بين ذراعَي تامارا

شارع رامبار جي بيجوين للكاتبة الفرنسية فرانسواز ماليه – جوريس (١٩٥١م)
Ramprant des Beguines Par Francoise Maller – Joris 1951

(تبدأ رواية شارع رامباردي بيجوين، بفتاة صغيرة في الخامسة عشرة من عمرها، تكتشِف وجود عشيقةٍ سيئة السمعة لأبيها فتُقرِّر زيارتها. وتجد نفسها أمام مُطلقة روسية في الخامسة والثلاثين من عمرها، تدعوها للمجيء مرةً أخرى: «الخميس .. حوالي الثالثة أو الرابعة إذا شئت».)

كل ما أعرفه من تامارا جمعتُه بالتدريج من شذرات المعلومات التي صادفَتْني في الرسائل القديمة، وألبوم صور، ومما كان يصدُر عنها أحيانًا من عبارات. لم تكن تُحب الحديث الحميم عن نفسها؛ لأنها كانت تمقُت الفشل، وكانت تعتقد أنها لم تنجح في حياتها. كانت مزيجًا غريبًا من الكبرياء الجريح، والطموحات المُحبطة التي ما تزال حية، وكانت تجمع بين اللامبالاة التامَّة والاهتمام المشبوب بالبشر. كل هذا كان مُمتزجًا بأمورٍ أخرى، ما زالت تُحيرني حتى اليوم، وهو غالبًا ما جعل سلوكها يفتقِر إلى الترابط. على الأقل هذا ما أُفسر به الآن ثِقتها الغريبة بالنفس، واهتمامها بلقائي، ونفاد الصبر الذي استقبلتْني به عندما دققتُ جرس بابها، كما طلبَتْ منِّي، يوم الخميس التالي.

جاءت إلى الباب في غلالة، وقد تشابكت خصلات شعرِها فوق جبهتها الناعمة، وبدت ناعسة، غاضبة. وقبل أن تسمح لي بالدخول، حدَّقَت فيَّ برهة، كأنها لم تعرفني.

وأخيرًا قالت: «أوه هذه أنت! كنتُ نائمة.»

كنتُ قد ظننتُ أنها ستطردني. دلفت إلى الغرفة الزرقاء الكبيرة، وأنا أُلقي بنظرةٍ حائرة على الفوضى الضاربة في أرجائها. كان المقعدان الجلديان مَقلوبَين، والمائدة حافلةً بأعقاب السجائر، مثل يوم زيارتي الأولى (فتامارا تطفئ سجائرها في أي مكان، وبأي طريقة، ولا تُنظف مسكنها غير مرةٍ واحدة في الأسبوع) والكتُب والأسطوانات الموسيقية مُبعثرة فوق الأرض. ذلك اليوم، بالرغم من اضطرابي، كان بوسعي أن أرى الحِليات الصغيرة التافهة المُوزعة فوق الأرفف، والتماثيل الزجاجية، والأقنعة الإفريقية. وفي نهاية الغرفة بدا مطبخ أبيض اللون من خلال بابٍ مفتوح.

توقَّعتُ أن تُقدِّم تامارا، على الأقل، تفسيرًا ما لهذه الفوضى التي لا تُصدَّق، لكنها لم تفعل. لقد أنشأني أبي — إذا كان بالإمكان حقًّا القول بأني تلقَّيتُ تربيةً ما — على اعتبار النظام واحدةً من الخصائص الجوهرية للإنسان، وعلى الاعتقاد بأن انتفاءه يعني انتفاء الإحساس الجوهري بكرامة الإنسان؛ أبسط إحساس بالكرامة. فهل يجب عليَّ أن أستخلِص من وضع الغرفة، أنه كان يقول لي ما لا يعتقِد؟

تخيلتُ أنها تبذل بعض الجهد، قُبَيل زيارته، لعمل شيءٍ من الترتيب في الغرفة. ولم أكن مُخطئة تمامًا في تصوُّري. ففيما بعد، أدركتُ أن أبي، دون أن يكون في الأمر نِفاقٌ ما، يمكن أن ينفر من الفوضى في منزلنا، بل ويُعاني منها جسديًّا، بينما يميل إلى وجودها في أماكن أخرى، وفي الحالة الأخيرة يَعتبرها خلفية تصويرية؛ نوعًا من الإطار الذي يُضاعف من شعوره بأنه في جوٍّ مختلف تمامًا أثناء وجوده مع تامارا. نفس ما اجتذبَني في مثل هذا المنزل الغريب. كان مُسلِّيًا، مُضحكًا، لكن أبي ما كان ليرغب في الحياة فيه، أيًّا كان الثمن. وعندما فهمتُ ذلك، أدركتُ أيضًا أنه لم يكن يفتقِر إلى الخيال، كما سبق أن قررتُ بحسم، بغرور الفتاة الصغيرة. لكن الخيال لدَيه كان مجرد لهوٍ وتسلية، ترويح لَطيف، بينما جعلتُ منه أنا، بالتمرينات المُستمرة، ودون أن ألحظ الأمر، وحشًا التهمَ كلَّ شيء، حتى قوة إرادتي.

بينما كانت بعض هذه الخواطر تجول في ذهني، أنعشَتْ تامارا وجهها بماء العطر، ثم مشطت خصلاتها الكثيفة في شيءٍ من الشرود، دون أن تلتفِت نحوي، كأنما لم يكن لي وجود.

قالت أخيرًا بصوتٍ خالِص من أي عاطفة: «المسكن غير ملائم. إنه عبارة عن سلسلة من الغُرَف، سيئة التنظيم، بطول الجناح الخلفي من المنزل.»

مضت إلى المطبخ، وفكَّرتُ أنه من اللائق أن أتبعها. وفوجئتُ به يفتح على غرفةٍ أخرى تقوم بدور المخدع.

كان فرش السرير مطويًّا، يُوحي بأنها غادرته لتفتح لي الباب. وبجوار السرير كان ثمة مطفأة مُمتلئة، موضوعة مباشرة على الأرض، قُرب كتاب مفتوح. وكان الباركيه يلمع. ولم يكن ثمَّة سجاد، الأمر الذي كان مفاجأةً مُحببة لي. ففي منزلي كنتُ أمقت الطريقة التي يظهر بها الآخرون فجأة دون تحذير؛ لأن الأبسطة الوثيرة كانت تُخفي أقل الأصوات شأنًا. وكانت نافذة كبيرة، كالتي في الغرفة الأخرى، تُطل مثلها على البحيرة. وكانت هذه الغرفة أكثر فراغًا، فبالإضافة إلى الفراش، لم يكن بها غير مقعدٍ جلدي بذراعَين، وصندوق مُطعَّم ذي أدراج.

ألقت تامارا بغلالتها الفارسية فوق المقعد. كانت ترتدي بيجامة شاحبة الزُّرقة وخُفًّا جلديًّا. أعجبتُ بقامتها النحيلة، وبلباسها الذي بدا بالِغ الأناقة وأنا أقارن في رأسي بينه وبين ثياب نومي، وهي عبارة عن أشياء قديمة مُنتفخة، مُحلاة بباقاتٍ صغيرة من الزهور. كانت جوليا تصنعها لي، واحدة بعد الأخرى، كلما بلِيَت إحداها، وكانت جميعًا مُتماثلة.

قالت: «إنه مشهد جميل من هنا. لكني أحيانًا أسمع موسيقى المقاهي طول الليل.»

«وهل يمنعك هذا من النوم؟» سألتها في أدب، شاعرةً أن هناك شيئًا غير طبيعي في الطريقة المُتصلِّبة التي أُخاطبها بها، أنا التي أمقت أسلوب «الآنسات الحاصلات على تربية جيدة» اللاتي أُرغِمتُ على مُخالطتهن. لكنها لم تُشجعني على مخاطبتها بطريقةٍ غيرها.

كانت قد جلست فوق الفراش. ولم تلبث أن تخلَّصَت من خُفِّها واستلقت بين الملاءات. شعرتُ بأني مَثار سخريةٍ وأنا واقفة أمامها، مُثقلة بسترتي وحافظة كتُبي، فقد كنتُ قادمة لتوي من المدرسة، واندفعت الدماء إلى وجهي من الغضب. كانت هي، عمليًّا، التي أمرتني بالمجيء، وها أنا واقفة أمامها كأني غير مرغوبة. شعرتُ أنها تستمتع بحرَجي. أدركتُ ما يجب عمله: أن أنصرف، وأعود إلى منزلي، وأتجاهل احتجاجاتها. لكني لم أكن واثقةً أنها ستحتج، وهذا هو، للغرابة، ما كبح جماحي. وأخيرًا تكلَّمَت.

قالت بهدوء، كأنما وصلتُ لتوي: «ضعي حافظتك إلى جوار الحائط واخلعي سترتك. ضعيها فوق المقعد. هذا حسنٌ. والآن تعالَي واجلسي هنا بجواري.»

عندما جلست فوق الفراش، تفحَّصتني بتعبيرٍ لم أرَه على وجهها من قبل، أقرب إلى الرقة.

قالت: «عليكِ أن تُقرري الآن يا حبيبتي ألا تحمِلي أية ضغينةٍ إزائي.» فوجئتُ بالنغمة الحميمة التي لجأتْ إليها، كأنما هي عادة قديمة لدَيها: «أنا لستُ دائمًا مرحة. لأسبابٍ كثيرة. على أية حال، ليس الأمر بذي أهمية، ولا تستطيعين شيئًا إزاءه. كل ما عليك هو أن تأخذي الأمور ببساطةٍ كما هي، ولا تُزعجي نفسك بشأن أي شيء.»

صُعِقتُ من أسلوب حديثها، كما لو كنتُ قد أعلنتُ للتوِّ أني سأقضي بقية حياتي معها.

قالت بلُطف: «خبِّريني بما كنتِ تفكرين فيه بالأمس.»

رغم سلوكها المُربك، شعرتُ أني أستطيع الثقة بها. هكذا حاولتُ أن أشرح لها كل شيء: كيف أشعر أحيانًا بأني شخصان، أو أن جزءًا مني يتلاشى تمامًا في بعض الأحيان، وعن ذلك البيت في قصيدة فيدرا الذي يُلحُّ عليَّ دائمًا، والذي تتمنَّى فيه أن تهبط مع هيبوليت إلى المتاهة.

قاطعَتْني بعد لحظات: «يا طفلتي العزيزة! لك خيال خصب. خصب للغاية!»

قلتُ مُحتجة: «أنا لستُ طفلة، كما أنك لستِ كبيرة جدًّا أيضًا.»

– «أنا في الخامسة والثلاثين.»

– «أوه!» لم أجِد ما أقوله ردًّا على هذا التصريح الذي أدهشَني. لكني بعد أن تفحَّصتُها بإمعان، تبيَّنتُ الخطوط الخفيفة في أركان عينَيها ووجنتَيها البضاوَين، والحلقات السوداء حول عينَيها. وما كان بوسع أي مُلاطَفة أن تترك فيَّ أثرًا قدْر الذي تركته علامات الجمال الزائل هذه.

– «خمس وثلاثون سنة. إنها لا تعني لك شيئًا. لكنها تَعني لي الكثير. كل ما تركته ينساب من بين أصابعي: الزواج، الثروة، حُب حقيقي. خمس وثلاثون. ولم أستسلِم بعد. ليس تمامًا. فها أنا ذا يا عزيزتي، أسيرة هذه البلدة الصغيرة. على أية حال، أنا انطلقتُ من بلدةٍ صغيرة مثل هذه، بل أصغر منها. وهناك كنتُ أعيش في كوخ، أسوأ من هذا الماخور القديم الذي أعيش فيه الآن.»

أوشكتُ أن أُقاطعها لأقول لها إني أُحب هذا المنزل كثيرًا، لأسألها عن معنى كلمة «ماخور»، لكني أحجمتُ خوفًا من أن تُعنِّفني، أو تتوقَّف عن الحديث. كانت تنظر إليَّ بمودة — أو هكذا ظننت.

– «أنت أيضًا سوف تخرجين إلى العالَم من بلدةٍ صغيرة. لأنك تَحلُمين بمُغادرة هذا المكان، أليس كذلك؟ وإني لأتساءل: إلى أين سينتهي بك المَطاف؟! لا يُمكنني إسداء النُّصح إليك. لقد كنتُ أعرف دائمًا ما يتعيَّن عليَّ أنا عمله، لكني لم أعمله أبدًا! ربما ستكون الأمور أسهل بالنسبة لك؛ فأنت بريئة للغاية.»

أثَّرت فيَّ صراحتها. وتنبَّأتُ بصداقةٍ طويلة، تتخلَّلها أحاديث حميمة، مُثيرة. وهُيِّئ لي أني قد وجدتُ أخيرًا ملجأ، مكانًا بعيدًا عن المنزل، يُرحب بي وقتما شئت. وقبَّلت يدَها مرةً ثانية.

تفحَّصتني في فضول.

قالت برقة: «اخلعي حذاءك يا عزيزتي.» كأنما ذلك كان شيئًا طبيعيًّا للغاية.

استغرق منِّي فكُّ رباط حذائي وقتًا طويلًا للغاية. كانت يداي ترتعشان بشدة، مما أرغمَني على تكرار المحاولة إلى أن نجحت.

