سولا «رقيقة من الذهب تحتها مرمر»

للكاتبة الأمريكية توني موريسون (الحائزة على جائزة نوبل) ١٩٧٣م
Sula by Toni Morisson 1973

عند عودتها إلى البلدة، ألفت الحديث الاجتماعي مُستحيلًا عليها؛ لأنها لا تعرف الكذب. لم يكن بوسعها أن تقول لواحدةٍ من معارفها القدامى: «أنت تبدين في أحسن حال.» بينما ترى كيف كست السنون البشرة البرونزية بالرماد، وكيف أن العيون التي كانت مفتوحةً لآخرها على القمر قد تقوَّست من الهم. وكلما ضاقت حياة الواحدة منهن، اعرضَّ حوضها. من منهنَّ لها زوج، طوت نفسها في تابوت مُنَشَّى، انتفخت جوانبه بأحلام الآخرين اللحمية ولوعاتهم العظيمة. أما اللاتي كنَّ بلا رجال، فكانت الواحدة منهن مثل إبرة نَكِدَة الطرف، تبرُز منها عين فارِغة دومًا. أولئك اللاتي كن مع رجال، امتَصَّت المواقد والقدور الحلاوة من أنفاسهن. وصار أطفالهن مثل جِراحٍ نائية لكن مفتوحة، لم يُخفِّف من ألمِها انفصالها عن لحمهن. لقد نظرنَ إلى العالم، ثم إلى أطفالهن، ثم إلى العالم، وإلى أطفالهن مرة ثانية، وأدركت «سولا» أن عينًا صافيةً شابة واحدة، هي كل ما أبقى السكين بعيدةً عن استدارة الرقبة.

كانت إذن منبوذة، وكانت تعرف ذلك. تعرف أنهم يزدرونها، وتؤمِن بأنهم يصوغون حِقدهم في قالب الازدراء للسهولة التي ترقد بها مع الرجال. فقد كانت تذهب إلى الفراش مع الرجال كلما تيسَّر ذلك. فهو المكان الوحيد الذي يُمكنها أن تجد فيه ما تبحث عنه: التعاسة والقدرة على الإحساس بالأسى العميق. لم تكن دائمًا واعيةً أن الحزن هو ما تتُوق إليه. ففي البداية، بدا لها فعل الحب، خلقًا لنوع خاصٍّ من الفرح. فكَّرت أنها تُحب سخام الجنس وكوميديته، وكثيرًا ما كانت تضحك خلال البدايات الفظة، وترفض العشَّاق الذين ينظرون إلى الجنس باعتباره ممارسةً صحية وجميلة. كانت جماليات الجنس تُثير ضجرَها. فرغم أنها لم تعتبر الجنس ممارسةً قبيحة (لأن القبح مُضجِر أيضًا)، كانت تفضل أن ترى فيه شيئًا من الأذى والشر. ومع تكرار تجاربها أدركت خطأ هذه النظرة بل وتبيَّنَت أنها ليست في حاجة لاستحضار فكرة الشر كي تتمكن من الاشتراك فيه بكلِّيتها. فقد وجدت خلال فعل الحب، وكانت في حاجة لأن تجد، الحافة القاطعة. وعندما تخلَّت عن التعاون مع الجسد وبدأت تؤكد نفسها في الفعل، تجمَّعت فيها ذرَّات من القوة، مثل شظايا الصلب المنجذبة إلى مركز مغناطيسي شاسع، وشكلت عنقودًا متلاحمًا، لا يمكن تحطيمه. كان ثمة سخرية وإهانة بالِغتان، في الرقاد أسفل شخصٍ ما، في وضع الاستسلام، بينما تشعر بقوَّتها الصامدة، وسلطانها غير المحدود. لكن العنقود تكسر، وتناثرت أجزاؤه، وفي لهفتها على لمِّ أشلائه، قفزت من الحافة إلى السكون، وهوت مُولوِلة، مولولة وقد غمرها إدراك لاذع بنهايات الأشياء: عين من الأسى في مركز إعصارٍ من الفرح. في مركز هذا الصمت، لم تكن هناك الأبدية، وإنما موت الزمن، ووحدة عميقة لدرجة تجعل الكلمة نفسها بلا معنى. لأن الوحدة تفترض غياب الآخرين، بينما العزلة التي صادفتها في حقل اليأس هذا، لم تكن تسمح بوجودهم. عندئذٍ بكت. دموع موات الأشياء الصغيرة: أحذية الأطفال المُستهلكة والمُلقاة جانبًا، السيقان المحطمة لعُشب المُستنقعات بعد أن سحقها البحر وأغرقها، صور حفلات التخرُّج لنساء مَيِّتات لا تعرفهن، خواتم زواج في نوافذ دكاكين الرهونات، الأجساد المُرتَّبة للدجاج في عشٍّ من الأرز.

