الباب الأول

في أن مدرسة بغداد خلفت مدرسة الإسكندرية وفيه مقدمة وواحد وعشرون مبحثًا

المقدمة

بذل الصحابة الجهد في الفتوحات ونشر الدين، واشتغل مَن بعدهم بذلك أكثر من اشتغالهم بالمعارف الأدبية حتى حدثت بينهم فتن داخلية ألهتهم عن ذلك، ثم رُزِقُوا غزوات قاصية ونصرات باهرة، خصوصًا في سنة ٧٥٠ بعد زوال الدولة الأموية، وخربوا الشام والفرس إلى نهر السند والي بحر قزوين وجميع شمال إفريقية ومعظم بحيث جزيرة إسبانيا، وهددوا فرنسا بالغارة عليها، فمزق ملكها كرلوس مرتيل جيوش عبد الرحمن الأموي في سهول إقليم لوارة، ثم ذهب الاضطراب الحربي وخَلَفَهُ التنافُسُ في المعارف اقتداءً بالخلفاء الذين بحمايتهم المشتغلين بها زال الجهل والفظاعة، وشوهدت مؤلَّفات كثيرة فشت بها اللغة العربية لدى الأمم المشرقية وسائر الممالك الإسلامية، ويتكون من معظمها الموجود الآن علم أدبي من أوسع العلوم الأدبية المعروفة في الدنيا.

المبحث الأول: في اكتساب العرب العلوم من ابتداء خلافة المنصور العباسي

اختص المنصور بأنه أول من حَثَّ العرب على الاشتغال دون مَن تقدمه من الخلفاء، بدليل أنه لا يوجد في تاريخ قدماء العرب إلا بعض فوائد في العمليات الفلكية بواسطة منظر السماء الجاذب أذهانهم، كما جذب أذهان سائر الأمم إلى رصد الكواكب والنجوم لطف بلادها وصحة هوائها، وكان هؤلاء العرب عارِفِين منازل القمر وأحكام التنجيم الفلكية وأسماء الكواكب السيارة وبعض النجوم الزاهرة التي يعبدونها من دون الله معوِّلِين في حسابهم على السنة القمرية، لكن لم يُؤْثَرْ عنهم فكر في تحديد الحركات السماوية ولا في اعتبار مبدأ تاريخ متبع بين سائرهم؛ ولذا استحال ترتيب سلسلة أخبار العرب التاريخية السنوية المستطيلة إلى الوقت الذي فيه زوال عباداتهم المتنوعة واجتماعاتهم على الدين الإسلامي، وكانوا مستعدين استعدادًا طبيعيًّا لأن يكونوا وسائط بلاغ بين الأمم، ويبثوا ما عندهم إلى الأمم المنحصرة بين نهري الفرات والوادي الكبير وإلى سكان الجزء الجنوبي من وسط إفريقية، مع كثرة أشغالهم التي لم يماثلهم فيها مَنْ سَبَقَهُمْ، وكانوا مع عدم احتمالهم التديُّن بغير دينهم مخالفين لبني إسرائيل بميلهم إلى الاختلاط بالتناسل بين الأمم التي غلبوها، من غير أن يتركوا طبعهم العربي والروايات المذكِّرة بوطنهم الأصلي بدون التفات إلى تنقُّلهم الدائم من مملكة أخرى، ولم تبتدئ الأمم الجرمانية في التمدُّن إلا بعد مهاجرتهم من بلادهم بزمن طويل بخلاف هؤلاء العرب، فإنهم لم ينقلوا الإسلام وحده إلى ما تغلبوا عليه من البلاد، بل مع لغتهم الكاملة ولطائف أشعارهم التي اشتغل بها شعراء الربابة من إفرنج إقليم برونسة والفرنج المغنون على آلات أشعار العشق والخلاعة.

المبحث الثاني: في أن النسطوريين كانوا أساتذة العرب الأُوَل وفي إنشائهم مدرسة ايدسة والمذاهب الهندية التي كانوا يتبعونها

من تأمل كيفية غارة العرب على الشام وفلسطين، ثم على الديار المصرية؛ وجدهم مائلين إلى كسب العلوم وتقدماتها باشتغالهم بها بواسطة استعدادهم الطبيعي، وائتلافهم بما جاور سواحل جزيرتهم من الأمم التي وصلت إلى درجة علية من التمدُّن، كما نشأ عن ائتلافهم بطائفة النسطورية النصرانية تنوُّر عقولهم بالمعارف التي اكتسبوها قبل دخولهم الإسكندرية من هؤلاء النسطورية الذين لم يَفْشُ حينئذٍ مذهبهم بالممالك المشرقية من آسيا، وأفادوا أهل الشام معارف، وهربوا حين تَتَبَّعَهُمْ أخصامهم لتباين بينهم في العقائد الدينية، ثم أطلع الشاميون العرب على ما أخذوه عن هؤلاء النسطورية من الأدبيات، وأنشأ النسطوريون في مدرسة ايدسة ببلاد العراق العرب مدرسة تعلم بها من الأطباء جمع كانوا زمن النبي ، وبها كان بدء علم العرب المواد والعقاقير المستفادة من المعدنيات والنباتيات، ثم عدم التعلم بهذه المدرسة زمن الملك اليوناني «زينون الإيزورياني Zènon l’Isaurien» لتعصب ديني بين النسطوريين الذين نشروا في نصف القرن السابع بعد الميلاد معلوماتهم وعقائدهم الدينية في الهندستان والصين، وانتشروا في بلاد الفرس، فكان لهم بعد قليل تحكُّم عظيم سياسي، فأنشَئُوا في جنديسابور بإقليم خوزستان مدرسة هرع للتعلم بها كثيرون، وكان في أثينة تخت بلاد اليونان مدرسة أفلاطونية نفي منها إلى بلاد الفرس جَمْعٌ من الفلاسفة في عهد الملك بوستينان، فاجتنى العرب مدة غاراتهم ببلاد آسيا أصول التمدُّن الفاشية في بلاد الفرس بواسطة هؤلاء العلماء، ومع ذلك لا يعلم أستاذ المنصور في علم الفلك، واستظهار أنه عالم هندي يبعده عدم اعتبار العرب للمذاهب الهندية منذ استحصلوا على الكتب اليونانية.

المبحث الثالث: في مدرسة بغداد وترجمة الكتب اليونانية إلى اللغة العربية ومؤلفات العرب في الفلك زمن المأمون بن هارون الرشيد

اقتدى بالمنصور من بعده في نشر العلوم، وتوسعة دائرتها زمن إهمالها بجميع بلاد أوروبا، بجلبهم من الأقاليم التي افتتحوها علماء لترجمة أعظم كتب اليونان، وإنشائهم كتبخانات ومدارس يتعلم بها الخاص والعام نحو كتب أرسطاليس وسقراط وجالينوس ودسقوريدس وإقليدس وأرشميدس وبطليموس وأبولونيوس، مع تعليم مَتن القرآن وتدريس تفاسيره، وبإنشاء جمعيات العلماء لتجادلوا في مشكلات المسائل، فقد أغدق المهدي والرشيد على علماء النصرانية المنتشرين ببلاد آسيا، فترجموا الكتب اليونانية والفارسية إلى السريانية والعربية، واشتهر في عصرهما من العلماء ما شا الله الفلكي المؤلف في الأسطرلاب ودائرته النحاسية وأحمد بن محمد النهاوندي، وهما أقدم علماء الأرصاد من العرب وحجازي بن يوسف أول من ترجم كتاب إقليدس إلى العربية، وكفى بالساعة الدقاقة المتحركة بالماء التي بعثها هارون إلى شرلمانية ملك فرنسا شاهدًا على رفعة درجة الفنون لدى العرب إذ ذاك، ثم جاء المأمون المعتبر في العرب كأغسطوس في الرومان فخف بأعظم العلماء، وربط علائق المودة بينه وبين اليونانيين ملوك القسطنطينية، فأكمل السعي في تحصيل تلك الفنون بصرف مبالغ من النقود على ترجمة كتب علماء الإسكندرية ومصر وسائر اليونانيين بجميع بلادهم حتى مدينة أثينة، وألَّف يحيى بن أبي منصور زيجًا فلكيًّا مع سند بن علي الذي ألَّف في سنة ٨٣٢ وسنة ٨٣٣ ميلادية أرصادًا أخرى مع خالد بن عبد الملك المروروزي، وقاس سند وخالد بين الرقة وتدمر خط نصف النهار مع علي بن عيسى وعلي بن البحتري، وألف أحمد بن عبد الله بن حبش ثلاثة أزياج في حركات الكواكب، وحبسوا الخسوف والكسوف والنجوم ذوات الأذناب وغيرها والسوادات التي بقرص الشمس، ورصدوا الاعتدال الربيعي والخريفي، وقدروا ميل منطقة فلك البروج، وأصلحوا بأمر المأمون غلطات كتاب المجسطي تأليف بطليموس بعد أن شغل يحيى بن خالد البرمكي مترجمين في ترجمته زمن الرشيد، وسبقهم في الاجتهاد بتلك العلوم من العرب محمد بن إبراهيم الفزاري، فقد ضاهى علم الفلك الهندي باليوناني، ورصد أحمد بن محمد النهاوندي السماويات في مدينة جنديسابور، وألف سنة ٨٠٣ ميلادية أزياجًا جديدة سماها المستعمل. هؤلاء هم الذين اشتهروا زمن المأمون بالعلوم الفلكية. وأما محمد بن موسى الخوارزمي ملخص الأزياج الفلكية الهندية للمأمون ومعاصره الكندي المتجر في اللغة اليونانية المستمد من كتب مدارس أثينة والإسكندرية المؤلف أكثر من مائتي كتاب في الحساب والهندسة والحكمة والتنجيم والحوادث الجوية والطب، وغير ذلك؛ فلا يُعَدَّانِ من الفلكيين بل من الرياضيين. وأما أبو معشر تلميذ الكندي فألف أرصادًا نافعة حسب عليها الزيج المعروف بزيج أبي معشر وإن لم يشتهر عند الفرنج إلا برسالاتٍ ألَّفَها في التنجيم.