– «والجوبة .. والبلوزة .. هذا حسنٌ. والآن تعالَي إلى الفراش.»

كنتُ أرتعِد، دون أن أستطيع السيطرة على نفسي، وأنا أدلف إلى الفراش. وانفكَّت شبكة شعري، وسمعتُ صوتها (لم أجرؤ على النظر إليها) يقول بلهجة عادية: «شعرك جميل.»

تلمَّستُ كتفها بحركةٍ غريزية لأُخفي وجهي به، وشعرت أن شيئًا مرعبًا على وشك الحدوث. لكنها رفعت ذقني إلى أعلى، وأجبرتني على النظر إليها.

قالت: «مؤكَّد أنك لستِ خائفة؟ لا يمكن … في سنك.»

كانت قد رفعَت نفسها قليلًا إلى أعلى، مُعتمِدةً بمرفقها على الوسادة، وكنتُ أرقد مُتصلبة، يغمرني الفزع. لكنها انحنت خارج الفراش، وأدارت فيما يبدو جهازًا للراديو، فوق الأرض، لأن الموسيقى الناعمة ما لبثت أن تصاعدَت.

قالت: «هذا أفضل، أليس كذلك؟» وجذبت رأسي إلى أسفل فوق صدرها: «لا تقولي شيئًا. استريحي.»

أطعتُها. وسرعان ما كنت قادرة على الإنصات للموسيقى في شيءٍ من الطمأنينة. وعُدتُ إلى مداركي، فأخذتُ أتساءل عما أفعله في فراش هذه السيدة بينما أنا في نصف ملابسي.

كنت بالذات مُنزعِجة بشأن ملابسي الداخلية. فبدافع الرغبة في المعارضة، ولأكون مختلفةً عن قريناتي، اللاتي لا يُفكرن في غير المُخرَّمات والمُطرَّزات والحرائر، كانت ملابسي الداخلية من الكتان الخشن دون تبييض. لكنني اليوم كنتُ أتمنَّى أن أكون في ذلك النوع من الملابس الذي أمقته. ومع ذلك، بدأتُ أشعر بالتحسُّن تدريجيًّا بينما كنتُ أُحدِّق في السقف، ويدُ تامارا تُملِّس لي شعري.

قالت: «تشجَّعتِ الآن قليلًا يا عزيزتي؟ أتشعرين بالبرد؟»

هززتُ رأسي نفيًا.

– «أرى أنك ما زلتِ غير مُستعدة للحديث. لكن ابذلي مجهودًا! احكي لي عن نفسك. ماذا فعلتِ بالأمس؟»

حاولتُ لكني لم أستطع التفوُّه بكلمة.

«قولي شيئًا … أيًّا كان!»

بدَت نافدةَ الصبر بعض الشيء، الأمر الذي أصابني بالشلل. وللمرة الثانية رفعَت وجهي إلى أعلى وتأمَّلتني بإمعان: «اصغِ إليَّ يا طفلتي. إذا لم تقولي شيئًا خلال خمس دقائق، سأصفعك. قولي شيئًا ولو حتى أوه! لك الخيار.»

لم يبدُ عليها الغضب، لكني أدركتُ أنها تعني ما تقول.

همست برغمي: «أنا خائفة!»

أجابت بهدوء بالِغ: «هذه بداية طيبة.»

لكن الصدمة التي شعرتُ بها من جرَّاء تهديدها، ضاعفَت من خوفي وحرَجي، ودفعتْني إلى الانخراط في البكاء. وعلى الفور انحنت عليَّ وأخذتْني بين ذراعَيها. شعرت بجسدِها النحيل، ذي العضلات المفتولة، كأنه لِصَبي. وضعَتْ ذراعًا تحتي وهي تُهدهِدني، وفاضت دموعي فوق رقبتِها وصدرها.

كنتُ دائمًا أهوى البكاء. وفي الخامسة عشرة كنتُ أبكي لأي سبب: كتاب، كلب تعرَّض للدهس في الشارع، كلمة حادة، مشهد طبيعي جميل، كونسير، أغنية حزينة، وعندئذٍ أشعُر بقلبي وقد انشطر إلى جزأين، وتحطَّم في صدري، مُحدثًا ألمًا لذيذًا. وكانت جوليا تأخُذني هكذا بين ذراعَيها، وتُمدُّني كلماتها المُطمْئِنة بمُتعةٍ غامضة. هكذا ذقتُ بين ذراعَي تامارا بهجةَ التسرية والعناق، وسماع الكلمات الحانية، والمتعة الطبيعية في القُبلة الطويلة التي أعقبتها.

لم يسبق لي أن قبَّلتُ أحدًا من قبلُ بهذه الطريقة، ورغم أني طالما أنصتُّ لثرثرة زميلاتي عن فتاةٍ بلا حياء سمحتْ لكل أولاد المدرسة بتقبيلها في فمِها، لم تكن لديَّ أية فكرة عن القبلة وما تَعنيه.

والواقع أني ظللتُ طوال أسابيع في أعقاب هذه القبلة الأولى، تحت وهْم أنها ابتكارٍ رائع لتامارا ذاتها. وذات يومٍ قررتُ أن أُرضي فضولي، فأمعنتُ النظر عن قرب إلى عاشقَين يتبادلان القُبلات في الحديقة العامة، وهو سلوك كنتُ أتجنَّبه دومًا بدافعٍ من شعورٍ بالاشمئزاز، فزالت عندئذٍ كل أوهامي.

هكذا كانت تلك القبلة كشفًا تامًّا ورائعًا. ولم تكد تكُفُّ عن تقبيلي حتى رفعتُ إليها شفتيَّ من جديد. وفيما بعد، جرَّدتْني كليةً من ملابسي، ولاطفَتْني بيدِها، كما يُداعب الإنسان جوادًا، لكني كنتُ عاجزةً عن التفكير في شيءٍ آخر، وبدَت لي لذَّة تقبيلها تامَّة، كما كنتُ عاجزةً عن التغلُّب على الارتباك اللذيذ الناشئ عن وجودي بهذا القُرب من شخصٍ آخر، وهو أمر لم أتخيَّل أبدًا إمكان حدوثه. وبين القبلات، التي لم أملَّ منها مطلقًا، رويتُ لها كلَّ شيء، في سَيلٍ مُتدفق من الاعترافات المختلطة، ضمَّنتُه كل ما حلمتُ به أو تخيَّلتُه أو رغبتُ فيه. بل اختلقتُ بعض الأمور، عندما لمستُ مدى اهتمامها، وقفزتُ من مكاني عندما قالت في سلطانٍ هادئ: «حان الوقت لأن ترتدي ملابسك يا عزيزتي وتنصرفي إلى منزلك.»

كنتُ أترنَّح من السعادة عندما تركتُها، ومضيتُ أتحسَّس الجدران والأشجار والثلج. كنَّا قبل الكريسماس بيومَين، وشعرتُ أني تلقيتُ هدية من السماء.

هكذا بدأت الأمور بيني وبين تامارا.

•••

من النظرة الأولى لصورة إميلي، قد أبدو شبيهةً بها. أنا نفسي ظننتُ ذلك عندما عثرتُ على الصورة الكبيرة في ألبوم تامارا، الأمر الذي أعطاني نوعًا من الصدمة. لكني عندما تأمَّلتُها بدقَّة أكثر، اكتشفتُ سطحية الشبَه. كان لإميلي شعر ذو لونٍ بُني خفيف، وعيون كبيرة، وملامح مُتناسقة — مثلي. لكنكَ سرعان ما تتبيَّن أن تعبيرها أكثر برودة، ويجِب أن أُضيف، أكثر ذكاء. فأنا أمتلك — طبقًا لرأي تامارا — نظرةً بليدة. وقد واسَيتُ نفسي عندما قالت تامارا ذلك، بأن انتحلتُ لعينيَّ صفة «عيون الثور» التي اعتبرَها اليونانيون مقياسًا للجمال.

كانت ملامح إميلي أيضًا أكثر رقةً وتأثيرًا من ملامحي. ولا شكَّ أنها كانت مُختلفةً عنِّي للغاية، وفقًا للروايات المختلفة، ولهذا لم يكن بإمكاني أن أطمح إلى منافسة الفتاة التي كانت الحُب العظيم في حياة تامارا.

ما عرفتُه عنها من تامارا (التي كان يُؤلِمها الحديث في هذا الموضوع) كان أقلَّ مما علِمتُه من قراءة الرسائل القديمة التي احتفظتْ بها، وتركَتْها بإهمالها المألوف، في الأدراج المفتوحة لمائدة زِينتها. وكان بوسعك أن تتبيَّن على الفور الفرقَ بين خَطَّينا، وأنَّ خطَّ إميلي هو النقيض التام لخطي. كان كبيرًا ثابتًا، حادَّ الزوايا، مُدَّت الخطوط العرضية لحروفه بإحكامٍ ينطق بالعزم والعناد. أما خطي أنا، يا للسماء! فكان خطَّ تلميذة، ينطق بالجهد: الحروف مُستديرة ومُهتزة قليلًا، نوع الخطِّ الذي تُطالِعه في الكراسات المدرسية المُسطَّرة، حيث تتوقَّع أن تقرأ تحته هذه الملاحظة: «جيد، لكنه مُتيبِّس بعض الشيء». طالما عانَيتُ من خطي، كما كان الأمر مع وجهي، فرغم أن الآخرين قد يرَونه شبيهًا بوجه مادونَّا ألمانية، كان يبدو لي مجردًا من الشخصية تمامًا. كان ثمة شيء عارِم وشيطاني في وجه إميلي، بينما كان وجهي، إذا لم يكن مُنفعلًا من جرَّاء عاطفة قوية، يبدو كأنما يعكس رصانةً تامة.

لم أرَ إميلي مُطلقًا. لكني ظللتُ مهووسة بوجودها عدة شهور، لهذا يجدُر بي أن أحكي القليل عنها وعن تامارا، قبل أن أظهر في حياتها.

كانت تامارا قد تركَتْ قريتها في روسيا، وفقرَها هناك، لتنتقِل إلى باريس، عروسًا ليهوديٍّ أرمني يُدعى عزرا سولر، كان مُعجبًا بها. كانت آنذاك في السادسة عشرة من عمرها، لا تعرف القراءة أو الكتابة، ولا تتكلَّم غير لهجةٍ دارجة يصعُب على الروس أنفسهم فهمُها. كانت رائعة الجمال في ذلك الحين، وكان التاجر مسرورًا بجهلِها وهمجيَّتِها. وكان قد اشتراها عمليًّا عندما تزوَّجها، وظنَّ أنه قيَّدَها إليه بالزواج، لكنها بعد خمس سنواتٍ في باريس، صارت قادرةً على القراءة والكتابة والحديث بالفرنسية في طلاقة. ومنذ تلك اللحظة صارت تستطيع الترويح عن نفسها من دونه، فتخرج بمُفردها، وتختار ملابسها بنفسها.

كان سولر فخورًا بها، كأنما هي من خلقِه. لم يُقدِّمها أبدًا إلى أصدقائه دون أن يتباهى بما أجراه عليها من تحسينات، كأنها حيوان أليف. وسرعان ما ضايقَها هذا المسلك، وكانت قد تبيَّنت أنه في الخمسين من عمره، نحيف وأصلع، وأن ذكاءه من النوع المُدمِّر. كان سلوكه في المجتمعات لطيفًا، لكنه كان يَحتقِر الجميع. وكان يُحب إسداء الخدمات، لكنه كان يفعل ذلك بدافع مِن ساديَّتِه، فقد كان يُسَرُّ عندما يحتاج إليه من يزدريهم، ويجد في خنوعهم مُبررًا لازدرائهم. كان يُردِّد أن هذه الخاصية سِمة لجنسِه، لكن هذه السخرية ذاتها كانت تُثير حنقَها. واكتشفت أيضًا أنه ثري، وأتاح لها كرَمُه أن تستفيد من ثرائه. فحصلت لنفسها على شقةٍ كبيرة، وفرشتها بأثاثٍ فاخر، ذي ذوقٍ رصين، واشترت سيارة، وحصانًا.

راقبَها سولر بفضولٍ واستمتاع، تاركًا إيَّاها تفعل ما تشاء. توقَّع أن تكشف عن ذَوقٍ همجي، وترتمي فوق الجواهر والشرائط والملابس المُعقدة. لكنها بدلًا من ذلك كانت تنزع إلى البدلات المُحاكة، أو البنطلونات الفضفاضة في المنزل، رافضةً أن تكشف عن كتفَيها الجميلتَين في أردية السهرة، كما عكست شقَّتها نفس الرصانة والعزيمة. وابتسم سولر لنفسه عندما شاهدها تخطو في غرفتها ببنطلون الفروسية، وترمي بقفازاتها السميكة، أو بسوط الركوب، فوق مائدةٍ واطئة، وقد أمتعته هذه البوادر الرجولية. كان يُحِب غرفتها، ويدعوها ضاحكًا بالحظيرة، أو بالجاراج، لكنه شعر بأن رغبتها في الاستقلال موجهة بلا وعيٍ ضدَّه، فوجد لذةً خبيثة في تحطيم أي وهْمٍ بالحرية يدور بخلدها، بمجرد وجودِه. فتعوَّد أن يتناول طعامه، ويُروِّح عن نفسه، في حلبةِ أحدث المُعجبات بها، ولاحظ كيف تُعامل كافة صديقاتها بتعالٍ نابعٍ من شعور لا واعٍ بالانتقام. فحدَّث نفسه، إن نزعات تامارا ونزواتها، مَدعاة للطمأنينة. واكتفى بأن يُذكرها بوجوده، بين الحين والآخر، بكلمةٍ لاذعة يشحب لها وجهها من الغضب. وحدَّث نفسه أنه يتسلَّى بترويضها بهذه الصورة، فلم يُدرك أنه يُحبُّها.

