الباب الثاني

في توقيف حزبي المرابطين والموحدين تقدم نصرات النصارى على عرب المغرب (مسلمي إسبانيا) من سنة ١٠٠٨ إلى سنة ١٢٣٢ ميلادية الموافقة سنة ٣٩٩ إلى سنة ٦٢٩ هجرية، وفيه اثنا عشر مبحثًا

المبحث الأول: في انحطاط الخلفاء الأموية في إسبانيا وتمزيق خلافتهم المؤسَّسَة بقرطبة

ولي هشام الثاني الخلافة وليس أهلًا للقيام بتدبير المملكة فولي الصدارة المنصور، وكانت له نصرات ودَّ بها المسلمون أن تخلد الحكومة في أيدي ذريته وخلفه ابنه عبد الملك إلى سنة ١٠٠٨، ولم يكن لهشام الثاني أولاد، فحضه حزب العمريين على أن يعهد بالخلافة للأمير عبد الرحمن أخي عبد الملك بن المنصور، فأبت الأموية ذلك، وكان بين الحزبين تنافُس به اتقدت الحرب سِتَّ سنين نهب فيها ما في قرطبة مرات، وعزل هشام فولي الخلافة محمد بن المهدي الأموي سنة ١٠٠٨ إلى سنة ١٠١٠، ثم هشام الثاني من هذه السنة إلى سنة ١٠١٢، ثم الأمير سليمان أمير العرب الإفريقيين، ولم يره المسلمون أهلًا للخلافة فتجددت خصومات بعد سنتين، وازداد هَوْلُهَا بظهور علي بن حامد في عائلة بني حامد المنتسبة إلى علي بن أبي طالب من جهة فرع الإدريسيين، وكان رئيسها علي بن حامد حاكمًا على المغرب من طرف هشام الثاني، فما زال كذلك حتى ولي الخلافة سليمان السالف، فأثبت نسبه وزعم أنه الأحق بأن يخلف بني أمية في الخلافة، فأخذ وارد إقليم المغرب وأحضر من داخل إفريقية كثيرًا من الزنج، وجنَّد منهم ومن العرب والبربر جنودًا سار بهم إلى إسبانيا، فسهل له النزول فيها وفي مدينتي ملاغة والجزيرة أخوه القاسم، ثم عزل سليمان في أسرع وقت عن الخلافة لكراهة الناس له، وولى ابن حامد الخلافة مع بقاء الأندلس بيد بقية من الأموية لو اتحدت كلمتهم لأمكن أن يظفروا به، لكن عبد الرحمن الرابع والخامس ومحمد الثاني، وهشام بن محمد المتولين الخلافة من سنة ١٠١٧ إلى سنة ١٠٢٩ ساء حظهم بحروب قُتِلَ فيها إخوتهم وعدم مالهم من بقايا الوسائل الحربية.

ثم مات علي بن حامد، فاستقل كل من أخيه القاسم وابنه يحيى بجنود أوقفهم إزاء الآخرين سنة ١٠٢٩، وأصبحت بلاد إسبانيا الإسلامية فوضى لا رئيس لها.

وبالجملة ضعف هشام عن تدبير المملكة أفضى إلى تداخل أرباب المطامع في تدبيرها، فكان بينهم من الحروب الداخلية ما لم يُفْضِ إلى ابتكار قوة سلطانية، بل إلى انفصال الأقاليم المنقادة للعرب وصيرورة كل واحد منها مملكة مستقلة.

وبالتأمل فيما سلكه ولاة الأقاليم مع الخلفاء الأموية يعلم ما كانوا يستفيدونه في قتال الأموية مع العلوية؛ فإنهم كانوا يعقدون كما يشاءون شروطًا مع أحد المتسابقين إلى الخلافة قاصدين بقاء حكومتهم بأيديهم زمن حياتهم أو بعد مماتهم في عائلاتهم، بل ألزموا العلوية والأموية أن ينزلوا بهم عمَّا كان بأيديهم من الأقاليم التي كان بها التنازُع في مقابلة تشكُّرِهم تشكُّرَ عبودية أو حلفهم لهم على مصادقتهم؛ وذلك سبب إحداث الحكومة السيادية الولائية في إسبانيا، ولم يكونوا منفردين بحب الاستقلال، بل مثلهم الوزراء والقُوَّاد الذين اشتغلوا بمصالحهم الخاصة مُعْرِضِينَ عن المصالح العامة بلا تبصُّر في العواقب، فحدث سنة ١٠٢٩ ميلادية بالأندلس سوى الإمارات الصغيرة ست ممالك، وهي: مملكة قرطبة، ومملكة إشبيلية، ومملكة كرمونة، وأيسيجة، ومملكة ملقا، ومملكة الجزيرة، ومملكة غرناطة. وأما طليطلة فصارت تخت مملكة مستقلة عن تلك الممالك، وكذا إقليما الجرف ولوزيتانيا كان لهما ملك في مدينتي لسبونة وباداجوز.

وحدث بالساحل الشرقي من إقليم المرية إلى مدينة مروييد وثلاث ممالك؛ مملكة مرسية: بين المرية ونهر سيجورة، ومملكة دنيا: من نهر سيجورة إلى نهر إكسوكار، ومملكة بالنسيا: من نهر إكسوكار إلى مرويبدو. وأما الأقاليم الشمالية من بحيث جزيرة إسبانيا فمنقسمة بين ملوك سراقسطة وطرطوس، وهو سعه ولو بقي مع هؤلاء الولاة الحكومات الأربع على حدودها الأصلية، وهي حكومات قرطبة وطليطلة ومريدة وسراغوسة، لما كان انحطاطهم سريعًا بتلك المثابة أو أنشئوا قبل عصيانهم الخلفاء معاهدة بينهم لبقي لكل ما بيده، وأمكنهم مقاومة النصارى الذين أحدثوا إذ ذاك ببلادهم ممالك صغيرة، إلا أن كل واحد استقل بالحكم على جهة مدعيًا استحقاقه السلطنة على جميع إسبانيا، فأغار كل على الآخر، فحل بالأمة العربية الدمار بذهاب شجعانها وجيوشها التي كانت تقاوم بها النصارى.

