القلب النازف

للكاتبة الأمريكية مارلين فرنش (١٩٨٠م)
The bleeding heart by Marlyn French (1980)

(«دولوريس» أستاذة جامعية أمريكية في الخامسة والأربعين من عمرها، مُطلقة ولها طفلان، طويلة، نحيفة، ينحني كتفاها دائمًا إلى الأمام «كأنما تُحاول حماية ثدْيَيها أو قلبها.»

منذ البلوغ، اعتبرت النشاط الجنسي عبوديةً للجسد، فنظرت إليه بامتعاض. لكنها تعلَّمت على مرِّ الأعوام، أن تثق بجسدها: «فهو الشيء الوحيد الذي يُنبئك بالصدق. العقل يكذب، لكن الجسد لا يفعل.»

تحصل على منحة دراسية في جامعة «أوكسفورد» الإنجليزية لمدة عام. وفي القطار تلتقي «فيكتور»، نائب مدير شركة أمريكية كبرى للإلكترونيات، في نفس عمرها، مُتزوج وله أطفال، جاء إنجلترا ليفتح فرعًا لشركته.

تنشأ بين الاثنين علاقة. وتُحدِّثه عن ماضيها فتقول إنها التزمت العفة عدة سنوات: «مررتُ بفترة سيئة مع رجلٍ كنتُ مجنونة بحُبه. أو ظننتُ أني مجنونة بحُبه. ولم تندمِل جراحي لبعض الوقت. ثم بدأتُ أعمل في كتابي الثاني، عن صور المرأة في أدب عصر النهضة .. واستحوذ هذا العمل على كل كياني، وملأني بالغضب .. الغضب مما ارتُكب في حق النساء. وبالإضافة إلى ذلك، كان الكتاب يأخذ كل وقتي؛ كل الوقت الذي لا أقضيه في التدريس ورعاية الطفلَين، اللذَين كانا في دور المراهقة وقتها، والعناية بالمنزل، والتنظيف، والطهي .. لم يكن لديَّ وقت لأي شيء آخر .. هكذا انتقلت إلى مرحلة العفة».)

سرعان ما اتخذت حياتهما معًا نسقًا واضحًا، روتينيًّا، وهو ما كانت دولوريس تفزع منه. لكن شهرًا انقضى دون أن تتعرَّض علاقتهما لشيء. كانت لفيكتور شقة في لندن تدفع شركته إيجارها. وكان يقضي بها أغلب ليالي الأسبوع، ثم يأتي إلى «أوكسفورد» ليقضي معها نهاية الأسبوع. وعندما تطلَّب عملها أن تتردَّد على المتحف البريطاني يومَين، أقامت معه في لندن. وعندما طرأ له عمل في أوكسفورد، أقام في فندق «رادولف» وصار يأتيها في الأمسيات. ولم يحدُث أن أخذها معه إلى الفندق. لاحظت ذلك.

أحيانًا سيُضَطر إلى القيام برحلات عمل إلى «مانشستر» أو «بيرمنجهام» «أوليدز». وأحيانًا إلى القارة. ذكر لها هذا في سرور. ألن يكون الأمر رائعًا لو ذهبنا سويًّا؟ سيستأجر سيارة، وينطلِقان بها. سيكونان معًا، ويشاهدان شيئًا من إنجلترا.

تراجعت قليلًا إلى الوراء: «أجل .. أظن ذلك .. وقتًا ما …»

– «ألا تُريدين؟» غير مُصدق.

– «أجل .. سأُحب ذلك .. عندما أستطيع.»

– «وما الذي يمنعك؟»

– «فيكتور. عندي عمل لا بد من القيام به. لديَّ سنة واحدة فقط هنا، ومادة كثيرة تتطلَّب الدراسة.»

– «ألا يُمكنكِ أن تأخذي عملك معك؟ أنت تعملين هنا.» وأشار إلى مائدة غرفة المعيشة التي تكومت فوقها المذكرات، وبطاقات الأرشفة.

– «أحيانًا. الأمر يتوقف على النقطة التي أُعالِجها. أحيانًا لا بد من العمل في المكتبة.»

لزم الصمت، عابسًا، بينما كانت تعض شفتها من الداخل.

قال أخيرًا: «لدَينا فسحة ضئيلة من الوقت. وأريد أن أستغلَّ كل دقيقة، كل دقيقة تُتاح لنا.»

– «وأنا أيضًا. لكني لا أطلُب منك أن تنتزع أيامًا من عملك.»

– «الأمر مختلف.»

– «لماذا؟» دائمًا الأمر مختلف عندما يتعلق بالمرأة. فأيًّا كان ما تفعله، فهو بغير أهمية. «تود» الذي كان يتوسَّل إليها أن تدق له رسالته على الآلة الكاتبة. وتقول له: «عندي امتحان تخرُّج.» فيرد: «الأمر مختلف. فليس لدَيك موعد نهائي.» وكان ذلك هو نهاية تلك العلاقة.