وقد استقبل إميلي بنفس الطريقة التي اتَّبعَها مع صديقات زوجته الأخريات، ولو أنه دُهِش قليلًا من صِغَر سنِّها — فلم تكن قد بلغت العشرين بعد — والحرية الغربية التي أتاحها لها أبوها. كانت قد جاءت من جزيرة جيرسي إلى باريس لتتعلَّم الفرنسية وستبقى بها عامَين. أعجبَه وجهها الجميل المُعبر، لكنه اعتبرها بغير ذات أهمية. لهذا لم يكن لذهوله حدٌّ عندما تركته تامارا لتعيش مع إميلي. ومع ذلك استمر يُقدِّم لتامارا دخلًا صغيرًا، متظاهرًا بأنه يفعل ذلك بدافع النُّبل الخالص، بينما كان ذلك في الواقع بأمَل استعادتها ذات يوم.

أقامتا في مسكنٍ صغير مُشمس، أقرب إلى الدير، حيث عكفت الفتاة الشابة على دراستها. وكان المبلغ الذي أعطاه سولر لتامارا محسوبًا بدقة: إذ يكفي بالكاد ليَحُول بينها وبين العمل؛ فقد كان يعرف جيدًا مدى حماقتها وطيشها وأنها لن تفكر في العمل إلا إذا دفعتها الحاجة الماسَّة إلى ذلك. وجه آخر لحِسبته الدقيقة، أن يُجبرها على الاقتراض منه كلَّ شهر. وفي كل مرةٍ تأتي إلى مكتبه من أجل النقود، كان يُحصيها ببطء، وهو يرقُب وجهها، بحثًا عن تورُّد عابر، أو طرفةِ عين، تكشِف عن شعور بالمرارة أو الأسف. لكن تعبير تامارا وهي تتأمَّل الأثاث المُطعَّم، واللوحات، ومنافض السجائر الفضية، لم يكشف إلا عن قناعةٍ جذلة، كأنما تقول: «لا يمكن الحصول على كل شيء.»

لا أعرف سوى القليل عن علاقتها بإميلي: أنها استمرت سنتَين ونصف السنة، وكانت مشبوبة، عاصفة وجامحة، لكن سعيدة في إجمالها. وقد قرأتُ الرسائل التي كتبَتْها إميلي لتامارا عندما افترقتا ذات صيف، فاحمرَّ وجهي خجلًا. وأخيرًا تركَتْها إميلي إلى «شابٍّ ممتاز»، مهندس بلجيكي، كان ذاهبًا إلى الكونغو. وأعرف أقلَّ من ذلك عن الفترة التي أعقبت هذا الأسى العظيم في حياة تامارا، والتي سبقَتْ لقائي بها. فمِن إشاراتٍ عابرة منها، استنتجتُ أن تلك الفترة تميَّزت بالغُرَف المفروشة، والمطاعم الرخيصة، وبطاقات الدرجة الثالثة بالقطارات. وكان عليَّ أن أحدس الجوانب الخفية في تلك الفترة، من التعاسة اللامُبالية، والدائنين اللَّحوحِين، والبوابِين عَكِري الأمزجة، والملابس التي يتعيَّن رهنُها أو بيعها، والغرامات الوجيزة الضرورية.

ما الذي أتى بها إلى هنا؟ كيف التقَت بماكس فيلار، الفنان الذي هيَّأ لها، بدافع الشفقة، هذا المسكن في شارع رامبار دي بيجوين؟ أسئلة ظلَّت بلا إجابة. وعندما التقيتُ بها، كان قد مضى عليها في هذه الشقة سنتان، أنفق أبي علَيها خلالهما، على نطاقٍ ضَيق. وبين زياراته، كانت تشغَل وقتَها بالكتُب التي كانت تلتهِمُها التهامًا، والشاي، والسجائر التي تُفرط في تدخينها — وهي بلا شك السبب فيما كان يعتريها من كآبة — وفي بعض الأحيان تجرع زجاجة ويسكي كاملة.

في زيارتي الثانية لها، قامت بأكثر من تقبيلي، وما لقنتني إيَّاه ظلَّ مَبعَث قلقي لأمدٍ طويل فيما بعد.

ذات مرة، حدثتني إحدى المدرسات بصورةٍ ضبابية عن العادات السيئة التي تُدمِّر الصحة وتتسبَّب في أمراضٍ مُرعبة. ولم أُعِر هذا الحديث اهتمامًا كبيرًا وقتها (وأظنها الآن تُرجِع شرودي الدائم ولامُبالاتي إلى تلك العادات). وما إن أدركتُ المقصود بتلك العادات، حتى أصبحتُ نهبًا لمشاعر قلقٍ ضاعف منها الغموض الذي أحاط بها. حتى المتعة التي أمدَّتْني بها تلك المُلاطفات، بدَتْ لي من علامات المرَض، ولم أجرؤ على الحديث عنها مع تامارا (خوفًا من سُخريتها)، فأشبعتُ نفسي قلقًا دون أن أعرف ماذا أفعل.

أما الوساوس الأخلاقية، فلم يكن لديَّ منها شيء. في أول يوم، كنتُ أرتعِد وأنا جالسة مع أبي إلى المائدة، خوفًا من أن يرتفع عنه الحجاب فجأة، ويتبيَّن من وجهي ما جرى. وفي المدرسة كنتُ أخشى أن يُشير إليَّ أحد بإصبع العار لأنَّ وجهي خانَني. لكني سرعان ما أُدرك أن أحدًا لم يرَ شيئًا. وعلى العكس، بدأ الآخرون يُهنئونني على أني لم أَعُد أغرق في الأحلام، وأني أُصغي بانتباهٍ أكثر لِما يُقال لي. هكذا انتصر الفسق! وتحسَّنَت درجاتي في الصف الدراسي، وهو ما أثار حرَجي. فبعد أن كنتُ مُتخلفة دائمًا بشكلٍ يُثير الرثاء، ارتفعتُ إلى درجةٍ تُنبئ بأني، لأول مرة، لن أُضطرَّ لتكرار امتحان نهاية العام.

وأخيرًا ساهمت خطوة وَقِحة من جانبي في تبديد ما تبقَّى من مخاوف. فقد كان لأبي صديق طفولة، هو فريدريك فان برج، يتمتع بسمعةٍ سيئة. فدون أن يتمكن أحد من إثبات شيءٍ قيل إنه عَشِق العديد من سيدات المجتمع الراقي في البلدة، وغرَّر ببعض الفتيات الصغيرات، وإنه يُشاهَد دائمًا في ملاهي «فيرسان»، البلدة الكبيرة المجاورة.

افترضتُ أن هذا الرجل الغارق في الملذَّات سيتقبَّل سوء سلوكي، وقدرتُ أنه ليس هناك من يستطيع أكثر منه إحاطتي بنوع الأخطار التي أخشاها. لهذا مضيتُ إليه في مكتبه. وكان، مثل أبي، يملك مصنعًا. لكنه ورِث ثروةً كبيرة، فحدَّ من نشاطه، وشغل نفسه بالمُضاربات. لكنه كان يذهب كل يومٍ في نفس المَوعد إلى مكتبه بضاحِيتنا، من الثالثة إلى الخامسة. وأُشيع أنه يحتفظ فيه، أيضًا، بمسكنٍ خاص.

هكذا كان الذهاب إليه مغامرة مجنونة. وكان المفروض أن تحُول صداقته لأبي بيني وبين الإقدام على هذه الخطوة. لكن أمَلي فيه لم يَخِب. فقد تلقَّى كلَّ شيءٍ كأنه يستمع إلى نُكتة، وبدا عليه الاستمتاع بما روَيتُه له، وفي النهاية طمأنني. لم يكن حتى مُضطرًّا لأن يَعِدني بكتمان الأمر عن أبي. كان له مسلك المُتواطئ، وبدَتْ له علاقة تامارا بأبي مثل التوابل المُضافة إلى مغامرتي الغريبة. أما أنا، فأعترف بأني لم أفكر أبدًا في هذا الجانب من الأمر. فلم يخطر ببالي أبدًا أن أبي يستمتع بلحظاتٍ مُماثلة من الحميمية مع تامارا، ولم يُزعِجني هذا الخاطر مطلقًا، رغم ما قد يبدو في ذلك من غرابة. فلأن وقت أبي كان محدودًا، وبدافعٍ أيضًا من كياسة طبيعية، لم يكن يُقدِم على زيارتها قبل أن يُخطِرها بنيَّته تليفونيًّا. ونادرًا ما كانت زياراته تتعدَّى المرة أو المرتَين في الأسبوع .. «لأسباب صحية»، هكذا أوضحَتْ لي تامارا، التي لم يبدُ عليها أبدًا الشوق لهذه الزيارات. ومع ذلك كانت تستعدُّ لها بإزالة أعقاب السجائر، وبأن تجمع كل ما هو مُبعثر على الأرض، وتدسُّه في أدراج الدولاب ثم تُغلقها. وبهذا الشكل تحتفظ الشقة بطابعها البوهيمي، وتُصبح نظيفة ومُرتبة في الوقت نفسه. لكن هذه الاستعدادات لم تُثِر لديَّ سوى الشعور بأن تامارا تقوم بعمل مُضجِر.

تخلَّص منِّي فان برج بقرصةٍ في خدي، عارضًا عليَّ في مرح أن آتي لزيارته، إذا سئمتُ المُتَع التي أنالها من تامارا. قال إنه سيعرف كيف يَحملني على تقدير أنواعٍ أخرى من المُتَع!

شعرتُ بمزيدٍ من الراحة عندما غادرتُه، ومنذ تلك اللحظة نظمتُ حياتي كلها حول شارع رامبا دي بيجوين.

•••

انصرم الشتاء في سلام. وقُرب نافذتي، خشخشَتْ فروع شجرة الليمون في مهب الريح. وظلَّت القطة مكانها قرب المدفأة. ومضى الأطفال يتزحلقون في الشارع. وكنتُ أصِل المنزل دائمًا مع حلول الظلام، لكني لم أعُد أخشى اختباء بعض الأشرار بين شُجيرات المُنتزه. فقد شعرتُ أني أصبحتُ شخصًا ناضجًا.

كنت قد أقلعتُ عن الانغماس في الحالة «الشاعرية»، كما أطلقتُ على ألعاب الخيال، ذلك التشويه للحياة الذي أوشك أن يُصبح طبيعةً ثانية لي. فرغم أني لم أكن قد قرأتُ شعر رامبو بعد، فقد كنتُ أستخدِم المصطلح الذي التقيتُ به في كتاباته بعد ذلك، لدهشتي الساذجة، وهو تعبير «التشويش المُنتظِم». وكنتُ أومن أنه عن طريق التشويش المُنتظِم لخيالي، سأتمكن من بلوغ الحالات العُليا للوعي الشعري. والحاصل أن حالات الغياب عن الوعي لم تتمخَّض عن شيءٍ على الإطلاق، وكان المفروض أن يُبصِّرني ذلك بالأمر. لكني ظننتُ أنه من الطبيعي ألا تُعبر «الشاعرية» عن نفسها بأية وسيلة، وأنها في حالة كمون داخلي. إلى أن أتاح لي الاختفاء السريع لكافة هذه الخيالات، تقدير قِيمتها.

لكني لم أُضِع وقتًا في هذه الاعتبارات، ولا فكرتُ طويلًا في الخطر الذي أُفلِتُ منه بالتخلي عن هذه الممارسات الخادعة. فكما سبق أن قلت، كنتُ أحيانًا ما أفقد السيطرة على خيالي المريض، فيتملَّكني لدرجةٍ أعجز معها عن التفكير السليم.

بعد أن احتلَّت تامارا المكانة الأولى في عقلي بفترةٍ وجيزة — وهو أمر لم يستغرق أكثر من بضعة أسابيع — بدأ أبي يمتدِح ما أسماه «صحوة شخصيتي». فقد أصبحتُ أكثرَ انتباهًا، وأقلَّ فتورًا في المشاعر، كما قال. ونجحَتْ هذه التعليقات أخيرًا في إزالة القليل من مشاعر الندم التي كانت تُخالجني. كان أبي مُبتهجًا برؤية ما اعتراني من تغيُّر، ناسبًا كل ذلك إلى اجتيازي «للسن الحرِجة». هنا أدركتُ أنه كان دائمًا في قلقٍ بشأن عقلي البليد ونوبات الشرود المُفاجئة التي تنتابني. وأدهشني هذا الاكتشاف، إذ لم يخطر لي من قبلُ أنه يُعطي أقلَّ اهتمامٍ لوجودي. وكان من شأن سروره بما طرأ عليَّ من تغيُّر أن يدفعني إلى التفكير، لكني لم أكن أملك الوقت لذلك، إذ كنتُ أفكر في شيءٍ آخر.