المبحث الثاني: في توسيع ملوك إشبيلية حكمهم حتى عم إسبانيا الإسلامية وعدم نجاحهم في ذلك وفي شقاق العرب الذي تقدمت به فتوحات النصارى في إسبانيا

لما تمزقت مملكة الأموية بإسبانيا اكتفى ملوك النصارى ذوو الشوكة والمجاورون لهم — وهم ملوك سراغوسة وباداجوز — بحكمهم ما جاورهم من العرب إلى إيالتي أراغون والجرف، واشتد حرص ملوك طليطلة على إعلاء شأن الخلافة، وكذا ملوك إشبيلية المؤسس لهم الخلافة ابن عباد المسمَّى أيضًا بابن عاضد؛ فإنه أشاع بجميع إسبانيا أن هشامًا الثاني ظهر، واعْتُرِفَ له بين الناس أنه الوارث للخلافة في مدينة قرطبة، ثم مات ابن عباد فخلفه ملوك إشبيلية التي هي من أحسن المدن وضعًا، وفيها من وسائل العظمة والغنى ما لم يكن في غيرها، ولبثوا غير متعرضين للملوك الأصاغر بالأندلس حتى ضعفت قوتهم بالحروب الداخلية، فأضرم ملوك إشبيلية حينئذٍ نار الوغى، وأخذوا مدائن جبل طارق ونيبلة وهولقة وكرمونة.

ثم وجد ملك إشبيلية — وهو المعتضد الأول المسمى ابن عباد الثاني — أن ملك طليطلة هزم ملك قرطبة سنة ١٠٦٠ ميلادية في واقعة الجوطور، وحصره بقرطبة، فسارع المعتضد الأول إلى نجدته وطرد عنه الأعداء، ثم قبض على هذا الملك وأخذ ممالكه، ثم أراد التغلب على مدائن ملاغة وغرناطة وإيسيجة؛ فصده ملك ملاغة المنتسب لعائلة بني حامد بجيوش كثيرة، ثم خلفه المعتضد الثاني المسمى ابن عباد الثالث، فأخذ منه ملك طليلطة مدينتي قرطبة وإشبيلية بمساعدة ألفنس السادس ملك قسطيلة، ثم أخذهما ثانيًا لمحبة سكانها له، ومزق ممالك طليطلة التي اتسعت بانضمام مدينة قونسة وعدة خطط، وهي خطط مرسية ووالنسة واليقنتة، ثم دهم الملوك المتحكِّمين على الممالك بعد التمزيق، فغلبهم واحدًا بعد آخر، وأزال السلطنة من مدينة مرسية، ثم أخذ مدينتي ملاغة والجزيرة وانتقل منهما الملوك الإدريسيون إلى طنجة أو سبتة سنة ١٠٧٩، وبلغ ذلك ملوك سراغوسة وباداجوز، فتعصبوا عليه، فضَمَّ إليه سنة ثمانين وألف ألفنس السادس ملك قسطيلة على أن يعطيه من الفتوحات ثلاث مدائن: باداجوز وغرناطة والمرية، وأبى إعطاءه طليلطة، ثم حاربا فلم يفتحا إلا طليطلة سنة ١٠٨٥، فأخذها ألفنس فقام جميع الأندلس على ابن عباد، وألزموه رفض تلك السياسة الذميمة المؤدِّيَة إلى أن يملك النصارى جميع إسبانيا، ولم تكن عاقبة تلك الحروب الداخلية التي أخذ فها النصارى طليطلة مجرد تعطُّل الأشغال والصنائع وخراب المزارع وذهاب عظمة مدينة قرطبة التي لا تخلفها مدينة إشبيلية، بل مع حيازة النصارى نصرات جبروا بها ما حصل لهم من الهزائم في الحقب الماضية، وتقدموا شيئًا فشيئًا حتى بلغوا وسط بحيث الجزيرة.

وقد تداخل كونت قسطيلة وكونت برسلونة من سنة ١٠٠٨ إلى سنة ١٠١٤ فيما كان بين محمد المهدي وسليمان من الحروب التي أخذ فيها هذان الكونتان مدنًا جليلة وحصونًا في حدود بلاد العرب، ثم أخذ ألفنس الخامس مملكة ليون زمن تخاصُم الأموية والعلوية، وشرع في فتح الجزء الذي في جنوب نهر الدويرو، ثم مات سنة ١٠٢٦ وهو محاصر لمدينة ويزو وخلفه ابنه برمود الثالث، وخاف أن يعدو عليه ملك نوارة؛ حيث ضَمَّ إلى ممالكه كونتة قسطيلة فوجَّه برمود عسكره إليه، وكان بينهما حرب انقسم بها سنة ١٠٣٥ ممالك نصارى إسبانيا؛ حيث اختص مملكتا أراغون وقسطيلة بعقد الحرب مع المسلمين، وصارت مملكة نوارة تشبه جمعًا من عساكر احتياطية، وانضمت مملكة ليون سنة ١٠٣٧ إلى مملكة قسطيلة التي صارت إذ ذاك خفراء على بلاد النصارى بإسبانيا، وأخذ الملك فرينند الأول من سنة ١٠٣٥ إلى سنة ١٠٤٤ أقاليم استورية وغاليسة وبسقاية وليون وقسطيلة، وأخذ في إيالة البرتغال مدائن ويزو ولاميغو وقومبرة، وقوي سلطانه حتى خشي المسلمون بأسه، وضم ملك أراغون إليه كونت برسلونة، وأغار على ملكي سراقسطة وهوسقة، فانقادا ودفعا الجزية إليه من سنة ١٠٦٣ إلى سنة ١٠٦٦.