المبحث الرابع: في أرصاد العرب الفلكية الجديدة وتكملتهم وإصلاحهم أزياجًا مترجمة من اليونانية

ما زالت العرب مشتغلة بعد المأمون بالعلوم خصوصًا الفلك؛ فإن محمدًا وأحمد وحسنًا أولاد موسى بن شاكر بذلوا همتهم فيه، وكملوا الزيج المُصَحَّح، وحسبوا الحركة المتوسطة للشمس في السنة الفارسية، وحددوا ميل وسط منطقة البروج المسماة بالإكليتيك في رصد خانتهم المبنية على قنطرة بغداد المتصلة بالباب المسمى بالطاق، وعرفوا فيها فروق حساب العرض الأكبر من عروض القمر، وعول ابن يونس في أرصاده الفلكية على أرصادهم، وعمل أكبرهم محمد لمواضع الكواكب السيارة تقويمات استعملت زمنه وبعده، وترجم تلميذه في الفلك ثابت بن قرة المتوفَّى سنة تسعمائة ميلادية كتاب المجسطي لبطليموس ثانيًا بعد ترجمته زمن الرشيد، وبيَّن تصحيحات المتقدمين لغلطات بطليموس، وزاد من عنده ملحوظات مفيدة، وأَلَّفَ أرصادًا فلكية بعد أولاد بني موسى محمد بن عيسى الملقب بالمهاني، وكذلك أبو العباس فضل بن حاتم النيريزي الذي التفت إلى تصليح غلطات الفلكيين في أرصادهم المتداوَلَة إلى زمن المأمون بلا تدبُّر فيها رصد السماويات، وألَّف شرحًا على كتاب المجسطي وأزياجًا بيَّن فيها الخسوف والكسوف ومحاق الكواكب السيارة، وغير ذلك من الحوادث السماوية التي حصلت في سنة ٨٥٤ إلى سنة ٨٦٨ ميلادية، واتبعت هذه الأزياج بعده مائة سنة، لكنه غفل في كثير منها عن غلطات لام عليه فيها ابن يونس صاحب الزيج الحاكمي، وإن شهد له في مواضع كثيرة بما يدل على جلالته، لكن الزوزني في كتابه كتبخانة الفلاسفة عَدَّ النيريزي من الرياضيين، وأما المهاني ففلكي. وكان العرب في هذا القرن التاسع متبعين ما بقي بأيدي المتأخرين زمنًا طويلًا من القواعد التي علمها أساتذة المدرسية البغدادية تلامذتهم، وهي أن ينتقلوا من المعلوم إلى المجهول، ويتحققوا كل التحقُّق من الحوادث الفلكية، ثم ينتقلوا من النظر في المسببات إلى النظر في الأسباب غير قابلين إلا ما اتضحت صحته؛ ولذا عَوَّلَ من بعدهم على مؤلفات واعترف ثابت بن قرة أن ما في يده من الأرصاد المؤلَّفَة زمن المأمون كافية في تقدمات علم الفلك، وتأسَّف على عدم استحصال الناس على أكثر ممَّا بأيديهم من كتب السلف.

المبحث الخامس: في مآثر البتاني الفلكي وابني أماجور

ظهر البتاني بعد المهاني فكان رئيس علماء العرب في القرن التاسع، ألف أربعة أرصاد في الشمس والقمر ورسالة في الفلك، ورصد السماء بالرقة سنة ٨٨٠، وجمع كليات المعارف المكتسبة في عصره، وقالت الفرنج إنه بين المسلمين كبطليموس بين اليونان، تُوُفِّيَ سنة ٩٢٩، وممن اشتهر في الفلك ذاك العصر سهل بن بشار، ومحمد بن محمد بن يوسف السمرقندي، وأبو الحسن علي بن إسماعيل الجوهري، وأبو جعفر بن أحمد بن عبد الله بن حبش، وقسطة بن لوقا البعلبكي قرين الكندي، ومحمد بن الحسين بن حامد بن العظامي، وعلي بن أماجور، وأخوه الراصدان السماء من سنة ٨٨٥ إلى سنة ٩٣٣ ميلادية، ودونا زيجًا عجيبًا وبَيَّنَا طريقًا جديدة لاستكشافات فلكية، وكذا فروقًا بينة في حساب حركات القمر كما حسبها قبلهم اليونان والعرب، وأن حدود أكبر عروض القمر ليست دائمًا واحدة.

المبحث السادس: في إحياء الملوك البويهية ما ابتدأه المأمون من التعليم والتمدُّن

بعد وفاة المأمون سنة ٨٣٣ ميلادية ولي الخلافة اثنا عشر تظاهر كل منهم بحب إحياء العلوم والفنون الأدبية علمًا بنفعها، وتنافسوا في توظيف الرجال العالِمِين بها، وإذا عصاة خرجوا عليهم وصاحوا على أبواب قصورهم، فأسرع التمزيق إلى المملكة بسائر الجهات كما أسلفناه، فحكم المكناسيون والإدريسيون والمدراريون في إفريقية ممالك فاس ومكناسة وسلجماسة والرستامية وبنو عبد العاطي طاهرت وتلمسان والأغلبيون بلاد قيروان والفاطميون الديار المصرية بعد سنة ٩٠٥ ميلادية، والديلمية طبرستان سنة ٩٢٧، وسبب ذلك أن رجلًا يسمى طاهرًا صدق في خدم أداها للمأمون في خراسان فجعله متصرِّفًا في هذا الإقليم كما يشاء، فترجى حكام آخرون الخلفاء أن ينعموا عليهم بمثل ذلك حتى استقلوا بالحكم، وانضم إليهم أناس عَصَوُا العباسيين محتجين بإلباس العلوية تاج الخلافة، وتغلبوا على بعض الأقاليم، وخلف الطاهرية في خراسان الملوك الصفرية سنة ٨٧٢ إلى سنة ٩٠٥ ميلادية، ثم الملوك السمانية.

وقد قبض الملوك البويهية الحاكمون ببلاد الفرس على أَزِمَّةِ الحكم ببغداد حائزين لإمارة الأمراء، فلم يتركوا للعباسية إلا التحكم الاسمي، وكان في أثناء تلك التقلبات في كل من دمشق وشيراز وسمرقند رجال يحامون عن العلوم ويشجعون على إحيائها، وكان في نيسابور زمن طاهر بن عبد الله رابع الملوك الطاهرية علماء يرصدون السماويات بدائرة أسطرلابية تكلم عليها ابن يونس، ثم تراكمت التقلبات على الدول الإسلامية، وكادت المعارف أن تذهب بالكلية في النصف الثاني من القرن العاشر الميلادي لولا أنْ تدارَكَها من البويهية عضد الدولة وشرف الدولة، فأخذا يَحُثَّانِ الناس على الاشتغال بها مع مشاركتهما لهم، فخلف ابني أماجور في الفلك أبو القاسم علي بن الحسين بن محمد بن عيسى الملقب بابن الأعلم، فعمل أرصادًا كثيرة ودون زيجا وألف عبد الرحمن الصوفي كتابًا في أصول علم الفلك، ورصد معه عضد الدولة نجوم السماء، وتعلم منه ومن ابن الأعلم وافتخر بكونهما أستاذيه، واشتهر في زمانه أبو القاسم عبد الله بن الحسن والخلوصي والموصلي والحسن بن أحمد الهمداني اليمني، وكذا ويحن بن وستم الكوهي وأبو الوفاء اللذان فاق كوكب فضلهما على ثريا هؤلاء العلماء؛ فقد عَمِلَا أرصادًا كثيرة، وتَمَّمَا مسائل فلكية تركها علماء مدرسة إسكندرية قبل الإسلام، وأمر أبا سهل الفلكي أن يحدد ثانيًا حركات الكواكب السيارة السبعة، وينتقد المسائل الفرضية المأثورة عن اليونانيين واقتدى شرف الدولة بالمأمون في جمع العلماء للتعاون على الأعمال الفلكية، فجمع إلى الكوهي العلماء المعتبرين في عصره كأبي الحسن الخوزي، وأبي إسحاق إبراهيم بن هلال، وأبي سعد الفضل بن بولوص الشيرازي، وأبي الوفاء محمد بن محمد الحاسب، وأبي الحمد بن محمد الصاغاني، وأبي الحسن محمد السمري، وأبي الحسن المغربي، وغيرهم.