عندما أقول إني لم أعُد أستسلِم لأحلام اليقظة، أعني بذلك حالة التبلُّد التي لا ينتزعني منها شيء. لكن رغم أني لم أعُد أسعى للهرب من الواقع — وكنتُ على العكس أنغمس فيه بكل سرور — فما إن أبتعِد عن تامارا، حتى أجدني أُفكر طول الوقت في اللحظات التي أمضيناها سويًّا، والتي شكَّلت بدَورها نوعًا من أحلام اليقظة، ولو أن موضوعها كان أكثر موضوعيةً مما دارت حوله أحلام يقظتي في السابق.

على أية حال، لم أعُد بحاجةٍ إلى تشييد حياةٍ مُتخيَّلة، لأن كل دقيقةٍ من حياتي الحقيقية كانت تُدهشني بغرابتها. فقد ظل منزل «رمباردي بيجوين» يجتذبني بقوة. وكنتُ أقوم بتحليله كل يوم، فاكتشفتُ تفاصيل جديدة: زاوية حجَر، خطًّا من الطحالب البحرية لم ألمَحه من قبل، نقطة نظر جديدة تبدو منها ابتسامة حوريات البحر الخليعات مختلفة، ساخرة أو رقيقة، قطعة مَنسيَّة من الزخارف المطلية بالذهب، أو الفسيفساء المتآكِلة.

انتشيتُ بدراسة كل هذه الأشياء وأكثر منها. كانت للمنزل ست شرفات، وأربعة طوابق، وثماني شقق، وكان ارتفاعه تسعة عشر مترًا، وطوله اثني عشر. أعجبني تناسُق قياساته، وضخامة تصميمه وجرأته، واللون الأخضر للسُّلَّم الرخامي، وعاهدتُ نفسي أن أمتلك منزلًا مشابهًا إذا أصبحتُ ثريةً، وألا أنسى أو أتجاهل فسيفساء واحدة أو تمثالًا واحدًا من تلك التماثيل التي عُهد إليها بدور الأعمدة للبناء.

كيف يُمكنني إذن أن أصف شعوري إزاء حياة تامارا؟ كيف أُعجبتُ بفوضاها، ونوبات حُزنها المفاجئة، ولحظات مرحها؟

كنتُ أنهض أحيانًا في الخامسة صباحًا لأذهب معها إلى مدرسة الفروسية، حيث تمتطي حصانًا اقترضته. كنَّا نخرُج دائمًا قبل الفجر. فتخطر إلى جواري، بجسدِها اللدِن، وعزيمتها القوية، وخطواتها الواسعة، في سراويل الركوب، وحذاء بلَون الظباء، فتبدو رائعة الجمال، وأكاد أبكي من الإعجاب. أتذكَّر كيف كانت تؤرجح سوط الركوب بغير اكتراث، وتصفر بلا مبالاة. كانت مدرسة الفروسية على حافة السهل، لهذا كنا نُضطر إلى المشي نصف ساعة بين صفَّين من المنازل الساكنة في شوارع مهجورة، ما زالت مصابيحها تُومِض ثم تخبو. لكن مدرسة الفروسية في تلك اللحظة تكون في أوج نشاطها. وعلى الضوء الخافت لمصباحٍ كهربائي، تمرُّ أشكال مُعتمة، خلف عربات مُحمَّلة بالأعلاف. أحببتُ رائحة الحظائر، وصهيل الجياد في مرابطها، وفوق كل شيءٍ حفيف القش عندما يُحرِّكونه بالمِذراة في بطء، ثم يتساقط بتنهيدةٍ رقيقة تُشبه تراجُع الأمواج. أنا التي أستطيع التفكير دون عاطفةٍ ما في علاقة تامارا بأبي، كنتُ أغار من مُدرِّس الفروسية، وأكرهه. كان هذا الجوكي السابق، هوارد، بقامته النحيفة، وحجمه الضئيل، مُجردًا من أي جاذبية، لكن ما إن تلِج تامارا الجانب المُخصَّص للفرسان — بينما أبقى أنا خلف الحواجز الخشبية — حتى يجري نحوَها ويُناديها في أُلفةٍ تثير حنقي: اسمعي يا فتاتي! لا يُمكنني أن أُعطيك بلزاك اليوم! فقد خرج به العجوز فرات ليلة أمس، وما زال مُتعبًا وعصبيًّا، وفمه مُلتهبًا. خُذي بوميون أو قيصر. قيصر يألَفُك. هل أدعوه لك؟»

وتُوافق تامارا على اقتراحه، دون أن تُظهِر ضيقًا بطرحه الكُلفةَ معها، وتبتسِم للرجل البشِع الضئيل بطريقةٍ رفاقية لا تستخدمها معي. كانا يتحدَّثان عن السباقات، ويُناقشان القفزات، ويذكران مباريات وددتُ لو أهتمُّ بها لكني لم أفعل لأني لم أفهم شيئًا بشأنها.

ثم يقول: «ها هو حصانك. دعيه يقفز قليلًا ليُحافظ على لياقته. وداعًا يا جميلة!»

وبعد أن يُربت على ظهرها، يبتعِد.

ترتقي السرج بمهارة، وتتأكد من موضع الرِّكاب، وفي اللحظة التي تستقرُّ فيها بمقعدها، ويقرقع الجلد تحتها، أشعر بألَمٍ في قلبي كأنما ستهجرني إلى الأبد.

«هيلين! ماذا تفعلين؟ لماذا بقيت؟ أراك غدًا.» ودون أن تنظُر إليَّ، تمضي خببًا نحو السهل، حيث تبقى أحيانًا فوق الحصان عدة ساعات.

كانت تعشق الجياد. وهذا أيضًا كان يُثير غيرتي، لأني لم أفهم هذا العِشق. كانت تطلُب منِّي أحيانًا أن أنتظرها في مدرسة الركوب، وعند عودتها يكون وجهها مُتوهِّجًا بالسرور، وقبل أن ترتدي سترتها، وهي لا تزال في بلوزة وحسب رغم البرد، تقود الحصان إلى حظيرته، وتمسح الزبد عن فمه، ثم تربت عليه في مودَّة، وتتحدَّث إليه بعض الوقت.

كان هوارد يَستلطفني. وكان يظنُّ صمتي نابعًا من الخجل فيتحدَّث إليَّ أثناء ذلك: «صديقتك تُحب الجياد بالتأكيد! وتعرف كيف تُعاملها. مشهد مُمتع! أتعرفين أني أتركها تركب دون مقابل؟ هذا لصالح الجياد إذ يحافظ على لياقتها. قليل من الناس يأتون الآن للركوب. وإنها لمُتعة أن يراها المرء في السرج! لو لم تكن امرأة لكانت قد أصبحت جوكيًّا، وجوكيًّا ذا شأن.»

كانت هذه الأحاديث الحميمة تُشعِرني بعدم الارتياح. كأنما كنتُ أستمع إلى حديثٍ عن حياة تامارا الغرامية. بل أسوأ من ذلك، لأن هوارد كان يتحدَّث عن عالَمٍ ليست لي فيه أية أهمية.

•••

خلال الأسابيع الهنيئة التي تلَت ذلك، لم يكن يشغلني سوى أمرَين: كيف أذهب إلى «رمبار دي بيجوين» وأعود دون أن يراني أحد، وكيف أمنع أبي من تلقِّي البطاقات المُرسَلة من مدرسة مدموازيل «بالدي» للاستفسار عن أسباب تغيُّبي. ولم أعد أشغل نفسي كثيرًا بحياة تامارا. كانت معي دائمًا مُتمالكة لنفسها، ساخرة قليلًا، تستوقِف بكلمة واحدة أية بادرة عاطفية من جانبي. ومع ذلك، تكون أحيانًا رقيقة، فتمزج شعري البُني المائل إلى الحمرة بخصلاتها السوداء، وتدفن وجهي في كتفها، مغمغمة: «اسكتي»، في حنان يُكسِب كلماتها حبًّا مُقطرًا.

ولأنها كانت تحتضنني، ولا تبخل عليَّ بقبلاتها، خِلتها — لسذاجتي — تُحبني. ربما أقل من حُبها لإميلي، لكنْ حُب فريد، حنون، مثل حُبي لها. لم تَفُه بِحُبها أبدًا، أو على الأقل لم تفعل ذلك إلا في لحظات النشوة، لكني لم أعبأ. ولم تستوقفني غرابة التقاءاتنا الصامتة، والطريقة التي تريني بها الباب في نهايتها: كانت تُحبني، وأنا أُحبها، وكنا نستمتع سويًّا، وكان هذا هو كل ما يعنيني.

كانت انطباعاتي عنها في بعض الأحيان، كما في مدرسة الركوب، سريعة التبخُّر، وإذا كنتُ أتذكرها الآن، فإني نسيتها بمجرد أن خطرَتْ لي وقتها. كما أني نسيتُ ما عرفته عن حياتها، عندما كانت تبقى أحيانًا في الفراش، تُدخن وعيناها نصف مُغمضتَين في شيءٍ من التبلُّد، ووجهها خالٍ من التعبيرات، غير مُكترث، فأربض عند قدمَيها بلا حراك، في احترامٍ هيَّاب كذلك الذي نشعر به إزاء شخصٍ فائق الجمال عند موته.

جربتُ أن أحذو حذوها، باستخدام لهجةٍ جافة أو فظَّة، وبانتحال الإيماءات الرجولية التي تبدُر منها كثيرًا، والتظاهر بازدراء التقاليد، فنِلتُ إعجاب زميلاتي في المدرسة بجُرأتي. لكني أمام تامارا نفسها كنتُ ألزم الصمت في حصافة، خوفًا من ابتسامتها الساخرة التي أتمنَّى معها أن تنشقَّ الأرض وتبتلِعني.

وبين الحين والآخر، كنتُ أثوب إلى رشدي. عندما تزجُرني بتعليقٍ أو هزة كتف، على كلمةٍ رقيقة بدرَتْ منِّي، أُدرك على الفور فجأة بمرارة، أنني لستُ الشخص الذي تودُّ سماع هذه الكلمات منه. لكني سرعان ما كنتُ أطرد هذه الأفكار، فإذا أمعنتُ في جفائها، أكدتُ لنفسي في سذاجة، أن الأمر بغير ذي أهمية «لأني لا أُحبها إلى هذه الدرجة!»

حلَّ شهر فبراير، دون الأمطار المألوفة، واخضرَّت أحواض المُنتزه مرة أخرى، في ربيعٍ سابق لأوانه. وبدا كل شيءٍ طازجًا ووضَّاءً، عند مُغادرتي للمنزل صباحًا، في طريقي إلى المدرسة أو إلى تامارا. كانت مصاريع النوافذ تَصطفِق في مرَح، وكل شيء يلتمِع ويبرُق، من عربات الخضراوات في الشارع إلى برج الكنيسة المُستدقِّ الطرف، كأنما اكتسى طلاءً جديدًا، عاكسًا أسنَّة رماحٍ صغيرة من ضوء الشمس. ولم تعُد العجائز الثرثارة في حاجةٍ إلى مرآة عند النافذة، من أجل التجسس على الآخرين، فقد صار بوسعهن الآن التظاهر باستنشاق الهواء النقي، ومتابعة المارَّة من خلال نوافذ مفتوحة على مصاريعها، وهن مختبئات خلف الستائر المُطرزة بالدانتلَّا.

لم يعُد أبي المشغول بطموحاته السياسية يكتفي بالحديث إلى مُواطني الحي في قاعات الاجتماعات أيام الآحاد، فبدأ يجذب خيوطًا أخرى لتحقيق أهدافه، وقلَّت بالتدريج فُرَص لقائنا. فإما أن يكون في رحلة صيدٍ بالسهل، بصُحبة مُحامٍ ذي نفوذ، أو في رحلةٍ بحرية مع أحد قباطنة الصناعة، أو حتى في سيارة بالريف مع أحد أعضاء نقابة المحامين أو رئيس لإحدى الجمعيات، تَصحبُه في أغلب الأحيان جمهرة من الأطفال الذين يحملون قضبان صيد السمك والساندوتشات.

لكن مثل هذا ما كان يمكن أن يستمر، وبالتدريج شعرتُ أن شيئًا ما في سبيله للحدوث. كان ابن عم جوليا، بائع اللبن، قد ذكر لها في براءةٍ أنه رآني في «رمبار دي بيجوين» فتساءلَتْ عما يدعوني للذهاب إلى هذا الحي ذي السمعة السيئة. كما بدأت فتيات باسافان، اللاتي يصنعن الملابس بالنهار، يتساءلن عن سبب عودتي مُتأخرة في الأمسيات. وسألني مساعد الأسقف، الذي يقطن شارعنا، بحُسن نية: ألَّا أخرُج كثيرًا في أيام العطلة؟ لم أعرف ماذا يدور بذهنه على وجه التحديد. ولعلَّه أراد فقط أن يُحذرني من الإهمال والكسل. هذا، على الأقل، هو ما قاله. لكن أسئلته كانت مُوجهةً بطريقة غامضة، ومُفعمة بالتلميحات، مما أرسل الرعدة في أوصالي.