وكان ما سلف نتيجة المشاجرات التي اتَّقَدَتْ بين عرب إسبانيا، ثم كان بين النصارى ببلاد قسطيلة سنة ١٠٦٦ إلى سنة ١٠٧٣ حروب داخلية خربت تلك البلاد، ونجت بها المسلمون من استيلاء النصارى عليهم، ومات فرينند فتنازع أولاده الثلاثة في تقسيم مملكته، فطرد سنش — وهو الأكبر — أخويه غرسيه وألفنس من بلاد غاليسة وليون، فاستعان غرسية بملك إشبيلية المسمى بالمعتضد وألفنس بملك طليطلة المعروف في تواريخ الإفرنج القديمة بالمأمون، ثم مات سنش زمن حصاره مدينة زامورة التي كانت تحت يد أخته الست أورَّاقه (براء مشددة بعد همزة مضمومة)، فأحضرت رعيته أخاه ألفنس من بلاد الإسلام سنة ١٠٧٣، فتولى جميع ما كان لوالده فرينند، وبعث جيشًا ساعد ملك طليطلة على أخذه مدينتي قرطبة وإشبيلية من المعتضد الثاني مكافأة له على إكرامه له زمن ضيافته، ولبث مسالِمًا له حتى مات فعاد لمحاربة المسلمين برجال ذوي شجاعة وإقدام منهم سِيد (بسكون الياء) وكذا «ردريغ دوبيوار Le Cid Rodrigue be Bivar» الذي أخذ يخرب السهل الممتد من حدود قسطيلة القديمة إلى شواطئ نهر التاج من سنة ١٠٨١ إلى سنة ١٠٨٥ ميلادية، وحاصر هذا الملك طليطلة فساعده المعتضد، ومال إليه سكان هذه المدينة الذين أكثرهم يهود ونصارى، فألقوا إليه مفاتيحها بعد مبايعته على أن يحترم المساجد ويُبقِي حكم القضاة بين المسلمين على ما هو عليه، وخرج ملكها المسلم بالإشراف، فتوطنوا بمدينة والنسة وانقاد للفنس بفتحه هذه المدينة جميع الحصون التي أمام نهر التاج، وهي مقدة ومدريد وغواد الكسارة وقورية، وأما بلاد الوادي اليانع فأخذها بالسيف.

المبحث الثالث: في ترك المسلمين جزءًا من أملاكهم في البحر الأبيض المتوسط

كما أخذ النصارى من المسلمين بلادًا بإسبانيا أخذوا منهم بلادًا في جزائر البحر الأبيض المتوسط؛ فقد خرج أهل جنويزة وبيزة في جزيرة سردينيا، وطردوا منها الحاكم عليها من طرف الزيرية الذين أرادوا فيما بعدُ الاستيلاء على تلك الجزيرة ثانيًا، فبعثوا جيشًا من إفريقية فصدهم أهل بيزة، وقتلوا سائرهم قرب مدينة كالياري.

وأخذ أهل جنويزة جزيرة قرسقة من لصوص الأندلس المتحكِّمين عليها حين تخلى المسلمون عنها، وكان العرب إذ ذاك يُغِيرُونَ على بلاد إيطاليا، فوجدوا سنة ألف ميلادية في مدينة سالرنة أعداءً مهاجرين من بلاد النرمندية عاهدوا اليونان وساعدوهم على أخذ مدينة ترنتة من المسلمين سنة ١٠٣٥، ثم دهم اليونان جزيرة سيسيليا سنة ١٠٤٣ ليأخذوا من المسلمين فعجزوا لتنازع بينهم وبين النرمنديين إذ ذاك.

ولم تقدر جماهير إيطاليا على أخذ الجزائر البليارية التي أخذها والي مدينة دنيا من لصوص بحرية توطنوا فيها وجعلوها مركز أعمالهم، وهو جَدُّ الولاة الذين استقلوا بالحكم في إسبانيا.

وشغل الزيرية عن منع تلك المصائب ما كان في بلادهم الإفريقية من الفشل والفتن التي لم تنتج غير استبدال حاكم ظالم بآخر، مع ما كان من بني حماد المتوطِّنين في مدينتي أشير وبجاية من نهبهم الحدود المجاورة لهم، وإرسال الفاطميين من القاهرة جيوشًا تدهم طرابلس، وامتناع قبائل البادية من تأدية الخراج، مع اتساع دائرة غاراتها باقترابها من سواحل البحر المتوسط.

المبحث الرابع: فيما يتعلق بحزب المرابطين

لم يهتم عرب الأقاليم الشرقية في آسيا بما حل بإفريقية وإسبانيا من عُدوان النصارى، بل قام بذلك سكان براري المغرب، وهم القبائل الإفريقية المتوحشة التي تأبى أن يحكمها أجنبي، وينتسب منها إلى بني صنهاجة الكبرى قبيلتا لمطونة وغوادلة اللتان أغراهما عبد الله بن تشفين أحد فقهاء مدينة سوس، وأخذ يثير فيهم الحَمِيَّة الدينية حتى انقادوا إليه، وتلقَّبُوا بالمرابطين، وجعل قائدهم ابن أخته أبا بكر، ففتحوا مدينة سلجلمش، ثم بلاد دهرة، وأنفذوا حكمهم على قبيلة معمورة إحدى القبائل الخمس العظام النازلة في شمال إفريقية، ثم اجتازوا سنة ١٠٦٨ جبل أطلس ليتوطنوا في نواحي مدينة أجمة التي بين الجبال والبحر الأبيض المتوسط، فنزل بهم قائدهم أبو بكر بالأجمة أيامًا يسيرة، ثم أسَّس مدينة سماها مراكش، ثم ولي الحكم خالُه يوسف بن تشفين، وكان تقيًّا سياسيًّا ذا جلالة ووقار وصفات قاهرة ألزمت الرعية بالطاعة، ثم اختاره المرابطون قائدهم، فرتب خفراء كثيرة من عبيد اشتراهم من بلاد الأندلس وسواحل بلاد غينة، ثم سار بهم فأخذ مدينتي فاس ومكناس من العرب والبربر (أي المغاربة)، ثم اشتغل بعض عساكره بالفلاحة وبقي معه الأكثر، فأخذوا على التوالي مدائن سبتة وطنجة وصالة التي التجأ إليها بنو حامد حين طردوا من مدينتي ملاغة وفاس، فاعترف جميع المغرب بسلطنة يوسف بن تشفين سنة ١٠٨٤ ميلادية.

المبحث الخامس: في انتقال يوسف بن تشفين إلى إسبانيا

لما اشتد الخطب بعرب إسبانيا هرع ملوك إشبيلية وباداجوز وغرناطة إلى يوسف بن تشفين، فاستنجدوه على النصارى، وأعطى له المعتضد ملك إشبيلية مدينة الجزيرة، فارتحل وعبر البحر في بحيث جزيرة إسبانيا سنة ١٠٨٦ بجيش جرار عمت بهم الحماسة والنشاط جميع بلاد الأندلس، ونُصِرُوا في عدة واقعات منها الواقعة المهمة التي عقدت في جهة زلاقة.

