الفصل الرابع

(١) حديثُ الصَّديقَيْن

فَلمَّا تَقَشَّعتِ السُّحُبُ وانْجَلَتِ الْغُيُومُ عنِ السَّماءِ، زال عَنهُ ما أَلَمَّ بهِ منَ الضَّجَرِ لِطُولِ احْتِباسهِ، وهَمَّ بالْخُرُوجِ منْ جُحْرِه؛ فرأَى أمامَهُ صاحبتَهُ «أُمَّ هُبيْرةَ»، فَقَالَ لَهَا: «آهِ … لقدْ كُنتُ أُفكِّرُ في لِقائِكِ الآن. وإنَّما منَعني مِنَ الذَّهَابِ إِليْكِ ما كابَدْتُهُ — فِي هَذَا الصَّباحِ — مِنَ الضَّجَرِ والأَلَمِ؛ فقدْ نَزَلَ الْمَطرُ مِدْرارًا، فلمْ أَسْتَطِعِ الْخُرُوجَ منْ جُحْري.

آهِ! مَا كَانَ أَسْمَجَهُ صَبَاحًا!»

فقالتْ «دابَّةُ النَّهْرِ»: «شَدَّ ما أخْطَأْتَ في حُكْمِكَ — يا «أبا بُرَيْصٍ» — فقدْ كان أجْملَ صَباحٍ عِندَنا — مَعشرَ الضَّفادِعِ — ولقدْ مَنَّ اللهُ عَلَيَّ بهذا الْمطَرِ — لِحُسْنِ حَظِّي — وأنا أحْوَجُ ما أكُونُ إليْه.

وما أدْرِي: كَيْفَ كُنتُ أَصنَعُ لو ظلَّتْ حَرارةُ الشَّمْسِ مُرْتفِعةً، كما كانتْ في الْأَيَّامِ السَّابقةِ؟»

(٢) القُـرُّ

ثُمَّ استأْنَفتْ «دابَّةُ النَّهْرِ» قائلةً: «ولكنَّ اللهَ — سُبحانهُ — قدْ أغاثني بهذا الْمطرِ، وأنْقذَ الْقُرَّ — أعْني: بُوَيْضاتي — منَ التَّلَفِ.»

فقالَ «أبو بُرَيْصٍ»: «بُوَيْضاتِكِ؟ متَى كان ذلكِ؟ كيفَ لَمْ تُخْبريني؟

يا لَكِ منْ صَديقةٍ عجيبةٍ! أَعَنْ مِثْلِي تُخْفِينَ هذا السِّرَّ؟»

فقالتْ لهُ: «كلَّا … لمْ أُخْفِ سِرِّي عَنْكَ. ها هِي ذِي بُوَيْضاتي في قاعِ الْبِرْكةِ الصَّغيرةِ. انْظُرْ هَذِهِ الصُّرَّةَ الصَّفْرَاءَ وَمَا فِيهَا مِنْ نُقَطٍ سُودٍ صَغِيرةٍ. أجِلْ فيها بَصَرَكَ، وأَدِرْ نظَرَكَ، واعلَمْ أنَّ كلَّ نُقْطَةٍ — منْ هَذِهِ النُّقَطِ — هِيَ بُويْضَةٌ منْ بُوَيْضاتي الَّتي حدَّثتُكَ بها الآن.»

فقالَ «أبو بُرَيْصٍ»: «وما بالُكِ تُلْقينَ بها في الْماءِ، أَيَّتُها التَّاعِسةُ؟ إنَّكِ — إِذْ تَفْعَلينَ ذلكَ — تُعَرِّضينَها لِلتَّلَفِ!»

فَقَالَتْ «دابَّةُ النَّهْرِ» مُتَأَلِّمةً مُتَملْمِلةً: «لمْ أخْتَرِعْ ذلكَ اخْتِرَاعًا، ولَسْتُ فيهِ بِدْعًا (لَسْتُ أوَّلَ مَنْ فَعَلَ هذا). ولَمْ يَدُرْ بِخَلَدِي (لَمْ يَمُرَّ بِخَاطِري) أنَّني أُعَرِّضُ ذَرارِيَّ — وهِيَ قِطَعٌ مِنِّي — للْخَطَرِ حينَ أُلْقِي بها في الْماء … فإِنِّي رأيتُ الضَّفادِعَ — كُلَّها — لا تَبيضُ إلَّا في الْمَاءِ … وقدْ فَعلْتُ مثْلَ فِعْلِها، ولَمْ أَشِذَّ عنْ هذا العُرْفِ الشَّائعِ بينَ «بناتِ نَقْ نَقْ» جَميعًا.»