المبحث السابع: في استكشافات جديدة وإبداء أبي الوفاء الفلكي الاختلاف الثالث في سير القمر

كان أبو الوفاء متبحرًا في علم الميكانيكا، رصد ميل الإكلبتيك سنة ٩٩٥ ميلادية برفع دائرة نصف قطرها خمسة عشر ذراعًا، وترجم كتاب ديوفنط فكان أول من ترجمه، وألَّف معادلة المركز والاختلاف القمري الذي يحصل كل سنة في سيره، وأبدى في حساب سير القمر اختلافًا ثالثًا، وهو ما حسبه تيكوبراحة الفلكي بعد ستمائة سنة من وفاة أبي الوفاء الذي صحح الأرصاد القديمة حين رأى شرح بطليموس على القمر غير متقَن، وألَّف كتبًا كثيرة أعظمها المجسطي الذي سهَّل بيان العلائق التي بين أشكال الدوائر بما اخترعه من قواعد الخطوط المماسة، والخطوط القاطعة لخط آخر التي استعملها مهندسو العرب في حساب مساحة المثلثات كما يستعملها المهندسون الآن بعد أن استبدل العرب الأوتار بالجيوب في زمان البتاني السابق على هذا بمائة سنة، وكان بيان تلك العلائق مطولًا لا يفهمه أحد بسهولة.

ولد أبو الوفاء في بوزجان سنة ٩٣٩ ميلادية، وسكن العراق سنة ٩٥٠ وظهر فضله في جمعية جمهور العلماء بباريس، شرح زيجه المسمى بالزيج الشامل السيد على القوشجي وابن السيد حسن، ولا يخفى أنباء استكشافاته عما كان لعلماء المدرسة البغدادية من بلوغهم النهاية في المعارف التي أمكنهم اكتسابها بلا نظارة ولا أسطرلاب.

المبحث الثامن: في انتقال مركز الأشغال العلمية في غرة القرن الحادي عشر بعد الميلاد من بغداد إلى مدرسة القاهرة وفي ابن يونس الفلكي والزيج الحاكمي

لما صارت ممالك آسيا ميدان الانقلابات السياسية وسلب السلجوقية السلطنة من محمود الغزنوي وتفاشلوا، وظهر بكل من كرمان وحلب وروم ودمشق سلطنة تابعة لسلطنة الفرس تدفع لها كل سنة مالًا، واستمرت الحروب الصليبية مع الأمة المحمدية أكثر من مائتي سنة، وتضاعفت الكروب بغارة المغول؛ أخذت مدرسة بغداد في التقهقر، وكادت المصابيح العلمية أن تنطفئ فيما عدا بلاد المغرب وإسبانيا، حتى كانت القاهرة تختًا للسلطنة الفاطمية، فصارت مركزًا جديدًا للاشتغال بالفنون، واشتهر بها زمن العزيز والحاكم بأمر الله العتقي، وكذا ابن يونس المقتفي في سيره أبا الوفاء، ألَّف في رصد خانته بجبل المقطم الزيج الحاكمي الذي خلف في جميع البلاد المشرقية المجسطي البطليموسي والرسائل التي ألفها سابقًا علماء بغداد، اخترع الربيع ذا الثقب وبندول الساعة الدقَّاقة، ثم مات سنة سبع وألف ميلادية وظهر زيجه بين الفرس سنة ١٠٧٩، وخلفه في الاهتمام بعلم الفلك جمع منهم حسن بن هيثم الذي ألف أكثر من ثمانين كتابًا ومجموعًا في الأرصاد، وتفسير المجسطي، وتفسيرًا آخر لتعاريف ذكرت أول مبادي إقليدس، ورسالة في علم النظر والضوء، وموجزًا سماه المعلومات الهندسية، وقد رأى ابن النبدي بالقاهرة سنة ١١٤٠ ميلادية كتبخانة بها ستة آلاف كتاب في العلوم الرياضية والفلكية وكرتين إحداهما لبطليموس والأخرى لعبد الرحمن الصوفي.

المبحث التاسع: في الفلكيين بإسبانيا وإفريقية الغربية وعدم كفاية ما كان لديهم من مستمدات علم الفلك الأصلية

منهم مَسلمة المجريطي المعاصر للمنجم المعروف بابن راجل، ألف مختصر أزياج البتاني، وابن أبي طلحة الذي عمل في ثلاثين سنة أرصادًا مشهورة بالصحة، وحذا حذوه في ذلك أرزاقيل الفلكي، فعمل في تحديد أوج الشمس أربعمائة رصد واثنين، وفي التقويم الحقيقي لحركة مبادرة الاعتدالين أرصادًا أخرى لم يلتفت الناس إليها، وتعجب أهل طليطلة من ساعاته الدَّقَّاقة، وألف الأزياج الطليطلية والأقوال الفرضية في تباعد الشمس عن مركز أفلاك الكواكب السيارة، وجابر بن أفلح الشبلي ألَّف رسالة صغيرة ترجمها جيرار الكريموني إلى اللغة اللاتينية، وأبو الوليد محمد بن رشد ألف موجزًا فلكيًّا في مساحة المثلثات الكروية، وعزي إليه شرح على المجسطي ظن أبصاره بقعة سوداء في قرص الشمس يوم عرف من الحساب الفلكي زمن مرور كوكب عطارد كان مشهورًا سنة ١١٥٠ ميلادية.

وكان بمدائن شبلية وقرطبة وغرناطة ومرسية وطليطلة كتبخانات عظيمة ومدارس جليلة تدرس فيها العلوم الرياضية، وكذا سبتة وطنجة وفاس ومراكش مدارس أنتجت مدرسين بارعين سابَقُوا علماء قرطبة وشبلية وغرناطة، منهم البتراش المشتهر سنة ١١٥٠ رصد ميل الإكلبتيك، وأخذ يطالع المجسطي، فاشمأزت نفسه من عدم انتظام دوائره المتداخلة والمتقاطعة الدائرة حول مراكز الأفلاك، فاخترع في ترتيب الأفلاك والمراكز مذهبًا جديدًا مُنْبِئًا عن تجرُّده من اعتقاد الفرضيات الفلكية الباطلة التي كان عليها أهل الأحقاب الخالية، وأبو الحسن الذي جاب في أول القرن الثالث عشر من الميلاد بحيث جزيرة إسبانيا وجزءًا عظيمًا من شمال إفريقية، وحرَّر ارتفاع القطب الشمالي في إحدى وأربعين مدينة أولها أفرانة التي على الساحل الغربي من بلاد المغرب، وآخرها القاهرة، وألف كتابه المسمى البدايات والنهايات.

المبحث العاشر: في ممارسة المسلمين علم الفلك بمساعدة من وليهم بعد الخلفاء من الملوك المذعنين لغلبة التمدن العربي على العقول في المشرق

نعود إلى الكلام على الممالك الإسلامية المشرقية التي لم تنقطع منها نار الحرب من ابتداء القرن الحادي عشر بعد الميلاد، فنقول فتوح محمد الغزنوي وغارة السلجوقيين، وحروب أهل الصليب مع المسلمين، وإعدام صلاح الدين الخلافة الفاطمية من القاهرة سنة ١١٧١، وإعدام هولاكو الخلافة العباسية من بغداد سنة ١٢٥٨؛ غيرت كل التغير الحالة السياسية بآسيا، ومع ذلك ما زال العلم في تقدُّم باعتناء العلماء وهم: الجزري المتوفى ببغداد سنة ١٠٢٢ ميلادية، وابن سينا المتوفى سنة ١٠٣٦، وفتح بن ناجية صاحب الأسطرلابات المتوفى سنة ١٠٥٨، وأبو الفتح عبد الرحمن الموجود سنة ١٠٦٤، والغزالي أبو حامد ببغداد سنة ١٠٩٠، والتوفيقي بدمشق وهبة الله الموجودان سنة ١١٢٠، وعبد الله بن شاكر بن علي المطهر المدني الموجود بأصفهان سنة ١١٧٠، ومبشر بن أحمد المتوفى سنة ١١٩٣، وأبو حنيفة مؤلف الأزياج سنة ١٢٢٠، ومحمد بن مبشر المتوفى سنة ١٢٢١، ونصير الدين الطوسي، وسيأتي.

وبينما خلفاء المشرق يفقدون أحسن أقاليمهم واحدًا بعد آخر كان المنصورون يطالعون كتب من في مملكتهم من العلماء ويستنيرون بما لديهم من المعلومات؛ ولذا أحضر محمود الغزنوي إلى ديوانه من سنة ٩٩٧ إلى سنة ١٠٣٠ عالمًا فلكيًّا ملأت شهرته المشارق يقال له البيروني، وجمع لديه جلال الدين ملكشاه السلجوقي أفاضل العلماء من سنة ١٠٧٢ إلى سنة ١٠٩٢، وإليه ينسب الكتاب المسمى مبدأ حساب التاريخ الجلالي، وأحضر هولاكو خان المغول إلى ديوانه حين تغلب على بغداد سنة ١٢٥٩ ميلادية نصير الدين الطوسي الذي قلده إدارة الرصد خانة الجديدة بالمراغة، ونقل جمال الدين الفلكي مع الخان كوبلاي علوم العرب إلى مملكة الصين، وحث محمد الناصر بن قلاوون أحد السلاطين المماليك بمصر رعاياه على اكتساب المعارف من سنة ١٣١٠ إلى سنة ١٣٤١ ميلادية، وأسس ألوغ بيك التتاري في القرن الخامس عشر رصد خانة بدمشق، وأبقى في أزياجه من الآثار الفلكية ما يشهد بعلو همته وحسن قريحته، وشرك أوائل العثمانية هؤلاء الملوك في المساعدة على كسب العلوم وإحياء نتائج الأفكار.