ورأى ابن تشفين جمال السهول الإسبانية فتاقت نفسه لأخذها وأدرك منه الأندلسيون ذلك، فانحلت بينه وبينهم عُرَى الاتفاق، وأخذوا في أسباب خيبة مقصِده، فانتهز الفرصة الملكان ألفنس السادس وسنش صاحب إيالة أراغون؛ حيث جمعا رجالًا عادا بها إلى المحاربة، فجال البطل سيد برجاله في إقليم مرسية، وأخذ سنة ١٠٨٧ مدينة اليد الحصينة، وأخذ سنش مدينة هوسقة عنوة سنة ١٠٨٨، وأبقى ألفنس حدود مملكته آمنة من العدوان عليها، بل وجَّه من طليطلة عساكِرَ خربت سنة ١٠٩٠ من البلاد الإسلامية إلى شواطئ الوادي اليانع، ولم يبقَ من سنة ١٠٩٠ إلى سنة ١٠٩٤ في جميع البلاد الإسلامية التي في جنوب إسبانيا سلطنة غير سلطنة المرابطين الذين أخذوا مدن قرطبة وكرمونة وبيظة، وممالك المرية وملاغة وغرناطة، ونهبوا إشبيلية فسلم ملكها نفسه إليهم دفعًا لغوائل النهب، ثم أخذوا مدن كزاطيورة ودنيا ووالنسة والجرف ولوزيتانيا، ولم يبقَ على استقلاله إلا مدينة سراغوسة سنة ١٠٩٤.

وقد ظهر أن السير الذي سلكه ابن تشفين لم يكن لتعصُّب ديني؛ حيث أبقى سنة ١٠٩٥ القائد النصراني المسمى سيد يتوطن برجاله في مدينة والنسة، وتفرغ من الحرب للتمتُّع بالملاذِّ، فأخذ ينتقل من قرطبة إلى مراكش ومن إفريقية إلى بحيث جزيرة إسبانيا، غير مهتم بما حصل للدين الإسلامي من الخطوب، وعرب إسبانيا مهتمون في إعدام تصرفه المطلق الذي أنفذه عليهم، فاتفق جمع من الولاة بنواحي مدينة والنسة وشيمينة زوجة القائد سيد على المدافعة عن هذه المدينة التي افتتحها زوجها، هذا هو السبب في بقاء والنسة بأيدي النصارى سنة ١٠٩٩ لا جيش المرابطين؛ فقد هدَّدُوا شيمينة بالتغلب عليها، ثم مات سنة ١١٠٧ رئيسهم يوسف بن تشفين الذي تحصل من الخليفة العباسي ببغداد على تقليده حكومة إسبانيا لينفي به عدوانه عليها؛ حيث كان بإذن الإمام، خلفه ابنه علي في هذه السنة، ونصر في واقعة أوقلس على ألفنس السادس، لكنه دهم أهل الأندلس وملك سراغوسة الذي ضعف حاله بدهمات المرابطين وعساكر ملك أراغون، ثم انضم كوالده إلى النصارى الذين استولوا سنة ١١١٨ ميلادية على مدينتي قلعة أجود وداروكة، وكان كرسي مملكته مدينة قرطبة التي عامل من معه من المرابطين أهلها معاملة أمة مغلوبة لا معاملة الأخوة الإسلامية، فعصى أهلها سنة ١١٢١ ولم تكد عساكره تكفي في إلزام أهل هذه المدينة الطاعة له إلا بغاية الجهد، أدخل في بحيث جزيرة إسبانيا قبائل جمة من أهل إفريقية، وأعطاها أسلاب وأملاك القبائلِ العربية القديمة التي كانت في بحيث تلك الجزيرة؛ فجدَّد ما كان سببًا في تنازُع قبائل العرب في آسيا وقبائل العبدارية من ضروب البغضاء التي نشأ عنها عود المسلمين بإسبانيا إلى الحروب الداخلية وانقسامهم إلى عسكريين متعادِين، وخلفه ابنه تشفين سنة ١١٤٤ فسلك مسلكه في تزعزع الحكم واضطرابه.

المبحث السادس: في تجديد ملوك النصارى الحرب مع المسلمين بإسبانيا

كان النصارى منذ غارة المرابطين لا يعدون على المسلمين بل يدافعون عن بلادهم، حتى كان هذا التنازُع بين المسلمين، فعادوا إلى قتالهم واضطرب جميع أوروبا بعظيم حركة الحرب، وهرع إلى إسبانيا من الشوالية (الفداوية) جم غفير لمساعدة النصارى، وأدى كل من «ريمند البرغوني Raymonde de Bourgogne» و«هنري البزنسوني Heuri de Besançon» خدمًا حربية شكرهما عليها الملك ألفنس، وزوَّج ريمند ابنته الأميرة أوراقة وهنري ابنته الأميرة طيريزة، وأعطى هنري جميع ما فتحه من إيالة لوزيتانيا صداقًا لطيريزة، ولبث ريمند يؤمل أن تكون له السلطنة على بلاد قسطيلة، ثم ملك قسطيلة وليون.

وكان نصارى إسبانيا سنة ١١٢٠ ميلادية حاكِمين على البلاد الممتدة من طليطلة إلى نهر إبرة، ثم أغار ألفنس صاحب إيالة أراغون على مدينة والنسة وغلب المتعصبين عليه من الولاة الإفريقية، وفتح سهول الأندلس، ودخل تحت ألويته العرب الذين كانوا في نواحي غرناطة، وكانوا اثني عشر ألفًا، ثم أغار على مملكة مرسية سنة ١١٢٥، ونهب ما في خلوات غرناطة، وأخذ معه من العرب كثيرًا توطنوا في مدينة سراغوسة، وقد أمر ملك المرابطين عساكره أن يقبضوا على النصارى الذين في حدود البلاد الإسلامية ويشتتوهم في داخلها، ففعلوا أكثر من ذلك؛ حيث ألزموا النصارى المهتمين بمراسلة العدو أن يبيعوا أملاكهم، ثم نقلوهم إلى بلاد إفريقية (المغرب)، لكن ألفنس ريمند ملك قسطيلة وليون لم يَخَفْ من ذلك، بل أغار سنة ١١٣٣ بجيش عظيم على بلاد الأندلس، فخرَّب ضواحي إشبيلية وقادس، واستحق بغزواته وتوسطه بين ملكي نوارة وأراغون تلقيبه بالإمبراطور (ملك الملوك)، وكذلك الملك هنري غزا جهة الجرف، فجمع ولاة مدائن باداجوز وبجا واقورة والواز رجالًا وقاتلوه، فهزمهم قرب هضاب أوريقة فتأيدت شوكته وتسلطن على تلك البلاد.