وإذ ينفصل عنها جسد رفيقها، تتطلَّع إليه في عجب، محاولة أن تتذكَّر اسمه، بينما ينظر إليها من علٍ، مبتسمًا في إدراكٍ حنون لحالة العرفان الدامعة التي يعتقد أنه أوصلها إليها. وتنتظر هي في نفاد صبر أن يتحوَّل عنها، ويغرق في رضًا لزجٍ وقرف خفيف، فيتركها لخصوصيةٍ ما بعد الجماع، حيث تلتقي نفسها، تُرحِّب بنفسها، وتنضم إليها في انسجامٍ فريد.

في التاسعة والعشرين، عرفت أن لن يكون ثمة طريق آخر، لكنها لم تتوقع تلك الخطوات فوق المدخل المسقوف، والوجه الأسود الجميل، الذي حدق إليها من خلال زجاج النافذة الأزرق. أجاكس.

يبدو كما كان منذ سبعة عشر عامًا، عندما ناداها ﺑ «لحمة الخنزير». كان وقتها في الحادية والعشرين، بينما كانت هي في الثانية عشرة. كَوْنٌ من الزمان بينهما.

فتحت الباب الثقيل، وأبصرته واقفًا خلف الآخر المُنخلي، حاملًا زجاجتَين من الحليب، مدسوستَين بين ذراعَيه مثل تمثالين من الرخام. ابتسم وقال: «بحثتُ عنك في كل مكان.»

سألت: «لماذا؟»

– «لأعطيك هذه.» وأومأ إلى إحدى الزجاجتَين.

قالت: «لا أُحب الحليب.»

قال وهو يقدم إليها واحدة: «لكنك تُحبين الزجاجات، أليس كذلك؟ أليست جميلة؟»

كانت كذلك فعلًا. بدت وقد تدلَّت من أصابعه، تُؤطِّرها سماء زرقاء، ثمينة، نظيفة، ودائمة. وأيقنت أنه ارتكب أمرًا ذا خطر في سبيل الحصول عليها.

جرت بأصابعها فوق المصراع المنخلي مفكرة، ثُم فتحت له الباب ضاحكة. دخل واتجه مباشرة إلى المطبخ. وتبِعته على مهل. وما إن بلغت الباب حتى ألفته قد أزال الغطاء السلكي المُعقَّد، وترك الحليب البارد يتدفَّق في فمه.

راقبته، أو بالأحرى راقبت الإيقاع البادي في رقبته، باهتمامٍ مُتصاعد. وعندما جرع كفايته، صبَّ باقي الزجاجة في الحوض، وشطفها ثم قدَّمها إليها. تناولت الزجاجة بيد، ورسغه باليد الأخرى، وجذبته إلى حجرة المؤن. لم يكن ثمة حاجة لاستخدام تلك الغرفة، لأن أحدًا لم يكن بالمنزل، لكن الإيماءة صدرت عن ابنة أُمِّها بصورة طبيعية. وفي غرفة المؤن الخالية الآن من زكائب الدقيق، المُجردة من حبال الحبَّات الصغيرة للفلفل الأخضر، قابضة بشدَّة على زجاجة الحليب المُبتلة بساعدها، وقفت مُنفرجة الساقين لصق الحائط، واستخرجت من وركَيه كل ما استطاع فخذاها أن يستوعِبا من لذَّة.

