الحرية مسئولية الفرد

إنَّ أعباء الحرية على الفرد لا مثيل لها في الدكتاتورية؛ ففي ظل الدكتاتورية يقول الديكتاتور للشعب بالعمل لا بالإعلان لا شأن لك أيها الشعب بدولتك، اعتبر نفسك مفصولًا عني كل الانفصال، أنت أيها الشعب لك أن تأكل وتشرب وتتزوج، وتجد ضرورات حياتك التي لا غنى لك عنها، حتى تبقى حيًّا على ظهر الأرض، أمَّا الدولة فلا شأن لك بها مُطلقًا. أنا الديكتاتور المسئول وحدي عن الدولة، وعن أموالها أُنفِقها بالصورة التي تطيب لي، وأنا وحدي الذي أُحدِّد صلات الدولة بالدول الأخرى، فأنا لي أن أسُب الدولة ورئيسها، ولي أن أُسالم، ولي وحدي أن أُحارب، وأنا وحدي الذي أُعلن هذه الحروب، وأنا وحدي الذي يعرف مدى فائدتها، أو أضرارها، وأنا أعلم أنكَ أيها الشعب ستُقدِّم لي أبناءك لأقتلهم في ساحة القتال، ولكن ما العجب في ذلك؟! إن الموت هو النهاية الطبيعية لكل المخلوقات، فأي بأسٍ أن أُحدِّد أنا الموعد الذي يموت فيه مَن أشاء مِن أبناء شعبي؟ وأعلم أن الحرب ستُكلِّف الدولة أموالًا لا طاقة لها بها، ولكن أنا المسئول عن أموال هذه الدولة جميعًا، فقد أبيع أرصدة الذهب بها، وقد أستدين لأحارب، وقد أقبل السلاح المُتخلف بأثمان السلاح المتطوِّر. كل هذا شأني أنا وحدي وليس شأنك.

وما دمتُ قد سألتُكَ في استفتاء، وقبلتَ أن أكون رئيسكَ فحتمًا عليك أن تترك لي وحدي حق التصرف في حياتك ومماتك، وما دام الموت والحياة أصبحا من حقي؛ فإنَّ حرية الأفراد — من باب أولى — من خالص حقي أحبس ما أشاء، وأعتقل من أشاء، وأُثبِّتُ حكمي بكل الوسائل التي أراها صالحة لذلك، وإن أدى ذلك إلى أن يعتدي أعواني على الأعراض، وما دمتَ قبلتَ أن يتعدَّى أعواني على الأعراض فمن الطبيعي — من باب أولى — أن أُصادر أموال من أشاء، وأمنع من أشاء عن العمل، ومن حقي — لا شك — أن أمنع أي إنسانٍ في الدولة أن يُفكِّر ما دمتُ أنا أفكِّر، وما حاجتك أيها الشعب إلى التفكير ما دمتُ أنا أفكِّر لك، وأنا أفكِّر لك بموجب الاستفتاء الذي خوَّلتَني به هذا الحق، ولستُ أقبل منكَ أن تدَّعي أن هذا الاستفتاء قد تم بالقهر والقوة والجبروت، وإن ادَّعى أحدٌ من الشعب ذلك فمن حقي أنا الشعب، فأنا — كما تعلم — أنا الشعب، أن أُنزل به ما أشاء من عقاب.

وهكذا يُصبِح الشعب في ظل الدكتاتورية مُتخففًا من كل الأعباء، وهو لا يستطيع أن يقول رأيًا حتى ولو حاول ذلك، ولهذا لم يكن عجبًا أن يلجأ الكُتاب — وهم صوت الإنسان وروَّاد الحرية في كل العصور — إلى كتابة ما يريدون قوله بالرمز في أي شكل يستجيب لهم، وكم من مقالة كانت رمزًا! وكم من رواية! وكم من قصة! أما الشعب فقد كانت لغته مختلفة عن لغة الكُتاب، كانوا يُطلِقون النكتة ليُعبِّروا بها عن رأيهم فيما يقاسونه من أهوال.

وكان الإعلام في الدولة يصدر عن لسانٍ واحد، لا يختلف في ذلك جريدة عن جريدة، كما لا تختلف الصحافة عن الإذاعة المرئية، أو الإذاعة المرئية عن الإذاعة المسموعة، كانت كلمة واحدة لكل يوم، وأينما قلَّبتَ وجهكَ فلن ترى إلا هذه الكلمة، وأينما حوَّلتَ فلن تسمع إلا هذه الكلمة، وكل كلمة يقولها الديكتاتور هي الشعار وهي الحكمة، وهي الرأس، وهي الأول والآخر، وهي كتاب التفرُّد بالحكم ودستوره وآياته.

تلك هي الدكتاتورية، وكل ديكتاتورية إلى زوال؛ لأنَّ الديكتاتور مهما يكن عاتيًا طاغوتًا جبارًا لا يزيد على إنسانٍ يقع عليه ما يقع على الإنسان؛ فهو ليس الأحد، ولا هو الصمد، وهو يلد وهو يُولد، إذن فهو يموت وتجري عليه قواميس الحياة، كما يُجريها ملك الناس، إله الناس، القاهر فوق عباده.

وحينئذٍ تعود الحياة إلى الحرية، وهي في عودتها ذات صخب وضجيج، وذات أصواتٍ مرتفعة، تكاد تحسب أنها لن تهدأ أبد الدهر.