المبحث السابع: في ضياع جزيرة صقلية من المسلمين وطردهم منها إلى المغرب

سكن الشوالية النرمنديون روبرت جسقارد وأخوه روجير في كمته (إمارة) أورسة (بفتح الهمزة وكسر الواو)، وإمارة قابو، وأنشئوا في جنوب إيطاليا مملكة مستقلة مع معارضة كل بابا برومية المدائن واليونان والألمانيين، ثم رأى جسقارد وروجير تنازع الأمراء الخمسة حكام مدائن بالرمة وبيرانيزة ومسينة وتراباني وباتي فعبرا بوغاز جزيرة سيسيليا سنة ١٠٦٤ ميلادية، فتداخل بين هؤلاء الأمراء روجير، ثم ترك صفوف المسلمين وجمع لديه نصارى الجزيرة سنة ١٠٦٨، وحارب المسلمين زمنًا طويلًا لم يمده فيه أخوه فاحتمى في مسينة وأخذ يدافع عن نفسه، وكاد أن تقتله العساكر التي بعثها الزيريون من إفريقية، ثم أتى أخوه جسقارد بالمدد فغير صورة الأحوال التي كانت، فانقاد له مدينتا قطانة وبالرمة وقهقر جيش المسلمين سنة ١٠٧١، فثبتت سلطنة النرمنديين على جزيرة سيسيليا، وخافوا أن يذهب ما فيها من العرب والمغاربة بالعلم الفلاحي والصناعي الذي حقق لهذه الجزيرة العز والرفاهية، فجادوا على من بقي فيها بأمور كثيرة، ثم أراد روجير أن يسلب سلطنة العرب على البحر الأبيض المتوسط، فتبع أثرهم أولًا على صخر جزيرة مالطة التي خفق عليها علمه سنة ١٠٩٨، ثم هدد ولده روجير الثاني بلاد إفريقية واستولى من سنة ١١٢٥ إلى سنة ١١٤٣ على الجزائر التي بقرب سواحلها، وظهر بجيشه سنة ١١٤٦ أمام مدينة طرابلس زمن اتقاد المشاجرات بين الزيريين، فأخذها ثم أخذ مدائن سفكس وسوس ومهدية وقيروان وتونس سنة ١١٤٨، فترك الزيريون هذه المدن في أيدي النصارى وفروا إلى داخل البلاد؛ وبذلك يعلم أن الأمة الإسلامية كانت وسط القرن الثاني عشر في حالة انحطاط كُلِّيٍّ بالممالك الغربية، وإن حكمها على البحر الأبيض المتوسط وجزائره قد ضاع، فرجعت إلى إسبانيا التي كان تأخر زوال الدولة الإسلامية منها نتيجة سلطنة المرابطين بها الذين لم تخرج سلطنتهم عنها، ولم يشرعوا في غزوة بحرية بالبحر الأبيض المتوسط خلف جزائر بليارة التي انتهبوها سنة ١٠٩٦ من والٍ أندلسي، ولم يأخذوا جزيرة قندية ثانيًا من أهل مدينة ونديق التي أخذوها من المسلمين، وظهر بعد هؤلاء المرابطين حزب ظهر من براري المغرب، فنهجوا نهجهم، وأعادوا لدين الإسلام رونقه يسيرًا من الزمن.

المبحث الثامن: في ظهور الموحدين بدل المرابطين وتحكُّمِهم في بلاد كثيرة بشمال إفريقية (بلاد المغرب)

اعلم أن بعض الأقوام المنقادين لرجال قبيلتي لمطونة وجودرة الملقَّبَتَيْن بالمرابطين كانوا يرونهم بعين الحسد، ويشتهون أن يحوزوا لأنفسهم مثل ما حازوه من الأموال، وقام بتنجيز ذلك رجل يسمى محمد بن عبد الله أحد أصاغر الخدم بمسجد قرطبة، اطَّلع في صباه على مبادئ العلوم، ثم سار إلى بغداد فأخذ فيها العلم عن الإمام الغزالي، وفَهِمَ ما يمكن أن تناله العلماء من التحكُّم بالعقائد الدينية على حكومة الأمم، وجاء المغرب لنشر عقيدة أستاذه الإمام الغزالي، فنزل بمراكش وشرع بمحض قوة فطنته في زوال سلطنة المرابطين، فأخذ ينتقد كل ما رآه من رؤسائهم مغايرًا لما أُمِرَ في القرآن باتِّبَاعه وسب نساء علي بن تشفين لخروجهن سافرات الوجوه، فطُرِدَ من مراكش فأعلن الأمة أن هذا أوان إحياء الآداب الدينية، وأنه المهدي الجديد المعيد للفضائل والعدل، واستصحب رجالًا ذوي همة أخذوا ينصحون ويُنذِرون، فهرع جم غفير من مراكش وأجمة إلى استماع نصحهم وإنذارهم مستحسنين قصدهم تجديدَ دين الأمة، ثم رأى هذا الرجل كثرة حزبه وخوف ملوك تلك البلاد منه ووقوع أبصارهم عليه، فرحل إلى بلدة تنمال بإقليم سوس، وضَمَّ إليه رجالًا لقَّبَهُم بالموحِّدِين، وأمرهم أن يبنوا بذلك المحل قلعة لا يمكن العدو الهجوم عليها، وجعل أمور هذا الحزب شورى بين عشرة من أفطن تلامذته أَجَلُّهُمْ رجل يقال له عبد المؤمن، وبين سبعين رجلًا، ثم انضم إليه أعداء المرابطين، ومنهم قبائل حنطوطة وهرجة وجدموية، ثم وجد حزبه كافيًا في بلوغ مراده، فبدأ سنة ١١١٢ في محاربة المرابطين ونُصِرَ عليهم في ثلاث وقائع، ثم حاصر سنة ١١٢٣ مراكش التي هي مركز شوكة عائلة المرابطين في الأقاليم الشمالية من إفريقية فنُصِرَ في بعض وقائع، ثم غُدِرَ به وسُفِكَ دَمُ كثير من عساكره سنة ١١٢٥.