•••

أصبح يأتي بانتظام، حاملًا هدايا: عناقيد من التوت الأسود ما زالت فوق فروعها، أربع سمكاتٍ مقلية ملفوفة في صفحةٍ من جريدة «بتسبرج كوريير» بلون سمك سليمان، حفنة من السمك صغير الحجم والسن، صندوقَين من شراب الليمون، قطعة ضخمة من ثلج العربات، علبة منظف «أولد داتش» بصورة المرأة ذات القلنسوة التي تطرد الوسَخ بعصاها، صفحة من مجلة للقصص المصورة، ومزيدًا من زجاجات الحليب البيضاء البراقة.

على عكس ما قد يتبادر إلى الذهن، عندما يُشاهَد مُتسكعًا حول حمَّام السباحة، أو صارخًا في مستر «فينلي»؛ لأنه ضرب كلبه (كلب مِستر فينلي)، أو موجِّهًا كلمات الغزل البذيئة للمارَّات، كان أجاكس رقيقًا للغاية مع النساء. وكانت نساؤه، بالطبع، يعرفنَ ذلك، الأمر الذي قادهنَّ للاشتباك في معارك ضارية حوله، فكثيرًا ما خضَّبَت النسوة — لحيمات الأفخاذ، المُتشاجرات بالسكاكين — ليالي الجمع بالدماء، واجتذبن الجموع الهادرة. وفي تلك المناسبات، كان أجاكس يقِف بين المُتجمهِرين، يتفرج على المُتقاتلات — بنفس اللامبالاة — من عيونه الذهبية التي يتابع بها الرجال المُسنِّين وهم يلعبون الداما. ففيما عدا أمه، التي تقبع في عشتها مع ستة أبناء صغار، عاكفين على جذور النباتات، لم يلتقِ أجاكس في حياته امرأةً جديرة بالاهتمام.

لم تكن رقته مع النساء في عمومها، طقسًا من طقوس الغواية (فلم تكن لدَيه حاجة لذلك)، وإنما عادة اكتسبها من تعامله مع أُمِّه، التي بثَّت في أولادها روح الكرم والمُراعاة لمشاعر الآخرين.

كانت تمارس السحر، وحظيت بسبعة أطفال مُحبين، يستمدُّون البهجة من تزويدها بما تحتاجه من نباتات، وشَعْر، وملابس داخلية، وقلَّامات أظافر، ودجاج أبيض، ودماء، وكافور، وصور، وكيروسين، وتراب الأقدام، وبأن يطلبوا لها من مدينة «سينسيناتي» «فان فان»، و«هاي جون» الفاتح، و«ليتل جون» من أجل المضغ، وأربطة حذاء الشيطان، والطمي الصيني، وبذور المستردة، والأعشاب التسعة.

كانت عليمة بأمور الجو، والنذُر، والأحياء، والموتى، والأحلام، وكافة الأمراض، وتكسب عيشًا مُتواضعًا من هذه المهارات. ولو كانت لها أسنان، أو استقام ظهرها وحسب، لصارت أبهى وأروع ما تحمل البسيطة، جديرة بأن يعبدها أولادها لجمالها وحدَه، فضلًا عما تُتيحه لهم من حُرية مُطلِقة (مما يُعرَف في بعض الدوائر بالإهمال)، وثقل معارفها الجليلة.

أحب أجاكس هذه المرأة ومن بعدها الطائرات. ولم يكن ثمة شيء بينهما. فإذا لم يكن مسحورًا بالاستماع إلى كلمات أُمِّه، تراه يُفكر في الطائرات والطيارين، والسماء العميقة التي تحمل الاثنَين. وظن الناس أن رحلاته الطويلة إلى المدن الكبيرة في الولاية، تهدف إلى قضاء أوقاتٍ بالِغة المُتعة يعجزون عن تخيُّلها لكنهم يحسدونه عليها وحسب، بينما يكون في الواقع مُنحنيًا فوق الأسلاك الشائكة للمطارات، أو متسللًا بين حظائر الطائرات كي يستمع إلى حديث الرجال الذين أسعدهم الحظ بالانتماء إلى هذا العالم. وما تبقى من وقتٍ كان يقضيه في الشواغل العادية لعازبٍ بلا عمل في مدينةٍ صغيرة. وكان قد سمع الحكايات الرائجة عن «سولا»، فثار فضوله، وذكرته مراوغاتها، ولا مُبالاتها بعادات السلوك المُستقرة، بأُمِّه التي كانت صلبةً في إيمانها بالسحر والتنجيم، مثلما كانت نساء طائفة القديس «ماثيو» الأعظم في إيمانهن بفضيلة التخليص من الخطيئة بتضحيةٍ لصالح الطرف الآثِم. وما إن بلغ فضوله الحد الضروري، حتى التقط زجاجتي حليب من شرفة أسرة بيضاء، ومضى إليها، معتقدًا أنها المرأة الوحيدة، عدا أُمه، التي تمتلك حياتها، وتتعامل مع الحياة بكفاءة، ولا تبالي بإيقاعه في حبائلها.