كان ثمة علاج لكل هذا، كما ذكرت تامارا ذات مرة. فيُمكنني استباق الإشاعات، بأن أذكُر لأبي أني أراها بين الفينة والأخرى، وأطلُب إذنه في مواصلة زيارتها. وما من شكٍّ في أنه لن يعترِض، ومن ناحيةٍ أخرى سيستاء بالتأكيد لو علِم من الآخرين بأمر هذه الزيارات التي يَجهلها. لكن نصيحة تامارا بمصارحة أبي جاءت عرَضًا، وبدا لي أنها لا تخشى، إلا بقدْرٍ ضئيل للغاية، من الافتضاح، وفي الواقع لا تشعُر بالخوف — أو بالأحرى لا تفكر بالأمر — ولهذا تركتُ الوقت يمرُّ دون أن أعمل بنصيحتها. ولم أكن أملك، على أية حال، الشجاعة الكافية لإثارة الموضوع أثناء اللحظات الوجيزة التي أقضيها مع أبي.

كانت تامارا نفسها تُهمِل دائمًا اتخاذ الحيطة إهمالًا تامًّا، وعندما نصحتني بمصارحة أبي، خِلتُ أنها مدفوعة في ذلك بحسِّ الواجب، لهذا كانت دهشتي مضاعفة عندما سألتني بجدية عما إذا كنتُ قد قمتُ بما أشارت به عليَّ.

أجبتها بلا تردُّد: «كلَّا، لم أجرؤ.»

سألتني بحدة: «قولي من فضلك، لماذا لا تفعلين أبدًا ما أُشير به عليك؟ منذ شهور وأنا أتحدَّث إليك عن هذا الأمر، وأنت دائمًا تؤجِّلين! هل ستظلِّين مُهملةً دائمًا هكذا؟»

أفعمتني لهجتها المُستاءة ذعرًا. أردتُ أن أدافع عن نفسي، مُلتمسةً عذرًا ما، لكني تلعثمتُ تحت وقع نظراتها الباردة. بدت لي مخاوفي مضحكة، وانتهى بي الأمر أن أشَحْتُ بوجهي ولزمتُ الصمت. شعرتُ أنه ليس عدلًا منها أن تلومني على عدم الطاعة، طالَما أنها لم تتحدث عن هذا الأمر إلا عرَضًا. وبالرغم من ذلك شعرتُ بالإثم؛ لأنها حتى لو كانت أمرتني، فربما كنتُ وجدت الشجاعة كي أعترف بسلوكي الخفي لأبي.

تأمَّلتْني ببرود، وانتظرتْ أن أتكلم، وعندما لم أفعل قالت: «أعترف بأني لم أكن واضحةً في حديثي. لكن لتفهمي الآن: أمامك أسبوع تتحدَّثِين فيه إلى أبيك. فإذا لم يسمع خلاله …»

لم تستكمِل تهديدها. لكني تخيلتُ أنها تتوعَّدني بأن تتحدَّث إليه بنفسها. وكان هذا الحل، في الواقع، يُناسبني تمامًا.

أجبت: «لماذا لا تُخبرينه أنتِ بنفسك؟» كنتُ مستاءة من اللهجة المتسلطة التي استخدمَتْها، خاصة وأني لم أكن قادرةً على إبداء أيِّ مقاومة.

كررَتْ دون أن تُجيبني: «أسبوع واحد!» وانتقلت إلى موضوعاتٍ أخرى.

خلال الأسبوع الذي تلا ذلك، حاولتُ فعلًا، عدة مرات، استجماع شجاعتي لأتحدَّث إلى أبي. وكأنما تحالفَتْ جميع العناصر ضدي، فلم يحدُث أن كان أبي منشغلًا بالصورة التي بدا عليها وقتئذ: كان دائم الذهاب والمجيء، يُتلفِن، ويرتِّب موعدًا …

لم تذكر تامارا الأمر ثانية، وظلَّت ودودة كعادتها، بلحظات الصمت والبرود المألوفة. لهذا لم أشعُر بالقلق لعجزي عن طاعتها. وقدَّرتُ أن جلَّ ما ستفعله إذا استاءت، هو أن تمتنع عن رؤيتي عدة أيام. ورغم بهجتي المُتزايدة بصُحبتها، فإني كنتُ أراها بكثرة تحتمِل فراقًا وجيزًا. بل إن الابتعاد عنها يُتيح لي أن أُفكر فيها، وفي الأحداث الأخيرة، ويؤدِّي بها إلى الضجَر بكل هذه السِّرية، فتتحدَّث بنفسها إلى أبي، وتكفيني عناء هذا الواجب.

انتظرت، مُؤجِّلةً المهمة من يومٍ إلى آخر، وعندما سألتني أخيرًا، كأنما عرَضًا: «هل عرف أبوك؟» فوجئت، وتضرَّج وجهي، فلم تعُد مُضطرة لانتظار إيضاحاتي المُتعثرة. بدا عليها التفكير لحظةً ثم قالت: «إذا أعطيتُك أسبوعًا آخر، هل ستجدِين الشجاعة؟»

لم تظهر عليها أمارات الغضب. ولأني كنتُ لا أزال أعتقد أنها ستتولى الأمر بنفسها في النهاية، أجبتُ مؤكدة: «كلَّا. لن أجد الشجاعة أبدًا!»

وقبل أن تُتاح لي فرصة للحركة، أو أُدرك ما سيقع، صفعتني مرَّتَين، وبعُنف. وصُعقتُ.

لم يَصفعني أحدٌ من قبل مُطلقًا، ولا أبي. فإذا أراد عقابي وأنا صغيرة، كان يُغلق عليَّ باب غرفتي. جمدتُ في مكاني، يخنقني النشيج الغاضب، وأحاول التقاط أنفاسي، وأُدرك ما حدث. أما هي فقد تطلَّعت إليَّ في هدوء.

قالت: «لن أُعطيك أسبوعًا آخر. يومان فقط. وإذا لم تنصاعي لأوامري هذه المرة، ستنالين المزيد!»

أثار هدوءُها جنوني. لم تكن تملك حتى عُذر الاستسلام لنزوة غضب. فقد صفعتني بتعمُّد، بدافع الخسَّة المُطلقة!

صِحتُ في صوتٍ مُختنق: «كلَّا، لن أُطيعك! سأذهب. ولن تريني ثانية!»

انصرفتُ جريًا، وصفقتُ الباب من خلفي.

عندما بلغتُ المُنتزه، انهرتُ فوق أريكة، وأنا أهتزُّ من النشيج، وقد غمرَني شعور بالظلم وسوء الحظ لدرجةٍ لم أعهدها من قبل.

أدركتُ أنه لا بد من الذهاب إلى المنزل، لكني بقيتُ في مكاني، لا أدري كم من الوقت. وأخيرًا تذكرتُ أن المساء قد حلَّ، وأن جوليا تحتفظ لي بعشاء، فبدأتُ مَسيرتي نحو المنزل في بطء، وفكرة تعاستي تستولي عليَّ كل عشْر ياردات، فتخنقني الدموع، وأستنِد إلى الجدار لأبكي، قبل أن أنطلِق من جديد. ولِحُسن الحظ، لم أُصادف أحدًا من معارفي، فما كنتُ سأتمكن من السيطرة على نفسي، فأُفضي بكلِّ شيءٍ التماسًا لشيءٍ من الراحة.

عندما ولجتُ شارعنا، أبصرَتْني مدام لوسيت، وانتابها الهلَع من مشيتي المُتعثرة، فجَرَتْ من حانوتها ونادَتْني.

سألتني وهي تقودني داخل الحانوت، الذي لم يكن به أحد لحُسن الحظ: «ماذا حدث يا عزيزتي المسكينة؟» كنتُ قد بدأتُ أتمالك نفسي بعض الشيء، لكن كلماتها الشفوقة أثارت فيضًا جديدًا من الدموع. كنتُ عاجزة عن التفوُّه بحرف. فماذا كان بوسعي أن أُخبرها؟ أغلقَت الباب بسرعة وشدَّت رتاجَهُ ثم قادتني إلى الغرفة الخلفية، قائلةً في رقَّة وهي تتطلَّع حولها بحثًا عن مكانٍ أستلقي فيه: «بوسع الزبائن العودة في الغد!» لم يكن هناك غير كرسيٍّ مُفكك الأوصال، بلا ظهرٍ أو مسندَين، ومقعد كبير من القش قرب المدفأة، حيث تستريح عادة. وعندما لم تجد مكانًا غيرهما، جلستْ في المقعد، وأخذتني فوق ركبتَيها، كأني طفلة.

واصلتُ البكاء عدة دقائق كما لو كان قلبي يتمزَّق، وأنا أفكر في تفسيرٍ لتعاستي أُقدِّمه لها. وأخيرًا، مدفوعة بشيطانٍ ما، نهنهتُ في رثاء وإشفاق قائلة: «أبي له عشيقة!»

بدا كأن هذه العبارة البسيطة قد نفذت إلى قلب مدام لوسيت. والواضح أنها كانت تعتقد أن فتاةً شابة مِثلي من حقِّها أن تُصدَم وتحزن عندما تعلم بأمرٍ كهذا. ولم أحاول العثور على عُذر آخر.

غمغمتْ وهي تضمُّني بين ذراعَيها: «يا عزيزتي المسكينة! يا طفلتي العزيزة المسكينة!» شعرتُ أن ما أثَّر في مشاعرها أكثر من أي شيءٍ آخر هو براءتي، ففي نظرها، تكشَّفَت كافة مَباذل العالَم لي عندما عرفتُ بالحياة المزدوجة التي يعيشها أبي، وتخيَّلَتْ أن ذكرى أُمي ضاعفت من حُزني. حدستُ كل هذا من تعليقاتها.

قالت: «يا حَمَلي الوديع! لا تبكِ هكذا يا ملاكي الصغير! المسكينة، البائسة، ويتيمة الأم!»

بدا لي أنها وجَّهت الكلمات الأخيرة إلى السماء، التي دعَتْها لأن تشهد تعاستي. هنا شعرتُ بشيء ما زلتُ أذكره بكل خِزي. كان حُزني قد خفَّ مؤقتًا، وجفَّتْ دموعي، فأدركتُ أنني يجِب أن أعود إلى المنزل دون تأخير، لكني مضيتُ أنتحِب دون رغبةٍ حقيقية، لمُجرد أن أستدرَّ مزيدًا من شفقة مدام لوسيت.

قلت: «وأُمي المسكينة كانت طيبة للغاية. كيف يستطيع نسيانها؟ إن هذا يُشعرني أني يتيمة حقًّا!»

حصدتُ ما سعيتُ إليه: فقد اغرورقَتْ عيون المرأة الفاتنة، وإذا بها تنهض واقفة، وقد تذكَّرت فجأة أني في السادسة عشرة، ولا يجوز احتضاني هكذا بين ذراعيها. لكنها جذبتْني من جديدٍ إلى كتفِها، ومزجت دموعها بدموعي، وهي تحاول التسرية عني.

ساعدَني هذا على أن أنسى تامارا تمامًا لبرهة. ففي الغرفة الخلفية الصغيرة المُعتمة، إلى جوار النار المُتأجِّجة، ووسط الروائح النظيفة المُحببة للورق والأقلام والصلصال، بينما التصقت بكل قوَّتي بهذا الشخص الجميل الحسَّاس الذي كان يُحاول إعادتي إلى صوابي، مُسترخيةً تمامًا بصورة مُمتعة بعد الانفجار العنيف لدموعي، شعرتُ بالسعادة التامة، ولم تُساورني غير أُمنية واحدة: أن أُطيل أمد هذه اللحظة. ويعلم الله كم من الأمور البشِعة كان بوسعي اختلاقها من أجل ذلك، ضد أبي المسكين. لكنني لم أكن بحاجةٍ إلى ذلك. فقد ألِفَت مدام لوسيت، منذ هجرَها خطيبُها في الثانية والعشرين من عمرها، أن تتحدَّث عن كافة الرجال باعتبارهم أوغادًا أنذالًا. هكذا مضت تُوجِّه اللوم إلى أبي، قائلة إنه من العار أن يتركني وحيدةً ليجري خلف النساء، ونصحتني بأن أتوسَّل بالشجاعة، وأتقبَّل كل شيء، وأكدَتْ لي أن أبي، عندما يتقدَّم به العمر، سيكتشف أني الشخص الوحيد الذي أُحبُّه وبقي على وفائه.

لم يرُق لي هذا المستقبل كثيرًا، على أني لم أكن مُصغية لصوتها الرقيق وهو يُردِّد هذا الهراء. كان خدِّي ملتصقًا برقبتها البيضاء، التي بلَّلتها دموعنا، وبين الفينة والأخرى كنتُ أطبع عليها قبلة، مثلما يفعل الأطفال. كانت رائحتها تُشبه رائحة الحبر، ورائحة الكعك المسكر. وتبدَّي ثدياها المُستديران الأبيضان من فتحة بلوزتها. شعرت كأنما هُدهدْتُ، وأُرْضيتُ، ووُوسيتُ. وفكرت ساخرةً أن ما اجتذبها فيَّ للأسَف هو براءتي، فقد كان جمالها حليبيًّا، ناعمًا، يُغري بالالتهام، مُختلفًا كليةً عن جسد تامارا ذي العضلات القوية.