وبلغ به الخطب حَدَّ اليأس حتى ترك دعوى العظمة، فابتكر له تلميذه عبد المؤمن وسائل حربية جديدة، وأخذ يثير الحَمِيَّة في قلوب الرجال حتى جبر سنة ١١٣٠ جميع الخسارات فصمَّم رأيه على العود إلى الحرب وعهد إليه شيخُه بالخلافة، ثم توفي بعد أربعة أيام فقام بأعباء الخلافة التي هو حقيق بها، فإنه كان متعودًا أكثر من شيخه على الحرب وقيادة الجيوش، مجبولًا على عظيم المواظبة، وأكيد النية تام الجلالة والاعتبار، يخترع المقاصد التي تعد من قبيل المجازفة فينفذها، ففرح به الموحِّدون، وتحقق لديهم ما أمَّلُوه فيه بتحصيله في زمن يسير مملكة تفوق مملكة المرابطين بكثير؛ حيث أدخل تحت حكمه جميع القبائل الممتدة من مدينة تنمال تخت بلاده المطيعة له إلى مدينة صالة. ثم أخذ بلاد فاس وبلاد طاسة سنة ١١٣٧، ثم سار إلى تلمسان الباقية مع مدينة عران وبعض أقاليم مجاورة لمراكش بيد تشفين بن علي رئيس المرابطين، فصف عساكره بقرب تلمسان على هيئة شكل مربع مركب من أربعة صفوف: صف متسلح بالمزاريق الطِّوَال التي تركز في الأرض مائلة، وهو أشجع الصفوف وأولها، وصف متترس بالتروس الحامية من نبال الأعداء، وصفان رثماة بالقسي ورماة بالمقاليع، وهما وراء الأوَّلَيْن. وبين هذه الصفوف خَيَّالة تثب على العدو من منافذ ثم تدخل في ذلك المربع فتلتئم المنافذ، وأخذ يقاتل بهم على هذا الوصف حتى هزم جيش المرابطين وهم أكثر من جيشه، وفَرَّ رئيسهم تشفين إلى تلمسان، ثم إلى عران فصادفته نكبة مات بها سنة ١١٤٥ ميلادية، ثم انقاد لعبد المؤمن مدن وقاومته مدينة حصينة يمر بها نهر، فجعل له جسرًا متينًا حتى ارتفعت مياهه، ثم أزال ذلك الجسر على حين غفلة، فأسقطت المياه أسوار المدينة على ما قاله بعض مؤرخي الإسلام، ولم يبقَ بيد المرابطين بعد هذه الحوادث إلا مدينة مراكش سنة ١١٤٦ فأخذها عبد المؤمن عنوة.

وقد أمره شيخه المهدي أن يضم المسلمين الذين في الجهات الغربية من الدنيا إلى بعض تحت حكم رئيس واحد، ويجعلهم ذوي أفكار واحدة، فأدخل تحت حكمه من سنة ١١٤٦ إلى سنة ١١٥٨ مدينة سلجلمش وقبائل بين مدينتي عران وتلمسان، وأزال من بقي من عائلة بني حماد، فانضموا إلى الزيريين المنحازين إلى الصحراء، ورأى النصارى النرمنديين الممدوحين لديه بالشجاعة متوطنين بإفريقية منضمين إلى ملوك بجاية لئلا يعدو عليهم، فأمر بالسفر من مدينة صالة صباحًا، فضرب طبل عمقه خمسة عشر ذراعًا يسمع صوته من نصف مرحلة، وسار إلى تونس وسط السهول التي بساحل إفريقية الشمالي محفوفًا بقُوَّادِ الرجال وأكابر المشايخ راكبين خيولًا بسروج مرصَّعَةٍ ذهبًا وفضة بأيديهم سمهريات كعوبها من عاج، وبحديدها رايات وأربطة ذوات ألوان ووراءهم المويسيقيون بالآلات المطربة كالأبواق والكاسات والجيش يسير إلى الظهر ويستريح الباقي، وهو أربعة أقسام لكل منها عَلَمٌ ومهمات ودوابُّ مخصوصة يقف كُلٌّ عند الوصول إلى المعسكر في أسرع وقت بموضعه على حسب رتبته معه زاده وما يلزمه، ثم حارب بهذا الجيش النرمنديين، فأخذ من ابتداء سنة ١١٤٨ على التوالي مدائن تونس وطرابلس وسفكس ومهدية وقابس وقيروان ومدنًا أخرى، ثم صَدَّ عدوان قبائل الصحراء الممتنعة من تأدية الخراج المضروب عليها، وصد ملك جزيرة سيسيليا الذي كان يَوَدُّ إلى سنة ١١٨٠ أن يعيد إليه ما أخذه المسلمون منه، ولم يرجع عن مقصده إلا بعد شروط عقدها مع خليفة عبد المؤمن، ثم طلع من جزائر بليارة رئيس من المرابطين برجال نزل بهم قريبًا من بجاية سنة ١١٨٤، فملك بجاية وقابس وسفكس، وذكر في الخطبة اسم خليفة بغداد العباسي فصَدَّهُ هؤلاء الموحِّدُون، وأعادوا إليهم ما أخذه من المدن، واقتَفَوْا أثره في كل جهة حتى جزائر بليارة التي أدخلوها تحت حكمهم سنة ١١٢٥.

ودهم صلاح الدين الأيوبي هؤلاء الموحدين سنة ١١٧٢، ففتح طرابلس، ولم يقدروا على الانتقام من الأيوبية؛ لكونهم أعظم ملوك المشرق شوكة.

المبحث التاسع: في خروج المسلمين بإسبانيا على الملوك المرابطين

دهم الموحدون في أقاليم المغرب المرابطين الذين عجزوا عن بعث مدد إلى والي مدينة باداجوز ووالي مدينة ألواس، فوثب أهل الأندلس على الرؤساء الذين نصبهم علي بن يوسف ونُصِرَ ألفنس هنريقة في واقعة أوريقة على المرابطين سنة ١١٤٣، وخرب الملك ألفنس الثالث ملك قسطيلة وليون مدينتي أندوجار وبائطة خلف نهر الوادي اليانع وجبال سيرا مورينة سنة ١١٤٦ ومدينة قالطراوة سنة ١١٤٧، وحاصر مدينة المرية في البحر ثلاثة أشهر، ثم أخذها ولم يمكنه أخذ قرطبة، وحاصر ملك البرتغال مدينة لسبونة، وانفتح له بأخذها طريق إلى الجرف، وأمكنه السفر في نهر التاج، فسافر فيه بمساعدة سفن المقاتلين من الإنكليز والفلمنك التي ألقت مراسيها في مَصَبِّ ذلك النهر سنة ١١٤٧، وخرب سنة ١١٥٢ نواحي قرطبة التي عجز ألفنس الثالث عن أخذها.