(٣) بَعْدَ ثَمَانِيةِ أَيَّامٍ

وَمرَّ عَلَى هذا الحِوارِ ثَمَانِيةُ أَيَّامٍ، ثُمَّ ذَهَبَ «أبو بُرَيْصٍ» إلَى صَدِيقَتِه «دَابَّةِ النَّهْرِ» ليَزُورَها؛ فأَلْفَاها جَاثِمةً فِي المَاءِ — بِلا حَراكٍ — وَقدِ امتَدَّتْ يَدَاها إلَى خَلْفِها، وظَهرَتْ عَلَى سِيمَاها (هَيْئتِها) أَمَارَاتُ الفَرَحِ والغِبْطةِ. ولمَّا رأتْ صَديقَها صَاحَتْ مُتَهلِّلةً فَرِحةً: «هَلُمَّ، يا «أبا بُرَيْصٍ». تَعالَ فانظُرْ صِغاري خارجاتٍ منَ البَيْضِ الَّذِي رَأيتَه مُنذُ أيامٍ. آه! يا لَسَعَادَتِي وَهنَائِي!»

فَقَالَ «أبو بُرَيْصٍ»: «كيْفَ تَزْعُمِينَ أنَّ هَذِهِ الدَّوَابَّ الغَرِيبَةَ الشَّكلِ هِيَ صِغَارُكِ؟ كلَّا يَا عَزِيزَتِي! كلَّا. مَا أَنْتِ بِمُصَدَّقةٍ! ذَلِكِ مُحَالٌ، يَا دَابَّةَ النَّهْرِ.»

فَقَالَتْ لهُ مُرْتَاعَةً (خَائِفةً): «لَسْتُ أَشُكُّ فِي أَنَّهُمْ أوْلادِي، أَلَا تَرَى هَذِهِ الصِّغارَ خَارِجةً مِنْ بُوَيْضَاتِي؟ أَلَا ترَى جَمَالَ مَنْظَرِها، وحُسْنَ شَكْلِها؟»

(٤) ذَواتُ الْأَذنابِ

فَقَالَ لَهَا «أبو بُرَيْصٍ» وَهُو يَهتَزُّ ضَاحِكًا: «أَيُّ جَمَالٍ تَرَيْنَهُ فِي هَذِهِ الرُّءُوسِ الضَّخْمَةِ؟ لعَلَّكِ تَمْزَحينَ! ما أظُنُّكِ جادَّةً في قَوْلِكِ، أَيَّتها الصَّديقَةُ العَزيزةُ؟

ألَا تَنظُرِين إِلى أَذْنابها؟ فكَيْف تَجْلسُ هذه الأوْلادُ عَلَى الْحشائِشِ كَما تَجْلسينَ؟ ومتَى كانَ للضَّفادعِ أذنابٌ، أيَّتُها العزيزةُ البَلهاءُ؟»

فاشتَدَّتْ حَيْرَتُها، وَلمْ تَعْرِفْ كَيْفَ تُجِيبُ صاحِبَها. وَساوَرَها الرَّيْبُ (أسرَعَ إِليْها الشَّكُّ)؛ فلَمْ تَجْزِمْ بشَيْءٍ. وإنَّما اسْتَوْلَى عَلَيْها الحُزْنُ؛ لِأَنها رأتْ تِلكَ الدَّوابَّ الرَّمادِيَّةَ اللَّوْنِ لَيسَ لها أيْدٍ تَسْبَحُ (تعُومُ) بها في الماءِ، وعَجِبَتْ من أَذنابِهِنَّ عجَبًا شديدًا.

(٥) آكِلُ النَّبات

وَحانتْ من «أبي بُرَيْصٍ» التِفاتةٌ، فصاحَ مَدهوشًا: «انظُرِي — يا صَديقَتي — هاكِ مَوْلُودًا يَأْكُلُ مِنَ النَّباتِ الَّذِي في قاعِ الماءِ! فَخَبِّريني بِربِّكِ: هلْ رأيْتِ — طُولَ عُمرِكِ — ضِفْدِعًا يَأْكُلُ النَّباتَ؟»

فَقالَتْ «دابَّةُ النَّهْرِ» وقدْ كادَ البُكاءُ يَعْقِدُ لِسانَها: «مهْما يَكُنْ منْ أَمرٍ، فَإنِّي علَى يَقينٍ أَنَّ هذهِ الدَّوابَّ قدْ خَرجَتْ من بويْضاتِي!»