المبحث الحادي عشر: في ملوك الغزنوية والبيروني الفلكي

لا شبهة في أن رؤية التمدن العربي منتصرًا على تبرير هؤلاء الفاتحين الشماليين الذين أغاروا على غرب آسيا وجنوبها من المناظر الجليلة الاعتبار؛ ولذا انتهز أبو ريحان محمد بن أحمد البيروني الفرصة بإفادته واستفادته المعلومات إلى الهنود ومنهم؛ فإنه اكتسب معلوماته من المدرسة البغدادية، ثم نزل بين الهنود حين أحضره الغزنوي، فأخذ يستفيد منهم الروايات الهندية المحفوظة لديهم قديمة أو حديثة، ويفيدهم استكشاف أبناء وطنه، ويبثها لهم في كل جهة مَرَّ بها وألَّف لهم ملخصات من كتب هندية وعربية، وكان مشيرًا وصديقًا للغزنوي، استعد حين أحضره بديوانه لإصلاح الغلطات الباقية في حساب بلاد الروم والسند وما وراء النهر، وعمل قانونًا جغرافيًّا كان أساسًا لأكثر القسموغرافيات المشرقية نفذ كلامه مدة في البلاد المشرقية؛ ولذا استند إلى قوله سائر المشرقيين في الفلكيات، واستمد منه أبو الفداء الجغرافي في جداول الأطوال والعروض الأرضية، وكذا أبو الحسن المراكشي.

ولم يكن في الهندستان قبل الإسكندر ذي القرنين علم الفلك تامًّا، وإلا لعرفه أستاذه أرسطاطاليس وأبداه لليونان؛ ولذا كان الكتاب المُسَمَّى سند هند المترجم في خلافة المنصور مُنْبِئًا في بعض المواطن عن حالة ابتدائية في ذلك العلم، وكأن العرب المستمدين أول معلوماتهم الفلكية من رسالة هندية سموا الهندسة بعلم الهند، وآلة تحديد خط نصف النهار المتكلم عليها برقلوس اليوناني بالدائرة الهندية، وطريقة التعداد الأعشاري التي يظهر أنها من مخترعات أهل أوروبا بالأرقام الهندية، ونسبوا ابتداع القول باهتزاز النجوم الثوابت إلى الهنود مع وجوده في كتاب نيون اليوناني؛ لما يحتمل من أن اليونانيين المنفيين من بلادهم إلى آسيا في القرون الأُوَل بعد الميلاد أحدثوا لدى سكان آسيا طرقًا تخالف ما في كتاب المجسطي، وأما منطقة البروج القمرية الموجودة في كتب قدماء الهند فلا ينبغي نسبتها لأي أمة لوجودها في سائر الأمم.

المبحث الثاني عشر: في الملوك السلجوقية وعمر الخيام وتصحيح الرزنامة الفارسية

تَوَصَّلَ الفرس بالأرصاد التي أمر بها السلطان ملكشاه السلجوقي إلى تصحيح رزنامتهم الفارسية سنة ١٧٠٩ بعد ذلك بخمسين سنة، فكانت أصح من رزنامة الفرنج الغريغوارية المصححة بعد الأولى بستة قرون؛ فإن العرب المشرقيين التابعين لعمر الخيام وعبد الرحمن إماميهم في التقويم حسبوا تسعًا وثلاثين سنة كبيسة في كل مائة وإحدى وستين سنة، لا ثماني سنين كبيسة في كل ثلاث وثلاثين سنة كما فعل الفرنج؛ فوجدوا مقدار السنة المتوسط ثلاثمائة وخمسًا وستين يومًا منذ ألفين وأربعمائة واثنتين وعشرين سنة، ورأوا أن في حساب السنة الفارسية الجديدة خطأ قدره يومان في كل عشرة آلاف سنة، وفي حساب السنة الغريغوارية خطأ قدره ثلاثة أيام في هذا المقدار.

المبحث الثالث عشر: في ملوك المغول والطوسي ونقل علم الفلك من بلاد العرب إلى الصين

لم يترك المشرقيون الأشغال بالعلوم في أثناء الحروب الصليبية؛ فإن هولاكوا أحضر إلى ديوانه سنة ١٢٥٩ ميلادية رجالًا ممتازين في العلوم الرياضية والفلكية أشهرهم نصير الدين الطوسي، أغدق عليه فجمع الكتب الفلكية من خراسان والشام والموصل وبغداد، وبنى بالمراغة رصد خانة بقبتها ثقب يعرف بما يدخل فيه من أشعة الشمس درجات ودقائق سيرها اليومي وارتفاعها كل فصل، فكان ذلك منه استعمالًا جديدًا للربع ذي الثقب الذي استعمله العرب في القرن العاشر، وأودع هذه الرصد خانة دوائر رصد كبارًا وأرباع دوائر وكرات سماوية وأرضية وسائر أصناف الأسطرلاب، وعمل لتحقيق الزيج الحاكمي في اثنتي عشرة سنة أرصادًا لا تتم على مقتضى الحساب الأول إلا في ثلاثين سنة لاشتغال جمع معه في ذلك، منهم: مؤيد الدين الدمشقي، وفخر الدين الجلاطي، ونجم الدين بن دبيران القزويني، وفخر الدين المراغي الموصلي، ومحيي الدين المغربي، ولم يزل كتابه المعروف بالأزياج الخانية — الذي اختصره على شاه البخاري، ثم النظام، ثم نجم الدين النبودي، وصححه غياث الدين جمشيد بن مسعود الخطيب — معتمدًا يدرس في جميع المدارس المشرقية إلى عهد ابن الشاطر الفلكي الذي غَيَّرَ قليلًا في نتائج الرصد سنة ١٣٦٠ ميلادية.

وبما سلف يعلم أن الملوك المغولية أعادوا لمدرسة علماء العرب رونقها القديم، وقد كمل كوبلاي خان المغول أخو هولاكو فتح مملكة الصين، ونقل إليها رسائل ألفها علماء بغداد والقاهرة، وأخذ السلطان كوشيو كنج سنة ١٢٨٠ ميلادية من جمال الدين الفارسي الفلكي أزياج بن يونس، فطلع جميعها.

المبحث الرابع عشر: في ابن الشاطر

خلف ابن الشاطر الطوسي في الشهرة بعلم الفلك في نصف القرن الرابع عشر من الميلاد، وعمل أزياجًا اعتمد عليها في تدوين أزياجهم شمس الدين الحلبي، وشهاب الدين أحمد بن جلال الله بن الحاسب، ومحمد بن إبراهيم الخيري.

المبحث الخامس عشر: في أولاد تيمورلنك وإنشائه رصد خانة بسمرقند وأزياجًا فلكية

بينما ابن الشاطر يشهر أزياجه بدمشق بمساعدة السلاطين السلجوقية؛ إذ ظهر تيمورلنك الذي كان أميرًا على إقليم كش، فرغ من حروبه الأولية فانتهز الفرصة زمن ضعف الحكومة المغولية بتأسيسه في سمرقند سلطنة اتسعت قريبًا، وأخذ ما وراء النهر سنة ١٣٧٠ وبلاد قبجق وخوارزم وخراسان وأذربيجان وجرجستان، ثم دهم المماليك سلاطين مصر ولم ينتصر، فعاد إلى المشرق، وعزم على فتح بلاد تركستان والفرس، ثم أخذ مدينة دلهي بعد قليل من السنين، وانقاد له الهندستان فعاد إلى دهم المماليك فانقض على الشام ونهب دمشق وهدم مسجدها وخرب بغداد سنة ١٤٠١، ودعاه ميخائيل يلبوغ والأمراء المستقلون حتى هدَّدهم العثمانية، فسار إلى السلطان بايزيد، وهزمه في واقعة أنجورية، وولى على ممالكه ولده السلطان موسى خان، فاتخذ علماء في تخت مملكته، وجمع بسمرقند مشاهير العلماء بالفنون الأدبية والصناعية، وأراد فتح الصين فأخذ يتجهز للغارة على بلاد قطاي ويأخذ بثأر أولاد كوبلاي المطرودين من الصين سنة ١٣٦٨، فمات سنة ١٤٠٥ وله تسع وستون سنة فتمزقت ممالكُه إلا ما وراء النهر والأقاليم الشمالية من الهندستان فبقيت في يَدِ ولده الرابع شاه رخ خالية من الفتن إلى نصف الخامس عشر، وجمع كتبخانة فاخرة مشتملة على كتب نادرة لما بينه وبين ملوك زمانه من المَوَدَّة، وأرسل سنة ١٤٢٠ سفراء إلى الصين وسنة ١٤٤٢ عبد الرزاق السمرقندي إلى الهندستان سفيرًا، وأما ابنه ألوغ بيك الذي وَلِي ما وراء النهر من قبل والده، فعمل أرصادًا، وجمع علماء، منهم الأمير العلامة حسن جلبي المعروف بقاضي زاده، وغياث الدين جمشيد، وعلي بن محمد القوشجي، فعملوا سنة ١٤٣٧ أزياجًا تشتمل على صورة جميع الدنيا أحضر لها الآلات المضبوطة، فكانت تتمة ضرورية للأعمال الفلكية المأثورة عن العرب وشرح أزياجه مريام الجلبي بن قاضي زاده، ثم محمد شاه، وبعث على القوشجي للسياحة في الصين، فحرر قياس درجة من درج خط نصف النهار ومساحة الكرة الأرضية.