كانت «سولا» هي الأخرى تشعر بالفضول. لم تكن تعرف عنه شيئًا، سوى الكلمة التي ناداها بها منذ سنوات، وما أثاره لدَيها وقتئذٍ من مشاعر. وكانت قد ألفت الكليشيهات التي تمتلئ بها حيوات الآخرين، وضاقت ذرعًا ببلدة «ميداليون». ولو كانت فكَّرت في مكان تذهب إليه، فربما كانت قد رحلت، لكن هذا كله كان قبل أن ينظر إليها عبر الزجاج الأزرق، ويقدم إليها الحليب، عاليًا، كنصبٍ تذكاري.

لكن الهدايا لم تكن هي التي دفعتها إلى احتوائه بين ساقَيها. كانت الهدايا فاتنة بالطبع (وخاصة برطمان الفراشات التي أطلقها في المخدع)، لكن مُتعتها الحقيقية نبعت من تحدُّثه إليها. كانت لهما محاورات حقيقية. لم يتعال عليها، أو يحطَّ من شأنها، ولا اكتفى بأسئلةٍ صبيانية عن حياتها، أو بمنولوجات عن نفسه. فقد اعتقد أنها ربما مُتقدة الذكاء مثل أمِّه، ولم تُخيب ظنه. وفي كل محاوراتهما، كان يُصغي أكثر مما يتكلَّم. وكان من شأن استمتاعه الواضح بصحبتها، واستعداده الكسول لأن يُحدثها عن الأرواح الشريرة وقوى النباتات، وعزوفه عن معاملتها كطفلةٍ أو محاولة حمايتها، وافتراضه أنها صلبة العود، قادرة؛ كل هذا بالإضافة إلى وجدان يتميز بالكرم ونادرًا ما ينفث حمم الانتقام، هو ما أبقى على اهتمام سولا وحماسها.

كانت فكرته عن الجنة (على الأرض مقابل جنة السماء) لا تتعدَّى حمَّامًا طويلًا في مياهٍ شديدة السخونة، وقد استندت رأسه إلى الحافة البيضاء الفاترة، وأغمض عينَيه في حلم يقظة.

وقفت في مدخل الحمَّام، تتطلَّع إلى ركبتَيه اللامعتَين، البارزتَين فوق سطح مياه الصابون الرمادية: «النقع في المياه الساخنة يُسبِّب لك آلام الظهر.»

أجابها: «النقع في «سولا» هو الذي يؤلم ظهري.»

– «هل هو يستحق؟»

– «لا أعرف بعد. اذهبي.»

– «طائرات؟»

– «طائرات.»

– «هل يعرف ليندبرج١ شيئًا عنك؟»

– «اذهبي.»

تركته، وانتظرته في فراش إيفا المرتفع، وقد استدارت برأسها إلى النافذة المُغطاة بألواحٍ من الكرتون. كانت تبتسِم وهي تُفكر أنه مثل «جود» يعشق القيام بعمل الرجل الأبيض، عندما جاء التوأمان بأسنانهما الجميلة وقالا: «نحن نشكو المرض.»

أدارت رأسها ببطء وغمغمت: «اشفيا.»

– «نحتاج بعض الأدوية.»

– «ابحثا في الحمام.»

– «أجاكس هناك.»

– «إذن انتظرا.»

– «نحن مريضان الآن!»