أخيرًا أعانتني على السير، وقادتني إلى الباب.

قالت: «اذهبي الآن يا هيلين. فلا بدَّ أنهم قلقون عليك. أفضل حلٍّ لك أن تكوني باردةً مع أبيك. لا تُحدثيه عن شيء، فلن يألو جهدًا في الدفاع عن نفسه، وربما نجح في إقناعك، خاصة وأنك شغوفة به هكذا إلى درجة العبادة!»

لم أقُل أبدًا إني أعبد أبي، لكن مدام لوسيت أوَّلت حُزني على هذه الصورة. فقد ظنَّت أن ما يُعذبني أساسًا هو خوفي على أبي من الخطيئة. وكانت تراني أحيانًا في الكنيسة، التي كنتُ أذهب إليها لأستمتع بموسيقى الأرغن ورائحة البخور. كانت الكنيسة وقتئذٍ تشغل فضاءً كبيرًا في خيالي، وآخر أقلَّ منه بكثيرٍ في اهتماماتي الروحية. وعلى أية حال، فقد أقلعتُ عن الذهاب إليها كليةً بعد أن تعرفتُ إلى تامارا، فلم أعُد بحاجة إلى التماس النشوة في مكانٍ آخر.

كانت دموعي قد جفَّت، وتمالكتُ نفسي، عندما بلغتُ المنزل. لم يكن المستقبل يشغل سوى حيزٍ ضئيل للغاية من تفكيري. ولم تترك فيَّ الوجبة الصامتة، عبر المائدة من أبي، أثرًا ما. كنتُ أُفكر في مدام لوسيت، فذكراها كانت لا تزال طازجة، وأقبلتُ أستعيد تفاصيلها على مهَل.

أويتُ إلى الفراش في هذا المزاج السعيد. كانت النافذة مفتوحةً بسبب اعتدال الطقس. وسمعتُ خلالها من يتدرَّب على السُّلَّم الموسيقي فوق بيانو. لم تتجاوز الساعة التاسعة عندما ولجتُ حجرتي، لكني كنتُ منهوكة القوى من جرَّاء بكائي، أشعر بوهَنٍ في ساقيَّ، فاضطررتُ إلى الرقاد. كان فراشي إلى جوار النافذة. وظللتُ أمدًا طويلًا مفتوحة العينَين، لا أُفكر في شيءٍ ما مُحدَّد، أتطلع إلى السماء المعتمة، وأنوار المنازل المجاورة، تتلألأ وراء شجرة الليمون، ويتسلَّل ضياؤها خلال خيمة أوراقها الخفيفة، فيُحوِّلها إلى شجرةٍ من أشجار عيد الميلاد. كان بوسعي أيضًا أن أرى مزراب الأمطار، مثل لسانٍ جافٍّ مُستقيم، وقد انزلق فوقه شبَح قطة، وبعيدًا، فوق تلٍّ منبسط القمة، شجرة وحيدة مُلتوية، مثل أشجار الشرق الضامرة. كم حاولتُ خلال جولاتي أن أعثر على تلك الشجرة، بلا جدوى.

قبل أن أُفيق تمامًا في الصباح التالي، وبينما كنتُ ما أزال بين النوم واليقظة، أخذت أتقلَّب في فراشي، كأنما كنتُ أتشبث بالنعاس، لأتجنَّب شيئًا يقبع في انتظاري، شيئًا انحنى فوق فراشي، ولمس وجهي. استيقظتُ مأخوذة. ما الذي أعطاني الإحساس بأن شيئًا رطبًا لمسني؟ لعلَّ قطرات مطر تسلَّلت من النافذة، أو ربما … عندما لمستُ خدِّي أدركتُ أنه مُبلَّل بالدموع، وفكرت: «لن أرى تامارا مرةً أخرى على الإطلاق.» لم أتذكَّر أني تدبَّرتُ هذه الإمكانية بالأمس في شيءٍ من الإذعان. بل إني كنتُ أفكر، أمس، في ضروبٍ أخرى من الراحة واللذَّة. فلماذا بُعث حزني فجأة من جديد؟ بل كيف انطلقت هذه الكلمات من فمي على حين غرة: «لن أرى تامارا مرةً أخرى على الإطلاق.» بالأمس، لم تُحرِّك هذه الفكرة شيئًا، ولم تُوقِظ أية مشاعر. لعلَّها كانت مثل الجراح التي لا يشعر بها المرء فور حدوثها، ولا يتألَّم منها إلا بعد ساعات. كنتُ عاجزة عن الفهم، فالدموع التي ذرفتُها في المُنتزه، دموع الغضب والحزن والخزي، جفَّت بسرعة. لقد عرفتُ هذه الدموع من قبل، عندما كان أبي يزجُرني، أو تُوجِّه جوليا اللوم لي، لكن حزني ساعتها كان حزن الطفل المُعاقَب، الذي يمكن تخفيفه بكلمةٍ رقيقة. وعندما استغرقتُ في النوم بالأمس، كنتُ أشعر بالسكينة وبشيءٍ من الخَدَرْ. لم أحلم، ولم أستيقظ أثناء الليل. ومع ذلك، ها هي الآن الكلمات المُرعبة: «لن تُشاهدي تامارا ثانية.»

بكيتُ بدرجةٍ أقل بكثير من الليلة الفائتة، لكني أخذتُ أذرَع حجرتي جيئةً وذهابًا، والألم يُمزقني، ورقدتُ ثم نهضتُ من جديد عشرات المرَّات. جرَّبتُ أن أقرأ أو أدرس، دون جدوى. وفي ثورة غضبٍ جنونية، مزقتُ نقشًا قديمًا كنتُ أعتزُّ به. وأنا أُردِّد: «غير ممكن، غير حقيقي!» لكني كنتُ مُضطرَّةً للاعتراف بأنه مُمكن وحقيقي، فشعرتُ من جديدٍ بالأسى والحيرة والعذاب. غضبتُ من نفسي، ومن كلماتي البلهاء: «سأذهب، ولن تَرَيني ثانية!» .. هذه الكلمات البلهاء التي فُهْتُ بها. وتلقَّتها بجديةٍ ولا شك. والمؤكد أنها لن ترغب في أن أتراجع عنها. استأتُ أيضًا من عجزي عن تذكُّر ما شعرتُ به من غضب عندما صفعتني. استعدتُ ما دار بيننا من حوارٍ قبل أن تفعل، لأتبيَّن ما دفعني إلى الانصراف وصفق الباب. ولم أشعر بغير المزيد من الأسف. ثم أضيف الخوف إلى يأسي. فماذا لو أن تامارا، بدافع الانتقام، لم تكتف بأنها لن تراني مرةً أخرى. وأخبرت أبي بكل ما دار بيننا؟ وماذا لو أنه حبسَني عند ذلك في المنزل أو أرسلني إلى الدير، أو حال بيني، بطريقةٍ ما وبين رؤية تامارا مرةً أخرى! فلا أراها مُطلقًا بعد الآن! لكن ماذا يدعوني إلى التفكير بهذا الشكل طالما أني، بالفعل، لن أراها بعد الآن؟

عند هذه النقطة، أصبحتُ عاجزة عن التفكير. كان من المستحيل تخيُّل المستقبل بدونها. كنتُ عاجزةً عن أن أتصور نفسي في الشوارع التي كانت تقودني دائمًا إليها، أو عابرة للمُنتزه الذي طالما قطعتُه جريًا لأنضمَّ إليها بأسرع ما يمكن. كنتُ عاجزة عن احتمال وجودها بالقُرب مني، في ذلك المنزل الذي ما زال قائمًا. وعن تقبُّل مغادرتها لمنزلها في الصباح، كعادتها، في ملابس الفروسية، وسيرها بمُفردها في الشارع. كنتُ عاجزة عن تصوُّرها في القطار كل يوم سبت، ذاهبة إلى البلدة المجاورة، أو تتناول غذاء خفيفًا من البسكويت والشاي، وتُمارس كل شيءٍ كالعادة، بينما أُقصِيت تمامًا من حياتها. شعرت أني كنتُ قادرة على احتمال الأمر، لو أن زلزالًا ابتلع رامبار دي بيجويين وحوريته المغوية، بئر السُّلَّم عميق الغور وتامارا ذاتها، بحُليِّها وزخارفِها الهشَّة المُثيرة للسخرية، وأقنِعَتِها الأفريقية، وتمائمها المصنوعة من ألياف النخيل.

استعرضتُ في رأسي كل الأشياء الصغيرة التي تملكها والمكدسَة في صناديق الحلوى أو المبعثرة فوق الأرفف، أشياء أُعطيتْ لها، تذكارات، صناديق حياكة من الصدف، وسائد دبابيس، طلاء أظافر، زجاجات عطور، دمًى دقيقة في الملابس الإقليمية. كانت تامارا، من وقتٍ لآخر، تُحطم بعضًا من هذا كله، تلك التي لم تنجح في حمايتها ذكرى سارَّة، ثم تستبدلها بغيرها، فتحل آنية الزهور البراقة الصغيرة مكان الجوهرة الصينية، ويظهر الجواد الزجاجي حيث كان مُنظف المداخن الخزَفي. لا أعرف لماذا كان أصدقاؤها يُصرُّون على إهدائها هذه الحُلي التافهة التي لا تتَّسِق مع شخصيتها. لكنها كانت مغرمة بها، تستمتع بها في لحظات الضجر، كما يحدُث عندما يتعلق أحد السجناء بعنكبوت.

أوه. تامارا! تفجَّعتُ على كل قطعةٍ من أشيائك، ندبتُ المنزل والشارع وضوء المصباح الطازج فوق السهل الذي تنطلِقِين فوقه، ندبتُ مدرسة الفروسية وهوارد النحيف، وكل واحدٍ من الجياد التي تُحبينها — بلزاك، عيسى، هيروندل … وصوت القش يتساقط في نعومة، مثل منديلٍ يُطوى، الخبب الخفيف لجوادك متجهًا إلى السهل، الشمس والمطر فوق وحدتي المفاجئة وأنا واقفة إلى جوار الحاجز الخشبي، شاعرة بالفراغ الذي خلَّفَه غيابك حتى اليوم التالي. بكيتُ على حُزني عند اختفائك، كأنما كان اختفاءً أبديًّا، وفي المرات التي تحدثتِ فيها إليَّ عن إميلي، بقسوةٍ مُتعمَّدة، وعندما تقولين، لغير ما سببٍ على الإطلاق: «كلَّا. لن أراك غدًا.»

لكن ما أحلى تلك الأحزان التي تلاشت في اليوم التالي بين أحضانك! لأنه كان هناك أيضًا ذراعاك، ونوبات غضبك الرقيقة، وجسدك النحيل الفاتر إلى جوار جسدي، واللحظات التي تنتابك فيها فورةٌ من الحنان، فتتحدَّثين إليَّ في رقة، وأنتِ تُغطين عينيَّ بيدك، بدافع من إحساس غريب بالخجل. وكان هناك فمُك العنيف فوق فمي، ونشوتي ونشوتك. كنتُ عاجزةً عن تقبل فكرة حرمانك من لذَّتك أكثر من فكرة فُقداني أنا للذَّتي. تذكرتُ كيف يتلاشى الهدوء المألوف لوجهك فجأة، عندما تومِض البسمة فوقه، وتنفرج شفتاك عن أنَّاتٍ رقيقة، لا تكاد تُسمَع، بينما تنظُرين إليَّ بعينَين نصف مُغمضتَين، كأنك تغرَقين في حنانٍ سائل، وأسمع من جديدٍ تلك الصيحة الحميمة، منطلقة من أعماق كيانك، أسمع أصواتًا كالهديل تنتهي بعويل، بينما أنيابك الحادة تعضُّ على شفتك الشاحبة، ولا تعودين قادرةً على إخفاء نشوتك الخبيثة بل الحيوانية. أجل، كل هذا كان اللُّبَّ المتأجِّج، الحريف، الذي يتفطَّر له القلب .. لبَّ حُبي لتامارا .. النار التي أدفأت عقلَينا، واخترقنا سخونتها خلال جولاتنا على الأقدام، وأثناء الساعات التي كنَّا نقضيها سويًّا في القراءة إلى جوار المدفأة، أو عندما كنَّا نذهب إلى مدرسة الفروسية — السهل، الصباحات، النهر، المنزل، السماء نفسها … الجميع تلقَّوا دفئها. كان النهر سيبقى مجرد نهر، والسماء مجرد سماء، والصباح مجرد صباح، لو لم يغتسِل كلٌّ منهم في ذلك الضوء المُتأجج: وجه تامارا في نشوتها.