وكان ألوغ بيك آخر علماء المدرسة البغدادية، وأتى بعده بقرن ونصف كبلير الذي أبطل جميع المسائل المفروضة المأثورة عن اليونانيين ولذا عُدَّ من واضعي علم الفلك الجديد.

المبحث السادس عشر: في اشتغال العرب بالعلوم الرياضية

لما اشتغل العرب بالفلك التفتوا إلى العلوم الرياضية، فَأَتَوْا بالعجب العجاب في الهندسة والحساب والجبر وعلم الضوء والنظر والميكانيكا، وترجموا من ابتداء خلافة المأمون هندسة إقليدس وتيودوس وأبولونيوس وإيسيقليس ومينيلوس، وشرحوا مؤلَّفات أرشميد في الكرة والأسطوانة وغيرها، واشتغلوا قرونًا بدقائق الهندسة، وظهرت حَمِيَّتُهُمْ في المناظرات العلمية، خصوصًا في المراسلات الرياضية، وطبقوا الجبر على الهندسة، وترجموا كتب هيرون الصغير في الآلات الحربية وقطيزيبوس وهيرون الإسكندري في الآلات المفرغة للهواء والرافعة للمياه، وألف حسن بن هيثم في استقامة النظر، وانعكاسه في المرايا التي توقد النار، وألف الخازن في علم الضوء والنظر كتابًا في انكسار الضوء، وفي المحل الظاهر للصورة من المرايا المنحنية، ومقدار الأشياء الظاهر، وكبر صورتي الشمس والقمر إذا رُئِيَا على الأفق عند الشروق أو الغروب.

ونسب الجبر إلى الهنود؛ ولذا كان كتاب محمد بن موسى في الجبر جاريًا على معلوماتهم المخالفة لما وجد من تأليف ديوفنط، إلا أن الظاهر أن الطريقة الجبرية المستعملة في الهندستان من التعليمات اليونانية. وأما الحساب فنعلم أن الهنود لم يستعملوا أرقامه العَدَدِيَّة إلا في زمن حديث، بعد أن استفادوها من أهل أوروبا على ما يظهر، ثم أوصلوها إلينا بغير صورتها الأصلية.

وليس للعرب مجرد نقل كتب اليونان حرفيًّا كما زعم بعض الفرنج؛ فإنا لا نشكر علماء بغداد على حفظهم كتب علماء الإسكندرية فقط، بل مع ما اخترعوه في هذه الفنون نحو ما اخترعه البتاني الملقب ببطليموس العرب من استبدال أوتار الأقواس التي استعملها اليونان في حساب المثلث بأنصاف الأوتار للأقواس المضاعفة، وهي جيوب الأقواس المصورة. قال: إن بطليموس لم يكن يستعمل الأوتار الكاملة إلا لتسهيل الإثباتات والتوضيحات، وأما نحن فقد استصوبنا استعمال أنصاف الأقواس المضاعفة، وقد وصل إلى معرفة القاعدة الأساسية لمساحات المثلثات الكروية، واستعملها في مواضع كثيرة، واخترع أيضًا عبارة جيب وتمام جيب التي لم يستعملها اليونان والخطوط المماسة للأقواس، وأدخلها في حساب الأرباع الشمسية، وسماها الظل الممدود، وهو المعروف في كتب المتأخرين بالخط المماس المستعمل في حساب المثلثات، ثم ظهر بعده بقرن استعمال الخطوط المماسة في مساحة المثلثات زمن ابن يونس، وكذا في زمن أبي الوفاء الذي أخذ من سنة ٩٣٧ إلى سنة ٩٩٨ ميلادية، يذكر المسائل المتعلقة بالجيوب حتى عَرَفَ خطوطًا أُخَرَ تتعلق بمساحة المثلثات استعملها في كتابه، ليستعين بها على حل نظريات في علم الفلك المطبق على الكرة، وسمى بظل التفاضل والظل المستقيم أو العامودي ما نسميه الآن بالخطوط المماسة وظل التمام، كما سمى بقطر الظل ما نسميه بالخطوط القاطعة.

ولبث ابن يونس يستعمل من سنة ٩٧٩ إلى سنة ثمانٍ وألف أظلالًا؛ أي خطوطًا مماسة وإظلال تمام حسب بها جداول عنده تعرف بالجداول الستينية، واخترع حساب الأقواس التي تسهل قوانين التقويم وتريح من كثرة استخراج الجذور المربعة.

ثم أتى «ريجيومنتات Régiomontan» بعد أبي الوفاء بخمسمائة سنة، فنفى العبارات المركَّبة غير السهلة الدالة على الجيب وتمام الجيب، وابتكر جابر الفلكي المتوفى سنة ١٠٥٠ ميلادية في مساحة المثلثات الكروية القانون الخامس من القوانين الستة التي تُستعمل في حل المثلثات ذوات الزاوية القائمة، وبقي القانون السادس مجهولًا حتى اخترعه الخواجه وييط في القرن السادس عشر، وبهذين القانونين حصر الزاويتين المائلتين من المثلث، ولم تعرف اليونان إلا القوانين الأربعة الأول، وكانت تكفيهم في العمليات؛ لأن حالة الزوايا الثلاثة المعلومة لم تكُن توجد في طبيعتهم مساحة المثلثات على علم الفلك.
هذه ابتكارات العرب الذين نجحوا في ممارسة علم الفلك، وانقطع إليه منهم كثيرون مؤلفون حسبوا الزمن بإحدى التطبيقات المعروفة بفن صناعة الأرباع التي هي من مسائل الهندسة الحقيقية، وكانوا يرون أهميتها؛ حيث لم يكن لهم غيرها في حساب الزمن، واشتغل بها المهندسون من ابتداء القرن التاسع من الميلاد، وألف الكندي وثابت بن قرة في هذا الفن الذي عرفه الخواجه «موروليقوس Maurolycus» قبل غيره من فرنج الأعصر الأخيرة؛ ولذا اعتبر كتابه بين أهل عصره.

وأما فن صناعة الأرباع الميقاتية التي كانت تستعملها العرب، فألف فيها أبو الحسن على المهندس الفلكي رسالة بها أول استعمال الخطوط الدالة على الساعات المتساوية؛ فإن اليونان لم يستعملوها قط، وقد فصل صناعة الخطوط الدالة على الساعات الزمانية المسماة أيضًا بالساعات القديمة والمتفاضلة واليهودية، واستعمل خواص القطوع المخروطية في وصف أقواس البروج الفلكية.

وحسب خطوط المعادلة ومحاور تلك المنحنيات لمعرفة عرض محل الشمس وانحرافها وارتفاع الربع الميقاتي، وألف في تقسيم الطرح محمد البغدادي المشتهر في القرن العاشر من الميلاد بالهندسة رسالة موضوعها تقسيم أي شكل إلى أجزاء متناسبة مع أعداد مفروضة بخط مستقيم يرسم، وهي اثنتان وعشرون قضية سبع في المثلث، وتسع في المربع، وست في المخمس. وألَّف حسن بن هيثم المتوفَّى بالقاهرة سنة ١٣٠٨ كتابًا على نسق كتاب إقليدس، وإن باينه في أن قضاياه الهندسية دعاوى جديدة لم تعرفها القدماء، وهو كتاب جليل يشبه رسالة إقليدس ويستحق أن يُعْتَبَرَ واسطة بين كتاب القواعد المفروضة والبراهين الاستقرائية لإقليدس، وكتاب المحال المستوية السطوح «لأبولونيوس Appollonius»، وبين كتابي «سمسن Simson» و«استيوارت Stewarat»؛ فإن بمثل تلك الكتب كمال الهندسة الابتدائية المعدة لتسهيل حل الدعاوى النظرية.

المبحث السابع عشر: في تقدمات العرب في الجغرافيا الرياضية ونقصان الرسائل اليونانية التي استفاد العرب منها هذا العلم

كان «إيراتسطينس Eratosthenès» اليوناني أول عالم في عصره بين اليونانيين، جعل وصف الكرة الأرضية مذهبًا له دون غيره، وحسب الأراضي المعمورة من المحيط الأطلانطيقي إلى نهر الكنج، ولم يغلط إلا في نحو سِتٍّ وعشرين درجة جغرافية تساوي ٨٨ كيلومترًا تقريبًا، وظن أن هذا النهر يصب في البحر الشرقي، واعتبره الحد الأكبر لقارة آسيا، إلا أن معلوماته الجغرافية كمعلومات معاصريه يسيرة، ثم تقدمت العرب في هذا الفن كالفنون السالفة، وجددوا كتاب المجسطي لبطليموس الذي تنحى اللاتينيون عن طريقته التي وصفها لقلة صدقه حتى تجددت المعلومات.