انحنت ومدَّت يدَها أسفل الفراش، والتقطت حذاء، قذفتهما به. صرخا: «ماصة …» قفزت من الفراش عاريةً مثل كلب فناء. وأمسكت التوءم ذا الشعر الأحمر من قميصه ورفعته من عقبَيه فوق السياج حتى بال على نفسه. وانضمَّ إلى الثاني ثالث، وأخذا يبحثان في جيوبهما عن حجارة، ويقذفانها بها. انحنت لتتفاداها وهي تترنح من الضحك، وحملت الولد المُبلَّل إلى المخدع، وعندما تبعها الآخران، بلا أسلحة عدا أسنانهما، ألقت به فوق الفراش، وبحثت في كيس نقودها. أعطت كلًّا منهم دولارًا، اختطفوه، وهبطوا السُّلَّم جريًا إلى حانوت «ديك» ليبتاعوا دواء السعال الذي يعشقونه.

دلف أجاكس إلى الغرفة والمياه تتساقط منه، واستلقى فوق الفراش، تاركًا للهواء مهمة تجفيفه. ولزم الاثنان السكون مدةً طويلة قبل أن يمدَّ يدَه ويلمس ذراعها.

كان يُحِب أن تركبه حتى يُمكنه أن يراها فوقه، ويُوجِّه إليها، مواجهة، البذاءات الرقيقة. اهتزَّت وتأرجحت، مثل صنوبرة من «جورجيا» فوق ركبتَيها، عالية فوق الابتسامة الغاربة، المُتلاشية، عالية فوق العيون الذهبية وقلنسوة الشعر المخملية، مُهتزَّة، مُتأرجِحة، وهي تُركز أفكارها لتصدَّ الاعتلال الذي كان ينتشر في فخذَيها. تطلَّعَت إلى أسفل، أسفل مما بدا علوًّا سامقًا، إلى رأس الرجل الذي كانت ملابسه الجبردين، ذات اللون الأصفر الليموني، هي أول مشاعر جنسية عرفتها. تاركةً أفكارها تدور حول وجهه، من أجل أن تكبح، مدةً أطول، اندفاع جسدها نحو صمت الأورجازم العالي.

(لو أنا تناولتُ قطعةً من جلد الشامواه، ودعكتُ بشدةٍ العظمة، بالضبط فوق عظمة خدِّك، فإن بعض الأسوَد سيتلاشى. سوف يتقشَّر ويعلق بالشامواه، كاشفًا عن رقيقة من الذهب. يُمكنني رؤيتها تلتمع خلال السواد. أعرف أنها هناك).

كم بلغ سموقها فوق جسده، الصولجان النحيل، كم كانت مُراوغة ابتسامته الزلِقة.

(ولو أنا أخذت مبرد أظافر، أو حتى قشارة إيفا القديمة — فهي تصلح — وكشطتُ الذهب، سيتساقط كاشفًا عن مرمر. فالمرمر هو الذي يُعطي وجهك تدرُّجاته واستداراته. هو السبب في أنَّ ابتسام فمك لا يبلغ عينيك. فالمرمر يُعطيه وقارًا يُقاوم الابتسامة الكلية).

أصابها العلوُّ والأرجحة بالدوار، فانحنت، وتركت ثدييها يحكَّان صدرَه.

(عندئذٍ ألتقط أزميلًا، ومطرقة صغيرة، وأنقر فوق المرمر لأكشطه، سيتصدَّع عندئذٍ كما يفعل الثلج أسفل المِعول. وخلال الشقوق سألمح الطَّفْلَة، خصبة، خالصة من الحصى وأغصان النباتات. لأن الطَّفلة هي التي تُكسبك تلك الرائحة).

انزلقت يداها تحت إبطيه؛ لأنها أدركت عجزها عن الحيلولة دون انتشار الكلل الذي شعرت به أسفل جلدها إلا إذا استندت إلى شيءٍ ما.

(سوف أدسُّ يدي عميقًا في تُربتك، وأرفعها، وأنخلها بأصابعي، مُتلمِّسة سطحَها الدافئ وقشعريرة الندى تحته).

أراحت رأسها أسفل ذقنه، وقد ضاع كل أملٍ في صدِّ أي شيء.