•••

عشتُ هذا الجحيم ثلاثة أيام. ادَّعيتُ أن الأنفلونزا هي التي ألزمتني الفراش. وجاء أبي لرؤيتي، وقد بدا عليه الانشغال أكثر من المعتاد، فلمس جبهتي وعندما وجدَها مُلتهبة نصحَني باستدعاء الطبيب. رفضت هذا. وفي اليوم الثالث، شعرتُ بقليلٍ من التحسُّن، وإذا بحادثٍ يُعيدني إلى هوة اليأس. فلِكي أُبرِّر بقائي في الفراش، شكوت الأرق، فجاءتني جوليا بفنجانٍ من شاي الليمون المُحلَّى قليلًا بطعم الفانيليا. وكانت تامارا، في لحظات رقَّتها العارضة، تُقدم لي شاي الليمون ثم تُضيف إليه بعض الفانيليا. وعندما أشربه، كنتُ أشعر بلذَّة انتهاك المُقدسات؛ لأنه كان يذكرني بما تعدُّه لي جوليا، وهو ما كان يُجسِّد لي راحة الحياة الأسرية. كما كان يبدو لي، وأنا أتناول الفنجان من يدَي تامارا، إن حُبي القَلِق، الرعديد، والمشبوب لها، يُنضح، بطريقة ما، حبي البَنوي لجوليا. وهكذا ما إن أبصرتُ الفنجان في يدِ الخادمة وشممتُ تلك الرائحة، حتى بُهِتُّ وانفجرتُ بالبكاء.

تفاقمَت حُمَّاي، وأعلن أبي أنه لا بد من عرضي على الطبيب في الغد، أحببتُ ذلك أم لم أُحبه. وبالصدفة، نمتُ جيدًا في الليل، وعندما رآني الطبيب في اليوم التالي، مُنتعشة، فيما عدا قليل من الشحوب، أعلن أني لا أشكو من شيءٍ ذي بال، وأمرَني بحزم أن أعود إلى المدرسة وأكفَّ عن التمارُض.

صدعت بالأمر، وظللت عدة أيام أجرُّ قدَميَّ من البيت للمدرسة، قائمة بالتفافات سخيفة لأتجنَّب شارعًا أو منزلًا قد يُذكِّرني بتامارا. ولم أعد أتمشى في المُنتزه أو أقترب من قوارب الميناء. لم أعُد أتسكَّع أمام واجهات الحوانيت، حيث تتملَّكني الرغبة في آلاف الأشياء: أقنعة المهرجانات، رءوس المغازل، الرخام الملوَّن. لم أعد أقرأ، لم أعد أفعل أي شيء. وإذا جلست إلى المائدة، كنتُ دائمًا أكسر كوبًا أو طبقًا. فإذا ما غادرتُها لأحضر منشفةً نظيفة، كنتُ أتعرَّض للحظةٍ من الشرود، فما إن أصل إلى الدولاب حتى أكون قد نسيتُ تمامًا ما أبحث عنه. لم يعلق أبي بشيء، لكنه كان يرقُبني في قلق.

في نهاية أحد الأسابيع، لم أعُد قادرةً على تمالُك نفسي، وقررتُ الذهاب إلى مدرسة الفروسية. كنتُ آمُل أن ألتقي بتامارا، فاقتفيتُ أثر الطريق الذي تسلُكه عادة إلى هناك. لكني لم أُبصِر سوى بعض العمَّال فوق دراجاتهم، مُتجهِين في صمتٍ وسرعة إلى أعمالهم، وصوت عجلاتهم يتردَّد في السكون مثل رفيف أجنحة. هل أقلعَتْ تامارا عن الركوب في الصباح؟ أم اتبعت طريقًا أخرى، لتتجنَّبني؟ بلغتُ البوابات الدوَّارة، دفعتُها في رفقٍ كي لا أُحدِث صوتًا، كي أرى دون أن يَراني أحد. فقد خشيتُ أن تكون هناك وتراني فتغضب وتُعنفني أمام هوارد. لكن البوابة أطلقَت صريرًا مُرعبًا، جاء بهوارد نفسه من أحد المرابط بحثًا عن السبب.

قال: «أوه، هالو يا مدموازيل!» وبدا لي صوته أقلَّ طبيعيةً وسماحة من ذي قبل.

قلتُ مُتلعثمة: «هل .. هل مدام سولر هنا؟»

تأمَّلني في فضولٍ ثم قال: «كلَّا .. لا أعرف إذا كانت ستأتي اليوم .. هل تُحبين الانتظار؟»

هالتني فكرة المشهد الذي قد يراه الجوكي فقلت: «كلَّا، كلَّا.» وهربتُ في حالةٍ يُرثى لها.

ما إن بلغتُ ناصية الشارع حتى رأيتُ تامارا. كانت تتقدَّم ناحيتي، غارقةً في التفكير، وهي تضرب حذاءها ذا الرقبة بسوط الركوب. تسمَّرتُ في مكاني عاجزةً عن الحركة، واقتربَت هي دون أن تلمحني. ورغم عذاب الخوف والحزن، لم أتمالك نفسي من التطلُّع بفضولٍ إلى وجهها. أردتُ أن أرى كيف تبدو عندما تظنُّ أنها بمفردها. بدا لي أقلَّ صلابة، مُستغرقًا في تفكيرٍ حاد، بومضة عذوبة فوق الوجنتَين. أكانت تُفكر بي؟ كاد يغشى عليَّ عندما تخللتْ شعرَها بأصابعها، كما تفعل عادة. وأخيرًا، عندما أصبحَتْ على مبعدة عشر ياردات أو أكثر، استقرَّت عيناها فوقي. لم تجفل، وواصلت تقدُّمها بنفس المشية المُتمهِّلة وهي تنظر إليَّ. تمنيتُ أن أهرب، أو أغوص في باطن الأرض، لكني لم أستطع حراكًا. كنتُ مُسمَّرة لصقَ الحائط بفعل قوةٍ غامضة. وخطر لي أنها قد تلطمني على وجهي بسوطها، لكن هذا الخاطر لم يُمدني بالقوة على الحركة. مرَّت بي دون أن تنبس بكلمة، وهي تنظر إليَّ كأني أحد المارة المجهولين، ثم اتَّجهت إلى المدرسة. ورنَّت مسامير نَعْلَي حذائها فوق الحجارة بصوتٍ واضح مُجرد من أي شفقة. سمعتُ صرير البوابة، ثم اختفت. بقيتُ في مكاني، في ناصية الشارع، الذي كان ما زال غارقًا في الظلمة، أسفل ضوء المصابيح المُضطرب. وبعد دقائق ظهرت، مُمتطيةً صهوة بلزاك، وانطلقتْ نحو السهل دون أن تلتفِت لتتبيَّن ما إذا كنتُ في مكاني ما زلت.

هِمتُ على وجهي طيلةَ الصباح في الناحية، مثل كلبٍ ضال، تأخُذني البغتة عندما يدخل أحد الجياد الحظائر أو يخرج منها، على أمل أن ألمحها، مُتوارية عن أنظار هوارد، الذي قِيل له ولا شك إنها لا ترغب في رؤيتي مرةً أخرى. لكني لم ألمح لها أثرًا. فلا بد أنها مضت إلى جانب السهل، مُلتفةً حول البلدة، بحذاء السور والميناء، كي لا تُصادفني. انتهى كل شيء فعلًا.

اتجهتُ إلى منزلي. كنتُ قد غادرتُه في السادسة صباحًا، وبقيتُ في الشوارع المُتربة حتى الظهر. ولهذا كنتُ في حالٍ تعسة، مُتَّسِخة، مُنهكة، وبلا أمل. تمنيتُ أن أصاب بمرَضٍ خطير يُهدِّد حياتي. وعندئذٍ تأتيني تامارا تائبة، لتنحني فوق فراشي وتغمغم: «اغفري لي! لم أُقدِّر حُبك حقَّ قدره!» وبهذه التخيُّلات تمكَّنتُ من هدهدة حزني حتى بلغتُ المنزل، حيث يُمكنني أن ألجأ إلى فراشي وأبكي كما أشاء.

وجدتُ جدي في غرفة المائدة، جالسًا فوق مقعدٍ من الدمقس، أحمر اللون، وساقاه الطويلتان مُمدَّدتان أمامه، وفي فمه غليون.

يعيش الآن جدي، الذي كان صائد سمكٍ في شبابه، مُتقاعدًا برفقة شقراء في الأربعين من عمرها، يدعوها بمُدبرة منزله. كان عكِر المزاج، غير مبالٍ بنظافته أو هندامه عن عمد، ساخطًا على بطالته الإجبارية (بعد أن فقد ذراعًا في حادثة)، يزدري ابنه الذي ارتقى في المراتب الاجتماعية إلى مكانة «صاحب عمل». لهذا كان يجد لذَّةً خبيثة في مُضايقة أبي بين الحين والآخر، بإغارةٍ على منزلنا يعقبها دائمًا شجار عنيف.

«حسنًا! جئتِ أخيرًا، أليس كذلك؟ اعتقدتُ أنكم هجرتُم المنزل كما تفعلون دائمًا عندما ترونني قادمًا. لكم طريقةٌ خاصة في الترحيب بالمرضى والمُعوَّقين! أين رينيه؟»

أجبتُ مُتلعثمة: «أظنُّه خرج.» فقد حالت دهشتي دون ابتكار عُذرٍ ما؛ إذ كنتُ على يقينٍ أن أبي هرب عندما علِم بمَقدِم أبيه.

قال: «بالطبع! لو لم يفعل لدُهِشت! لقد تلفنتُ هذا الصباح لأقول إني قادِم ولم تكوني بالمنزل. لو كنتِ «لخرجتِ» أنت الأخرى ولا شك.» لم أعبأ بإنكار ذلك لأني لا أُصغى عادةً لما يقوله. كنتُ ما أزال أرى تامارا تقترب منِّي دون كلمة، تبدو لا مُبالية، كما لو أننا لم نلتقِ، ولم نتبادل الحُب .. وفكرتُ فجأة: لعلَّها لم تُحبني مُطلقًا. لعلها كانت تتسلَّى وحسب، لتملأ فراغ بعد الظهر الطويل. ربما كانت تهزأ بي منذ وقتٍ بعيد. كلَّا، لم يكن هذا مُمكنًا. كانت حنونًا معي ورقيقة، أحيانًا. ذات يومٍ أحضرتُ لها زهورًا فقالت في رقَّة بالِغة: «يجب ألا تفعلي هذا أيتها الطفلة العزيزة الغبية.» وفي مرةٍ أخرى طلبَتْ منِّي أن أسجل قائمة كبيرة من الكتب لأقرأها. وتذكرت شيئًا. قالت لي ذات مرة، ونحن مُستلقيتان جنبًا إلى جنبٍ فوق أريكة غرفة المعيشة: «هذه هي المرة الأولى، يا أعز الناس، التي أشعر فيها بالسكينة منذ جئتُ إلى هذا المكان.» كانت تدعوني بأعز الناس لدَيها، بواحتها الصغيرة في الصحراء. أجل، لقد أحبَّتني فعلًا، لا شكَّ في هذا. وأراني إلى جوارها مرةً أخرى، نتمشَّى، ونقرأ سويًّا، وقد أشرق وجهها بالبهجة، وأرى من جديدٍ يدَيها الجميلتَين تسحقان أعقاب السجائر فوق المائدة، أو تحيك في حرصٍ بالِغ، كأنها ملَّاح يُصلح شراعًا. أوه، وجهها، دائمًا وجهها … لكن كيف يسعها، لو كانت تحمِل لي أقلَّ قدْر من الحنان، أن تُعاملني بهذه القسوة، وتتظاهر بأنها لم ترَني، ولا تلتفت لتتبيَّن ما إذا كنتُ ما أزال هناك، تائبة هدَّها الحزن … أجل، كنتُ أنا التائبة! فمهما حاولتُ إقناع نفسي باني لستُ مذنبةً في شيء، كنت نادمةً في أعماقي على انصرافي المفاجئ وكلماتي الغاضبة.

ومرة واحدة، بصورة فظة، منطقية، غير مُتوقعة، مثل شعاع ضوء، خطرت لي فكرة: إنها لم تُحرِّم عليَّ العودة! أنا التي فرضتُ على نفسي الحرمان بنفسي! لماذا لم أُدرك منذ ذلك اليوم البغيض، أني أستطيع العودة إلى مسكنها؟ لأني تصوَّرتُ أنها ستأخذ بجدية كلماتي القاطعة، بأني لن أزورها مرةً أخرى. عندما فُهت بتلك العبارة، شعرتُ أني نطقتُ بحكم إعدامي، وكانت تعاستي، التي تمخَّضت عن عبارة «لن أرى تامارا مرةً أخرى على الإطلاق.» من الحدة بحيث حالت بيني وبين أن أُدرك، خلال الأسبوعَين الماضِيَين، أني أنا، وليست هي، من قالتها. إذن … لعلَّها انتظرَت عودتي؟ وربما كانت تعيسةً مثلي، لكن كبرياءها منعتها من اتخاذ الخطوة الأولى؟ ربما ما زالت تُحبني! هذا الأمل، الذي انتعش، في نفس اللحظة التي اعتقدتُ فيها أنَّ كلَّ شيءٍ قد ضاع، رفع معنوياتي إلى السماء. كل شيءٍ الآن يمكن تفسيره. لقد انتظرَتْ عودتي طوال أسبوعين، ولهذا تجاهلتني بدافع من غضبها المشروع. كانت غاضبةً منِّي لأني تركتُها، ولعلَّها ظنَّت أني لم أعُد أُحبها، مثلما ظننتُ أنا أنها لم تعُد تُحبني. فهمتُ كل شيء، وصفحت عن كل شيء، واغتفرتُ كل شيء. حتى العنف الذي مارسته معي، وأثار حفيظتي، بدا لي الآن مشروعًا. لعلَّها ظنَّت أني عازفة عن إمتاعها، أو أني أشعر بالعار من صُحبتها، أو … أيًّا كان الأمر، كنتُ على استعداد لمغادرة المائدة، والاندفاع إلى رمبار دي بيجوين، لأُحيط عنقها بساعدَي، وأُحدثها عن مدى حُبي لها، وعن تعاستي، وعجزي الغبي عن الفهم. لكن ما كان بوسعي أن أترك جدي، الذي جلس هناك، يأكل في صمت، صورة مُجسَّمة للاستياء.