وكان الأقدمون يستفيدون من جوب الآفاق فوائد مهمة في تقويم البلدان وتحديد المسافات، ومنهم الخواجه مارين الصوري، ألف من رحلته في الجغرافيا العامة كتابًا حصر فيه جميع أطوال الأراضي بين خطي نصف النهار المار أحدهما على الجزائر الخالدات وثانيهما على سراطينة، فيكون بينهما ١٢٥ درجة جغرافية، وهوَّل في التقويمات الباطلة لإيراتسطينيس؛ حيث جعل ما بين الجزائر الخالدات ومصب نهر الكنج ١٤٥ درجة جغرافية بدل جعلها ١٢٦ درجة وسبع دقائق وأربعًا وثلاثين ثانية، ثم جاء بطليموس فجعل الخمس والعشرين درجة والمائتين اللاتي ذكرهن مارين الصوري ومائة درجة، مع أنه لم يتفحص في كتب السلف، ولم يصحح ما فيها من الغلطات، ولم يؤلف كتابًا جديدًا، بل اكتفى بما ذكروه من المفروضات غير محققة، ولم يغير شيئًا من مقادير الأطوال التي حددها مارين الصوري، وجعل ما بين ابتداء الجزائر الخالدات وراس كوري ١٢٥ درجة وعشرين دقيقة، وما بين راس كوري وسراطينة ٤٥ درجة وأربعين دقيقة لا مائة درجة حتى توصل إلى جعل جميع امتداد القارة القديمة ثمانين ومائة درجة، والعجب منه؛ حيث نسب إليه رسالة جغرافية استرشد فيها بكلام مارين الصوري، وليس له فيها إلا ترك الخرائط المصورة فيها الأرض مبسوطة، واستصواب طريقة إيبرقة التي رسم فيها جميع خطوط أنصاف النهار وموازياتها أجزاء من الدائرة تتقاطع عند تلاقيها، ويتكون منها زوايا قائمة.

واستعمل الجغرافيون تصوير إيبرقة إذا أرادوا وصف أجزاء الأرض المحصورة بين خط الاستواء والقطب، إلا أنهم أخطئوا في قولهم إن بطليموس الذي لا تطير له في التنظيم والترتيب لم يستطع استعمال المبادئ التي بين يديه وقت تصرفه إلا بعد بحث جديد مبني على جميع معلوماته الرياضية والفلكية؛ فإن كتابه على خلاف ما قالوا لاشتماله على جميع الغلطات القديمة، وخلوه عن رائحة الإتقان والإصلاح في تنقيصه درجات الأطوال السابقة؛ ولذا تنحى اللاتينينون والعرب في القرون المتوسطة عن الاشتغال بالجغرافيا حتى تجددت المعارف ثانيًا في أوروبا، فتجددت آراء بطليموس، وصارت أزياجه أساسًا للعلم ونموذجًا لرسم الخرائط، وجهل أعظم علماء الفرنج إصلاحات العرب لمؤلفات بطليموس، واشتغلوا بتآليفه ظانِّين أنهم سالكون سبيل الهداية، حتى رأوا استحالة تطبيق آرائه؛ فإن «إداجاتودايمون» رسم في الإسكندرية خرائط جغرافية على مقتضى الأطوال والعروض التي ذكرها بطليموس ومارين الصوري منتصرًا لمذهبهما المقتضي وجود كثير من القارات المجهولة على الكرة الأرضية، فظهر من المدارس القديمة الموجودة إذ ذاك جغرافيون أبدوا ما في الخرائط المرسومة على رأيهما من العيوب الأساسية، واختاروا أن يجعل شكل الأرض المسكونة كرويًّا أو بيضاويًّا أو مربعًا، وطبقت النصارى هذه الأفكار على جغرافية التوراة أحسن من تطبيقهم آراء بطليموس ومارين عليها، كما أن تخطيطات ماري جيروم سنة ٣٦٧ ميلادية وإيتيقوس سنة أربعمائة و«أوروز Orose» سنة ٤١٦ و«يوليوس هونوريوس Jules Honorius» سنة خمسمائة مباينة للرواية المعزوة إلى علماء الإسكندرية، وقال قسماس أنديقويلوطيس سنة خمسين وخمسمائة ميلادية: أن الأرض المعمورة مربعة، ولا يعول على هذا المذهب وغيره المخالف لكروية الأرض المقتضية أن يكون بيت المقدس في وسط الدنيا، كما قال أيسيدور الشبلي سنة ستمائة ميلادية.

المبحث الثامن عشر: في رفض مدرسة راونة آراء بطليموس الجغرافية

أخذ الإمبراطور «تيودوز الثاني Théodose II» ملك القسطنطينية يحث اليونان من ابتداء سنة ٤٣٥ على الاشتغال بالجغرافيا، وأمرهم أن يجددوا خريطة المملكة اليونانية، فاتخذوا مدينة راونة مركزًا لتعلُّم الجغرافيا وبكتبخانة هذه المدينة رحلات عليها حواشٍ، ولها جداول بها رسم الطرق والدروب بالألوان، وبينما الجهالة منتشرة في القرون الوسطى بأوروبا كان الرهبان في الديور يشتغلون بذلك العلم ويرسمون ما اقتصر علماء مدرسة راونة على ذكر أسماء بلاده؛ ولذا شوهد لدى رئيس دير ماري جاك خريطة ظريفة، وأخذ رهبان جزائر الإنكليز ينقلون لبعضهم أخبار الممالك القاصية وما شاهدوه في أثناء حَجِّهِمْ بيت المقدس، ويكبرون كتبخاناتهم المشتملة إذ ذاك على كثير من المؤلفات الجغرافية، وجمع شرلمانية ملك فرنسا علماء مملكته، فعملوا لجميع الدنيا خريطة مصورة بالحفر في ثلاثة ألواح من فضة قطع، ووزع أحدها على العساكر حين كان لوتير بن الملك لويز الهادي يحارب إخوته سنة ٨٤١ ميلادية وكأن اللوحين الآخرين فعل بهما كذلك، وألف الراهب ديقوبل سنة ٨٢٥ ميلادية في الجغرافيا التخطيطية كتابًا يذكر القارئ بما في الخريطة المرسومة زمن الملك تيودوز، ويفيد اهتمام أهل ذلك العصر بمعرفة مثل ذلك التخطيط، وكذلك الملك فريد الأكبر الجدير بالمقارنة لشرلمانية حث رعاياه على اكتساب الجغرافيا، وبعث في السفن من استكشفوا من بحر بلطق إلى مصب نهر وستول وسواحل بلاد نرويجة، وأمر أناسًا بترجمة تخطيط الدنيا تأليف بولص أوروز إلى اللغة الدارجة وتكميله بالمعلومات الجغرافية المكتسبة زمن سلطنته، وذلك الكتاب هو المعروف بهرمسطا، وكان آخر الآثار المعتمدة الجغرافيا عند علماء مدرسة راونة كتاب بريسبان وخريطته المنشأة في عهد الملك ألفريد الأكبر، وبما سلف يعلم أن اللاتينيين جهلوا جغرافية بطليموس أو لم يعتمدوها إلى القرن العاشر من الميلاد.

المبحث التاسع عشر: في تصحيح العرب كتاب بطليموس في العصر الأول سنة ٨٢٠ ميلادية

لما اشتغل العرب في عهد الخلفاء الأول من بني العباس، واغترفوا من كتب اليونان الرياضية والجغرافية، كان كتاب بطليموس هو المرشد الأكبر لهم، ثم أمر المأمون سنة عشرين وثمانمائة ميلادية بعمل أرصاد فلكية جديدة ببغداد، وتصحيح أرصاد المجسطي بالزيج الجديد المحرر في خلافته وإعادة تحديد الأطوال الأرضية، فعملوا ذلك، وكان بصورة ما حددوه وسَمَّوْهُ رسم الأرض تجديد مذهب اليونان في ذلك، وتحسينه عمَّا كان عليه، ولا مانع من نسبة بعض ذلك التحسين إلى العلماء النسطورية الذين حفظوا معلومات المتأخرين من علماء الإسكندرية بلا نقض ولا تصحيح؛ فإن الخلفاء أغدقوا عليهم ليشاركوا العرب في تلك الأشغال التي منها تحديد الأطوال الأرضية المسمى برسم الأرض المدوَّن في آنٍ واحد بالعربية واليونانية، وكان أصح الأقطار تحديدًا بلاد العرب والخليج الفارسي والولايات المروية بنهري الدجلة والفرات وبلاد الفرس وسواحل بحر جرجان الجنوبية والبحر الأبيض المتوسط، وكان قياس درجة من خط نصف النهار في سهول صنعاء مساعدًا على تصحيح أزياج بطليموس بدليل انطباقه بالأصالة على البلاد المجاورة لبغداد.