(لسوف أروي تُربتك، وأحفظها غنية مُبللة. لكن بأي مقدار؟ كم من المياه تكفي للمحافظة على بلل الطَّفْلة؟ وكم يعوزني من الطَّفْلَة لكبح مياهي؟ ومتى تصنع الاثنتان طينًا؟)

ابتلع فمها، كما ابتلع فخذاها أعضاءه، وساد المنزل هدوء بالِغ.

•••

بدأت «سولا» تكتشف معنى الامتلاك. ليس الحب، ربما، وإنما الامتلاك، أو على الأقل، الرغبة فيه. روَّعها هذا الشعور الجديد عليها والغريب. في البداية، كان الصباح الذي سبقته تلك الليلة، عندما تساءلت عما إذا كان سيمرُّ عليها بالنهار. وبعد ظهر يوم آخر وقفت أمام المرآة، تتلمَّس بأصابعها خطوط الضحك حول فمها وتُحاول أن تقدِّر مدى جمالها. وانتهت من هذا البحث العميق بتجربة شريطٍ أخضر في شعرها. أحدث الحرير الأخضر عندما مرَّرته في شعرها همسةً مُتموجة، أشبه بضحكةٍ خافتة صادرة عن أُمها، هُس بطيئة خفيفة من الأنف، اعتادت أن تُصدرها عندما يَسرُّها أمر. مثل جلوس النساء ساعتَين أسفل مكواة الشعر، ليتساءلن بعد يومَين عن قرب احتياجهن لموعدٍ جديد. وأعقب ربط الشريط نشاط آخر. وعندما جاء أجاكس في المساء، جالبًا لها مزمارًا من القصب نحتَه لها بنفسه في الصباح، لم تكن بالشريط الأخضر وحسب، وإنما كان الحمَّام يلمع، والسرير مُرتبًا، والمائدة مُعدَّة لاثنَين.

أعطاها مزمار القصب، وفك رباط حذائه ثم جلس في مقعد المطبخ الهزَّاز.

اقتربت منه وقبَّلت فمه. وتحسَّس هو مؤخِّرة عُنقها بأصابعه.

سألها: «أُراهن أنك لم تفتقدي ابن القطران، أليس كذلك؟»

قالت: «أفتقده؟ كلَّا، أين هو؟»

ابتسم للامُبالاتها اللذيذة: «في السجن.»

– «منذ متى؟»

– «السبت الماضي.»

– «أمسكوه ثملًا؟»

– «أكثر من ذلك قليلًا.» ومضى يحكي لها اشتباكه في إحدى بلاوي «ابن القطران».

لم يبدُ عليه أنه مُنزعج كثيرًا لما حدث. الضيق فقط وعدم الارتياح. فقد سبق له الاحتكاك بالشرطة عدة مرات، أغلبها في غارات القمار، ويُعتبَر ذلك من المخاطر الطبيعية في الحياة الزنجية.

لكن سولا، بالشريط الأخضر اللامع في شعرها، غمرها الشعور بوقع العالَم الخارجي عليه. فاستقرَّت على ذراع الكرسي الهزَّاز، وتخللت مخمل شعره بأصابعها وهي تغمغم: «استند عليَّ.»

طرف أجاكس بعينَيه. ثم ألقى على وجهها نظرةً سريعة. كان في كلماتها، وصوتها، نغمة يعرفها جيدًا. ولأول مرة رأى الشريط الأخضر. وتطلع فرأى المطبخ يومِض، والمائدة مُعدَّة لاثنين، والتقط رائحة العش. انتصبت كل شعرة فوق جسده، وعرف أنها سرعان ما ستُوجِّه إليه، ككل شقيقاتها اللاتي سبقْنَها، السؤال-الإنذار: «أين كنت؟» وغامت عيناه بأسفٍ عابر.

نهض واقفًا، وارتقى الدرجات معها، وَلَج الحمَّام الناصع، الذي أُزيل الغبار من أسفل حوضه. كان يحاول أن يتذكر تاريخ العرض الجوي في «دايتون». وعندما دخل المخدع، رآها راقدةً فوق ملاءات بيضاء جديدة، محفوفة بالرائحة المُميتة لكولونيا مُستخدَمة في التو.