أكل بشراهة، ومسح شارِبَه عدة مرات؛ لأنه كان طويلًا يتخلَّل الحساء. لكنِّي كنتُ أتأمَّله في سماحة. كنتُ مذهولة من غبائي، ومُعاناتي المروعة نتيجة شيءٍ لا وجود له. وبدأت أشعر بالسعادة لأني عانيتُ إلى هذه الدرجة، طالما أنه لم يكن ثمَّة مُبرر، وطالما أني، بعد ساعة، إذا لم تكن تامارا بالخارج، سأستمتِع مرةً أخرى بالسعادة التي خِلتُ أني فقدتُها إلى الأبد، وستكون سعادتي أكثر لأني قادرة الآن على تبيُّن مداها.

نظرتُ إلى مَنكِبَي جدي الكبيرَين، ويده الوحيدة، وقد بدا ضخمًا، تعوزه رشاقة الحركة والتعبير، مثل وحش غريب، ووجهه المُغضن، وعينيه الصغيرتَين الرماديتَين الحذِرتَين، وأدركتُ فجأة أني عاجزة عن كتمان ما بقلبي:

قلت: «أتعلَم يا جدي؟ أنا جد مُغرمة بك.»

رفع رأسه في دهشة، فلم تكن عادتنا أن نتبادل كلمات الحب. سألني في شيء من التبرُّم: «أأنت مريضة؟» لكنه فيما يبدو ندم على وقاحته في الحال ومال نحوي قائلًا: «أجل يا طفلتي. وأنا مُغرم بك. ليس بك الكثير من أبيك، وتبدين أحيانًا مثل واحدةٍ من فتياتنا.» وكان يعني بذلك الصيادين، مقابل بنات أصحاب الأعمال، الأعداء. اعتبرتُ حديثه من قبيل الثناء. لكني التمستُ عذرًا، بعد الحلوى مباشرة، للانصراف.

قلت: «إنهم ينتظرونني في المدرسة الآن.»

قال: «آه! أنا أعرف ماذا تعنين بالمدرسة. حسنًا، حذارِ أن تحملي وإلا أنت تعرفين ما سينالك من أبيك!»

تضرَّج وجهي بشدة، على ما أظن. لكني لم أعبأ بنصيحته. شعرتُ أنه مسرور من فكرة قيامي بأفعالٍ ما من وراء ظهر أبي.

قلت: «وداعًا يا جدي.»

قال وهو يُمسكني من خاصرتي: «لينا، إذا واجهتكِ أي متاعب، تعالَي إلى جدِّك العجوز، وسوف يُصلح كل شيء. والآن، اذهبي أيتها التافهة التي لا تصلح لشيء.»

لم يحدُث أبدًا من قبل أن تخلَّى عن تحفُّظه. وأدركتُ أني فُزت بعطفه. وشجَّعني ذلك، إذ اعتبرته إشارةً من السماء.

مضيتُ دون إمهالٍ إلى رامبار دي بيجوين. وارتقيتُ الدرج جريًا، دون أن أُلقي نظرَتي الودودة المُعتادة إلى التماثيل الأنثوية، وضغطتُ جرس الباب. فعلتُ ذلك دون تفكير، ودون حتى أن أنتظر حتى ألتقط أنفاسي.

فتحت تامارا الباب بعد برهة.

كانت خطتي الوحيدة أن أُلقي بنفسي بين ساعدَيها، وأترك العنان لدموعي، ثم تتولى الصدفة أمر الباقي. لكنها وقفت بعيدًا، فعجزتُ عن تنفيذ ما نوَيتُه، وبقيتُ أمامها في بلادة، أُحدِّق في خطوط الأرضية. فاضت عيناها، الباردتان عادة، بنظرةٍ ساخرة. لكنها تكلَّمت، كما اعتقدت، بشيءٍ من الرقة.

«آه … ها أنتِ قد جئت!»

قلت: «أجل، فكرت .. اعتقدت …» وتلعثمت، عاجزةً عن التعبير، وأنا في مكاني عند المدخل.

تراجعَتْ إلى الوراء، مُفسحة لي الطريق، وقالت: «ادخلي لحظة.»

وجدتُ نفسي أخيرًا وسط الحجرة. وبأمل التوصُّل إلى مصالحة، خطوتُ نحو الأريكة لكنها جلست فوق ذراع مقعدٍ واستوقفَتْني قائلة: «أنا أمنعك من الجلوس. أجيبيني أولًا. هل تغلَّبتِ على نوبة غضبك الصغيرة؟ هل ندمتِ على انصرافك؟»

غمغمت: «أجل.» كانت تتأمَّلني من أعلى إلى أسفل، فشعرتُ باضطرابٍ شديد، وارتعدتُ خوفًا من ألا تتطوَّر الأمور بيننا كما تمنيت.

«تُريدين العودة؟ كأن شيئًا لم يحدُث؟»

أطرقت برأسي.

«حسنًا جدًّا. اطلُبي الصفح.»

وكانت تعبث دون اهتمامٍ بنرد.

«إذا أردتِ البقاء، فيجب أن تنحني فوق ركبتيك، وتطلُبي المغفرة.»

لم يكن هذا بوسعي. ليس بدافع الخِزي أو العناد. فلم يكن بإمكاني الركوع وسط هذه الغرفة، وأمام هذه المرأة، التي كانت تتأمَّلني بتهكُّم، وتسألني التوسُّل طلبًا للمغفرة على شيء ارتكبَتْهُ هي في حقي. هكذا وقفتُ مكاني بلا حراك، أُناشدها بعيني ألَّا تُطالبني، وأن تُدرك أني نلتُ كفايتي من العقاب لو كنتُ أستحقُّه، وأني أُحبها.

اعتدلتْ واقفة، وتقدمتْ منِّي في عزم، ودون أن تُضيف كلمة، استغلَّت بغتتي، وأمسكتني من كتفيَّ ثم دفعتني نحو الباب. وعندما صرت في الخارج، أغلقته خلفي.

بقيتُ وحدي في بئر السُّلم الذي ساده الصمت. وجاءني صوت ارتطامٍ مُتتابِع من الفناء. لا بد أن أحدًا كان ينفض سجادة. لم أعد قادرة على احتمال المزيد. فبعد ما عانيت من عذاب، راودَني الأمل المجنون، وأخيرًا هذا السقوط من جديد في هاوية التعاسة، التي لن يكون لها حدٌّ هذه المرة. فلن تتراجع عن موقفها، ومهما توسَّلتُ وناشدت، سيبقى بابها مغلقًا إلى الأبد في وجهي. إلى الأبد.

ضغطتُ الجرس من جديد. لم تفتح الباب. فالتصقتُ به: «تامارا! إنها أنا! افتحي الباب، أتوسَّل إليك! سأفعل كل ما تطلبين!»

انتظرتُ مدة طويلة في سكونٍ مُطبق. كانت في الغرفة ولا شك. فعندما دخلتُ كان الباب المؤدي إلى المطبخ مغلقًا، وما كان بوسعها أن تفتحه دون أن أسمع صوت احتكاكه بالأرض. ومعنى هذا أنها لا تزال في الغرفة، خلف هذا الجدار، وأنها سمعت صوتي. كنتُ أعرف أن أي شيءٍ يحدث عند العتبة، يُسمع بسهولة في الداخل. ومع ذلك لم تفتح لي! كانت تتعمَّد تعذيبي، وتريد أن ترى إلى متى سأبقى مُتوسِّلة أمام الباب المُغلَق. لكن ذلك لم يكن بذي أهمية كبيرة. فلن أنصرف قبل أن أراها. فما كان بوسعي أن أواجه مرةً أخرى أيامًا كتلك التي مضت. يستطيع المرء أن يتقبَّل نازلةً ما، عندما لا يُدرك كُنهها بالضبط، عندما تأتي بشكلٍ مفاجئ، وتهبط فوقك كثقلٍ هائل لا فكاك منه. لكن عندما تعرف التفاصيل الكاملة لها. وتكون قد قضيتَ أسبوعين تحت وطأتها، وعانيتَ كافة مراحلها: المرض، الآمال الزائفة، الذكريات، الانتظار القلق والمُثير للسخرية، وعندما تكون قد تجاوزت هذا الجحيم، وشعرت بأنك قد نجوت، وأصبحت على أُهبة أن تُقدِّم شفتيك لفرحٍ جديد، تكفي كلمة واحدة لأن تقضي عليك، ولهذا لا يمكن احتمالها. إذ كيف يمكنك الاحتفاظ بصفاء التفكير، كيف يمكن أن ترفض أية تضحية، أو ترفض التوقيع على حُكم إعدامك؟

توسَّلتُ إليها: «تامارا!» وفي مواجهة هذا الصمت فقدتُ كل سيطرة. كان لا بد من إجبارها على الاستجابة، ومن رؤيتها مرة أخرى، مرة واحدة أخرى. فإذا كان الفراق مُحتمًا، فلا يجب أن يتم الأمر هكذا، دون وداع، وبلا إيضاح. انتابني هياج بالِغ، وتمنَّيتُ لو أطلَقَت العنان لغضبها، وانفجرت ثائرتها، واتَّهمتْني بشيءٍ ما على الأقل!

«تامارا! افتحي الباب. سأطلب الصفح والمغفرة! تامارا! يجب أن أراك!»

ضغطتُ الجرس مهتاجة، وخَبَّطْت على الباب، وأنا أنشج وأتوسَّل. لم أعبأ بأن يسمعني السكان الآخرون، ولم تعُد تامارا نفسها بذات أهمية. فقد استحوذت عليَّ فكرة واحدة: لا بد من فتح الباب.

«سأظلُّ هنا حتى تفتحي! سأبقى طول الليل!»

غصصتُ بالدمع. وبلغ بي الأمر أن ضربتُ الباب بحذائي، ظنًّا مني أنها ستفتحه عندئذٍ اتقاءً للفضيحة. وأخيرًا، خانتني قواي، فتهاويت على أرض البسطة، وأنا أُردِّد في هيستيرية كلماتٍ غير مفهومة، وأعض منديلي، وأتمرَّغ على الأرض، وأضرب رأسي في الحائط، هذا الباب المغلق.

وفجأة، أُسْكِتُّ وشُلَّ كياني: فقد خرجَت تامارا إلى البسطة. انحنت فوقي، فأنهضتني فوق قدمي، وقادتني وهي تسندني إلى الداخل، نحو المطبخ، قامت بكل هذا في برود، أدركتُ معه أن سلوكها نابع من الضرورة. واصلْتُ البكاء في صمت، بمِثل ما واصل قلبي الدق، وكدت أختنق بدموعي المكظومة وأنا أسعل وألتقط أنفاسي. كان ثمة صنبور يَقْطرُ في بطء. كنتُ خائفة، شاعرة بالخِزي، وكلما نظرتُ إليها عاودني السعال والنشيج بشكلٍ لا إرادي. وبعد دقائق أمسكتني من رقبَتي، ودون أن تعبأ بمقاومتي، وضعت رأسي أسفل صنبور الماء البارد، بعد أن فتحته على سعته. وأخيرًا أطلقتني، وانتظرَتْ في صمتٍ حتى انتهيتُ من تجفيف وجهي وعنقي، ثم أشارت لي أن أتبعها إلى غرفة المعيشة. وهناك أومأت إلى وسط الأرضية وقالت بإيجاز: «اركعي.»

هذه المرة ركعتُ دون تردُّد. ففي تلك اللحظة كان بوسعها أن تُرغمني على أي شيء.

قلت في ذلة: «اصفحي عني!»

نظرت إليَّ لحظة.

قالت: «طيب.»

ثم تقدَّمَت مني. ظننتُ أنها تنوي الاستمرار في تعذيبي، وأنها ستصفعني، وعاهدتُ نفسي على الخضوع والقبول بكل شيء. لكنها ركعت إلى جواري، واحتوتني بين ذراعَيها، وقبَّلتني، ببطء، ودُربة وحلاوة، إلى أن دفعتني إلى الخلف، ورقدتُ بين ذراعَيها فوق الأرضية.

•••

لم أعهد مُطلقًا من قبل لذَّةً أكثر حدةً من تلك التي عرفتُها في ذلك اليوم الذي ظننتُ فيه أني فقدتها. ولم أُدرك من قبل بمِثل هذا الوضوح، مدى سلطانها عليَّ، واللذة الشريرة التي تستمدُّها من استخدامه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