فَقالَ «أَبو بُرَيْصٍ»: «هِيهِ يا «دابَّة النّهْرِ». لقدْ عرَفْتُ حَقِيقَةَ أَمْرِ هذِه الدَّوابِّ الصَّغيرةِ، وقَدْ أيقَنْتُ الآنَ أنَّهَا: سَمكٌ.»

فودَّعَتْه «دابَّةُ النَّهْرِ»، وقالَتْ وهيَ مَحْزُونةٌ مُتألِّمةٌ: «لقدْ جَهِلْتُ — مَعَ حِرْصي عَلَى المعْرفَةِ — فما أَدرِي شَيْئًا!»

(٦) أُمْنِيَّةٌ تَتَحقَّقُ

وفي يوْمٍ منْ أيَّامِ «أُغُسطُسَ» الْحارَّةِ، تَمَدَّدَتْ جَمهرَةٌ منَ الْأبارِصِ عَلَى الْحَائِط، واسْتقْبَلَتْ أشِعَّةَ الشَّمْسِ، واسْتَسْلَمَتْ للدِّفْءِ والرَّاحَةِ، وكانَ من عادَتِها أنْ تَقْضِيَ وقتَ الهَضْمِ فِي مثْلِ هَذَا الْمكانِ، مُخْلِدَةً (مُرْتكِنةً مُسْتَسْلِمةً) إلى الرَّاحةِ في تلْكَ الْجِهةِ المُشْمِسَةِ الْحَبيبةِ إلى نُفوسِها.

وإنَّها لكَذلِكَ، إذْ أقْبَلتْ عليْها «دابَّةُ النَّهْرِ» بَعدَ أنْ صَعِدَتْ إلى سَطْحِ الْماء، وصاحتْ تُنادِي«أبا بُرَيْصٍ» بأَعْلى صَوْتِها — وقدِ اسْتَوْلَى عليْها الْفَرَحُ — قائلةً: «إلَيَّ يا صَدِيقِي العَزِيزَ. هلُمَّ لِأَزُفَّ إليْكَ بُشْرَى منَ البُشْرَياتِ السَّارَّةِ الَّتي تَمْلَأُ قلْبَك غِبْطَةً وتُسْكِنُ البَهْجةَ خَلَدَكَ (نَفْسَكَ)!»

فأَقْبلَ عليْها «أبو بُرَيْصٍ» مُسْتَفْسِرًا عنْ جَلِيَّةِ الْخَبَرِ (حَقِيقَتِه)؛ فابتدَرَتْ (أَسْرَعتْ) قائلةً: «لقدْ أيْقنتُ — اليومَ — أنَّ تلكَ الدَّوابَّ الَّتي شكَّكْتَني في حَقِيقَتِها — مُنذُ أَيَّامٍ — لَيستْ إلّا أوْلادِي.

وقدْ زالَ اللَّبْسُ والشَّكُّ، وتأَكَّدَ لِي ذَلِكَ منْ كلامِ عَمِّي حِينَ رَآهَا. وَهَا أنَا ذِي أدْعُوكَ لزِيارَتِها، ولَيسَ الْخَبَرُ كَالعِيانِ.»

(٧) «بَناتُ هُبَيْرَةَ»

فَسارَ مَعها «أبُو بُرَيْصٍ» حتَّى وَصلا إلَى شَاطِئِ البِرْكَةِ، فَرأى ما أدْهَشَهُ وحيَّرَه. أتعْرِفُونَ ماذا رأى؟

لقدْ أبْصرَ «بَناتِ هُبيرةَ»: تلكَ الدَّوابَّ الرَّمادِيَّةَ اللَّوْنِ، قدْ نبتَتِ الْأَيْدِي في أجْسادِها، وقَصُرَتْ أذْنابُها، فاشْتدَّ عَجبُهُ، والْتفَتَ إلى «دابَّةِ النَّهْرِ» يَسْأَلُها الصَّفْحَ قائلًا: «لقدْ أخْطَأْتُ حينَ شَكَّكْتُكِ في أمْرِ هذهِ الدَّوابِّ؛ فاسْمَحِي لي أنْ أَزُفَّ إليْكِ تَهْنئاتي الْخَالِصَةَ بأطْفالِكِ الصَّغيراتِ.»