ولو جدَّد عرب إسبانيا وحدة لحكومتهم وجعلوا لوسائلهم الحربية مركزًا كليًّا لأمكنهم مقاومة النصارى، إلا أنهم لم يتفكَّروا إلا في عصيان ملوك المرابطين لا في اختيار ملك آخر، فطمحت إلى منصب السلطنة سنة ١١٤٤ أنظار أهل المدن المعتبرة كمرسية ووالنسة وغرناطة وإشبيلية وقرطبة وغيرها، فادَّعى كُلٌّ هذا المنصب بلا حق، وانفصل عن الآخر، فذهب المرابطون من إسبانيا سنة ١١٤٦، فتوطَّنوا في إفريقية وجزائر بليارة تاركين بالأندلس جيشًا ضعيفًا تحت قيادة عبد الله بن غانية الذي اتَّحَدَ بالنصارى وبعث إلى بلاد القصبة عساكر قليلة حققت له حكم غرناطة، ثم أخذ مدينتي قرطبة وإشبيلية حتى جاء عبد المؤمن بالموحدين إلى إسبانيا، فقتل ابن غانية الذي لم يبق بعده للمرابطين أثر في بحيث جزيرة إسبانيا.

المبحث العاشر: في غارة الموحدين واستيلائهم على إسبانيا

كان بإقليم الجرف من إسبانيا والٍ متحزِّب للعقيدة الدينية التي نشرها الغزالي وتلميذه محمد بن عبد الله، دعا هذا الوالي الموحدين إلى الغارة على إسبانيا، فبعث عبد المؤمن جيشًا فتح جزءًا عظيمًا من إقليم الجرف، وأوقف سير ملك البرتغال النصراني سنة ١١٤٧، ثم جيشًا آخر حارب من سنة ١١٥٢ إلى سنة ١١٥٦ مدينة المرية، وأخذها من ألفنس السابع، وجيشًا ثالثًا فتح من سنة ١١٥٦ إلى سنة ١١٦٠ غرناطة والبلاد الممتدة إلى الوادي اليانع، وكذا مدينة والنسة من ملكها المعاهد للنصارى، والمستولي على جميع ساحل إسبانيا الشرقي، ثم قاوم أهل والنسة عبد المؤمن وأخرجوها من حكمه، ثم مات وخلفه ابنه يوسف فبدأ بقتالها قبل محاربته نصارى إسبانيا، وأخذها بعد قتال شديد من عرب الأندلس الذين أَبْدَوْا في المدافعة عنها أعظم بسالتهم في واقعة الغلاب، وكذلك أخذ مدينة مرسية، فانقاد له من سنة ١١٦٥ إلى سنة ١١٧٢ ولاة دنيا واليقنطة ومدن أخر.

المبحث الحادي عشر: في محاربة الموحدين نصارى إسبانيا وفيما كان من الشوكة للأميرين يوسف ويعقوب

مكث الموحدون مقتصرين على منع غارات النصارى على البلاد والمدن الإسلامية حتى كانت الحوادث المذكورة أخيرًا، فأرادوا محاربة النصارى، فوجدوا مملكتي أراغون وقطالونية متحدتين ومملكتي قسطيلة وليون منفصلتين بعد موت الملك ألفنس، وأن ملك البرتغال أشد ملوك النصارى بأسًا على المسلمين؛ حيث لم يزل يوسع مملكته غير مريد وضع السلاح، فوجَّه الأمير يوسف إليه جميع جيوش الموحدين، فأخذ طراغون من أهل أراغون، ثم سار بجيوشه إلى مدينة سنتارم المستولي عليها أهل البرتغال سنة ١١٨٤ وحاصرها، فوثب عليه أهلها فقتلوه وهزموا جيشه، فخلفه ابنه يعقوب، وهجم على تلك المدينة وملكها وأخذ بثأر والده، وحاز لعظيم فضله كسالفيه يوسف وعبد المؤمن مملكة رحبة ممتدة من طرابلس في شواطئ نهري إبرة والتاج، ثم أخذ من سنة ١١٨٤ إلى سنة ١١٩٥ يحارب النصارى الإسبانيين وسار بجيش عرمرم دهم به الملك ألفنس الثالث قرب مدينة العرقوص، فهزمه وأسر منه عشرين ألف رجل أطلقهم سنة ١١٩٥، وأخذ بهذه النصرة مدائن قالتراوة وغواد القصارة وإسقالونة ومدريد، ثم اجتهد سنة ١١٩٧ في أخذ طليطلة، ولم يقدر فتسلى عنه بذبح سكان مدينة سلامنقة ومروره ممن ممالك قسطيلة وليون مع إتلاف البرتغال كل ما قدروا عليه بالسلاح والنار.

وقد جدد هؤلاء الموحدون لإسبانيا الرونق الذي كان لها زمن الأموية؛ فقد جدد كل من عبد المؤمن ويوسف ويعقوب حُبَّ التزيُّن والأعياد الفاخرة وحامَوْا عن العلوم والصنائع، وعملوا بالشريعة الإسلامية، وأسسوا مدارس عامة وأخرى للشبان، وغمروا بعطائهم علماء الإسلام، واشتهر في زمنهم بالطب والفلسفة وقرض الشعر ابن رشد وابن زهر، وأنشأ الأمير يوسف بإشبيلية عمارات فاخرة ومسجدًا وقنطرة من سفن على نهرها، وأصلح أسوارها وأوصل إليها مياهًا غزيرة في مجارٍ أنشأها مع رصيفين بنهر الوادي الكبير، وأسَّس يعقوب لتخليد ذكر نصره في واقعة العرقوص مسجدًا ارتفاعه ٧٢١ قدمًا، متوَّجًا بكُرَة حديد مُذَهَّبَةٍ قيمتها مائة ألف دينار موضوعة على قائم زنته وحده عشرة قناطير، ثم أزيلت تلك الكرة وبقي من هذا المسجد إلى الآن برج زِيدَ في ارتفاعه ٨٦ قدمًا، ونصب عليه تمثال جسيم بهيئة دالة على الإيمان (في علم الرموز الاصطلاحية)، وأنشأ هذا الأمير أيضًا في جميع جهات مملكته مارستانات للمرضى وتكايا للفقراء والجرحى في الحرب، وحفر آبارًا في الصحاري وخانات في الطرق للمسافرين وزاد مرتبات القضاة والفقهاء للاستعانة بالقضاة على فتن الأغنياء وعصيانهم، وانفراد الفقهاء للاشتغال بالشريعة.

