ في غاية القرن الحادي عشر من الميلاد يعظ الناس، ويحثهم على اتباع مذهب جديد يغلب على الظن أنه قريب من مذهب الكرمانية، فتبعه جموع ملك بهم عدة قلاع وحصون، واستوطن حصن الموت المشيد على هضبة قرب قزوين فلقب بشيخ الجبل، وأعلن بالعداوة للنصارى والمسلمين، ورأى نفسه بينهم بمنزلة الإله الثاني الذي شغله الاقتصاص من الظالمين للمظلومين، ونُفِّذَتْ أوامره فيمن معه، فكان إذا أمر بقتل أحد منهم بادر بإلقاء نفسه من شاهق جبل على أَسِنَّةِ الرماح أو طعن بطنه بخنجر، أو بقتل أحد من غيرهم بادروا بقتله ولو وزيرًا أو سلطانًا أو خليفة عباسيًّا، أخبر قومه أن شارب الحشيش يذوق جميع لذات الفردوس، فكانوا كالبهائم بسبب السُّكْر بالحشيش مستعدين لارتكاب أكبر الكبائر؛ ولذا سماهم المؤرخون بالحشاشين لا بالحساسين؛ أي القَتَّالين كما زعم الفرنج، وأذن لهم في النهب فنهبوا وجالوا بأسلحتهم في الشام حتى بلغوا جبل لبنان، وبَنَوْا في الشام أماكن محصنة ونهبوا جميع القوافل التي تمر بأرضهم وقطعوا الطرق، وملكوا في غرة القرن الثالث عشر من الميلاد كثيرًا من المنازل في العراق والشام وحصونًا أخرى قرب دمشق وحلب، وتوطنوا من ابتداء سنة إحدى وستين ومائة وألف ميلادية بالعراق الفارسي، فبذل الملكشاه عزائمه في إعدامهم ولم يبالوا بذلك، بل يقال إن نظام الملك الذي كان الوزير الأعظم لهذا السلطان قتله أحدهم لشدة تعصُّبه وغَيْرَتِه على مذهبه الديني، وكان هؤلاء الحشاشون مع الفاطمية كحزب واحد لشدة مخاصمتهم وإدمان مشاجرتهم مع أهل السُّنَّة.

المبحث الثامن: في إغارة المغول وإظهار الملك جلال الدين كبير العزم في مقاومتهم وانقضاء الخلافة العباسية

كان السلطان محمد ملك خوارزم ذا جلالة وشوكة فزع منها الخليفة العباسي الناصر لدين الله؛ فأغرى ملوك الغورية، فحاربوا السلطان محمدًا الذي جمع بعد ذلك في قصره أرباب الفتوى والعلماء، فأخذ آراءهم وأعلمهم أن العباسية تَعَدَّوْا في الخلافة على بني الحسن بن علي بن أبي طالب، وأشهر من ذرية علي بن أبي طالب خليفة مقيمًا في إقليم ما وراء النهر يسمى علاء الدين، وجهز لغزو بغداد جيشًا عظيمًا، وإذا قوم من العائلة السيتية محافظون في بلادهم التتارية على ما كان عليه آباؤهم من الدين والعوائد والعيشة البدوية والحكومة والانقسام إلى قبائل والطاعة لمشايخهم وحب النهب والحرب، استولى كبيرهم جنكزخان على بلاد التتار والأقاليم الشمالية من مملكة الصين، ثم قصد الاستيلاء على الأقاليم الغربية من آسيا، وهدَّد إقليم ما وراء النهر بالتغلب عليه سنة تسع عشرة ومائتين وألف ميلادية، فعدل السلطان محمد عن توجيه جنوده إلى بغداد، وبعثهم إلى ما وراء النهر، فهزمهم المغول ومزَّقُوهم كلَّ مُمَزَّقٍ؛ فهرب السلطان محمد وعبر جيحون والتجأ إلى بحيرة الخزر في بحر جرجان سنة مائتين وألف ميلادية، وترك ابنه جلال الدين يدبر في مقاومة هؤلاء، ثم فجع بما رآه من فرار قومه وانقضاض المغول على ما وراء النهر وبلاد خوارزم وخراسان وجيلان وأذربيجان، وملكهم في تلك البلاد ألفًا وسبعمائة فرسخ، ورجع رئيسهم جنكزخان إلى مدينة كراكوروم تخت وطنه المبنية قرب صحراء شاموا، وأقام فيها من سنة عشرين ومائتين وألف إلى سنة سبع وعشرين ومائتين وألف، فعاد جلال الدين إلى بلاده بعد أن تَوَجَّهَ إلى الهندستان للاحتماء فيها، ثم انضم إليه جموع لم ينقادوا للمغول، وجدد من بقايا مملكة أبيه مملكة تمتد من منبع نهر الكنج إلى أبواب مدينة الموصل بالجزيرة.