فقالتْ «دابَّةُ النَّهْرِ» مَزْهُوَّةً فَخُورَةً: «أشكُرُ لكَ إخْلاصَك ووَلاءَك. وقدْ حَمِدْتُ اللهَ — سُبْحانَه — عَلى أنّهُ لَمْ يفجَعْني في أَمَلِي. وقدْ أخْبَرَني عَمِّي — حينَ سألْتُهُ — أن هذهِ الْبناتِ الصَّغيرةَ — حينَ تَنْتهِي منْ فَتْرَةِ الطُّفولةِ — تَصْغُر رُءوسُها شيْئًا فَشيْئًا، حتَّى تتَناسَبَ هيَ وأجْسادُها. ثُمَّ تُصْبِحُ — بعدَ ذلكَ — ضفادِعَ تامَّةَ التَّكْوينِ مِثْلَنا، جَميلةَ الشَّكلِ، مُخْضَرَّةَ الَّلوْنِ، حَسَنةَ التَّقْسيمِ والتَّقْوِيمِ.»

(٨) عاقِبةُ الطَّيشِ

ثُمَّ سَمِعَ الصدِيقانِ صَوتًا ضعيفًا ينادِي ويُغَوِّثُ (يَستَغيث) طالبًا النَّجْدةَ. فالتَفَتا يَتعَرَّفان مَصْدرَ الصَّوْتِ. وما أَدْرَكا جَلِيَّةَ الأمْرِ (حقيقَتَه)، حتى هالهُما ورَوَّعهما (خَوفَّهما ورعَّبهما) ما حَدَثَ. فقدْ رَأيا طِفلًا مِن أطفالِ «دابَّةِ النَّهرِ» اسمُه: «العُلْجُومُ»، دفَعه الطَّيشُ والغُرورُ إلَى الخُروجِ مِنَ البِرْكَةِ إلى الشاطِئ. ولم يَكَدْ يَفعلُ حتى اشْتبَك في الحشائشِ، ولم يَقْدِرْ عَلَى العَوْدةِ مِن حَيثُ أتَى. وارتَمَى ذلك الطِّفلُ علَى ظَهرِه، وَسَرَتِ الرِّعْدةُ والرِّعشةُ فِي جِسمِه الصَّغيرِ.

فسألَ «أبو بُرَيْصٍ» صَديقَته مُتَعجِّبًا: «ماذا أصابَ التاعِسَ المِسكينَ؟ لقدْ يُخَيَّلُ إلى رائيهِ أنه يَخْتَنِقُ ويُوشِكُ أنْ يَفقِدَ الحَياةَ.»

فقالتْ «دابَّةُ النَّهرِ»: «صَدَقتَ — يا صاحِ — فقدْ أخَبَرَني عمِّي أن أطفالَنا تَتَنَفَّسُ فِي المَاءِ كَمَا يَتَنَفَّسُ السَّمَكُ. ولقد أخطَرَ هذا الطَّائِشُ نَفسَه (أدْخلَها في الخَطرِ، وعرَّضَها لِلهَلاكِ) حين خرَج إلى الشاطِئِ. وها هوَ ذا يخْتنِقُ — كما تَرَى — فكَيْفَ أصنَعُ؟»

ثمَّ عَنَّتْ (عَرَضتْ) لها فِكْرةٌ مُوَفَّقةٌ سَدِيدةٌ؛ فأسْرَعتْ إلى طِفْلِهَا، ودَفَعتْه بِفمِها قَليلًا، ثمَّ قَذَفتْ به إلى الماء.

فلَبِثَ المِسكينُ طافِيًا علَى وَجْهِ الماء بِلا حَرَاكٍ، وقدْ يَئِسَ مِنْ حَياتِه كُلُّ مَن رآه. ولكنَّ إخوَتَه وأصدقاءَه أسرَعُوا إلَيْه، وظَلُّوا يَسَبحُون (يَعومُون) حَوْل «العُلْجومِ»، وَينظُرون إليْه بِعُيونٍ مِلْؤُها الجَزَعُ والْأَسَفُ. فقالَتْ «أُمُّ هُبَيْرةَ» في حُنُوٍّ وإشْفاقٍ: «لقدْ ماتَ وَلَدِيَ العَزِيزُ. فَوا حَزَنا عَليْه!»