جذبها أسفله، وأحبَّها بكل العزم والحدَّة، القمينَين برجلٍ على وشك الرحيل إلى «دايتون».

•••

بين الحين والآخر، تنظر حولها، تتطلَّع حولها، بحثًا عن دليل ملموس، يؤكد لها أنه كان هنا. أين ذهبت الفراشات؟ التوت البرِّي؟ المزمار القصبي؟ لم تجد شيئًا من ذلك، لأنه لم يترك غير غيابه المُدوِّخ المُذهل. غياب زُخرفي، مُنمق، يحُول بينها وبين أن تفهم، كيف أمكنها أن تتحمل — دون أن تتهاوى ميتة، أو تتلاشى — حضورَه الفائق الروعة.

لم تكن المرآة المجاورة للباب مرآة بجوار الباب، وإنما مذبح وقف أمامه لحظة، قبل أن يُغادر، ليرتدي قلنسوته. الكرسي الهزاز الأحمر، كان هزازًا لفخذَيه عندما جلس في المطبخ. ومع ذلك، لم يكن ثمة شيء منه، من ذاته، يمكن العثور عليه. كأنما خشيت أن يكون الأمر مجرد هلوسة، وأرادت برهانًا على الحقيقة. كان غيابه في كل مكان، يلسع كل شيءٍ يُعطي الفرش ألوانه الأولية، وأركان الغرف خطوطًا حادة، والغبار الذي تجمع فوق سطوح الموائد ضوءًا ذهبيًّا. أثناء حضوره كان يجتذب كل شيءٍ نحوه. ليس فقط عينَيها، وكل حواسِّها، وإنما أيضًا الأشياء المجردة من كل حياة، بدت وكأنها تدين إليه بوجودها، ستائر خلفية لمسرح حضوره. والآن وقد ذهب، فإن هذه الأشياء التي طغى عليها حضوره طويلًا، قد غمرها السحر في أعقابه.

وذات يوم، بينما هي تُنقِّب في أحد الأدراج، عثرت على ما كانت تبحث عنه، البرهان: رخصة قيادة. كانت تحمل كل ما احتاجت إليه تمامًا من أجل التثبت. المواصفات الأساسية: الميلاد ١٩٠١م، الطول ٥٫١١، الوزن ١٥٢ رطلًا، العيون عسلية، الشعر أسود، اللون أسود. أجل، البشرة سوداء. شديدة السواد. سوداء لدرجة أن الدَّعك طويلًا وبعناية بالصوف الفولاذي، سيُزيل اللون، لتتجلى لمعة رقيقة الذهب، وتحتها المرمر البارد، وأسفله، تحت خالص أسفل المرمر البارد، مزيد من السواد، لكنه هذه المرة سواد الطَّفْلَة الدافئة.

لكن ما هذا؟ ألبرت جاكس؟ اسمه ألبرت جاكس؟ أ. جاكس. وكانت تظنُّه أجاكس. كل تلك السنوات. منذ اللحظة التي مشى فيها إلى جوار قاعة السباحة، وأشاحت عنه بعينَيها وقد جلس مُنفرج الساقين فوق مقعد خشبي، أشاحت بعينَيها لتتجنَّب الفضاء الواسع من الترتيب المُفرِط بين ساقَيه، الفضح الذي لا يحمل أية علامة، لا علامة على الإطلاق، للحيوان الرابض في بنطلونه، أشاحت بعيدًا عن منخرَيه المُتغطرسَين، والابتسامة التي ظلَّت تنزلق وتهوي، تهوي حتى أرادت أن تمدَّ يدَها وتُمسك بها قبل أن تبلغ الرصيف، وتتلطخ بأعقاب السجائر وأغطية الزجاجات، والبصاق، أسفل قدمَيه، وأقدام الرجال الآخرين الذين جلسوا أو وقفوا خارج القاعة، يصيحون ويُغنون لها هي و«نيل» والنساء البالغات أيضًا، أناشيد مثل «لحم الخنزير»، و«السكر العسلي»، و«يا إلهي، ماذا فعلت لأستحق الغضب» و«خذني أيها المسيح، فقد رأيت الأرض الموعودة»، و«تذكَّرني يا إلهي»، بأصواتٍ متلعثمة، رقَّقتها عاطفة فقدت الأمل. حتى وقتئذ، عندما كانت هي و«نيل» تحاولان جاهدتَين ألا تحلُما به، وألا تفكرا به عندما تلمسان النعومة الملساء تحت ملابسهما الداخلية، أو تحلَّان ضفائر شعرهما بمجرد أن تُغادرا المنزل، ليتموَّج ويتطاير حول آذانهما، أو يلفَّا الأربطة القطنية حول صدرَيهما، حتى لا تخترق الحلمات قماش البلوزتَين، فتعطيه ذريعةً لأن يبتسم ابتسامته المُنزلقة الهاوية، التي ترسِل الدماء في بشرتَيهما. وحتى فيما بعد، عندما رقدت لأول مرة مع رجل، ونطقت اسمه مُكرهة، أو قالته وهي تَعنيه (هو)، لم يكن الاسم الذي تهتف به وتتلفَّظه هو اسمه على الإطلاق.