ثم ولَّى جنكزخان ابنه الأمير أقطاي الخانية العظمى على المغول، فأمر رجاله فأغاروا على مملكة جلال الدين فهرب ثانيًا وقُتِلَ في ديار بكر، وأخذ أقطاي يقاتل من سنة خمس وثلاثين ومائتين وألف إلى سنة إحدى وأربعين ومائتين وألف سلطان قونية والخليفة العباسي المستنصر بالله، ولم يَعُدْ عليه من ذلك كبير ظَفَرٍ، وخلفه الخان جايوك سنة إحدى وأربعين ومائتين وألف. ولم تتقدم فتوحاته، واكتفى بطرد سفراء خليفة بغداد وشيخ الجبل والملوك السلجوقية من ديوانه، وخلفه منجوخان سنة إحدى وخمسين ومائتين وألف، فكلف أخويه كوبلاي وهولاكو بتوسعة دائرة مملكته، وبعث كوبلاي فأخذ يفتح في الصين حتى أشرف على إتمامه، وإذا أخوه هولاكو متوجه من مدينة كراكوروم بجيش عظيم إلى غرب آسيا؛ فأعدم في أقل من سنتين ما بقي من آثار حكم العرب في بلاد الفرس وصاحب بعض أهل بغداد، وكاتبهم سرًّا ثم حاصرها، وظَنَّ الخليفة المستعصم أن لا قدرة له على مقاومة هولاكو، فأراد التداول معه فيما يرضيه فلم يُصْغِ له، وفتح بغداد سنة ثمانٍ وخمسين ومائتين وألف ميلادية الموافقة ٦٥٦ هجرية. ولبث المغول ينهبون في المدينة سبعة أيام، وأحرقوا جانبًا عظيمًا من أنفس الكتب المكتوبة بخط القلم، ورموا في الدجلة من الكتب ما سَوَّدَ ماءها على ما بالغ به بعض المؤرخين، وتعجبوا من أموالها الغزيرة مع أنهم نهبوا قبلها بخارى وسمرقند ومرو ونيسابور وغيرها، وخنقوا المستعصم وجروه بين أسواق بغداد وأسوارها مُضَرَّجًا بالدماء؛ فكان آخر الخلفاء العباسية.

المبحث التاسع: في عدم تغلب المغول على مصر والشام، وعزل المماليك الملوك الأيوبية ثم عزل العثمانية هؤلاء المماليك

أدخل خلفاء صلاح الدين الأيوبي في قصورهم أَرِقَّاءَ جددوا بالقاهرة من المفاسد والفتن ما جدده عساكر الأتراك غير المنتظمة، وهؤلاء هم المماليك الذين منعوا المغول بعد استيلائهم على بغداد من استيلائهم على مصر والشام.

وفرت الخوارزمية من جنكزخان، وأغاروا على الشام، فاستنجد سلطان دمشق بالصليبية فأنجدوه، فأعطاهم طبرية والمقدس وعسقلان، فانضم المماليك وسلطان مصر إلى الخوارزمية، وقاتلوا سلطان دمشق زمنًا أخذوا فيه المقدس مرات، ثم حاربت المماليك الخوارزمية من سنة أربعين ومائتين وألف إلى سنة خمسٍ وأربعين ومائتين وألف ميلادية، فمزقوا شملهم كل مُمَزَّقٍ، وصدوا بعد ذلك بثلاث سنين عدوان سنت لويز ملك فرنسا في واقعة المنصورة وأسروه، وعقد معه سلطان مصر الكردي شروطًا لم يَرْضَوْهَا؛ فعصوا سلطانهم ووَلَّوْا أحد رؤسائهم أيبك المعز لدين الله وجميع وسائل المملكة ووارداتها تحت تصرفهم، فلم ينازعهم أحد، وأخذوا إقليم الجزيرة، وكذا الشام بعد أن أخذه هولاكو سنة ثمانٍ وخمسين ومائتين وألف ميلادية، ثم ذهب من الصليبية ما كان بأيديهم من البلاد الإسلامية، وذهب سنت لويز إلى إقليم فلسطين، فأخذ يتودَّد مع خان المغول وشيخ الجبل ليستعين على هؤلاء المماليك فلم يُجْدِ ذلك نفعًا.

وبعد أن أخذ المغول بغداد أتى إلى القاهرة من الخلفاء العباسية عائلة لا دخول لها في الأحكام السياسية، بل في الأحكام الدينية كتقرير حكم سلاطين مصر، ولبثوا كذلك من سنة ثمانٍ وخمسين ومائتين وألف إلى سنة سبع عشرة وخمسمائة وألف، ثم تغلبت العثمانية وقطعوا دابر المماليك، ونفذوا حكمهم على جميع الإيالات المعروفة في الخرائط الجغرافية بتركية آسيا.

المبحث العاشر: في أن تمدن العرب لم يذهب بذهاب دولهم

لا خفاء أن شوكة العرب أخذت تزول شيئًا فشيئًا حتى زالت خلافتهم، وفقدوا حكمهم السياسي في غير بحيث جزيرتهم، وزال ذكرهم من تاريخ الأمم المشرقية زمن تقدُّم الأتراك والمغول الذين أغاروا من شمال آسيا على غربها وشرقها. نعم التمدن العربي لم يَزَلْ ظاهرًا بعد الخلافة، بل كانت التقلُّبات في بلاد آسيا معضِّدة لتمدن العرب؛ فقد أحضر السلطان محمود الغزنوي إلى ديوانه العلامة البيروني الذي أحاط بكل فن واشتهر على أبناء عصره. واستمد الملكشاه من مدرسة بغداد الإصلاح الذي أحدثه في رزنامة الحساب والتقويم الفارسي، وبنى هولاكو رصد خانة فلكية لنصير الدين الطوسي الشهير بالعلوم الرياضية، ونقل أخوه كوبلاي العلوم والفنون من الأقاليم الغربية من آسيا إلى الصين حين تسلطن عليه، ثم كان بعد قرنين عائلة تيمورلنك فكان ولده شاه روخ وحفيده أولوغ بيك وارثين لما في المدرسة البغدادية العربية من العلوم والفنون، ثم كان زمن الأولين من السلاطين العثمانية علماء برعوا وألفوا كتبًا باللغة العربية والفارسية، فكان لديهم آخر أشعة شموس العلوم التي خُتِمَ بها ذلك العصر المديد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