فَصَاحَ «أبو بُرَيْصٍ» فَجْأَةً: «كَلَّا. لمْ يَمُتْ، ولا يَزالُ في الْأَمَلِ فُسْحةٌ — يا صَديقَتي — فإِنِّي أرَى جِسمَه يَتَحرَّكُ. ها هوَ ذا يُحَرِّكُ إحْدَى يدَيْه.»

(٩) نَجاةُ «الْعُلْجُومِ»

فَدَبَّ الْأَمَلُ في نُفوسِ الحاضِرين، حين رأوْا ذلِكَ الضِّفْدِعَ الصَّغيرَ يَعودُ إلى الحَياةِ شيْئًا فشيْئًا. ولَمْ يَلْبَثْ أنِ اسْتعادَ ذاكِرَتَه، وسألَ مَن حَوْلَهُ: «تُرَى أيْنَ أنا؟ وماذا أَصَابَنِي؟ آهٍ! لقدْ ذَكرْتُ الآنَ كلَّ شَيْءٍ، وعرَفْتُ خَطَرَ ما أقْدَمْتُ عليه حينَ قفَزْتُ منَ الْماءِ إلى كُوْمَةِ الْحَشائشِ. وإنَّما حَفَزَني إلى ذلك شَوْقي إلى رُؤْيَةِ هذا السَّيِّدِ الطَّوِيلِ الْأَنْفِ، الَّذِي يَتحدَّثُ — أكْثَرَ الْوَقْتِ — مَعَ أُمِّيَ الْحَنُونِ. ولَنْ أُجازِفَ مَرَّةً أُخْرَى، حَسْبي أنْ كُتِبَتْ لِيَ السَّلامةُ بَعدَ الْيَأْسِ!»

ثمَّ هَتفَ الضِّفْدِعُ قائلًا: «شُكْرًا لِلماءِ!»

فردَّدَتْ إِخْوَتُهُ هُتافَهُ، فَرِحةً مُستبشِرَةً.

ثمَّ عاوَدهُ المَرَحُ، وَشارَكَهُ في مَرَحِه أخَواتُهُ: الشِّرْغُ، والشُّرْنوغُ، وأَبو هُبَيْرةَ، ودابَّةُ الماء، والقُرَّةُ، والعُدْمُولُ، والهاجَةُ، والهُوَيْجَةُ. وَغَاصُوا مَعهُ إِلى قاعِ الماء مَسرورينَ بِنَجاتهِ من هَلاكٍ مُحَقَّقٍ.

(١٠) دُرُوسُ النَّطِّ

وَلمْ يُوفِ الصَّيْفُ عَلَى نِهَايتِهِ حتَّى كَبِرَتْ أَطفَالُ «دابَّةِ النَّهرِ» واسْتَخَفَّتْ أذْنَابُها الطَّوِيلة، وسَمِنتْ أجْسادُها النَّحيلةُ. وكانتْ» بناتُ هُبَيْرَةَ» — في تِلك الْأَثناء — تُقْبِلُ على الطَّعامِ في شَرَهٍ عَجيبٍ. وقد نشَأَتْ لكُلِّ ضِفْدِعٍ مِنهُنَّ يَدانِ قصيرَتانِ، وَرِجْلانِ طَوِيلَتانِ.

وقدْ عَراهُنَّ (أَلَمَّ بِهنَّ) الخَوْفُ حينَ خرَجْنَ منَ الماء — لِلْمَرَّة الْأُولى — ولكنَّ أُمَّهُنَّ شَجَّعتْهُنَّ على اتِّباعِها؛ حتَّى إذا وَصَلْنَ إلى الحَشَائشِ، ظَلَلْنَ يُمَرِّنَّ أَنْفُسَهُنَّ على القَفْزِ والنَّطِّ. وَقد أَوْصَتْ «أُمُّ هُبَيْرةَ» بناتِها أَن يَقْتَصِدْنَ في قَفْزِهِنَّ؛ حتَّى لا يَدْفعَهُنَّ الطَّيْشُ والحَماقةُ إلى الهَلاكِ. وَقدِ اجتمَعَتِ الضَّفادِعُ الكبِيرَةُ أَسْرابًا (جَماعاتٍ)؛ لتَشهَدَ ذلكَ التَّمْرِينَ، وَأُعْجِبَتْ بِما أظْهرَتْهُ تِلكَ الصَّغيراتُ منَ الحِذْقِ والبَراعةِ والذَّكاءِ. على أنَّ إحْدى هذه الضَّفادِعِ، واسْمُها «القُرَّةُ»، قَفَزَتْ — بِلَا تَبَصُّرٍ — قَفْزَةً عاليَةً؛ فَهوَتْ على أَنْفِها، فَتَهشَّمَ وتَحَطَّمَ.