وقفت وبين أصابعها قطعة بالية من الورق وقالت بصوتٍ مرتفع، مُخاطبةً لا أحد: «لم أعرف حتى اسمَه. وبما أني لم أعرف اسمه، فليس هناك ما عرفتُه، ولم أعرف شيئًا على الإطلاق منذ كان الشيء الوحيد الذي أردتُ أن أعرفه هو اسمه، فكيف إذن لا يتركني وقد كان يُمارس الحب مع امرأةٍ لا تعرف حتى اسمه.»

– «وأنا طفلة، كانت رءوس عرائسي المصنوعة من الورق تنفصل عن أجسادها، ومضى وقتٌ طويل قبل أن أكتشف أن رأسي أنا لن يقع إذا ما أحنيتُ عنقي. اعتدتُ أن أمشي برأسٍ متصلبٍ خوفًا من أن تنقصف رقبتي إذا ما هبَّت عليها ريح قوية أو تعرضت لدفعةٍ شديدة. «نيل» هي التي صحَّحَت لي أوهامي. لكنها كانت مُخطئة. فلم يكن رأسي مُتصلبًا بالقدر الكافي عندما التقيتُه، ففقدته مثل العرائس.»

– «حسن إنه رحل. فسرعان ما كنت سأمزِّق اللحم عن وجهه لأتأكد من أمر الذهب، وما كان أحد ليفهَم هذا النوع من الفضول. كانوا سيعتقدون أني أردتُ إيذاءه، كما حدث مع الصبي الصغير الذي سقط فوق السُّلَّم وكُسِرَتْ ساقه، وظن الناس أني دفعته، لمجرد أني انحنيتُ فوقه أتفحَّصها.»

زحفت إلى فراشها، ورخصة القيادة بين أصابعها، واستغرقت في نومٍ مُفعم بأحلامٍ زرقاء مُخضرة.

وعندما استيقظَت، كانت في رأسها نغمة لم تتمكن من تمييزها، ولم تتذكَّر أنها سمِعَتها من قبل. فكرت: «لعلني ابتدعتُها.» ثم تذكرت؛ اسم الأغنية وكل كلماتها كما سمِعَتْها من قبل مراتٍ عديدة. جلست على حافة الفراش تفكر: «لم تعُد هناك أغانٍ جديدة، وقد غنَّيتُ كل ما هو موجود منها. غنَّيتُها كلها. كل الأغاني الموجودة.» وعاودت الرقاد، ومضت تترنَّم بنغمةٍ قصيرة نشاز تتألَّف من كلمات «غنيتُ كل الأغاني، كل الأغاني، غنيتُ كل الأغاني الموجودة.» حتى تأثَّرتْ بتهويدتها، فنعسَت، وفي غور حافة النوم ذاقَتْ طعم الذهب الحريف، وشعرت بقشعريرة المرمر، واشتمَّت النتانة السوداء الحلوة للطَّفْلَة.

١  شارلس ليندبرج، أول طيار يعبُر الأطلنطي بمُفرده سنة ١٩٢٧م. وتجري أحداث القصة في سنة ١٩٣٩م. (المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