المبحث الثاني عشر: في مقاتلات بعد السالفة وفي واقعة طولوسة وزوال سلطنة الموحدين من إسبانيا

استفاد عرب إسبانيا من نصرة الموحدين هدوًّا لم يقدروا على إيجاده، وانقادوا لهؤلاء الموحدين لإظهارهم بذل نفوسهم في مصلحة الدين بإذلال ملوك النصرانية الذي قام به الأمير يعقوب حتى مات، فخلفه ابنه محمد الناصر في الجلوس على كرسي السلطنة سنة ١١٩٩، فغزا جزائر بليارة سنة ١٢٠٥ وهو يستعد لمحاربة النصارى من منذ تسلطن حتى رحل سنة ١٢١٠ من مراكش دار إقامته، بجيش قال بعض المؤرخين: إنه ستمائة ألف رجل من خمسة أقسام برابرة ومغاربة ومتطوعة من سائر الجهات وموحدون وعرب إسبانيا، فحل بالنصارى رعب أذكرهم مصائب واقعة العرقوص، والتخريبات التي أعقبتها فتحالفت جميع ملوكهم على التعاون على المسلمين، وشهر البابا إينوسان الثالث الاستنفار إلى الغزو، وأخذ رودريغ رئيس أساقفة طليطلة يمر في إيطاليا وفرنسا، وينشئ خطبًا يحث فيها الفرنج على محاربة المسلمين، وبعث إلى الفرنج الساكنين بشرق أوروبا يرجوهم المساعدة، وحضر إلى إسبانيا بعدد كثير، واجتاز جبال البرينات إلى إسبانيا ٦٠٠٠٠ نصراني، ثم اجتمع الفريقان في سفح جبال سيرامورينة بالسهول المسماة لاس نواس بقرب مدينة طولوسة، فنشر الأمير محمد أمام صفوف عساكره علمًا أحمر محاطًا بسلسلة حديد موكِّلًا بخفارته نخبة جنوده الذين وقف أمامهم بإحدى يديه سيفه وبالأخرى القرآن الشريف المشتمل على آيات الثواب الأبدي، فأثار بهذا الوقوف أعظم الحماسة والحمية في قلوب جنوده الذين فاقهم النصارى في الحمية وحسن التدبير؛ حيث وثب سنتش ملك نوارة، فقطع سلسلة الحديد وهزم الخفراء سنة ١٢١٢، وأُخِذَتْ من المسلمين مدائن طولوسة وبليش وبائظة وعبيدة سنة ١٢١٣ ومدينة القنطرة سنة ١٢١٦، وبعض مدن في إقليم الجرف، قال بعض المؤرخين: استشهد في واقعة طولوسة المسمَّاة يوم العقاب نحو مائتي ألف مجاهد، ولكن لا نحكم به بل بالنتائج التي يعرف منها قدر أهمية الواقعة من اضمحلال مملكة الموحدين، وانقطاع محاربتهم بعد ذلك للنصارى الذين قَوِيَ سلطانهم في إسبانيا بهذه الواقعة التي عاد منها الأمير محمد إلى مراكش، فخلع السلطنة على ولده أبي يعقوب وهو غير كفؤ لها، فأبت طاعته حكام أقاليم إسبانيا وإفريقية، ثم توفي سنة ١٢٢٣، فاتقدت نار الشقاق الداخلي الذي كان سببًا في زوال دولة الموحدين، ولبث النصارى مشغولين عن المسلمين بشقاقهم الداخلي منذ وقعة طولوسة حتى انقطع هذه السنة، فجلس فيها أحد الملكين جاك (يعقوب) الأول وفرينند الثالث على كرسي مملكة أراغون والآخر على كرسي مملكة قسطيلة، وولاة والنسة وطليطلة وإشبيلية ومرسية معلنون بالاستقلال بالحكم وموقدون لنيران الحرب بينهم مع التنازع بين ذرية الملك عبد المؤمن في إقليم الأندلس.

وكان أرباب المشورتين اللتين أنشأهما المهدي سابقًا متشوِّقين إلى الاختصاص بالحكم، فهددهم المأمون الذي شهر سلطنته سنة ١٢٢٧ حزب ذو قوة، فعارضوه ونصبوا له قرينًا وهو يحيى بن ناصر الذي مات في سهول صيدونية، فقتل المأمون هؤلاء المشايخ وعلق رءوسهم على أسوار مراكش، وألغى المشورتين، ونسخ سياسة المهدي، ومنع ذكره في الخطب، وجعل من نجا من المشايخ نواب القضاة في الدعاوى الخصوصية، وعامل أهل المغرب بقسوة أعدمتهم سنة ١٢٢٨ الميل إلى العصيان وبالأندلس حينئذٍ من ذرية قدماء ملوك سراقسطة محمد بن هود أثار لدى مغاربة إسبانيا بغضاء مغاربة إفريقية، وأخذ منهم جيشًا جرارًا هزم به المأمون قرب مدينة طاريفة سنة ١٢٢٩، وألزم المأمون الإقامة بمراكش وأخذ مدائن مرسية ودنيا وجراطبورة من سنة ١٢٣٠ إلى سنة ١٢٣٢، وأخذ بإسبانيا غرناطة وقرطبة وإشبيلية ومريدة، وأما والنسة فبيد جميل بن زياد قبل ذلك بكثير وما جاورها من البلاد بيد محمد بن الحمار، واستقل إقليم الجرف بالحكم فلم يبقَ سنة ١٢٣٢ بيد الموحدين إلا الجزائر البليارية، وأخذ ملك البرتغال سنة ١٢٢٧ مدينة الواس المجاورة للوادي اليانع، وهدم ملك إيالة ليون مدينة باذاجوز، وتقدم فملك إلى الوادي الكبير، وبلغ الملك فرينند الثالث وسط الأندلس وفتح قرب غرناطة مدينتي لوجة والحمراء التي فَرَّ أهلها إلى غرناطة فسكنوا منها خطة سموها باسم بلدهم الحمراء، وأخذت عساكر الموحدين تخرب في حدود إيالة قطالونية، فحاربهم الملك جاك (يعقوب) الأول وهزمهم وأغار على جزائر بليارة، فأخذ جزيرة مايورقة عنوة، وانقاد له جزيرتا أيويسة ومينوركة سنة ١٢٣٢، فعدم حكم الموحدين من إسبانيا هذه السنة، وبقي حكمهم بعد ذلك في المغرب مدة اعترف فيها واليا تونس وتلمسان بالاستقلال عن الموحدين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