ولم يَكُنْ من العرب إلى القرن الحادي عشر من الميلاد تقدُّم في الجغرافيا الرياضية بخلاف الجغرافيا التخطيطية؛ فإنهم حين امتدت مملكتهم من المحيط إلى الأطلانطيقي إلى تخوم مملكة الصين، أنشئوا بالتدريج أربع طرق عظيمة تجارية توصل من مدينتي قادس وطنجة إلى أقصى آسيا؛ إحداها: تخترق إسبانيا وأوروبا وبلاد سلاوونة إلى بحر جرجان ومدينة بلخ وبلاد تجزجز، والثانية: تخترق بلاد المغرب ووادي مصر ودمشق والكوفة وبغداد والبصرة والأهواز وكرمان والسند والهند، والثالثة والرابعة: تعبران البحر الأبيض المتوسط، وتتجه إحداهما من الشام والخليج الفارسي والأخرى من الإسكندرية والبحر الأحمر للتوصُّل إلى بحر الهند، فكثرت بهذه الطرق السياحات ونقل السياحون إلى أقصى البلاد ما عند العرب من الأفكار والتمدن، واستفاضت الأخبار الجليلة الفوائد فنورت أذهان الملاحين وعرفتهم الأخطار التي يُخشى عليهم الوقوع فيها إذا سافروا في ولايات غير مستكشفة حق الاستكشاف، واشتملت الأزياج التي حررها البتاني بالرقة سنة تسعمائة وابن يونس في القاهرة سنة ألف على كتاب رسم الأرض بلا تغيير كبير. وأما ابن حوقل والإصطخري والمسعودي المشهورون في نصف القرن العاشر من الميلاد، فوصفوا في كتبهم صورة الاستكشاف الجديد، وحسب العلامة الكومي سنة ١٠٦٧ الأطوال من ابتداء الطرف الشرقي من الأرض القارة.

وزعم بعض الفرنج أن العرب كانوا متبعين في أول أعصر بني العباس الروايات الهندية، مع أن كتاب مبادئ علم الفلك المسمى بسندهند إن صح نقله إلى المنصور سنة ٧٧٥ لم يكن له عظيم اعتبار عند العرب؛ فإنهم ظفروا عما قليل برسالات يونانية، وتركوه لا يتفوهون باسمه إلا ليبينوا ما فيه من الغلط، ولم يعولوا في شيء من الجغرافيا على كتب الهنود المشاهد فيها أن بحيث جزيرة الهندستان في مركز العالم، وأن خط نصف النهار الذي يبين نقطة وسطها يخترق مدينة أوجين وجزيرة سيلان، وبحث العرب في كتبهم عن خط نصف نهار القبة الأرضية، وهي قبة عرين لتنصيص الأطوال فظن بعض الفرنج أن المراد من عرين مدينة أوجين وهو خطأ؛ فإن القبة المنسوبة إلى عرين هي نقطة تقاطع الدرجة التسعينية من حساب بطليموس مع خط الاعتدال على بعد متساوٍ من الجهات الأربع الأصلية، وليست هي قبة أوجين؛ فإن العرب كانوا يعرفون حق المعرفة محل أوجين الجغرافي. وأما عرين فكلمة اصطلاحية أرادوا بها جزيرة موهومة بين الهندستان وبلاد الحبشة سماها المؤرخ ديودور الصقلي بجزيرة أورانوس، وبدل العرب خط نصف نهار عرين أو قبة الأرض بخط نصف النهار المار بالجزائر الخالدات فاتبع ذلك من ابتداء القرن الحادي عشر إلى الثالث عشر.

المبحث المتمم للعشرين: في تصحيح العرب كتاب بطليموس في العصر الثاني سنة ١٢٠٥ ميلادية

افتتح العصر الثاني من أعصر إتقان العرب في أزياج بطليموس بظهور العلامة البيروني الفلكي سنة ١٢٠٥، ومدرسة بغداد إذ ذاك على ما هي عليه من عظيم الرونق والبهجة، دعاه الملك محمود الغزنوي الفاتح لجزء من آسيا إلى ديوانه، فاستعد لتصحيح الغلطات الباقية في حساب الأطوال المتعلقة ببلاد الروم وما وراء النهر والسند، ولأن يعمل لممالك المشرق قانونًا جغرافيًّا ألفه، فكان أساسًا لأكثر القسموغرافيات، قابله وصحح بعضه خوشيار الفارسي الفلكي، كما أن عمر الخيام الفلكي ضبط حساب الروزنامة السنوية سنة ١٠٧٦ بأمر السلطان ملك شاه، وحدد بأصح كيفية مدة السنة الفلكية المعروفة بالاعتدالية، وقد أفادنا غاية معلومات العرب فيما يتعلق بقارة آسيا نصير الدين الطوسي وخوشيار الفارسي، ومؤلف زيج الجزائر وكذا كتاب القياس؛ أي زيج التماثل، واشتهر من سنة ألف إلى سنة ثلاثمائة وألف ميلادية جمع من الأفاضل منهم البكري سنة ١٠٦٧ ترجم كتابه الخواجه كترمير وشهره.

والإدريسي المولود بمدينة سبتة سنة ١٠٩٩ ميلادية تعلم العلوم بمدينة قرطبة، ثم خدم في ديوان روجير ملك جزيرة سيسيليا، فصنع له من الفضة لوحًا مستديرًا زنته ثمانمائة رطل إفرنجي (الرطل ثمان أواقٍ إفرنجية والوقية ثمانية دراهم إفرنجية)، وحفر فيه باللغة العربية كل ما عرفه من جميع ممالك الدنيا المعلومة إذ ذاك، وألف في الجغرافيا رسالة لبث رسامو الخرائط الجغرافية من الفرنج ثلاثة قرون ونصف مقتصرين على نقلها، ولم يزيدوا عليها إلا شيئًا قليل الأهمية، وأبان في تأليفه عن أول نقطة التماس التي بين جغرافية اللاتينيين وجغرافية المدارس الإسلامية، وترجم كتابه الخواجه بوبرت وياقوت سنة ١٢٢٥ ميلادية.

المبحث الحادي والعشرون: في تصحيحات العرب في العصر الثالث الذي أوله سنة ١٢٣٠ ميلادية وفي الكلام على قبة عرين وآخر ما حصل من اجتهاد العرب في هذا العلم من سنة ١٢٥٠ إلى سنة ١٦٤٨ ميلادية

علمت مما سلف تبدل حقيقة مركز العالم والمشرق بظهور كتابي رسم الأرض وقانون البيروني. وأما الجزء الغربي من المملكة الإسلامية — وهو ساحل إسبانيا وبلاد المغرب — فلا يزال مشتملًا على أقيسة زائدة مع أن أرزاقيل الأندلسي الفلكي سنة ثمانين وألف ميلادية كان عنده رصد مضبوط لطول مدينة طليطلة جعله أربع ساعات وعشر ساعة بعيدًا من عرين، وأما طول البحر الأبيض المتوسط الذي جعله بطليموس اثنتين وستين درجة، ثم جعله العرب في كتاب رسم الأرض أربعًا وخمسين درجة، فقد قُدِّرَ بعد ذلك باثنتين وأربعين درجة، غير أنَّا لم نستفِد من ذلك الرصد بخلاف ما عمله أبو الحسن علي المراكشي المشتهر سنة ١٢٣٠ ميلادية من التصحيح المهم الذي كان به كتابه من أجل الآثار العلمية فيما عليه العرب من علم الجغرافيا.

وميز العرب فيما سلف المغرب المعمور من المغرب الحقيقي للدنيا بتنقيصهم أول مرة عشر درجات من حساب القدماء، وجعلوا المغرب الحقيقي قريبًا من جزائر آسورة، ولم يعرفوا مجمع هذه الجزائر، فاختاروا خط نصف النهار المار بقبة عرين والمتحد مع الدرجة التسعينية من حساب بطليموس، فاستفادوا من ذلك ضبط جداولهم، وكأن أبا الحسن استعمل خريطة رُسِمَتْ في الزمن الأول غير مضبوطة كما استعمل مثلها جغرافي آخر من أهل المغرب يقال له ابن سيد، غير أن أبا الحسن جَدَّدَ جزءًا من تلك الخريطة بأضبط منه بخلاف ابن سيد ومن نقلوا عمله؛ فإنهم جهلوا ذلك التجديد ونقلوا إلى الجغرافيين من أهل المشرق الخريطة الأصلية على ما هي عليه من الغلط؛ ولذا ترك أبو الفداء الذي لم يَطَّلِعْ على التجديدات المتعلقة بجغرافية بلاد المغرب وإسبانيا مواضع خالية من جغرافيتها في رسالته الكبرى.

وبدأ الانحطاط بعد من أسلفنا من أبي الحسن والجغرافيين من الفرس؛ فإن القزويني الملقب بوجه الحق المتوفى سنة ١٢٨٣ ميلادية، لم يكن منه غير نقل كلام أسلافه حرفيًّا، وصرف ذهنه إلى التاريخ الطبيعي، والعلامة النويري المصري المتوفَّى سنة ١٣٢٠ لم يحتوِ كتابه الجامع لعلوم كثيرة على ملحوظات زائدة عمَّا حققه سلفه، وأما ابن بطوطة الذي رحل سنة ١٣٢٥ من مدينة طنجة وطنه فشاهد الديار المصرية وبلاد الفرس وما وراء النهر والهندستان والصين، ثم طاف بعد عشرين سنة بإسبانيا ومغرب إفريقية، فلا يوثق بكلامه لإملائه سياحته من حافظته بعد المعاينة، مع تصديقه كل ما يُلقَى إليه من الحكايات التي لا تُعقَل.