ومع الصخب والضجيج تُشاع الحدود، ويصبح الإنسان الذي عاش فترة من عمره مَقْصيًّا عن شئون الدولة، مطالبًا أن يتدخَّل في كل شيء سواء عنده أن يكون عالمًا بما يتكلَّم فيه، أو غير عالم، المهم أن يتكلم. وهنا تتضح الحقيقة الكبرى، فإذا كانت المسئولية في ظل الدكتاتورية على الديكتاتور وحده، فإنها في ظل الحرية والديمقراطية مسئولية كل فرد من الشعب.

والمسئولية ذات أصول لأن للحرية أصولًا، والحرية بلا أصول فوضَى عارمة تُؤدِّي بمصالح الدولة إلى الخراب.

وأوَّل هذه الأصول أن يكون كل فرد مُلتزمًا بالقانون، والقانون حق وواجب، فإذا حاول الفرد في ظل الحرية أن ينال حقه ولا يؤدي واجبه مالت الموازين في الدولة جميعًا.

ومن أصول الديمقراطية أن يحاسب الإنسان نفسه على كلمة يقولها، أو يكتبها؛ لأنه بكلمته التي أصبحَت حرة يخاطب الشعب كله، بل وشعوب العالم أجمع؛ فالدولة اليوم لا تعيش وحدها، وإنما الذي يجري بها يُؤثِّر في مجريات الأمور في شتى أنحاء العالم. ونوجِّه هذا الحديث إلى بعضٍ من الذين يحاضرون الناس، ويعلنون أنهم يُعبِّرون عن رأيهم هم، ولا بأس بهم في ذلك، ولكن لا بد أن يكونوا على درايةٍ وافية بما يعلنون، وإلا رفضَت الحرية ما يقولون، والحرية هنا هي الشعب.

إننا نحن الكُتاب أحرار من كل القيود الخارجية، ونحن في نفس الوقت مقيَّدون بقيود نفرضها على أنفسنا هي في ذاتها أعظم ثقلًا من قيود العالم أجمع. إننا مقيدون بثقة الناس في أشخاصنا وفيما نكتب. ونحن نعلم كل العلم أننا إذا كتبنا حرفًا من غير اقتناعٍ شريف به عفيف، فإنَّ الناس ستفقد ثقتها في كل ما نكتبه.

ونحن نعلم أنَّ الثقة في الكاتب لا تتكوَّن إلا في عشرات السنين، وأن هذه الثقة نفسها قد يفقدها الكاتب في لفظةٍ واحدة يشعُر القراء أنها صادرة عن غير اقتناعٍ نقي في نفوسنا.

فإذا قُدِّر لكاتبٍ منا أن يتولى منصبًا فعلى الكاتب حتمًا أن يكون رأيه مرتبطًا بهذا المنصب، فإذا أراد أن يسترد حريته فعليه أن يستقيل، فلا يُقبل مثلًا من مدير مكتب وزير الاقتصاد أن يُحاضر في ندوةٍ عامة، أو يكتب مقالًا في جريدة يختلف فيه مع الوزير، مُدعيًا أنه يُعبِّر عن رأيه الخاص، فإن أحدًا لن يُصَدِّق أنَّ ما يقوله إنما هو رأيه الخاص. لقد فقد الحق في أن يكون صاحب رأيٍ خاص معلَن يوم قبل وظيفته في مكتب وزير الاقتصاد، فإذا أراد أن يقول رأيه الخاص فعليه أن يستقيل أولًا؛ لأن رأيه هذا قد يقلب موازين الاقتصاد في الدولة كلها.

إن الحرية المتاحة في أمريكا واسعةٌ فضفاضة، ولكننا لم نسمع أنَّ موظفًا عامًّا قال رأيًا وادَّعى أنه رأيه الخاص، وليس رأي المنصب الذي يُمثِّله، وإن قال فإن أحدًا لن يُصدِّقه، وعلى كلٍّ فإن هذا لم يحدُث قط ولن يحدث أبدًا.

فليس الأمر مجرد رأيٍ يُقال إنما هو سياساتُ دولةٍ يقوم عليها اقتصادها ومستقبلها، ومستقبل صِلاتها مع دول العالم أجمع، ومستقبل صِلاتها مع الشركات العالمية بهذه الدول وصِلات الأفراد بها أيضًا.

إنَّ للحرية حدودًا إذا اختلطَت أصبحَت فوضى، وإن الحرية تُعطي الشعور بالإنسانية لأفراد الشعب، وتمنحُه عظمة الإحساس بالانتماء للدولة التي يعيش تحت سمائها، وهي في نفس الوقت تفرض عليه واجباتٍ، ولكل وظيفة حقوقها وواجباتها.

فالذي نقبله من الموظف العادي لا نقبله من القاضي مثلًا. لا يستطيع القاضي أو أعضاء النيابة أن يظهروا في المحلات العامة بمظهرٍ غير لائق، ولا يجوز لهم ما يجوز لغيرهم من لهوٍ ومُتَع. إنَّ المجتمع الذي وهب لهم الاحترام فرض عليهم الوقار والاحترام واحترام الذات.

والطبيب الذي يدخل بيوت الناس إذا عُرف عنه أنه صاحب نساء مثلًا سقط قَدْره، وما يفعله كل إنسان ممارسًا لحريته لا يستطيع الإنسان الذي أصاب بعض الشهرة أن يفعله.

لكل وظيفةٍ في الحياة حدودها التي يتحتَّم على شاغلها أن يقف عندها، ويظل دائمًا حرًّا كل الحرية، إذا وجد أن القيود التي تفرضها عليه وظيفتُه أكثر مما يُطيق، فإن له بتوقيعٍ واحد منه أن يترك هذه الوظيفة إلى غيرها، يستطيع أن يتحمَّل واجباتها وقيودها وكلٌّ مُيسَّر لما خُلق له.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