(١١) دُرُوسُ الصَّيْدِ

وما زالَتْ «دابَّةُ النهرِ» تُعَلِّمُ ذَرارِيَّها (أَوْلادَها): كيْفَ تَبْتَلِعُ الحَشَرَاتِ والخَنافِسَ التي تُصادِفُها في طريقِها، وَكيْفَ تَصْطادُ أَسْرابَ الذُّباب (جَماعاتِهِ) الرَّاقِصَةَ حَوْلَ الغَدِيرِ، وهوَ أشْهى طَعامٍ تَرْتاحُ إلَيهِ الضَّفادِعُ. وما تَذَوَّقَتْهُ صِغارُهَا حَتى آثَرَتْهُ (اخْتارَتْهُ وَفَضَّلَتْه) على كلِّ شَيْءٍ ولمْ تَرْضَ بِه بَدِيلًا.

(١٢) دُرُوسُ المُوسِيقَى

وَاعْتزَمَتْ «أُمُّ هُبَيْرَةَ» أن تُعَلِّمَ صِغارَها: كيْفَ تَنِقُّ (كيف تَصِيح)، وَكيْفَ تُنَقْنِقُ (كيْفَ تُصَوِّتُ صَوْتًا يَفْصِلُ بَيْنَهُ مَدٌّ وتَرْجِيعٌ)، وَكيْفَ تُنْشِدُ أَجْمَلَ الْأَناشِيدِ، وَتُغَنِّي أحْسنَ الْأَغانِيِّ الْمُسْتفِيضَةِ الشُّهْرَةِ بَيْنَ الضَّفادِعِ؟ وَكانَ صَوْتُها أَبَحَّ (فيهِ بُحَّةٌ وخُشُونَهُ وَغِلَظٌ) شَأْنُ أُمَّاتِ الضَّفادِعِ دائمًا؛ فلَمْ تَرَ بُدًّا مِنْ أَنْ تُوصِيَ شَيْخَ الضَّفَادِعِ أنْ يُلَقِّنَهُنَّ المُوسيقَى بِصَوْتِهِ الْجمِيلِ.

وَكانتْ هذه الْأَبْناءُ تُقبلُ على دُروسِها في جِدٍّ واجْتهادٍ وَحَماسةٍ، فَإذا انْتَهتْ منْ حِفْظِ التَّمريناتِ الْمُوسيقِيَّةِ، انْتَقَلتْ إِلى التَّدَرُّبِ على إلْقاء الأغاني الشَّعْبِيَّةِ الذَّائعَةِ بَيْنَ الضَّفادِعِ.

(١٣) أناشيدُ الضفادِع

وكانتِ الضَّفادِي (الضَّفادعُ) تُنَظِّمُ صُفوفَها عَلَى شاطِئِ الغَدِيرِ، حَيْثُ تَقِْضي السَّاعاتِ الطِّوالَ، وَهيَ لا تَكِلُّ ولا تَنِي (لا تَضعُفُ هِمَّتُها ولا يَفْتُرُ عَزْمُها) عنْ موَاصَلةِ النَّقيقِ. ومَتى تَأَلَّقَتْ (أضاءَتْ ولمَعتْ) كواكِبُ السماءِ، رَأَيتَ صِغارَ الضفادعِ جاثماتٍ (مُقِيماتٍ) عَلَى أَوْراقِ «النِّيلُوفَرِ»، حَيثُ تَقُصُّ علَى العالَمِ أَحْلامَ سَعادتِها. ولا تزالُ تُحَيِّي مصابيحَ السَّماء (نُجومَها) بِأناشيدِها حتى تَسْتسلِمَ إلى رُقادِها الهَنِيِّ في أمْنٍ وسَلامٍ.

(١٤) خاتِمةُ القِصَّة

وهكذا عاشَتْ «دابَّةُ النهْرِ» هانِئَةً وَسْطَ أُسرَتِها الْجَميلةِ، وعاشَ — إلَى جانبِها — صديقُها الوَفِىُّ المُخْلِصُ: «أبو بُرَيْصٍ»، يُقاسِمُها السَّعادةَ والهنَاءَ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