وابن الوردي مؤلف خريدة العجائب المشهور في الزمن السالف عند الفرنج، وكذا بحلب من سنة ١٢٩٢ إلى سنة ١٣٤٩ ميلادية لا ينبغي أن يستمد من كلامه إلا مع الاحتراس من الخطأ، وأبو الفداء أمير حماة من سنة ١٢٧١ إلى سنة ١٣٣١ ميلادية لم يلتفت إلى غلطات أسلافه التي نقلها ولا إلى تغير بعض الأرقام العددية التي أثبتها بلا نظر فيها وصدق بفوائد علمية واضحة البطلان، ونسب إلى من نقل عنهم هفوات تستحيل على مثلهم إلا أنه يفوق ابن الوردي، فإنه وإن لم يكن إلا مختصِرًا تآليف غيره قد استند إلى المعلومات الرياضية، ولام جميع من اتبعوا غير هذا النهج الرياضي في كتبهم بإهمالهم ضبط الأطوال العروض البلدية، ونقل جداوله من أربعة جداول، فأبقى لنا كنز علم حقيقي، وأتى بعد أبي الفداء فضلاء اشتهروا بالجغرافيا، وهم العلامة الذهبي المتوفَّى سنة ١٣٤٧ ميلادية، والبكري المشتهر سنة ١٣٩٧ والمقريزي المشتهر من سنة ١٣٦٧ إلى سنة ١٤٤٣، وابن إياس وكذا ليون الإفريقي المشهور بالحسن المشتهر سنة ١٥١٦ ميلادية.

وبعد أن خرب التيمورلنكيون ممالك آسيا شوهدت أشغال علمية في ابتداء القرن الخامس عشر؛ فإن الملك شاه رخ بعد أن استولى على بلاد الفرس وجزء من الهندستان تودد إلى رؤساء الممالك الأُخَر، وأرسل سفراء كثيرة إلى عامل الصين سنة ١٤٢٠، ثم عبد الرزاق السمرقندي إلى الهندستان سفيرًا إلى ملك كلكتة، وشرع ابنه أولوغ بيك المشهور بأزياجه الفلكية في رسم خريطة جميع الدنيا سنة ١٤٣٧، واعتمد عليها نصير الدين الطوسي في مؤلفاته وساح علي القوشجي بإذن أولوغ بيك في بلاد الصين فضبط قياس درجة من خط نصف النهار ومقدار مساحة الكرة الأرضية.

وكان لعلم الجغرافيا الإسلامية خرائط بحرية أيضًا رأى منها الخواجه واسقوجاما سنة ١٤٩٧ عند المعلم قنا (أوكنا) المغربي المقيم في الجوزرات (قرب الهندستان)، حين أخذه معرِّفًا لسير السفينة إلى مدينة ميلندة في زنجبار، واستعان البوقرق الأكبر (البرتغالي) في ملاحته ببحر عمان والخليج الفارسي بخريطة أخرى من رسم عمر العربي في سنة ١٦٤٨، وختمت سلسلة الرسائل الجغرافية اللاتي ألفها المشرقيون بكتاب الخطيب الجلبي المسمى بجهان نامه، المستعين في هذا المؤلف بمؤلفات الفرنج المشتملة على الاستكشافات الحديثة المهمة التي عثر بها البرتغاليون والإسبانيون.

المبحث الثاني والعشرون: في تلخيص الاستكشافات العظيمة التي جاءت بها العرب في علم الفلك والعلوم الرياضية وعلم الجغرافيا

أدرجنا في الأبحاث السالفة مؤلفي العرب والفرس لانتساب سائرهم إلى مدرسة واحدة، ولأن الاصطلاحات العلمية التي جرت عليها المشارقة كان سائرها ألفاظًا عربية لتغيُّر صورة اللغة الفارسية إلى العربية منذ زمان طويل بممارسة القرآن والحركة العقلية الفاشية في القرن الثامن بعد الميلاد، منذ تَوَلَّى بنو العباس منصب الخلافة، وظهر تحكُّم التمدن العربي المتسع به نطاق لسان العرب الذي أدخله مترجمو الكتب اليونانية في الاصطلاحات، فسهل انطباقها على المعلومات التصوُّرية التي عزا الفرنج اختراع أكثر استكشافاتها إلى علماء منهم كانوا بالقرن الخامس عشر والسادس عشر، مع أن اختراع أكثرها ما كان إلا للعرب الذين اجتهدوا في تقديم العلوم؟ ونلخص لك اجتهادهم فنقول:
  • الأول: إن استبدال الأوتار بالجيوب، وإدخال الخطوط المماسة في حساب مساحة المثلثات، وتطبيق الجبر على الهندسة، وحل المعادلات التكعيبية، وأذكى تصورات العلوم الرياضية شاهدنا جميعها في مؤلفات العرب المكتوبة بخط اليد التي ظفرنا بها.
  • الثاني: أن العلماء الفلكيين ببغداد ضبطوا بغاية الدقة حركة أوج الشمس، وتداخُل فلك هذا الكوكب في داخل أفلاك أُخر ومقدار السنة.
  • الثالث: أن تقدم الجغرافيا الرياضية وتصحيح أزياج بطليموس كانا على أيدي العرب.
  • الرابع: أن القرن السادس وما بعده إلى السادس عشر كانت خالية من الفلكيين الأوروباوية متحلية بوجود من أسلفناه من أهل الأرصاد العربية؛ ولذا لم يعد الفرنج في كتبهم إلا بعض أرصاد فلكية نصوا عليها في كتبهم نصًّا ناقصًا.
  • الخامس: ما تعجب منه فلكيو المشرق، وهو رصد خانة سمرقند التي أنشأ بعدها بقرن الخواجه تيكوبراحة رصدخانة أورانيبرغ سنة ١٥٧٦ ميلادية.
  • السادس: أن الفرنج زعموا أن آلة الأسطرلاب من مخترعات تيكوبراحة، مع أن تلك الآلة والربع ذا الثقب موجودان من قبله في رصد خانة المراغة التي أَسَّسَها العرب العارفون للساعة ذات البندول.
  • السابع: أن العرب شهروا النقصان التدريجي لميل وسط فلك البروج قبل متأخري الفرنج بزمان طويل.
  • الثامن: أن العرب قدروا مبادرة الاعتدال بمقداره الحق من ابتداء القرن الحادي عشر.
  • التاسع: أنهم رصدوا اختلافات أعظم عروض القمر قبل تيكوبراحة بأكثر من ستمائة سنة.
  • العاشر: أن تحديد الاختلاف الثالث في عرض القمر وإن كان أكبر استكشاف مثبت فخار تيكوبراحة، لكن لأبي الوفاء الفلكي من منازعته في فخار ذلك الاستكشاف.

ولا يخفى أن الاستكشافات السالفة تفيد علم الفلك المشرقي مَزِيَّةَ الأصالة والأولية التي لا يستطيع الإمساك عن الإقرار بها أحد من الفرنج الذين استكشافاتهم لمعلومات الكتب العربية شواهد على تقدُّم العلوم الرياضية عند العرب الذين استفاد منهم اللاتينيون الاستمدادات الأولية؛ فإن جوبرت الذي كان بابا رومية ومُلَقَّبًا بسلوستر الثاني أدخل من سنة ٩٧٠ إلى سنة ٩٨٠ ميلادية عند الفرنج العلوم الرياضية التي اكتسبها من عرب إسبانيا.

و«أدهيلارد Adhélard» الإنكليزي ساح من سنة ١١٠٠ إلى سنة ١١٢٠ ميلادية في كل من إسبانيا ووادي مصر، وترجم مبادئ إقليدس من العربية بعد أن ترجمها العرب من اليونانية، وترجم أفلاطون (المنسوب لطيفوليا وهي مدينة قرب رومية) من العربية الرياضيات الكروية المنسوبة إلى «تيودوز Theodose»، كما أن الخواجه رودلف أحد أهالي بروجس البلجيقية ترجم مسائل بطليموس المتعلِّقَة بالكرة الأرضية أو السماوية المصوَّرة مبسوطة على خريطة وليونرد أحد أهل بيزة ألف سنة ١٢٠٠ ميلادية رسالة في الجبر الذي تعلمه بلاد العرب، وقمبانوس من أهل نوارة (في إسبانيا) ترجم في القرن الثالث عشر كتاب إقليدس ترجمة جديدة، وشرحه ووبتليون البولندي ترجم كتاب الخازن في علم الضوء والنظر، وترجم جيرارد الكريموني المجسطي، وشرح كتاب جابر وغير ذلك، فانتشر علم الفلك الصحيح، وشهر ألفنس القسطلاني سنة ١٢٥٠ ميلادية الأزياج الفلكية المنسوبة إليه.

وكان الملك روجير الأول ملك السيسيليين مساعد العلماء العرب بسيسيليا لا سيما الإدريسي، ثم أتى العاهل فردريق الثاني بعد روجير بمائة سنة، فلم يَأْلُ جهدًا في المساعدة والحث على كسب العلوم والمعارف الأدبية المشرقية، وكان أولاد ابن رشد مستخدمين في ديوانه ويعلمونه التاريخ الطبيعي في النبات والحيوان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