قال: «لا حيلة لي في نظام حياتي. فهو مفروض عليَّ من الخارج. فيجب أن أكون في أماكن مُعينة في أوقاتٍ مُعينة. أما أنت فتملكين تنظيم وقتك كما تشائين.»

قالت في فتور: «العمل هو الذي يُنظم حياتي.»

نهض واقفًا ومضى إلى المطبخ. كان بوسعها أن تسمَعَه وهو يُعد القهوة. وانصرفت إلى أوراقها.

عاد بفنجانٍ واحد من القهوة، وجلس في طرف الحجرة، عابسًا.

توقفت عن العمل ونظرت إليه. «فيكتور. ما قولك لو طلبتُ منك أن تتغيَّب يومَين عن عملك لنذهب إلى «الدبرج» حيث نقضي عطلة نهاية أسبوع طويلة؟»

– «أين؟»

– «الدبرج. أي مكان.»

– «سأقول إني سأرى. سأحاول.»

– «حسنًا. هذا هو ما قلته أنا لك.»

قال عابسًا: «أوكي.»

قالت ساخطة: «ماذا تريد مني؟»

– «لا شيء. لا شيء.» يُحاول أن يبدو شهيدًا!

– «أنت معتاد على المرأة التي تُلقي بما في يدِها بمجرد أن تُناديها. أليس كذلك؟ هل لدَيك صفارة؟» شريرة.

حملق فيها مُغضبًا: «لم أحتَجْ لواحدةٍ أبدًا.» شرير مُضاد.

لكنها ضحكت، فضحك بدَوره، في شيءٍ من المرارة والعناء، مُرتبكًا.

قال: «أوكي. ستحاولين. ما رأيك في الثلاثاء والأربعاء القادِمَين؟ عليَّ أن أذهب إلى برمنجهام.»

– «سأحاول. سأحاول.»

بشفتَين مُطبقتَين: «متى تعتقدين أنه سيكون بوسعك إخباري؟ لأني سأذهب بالطائرة إن لم تأت؛ فهي أسرع. ثم هناك الترتيبات والحجز واستئجار سيارة.»

– «سأعرف يوم الجمعة. سأرى قدْر ما أنجزت، والنصوص التي يتعيَّن عليَّ مراجعتها.»

– «سيكون هذا متأخرًا بعض الشيء.»

– «إذن قُم بالعمليتَين. احجز في الطائرة وفي السيارة. ثم ألغِ الحجز الذي لن تحتاجه.»

– «لست في حاجة لمساعدات في إيجاد مخرج، شكرًا.»

عادت إلى عملها نافدة الصبر. وجلس يحتسي القهوة، وقد تناثرت أوراقه على الأرض إلى جوار مقعده، بينما استقرَّت حقيبة أوراقه فوق المقعد الوطيء. وفجأة ركل المقعد.

رفعت بصرَها إليه. إنه يتصرف حقًّا كالأطفال.

قال: «أعرف، أعرف. أفهم، لكني لم أعتد ذلك بعد. سيستغرق الأمر بعض الوقت حتى آلَفه.»

– «تألف ماذا؟»

– «أنت! دماغك المُتصلبة.»

– «دماغي المُتصلبة!» مجرد الرغبة في إنجاز العمل؟

ابتسم في بذاءة: «عنادك إذن!»

بادلته الابتسامة البذيئة: «كل ما عليك أن تألفه هو قليل من المرونة.»

– «أوكي، أوكي.» وركل المقعد حتى قَلَبَه. «لقد سئمتُ هذه الأوراق. تعالَي نخرج ونتريض قليلًا.»

تصلَّب ظهرها. كانت في وسط شيء وتريد أن تنتهي منه.

قالت: «أوكي.»

نهضا واقفَين، وتقدم منها فوضع يدَه على ظهرها.

– «للأمانة يا لوري، لم أقصد مُضايقتك.»

– «ألم أطلب منك ألا تُناديني بهذا الاسم؟»

– «أنا أُحبه. ألا يمكنك أن تكوني مرنةً قليلًا أنت الأخرى؟»

– «بشأن اسمي؟» يظن الرجال أن بوسعهم إطلاق ما يشاءون من أسماء على النساء، لأن هذا ما فعله آدم. وبهذا يعطون المرأة الشكل والوظيفة اللذين يريدونهما لها. «طوال أعوام زواجي، لم يدعُني زوجي باسمي مُطلقًا.»

– «كيف كان يدعوك إذن؟»

– «حسب الأحوال. عسل، وحلوة، أو فاجرة وعاهرة.»

ضحك: «خطيئة لم أرتكبها.»

– «لكنك فعلت. لوري. إنها تحطُّ من شأني.»

– «إنها تُعبر عن الحب.»

– «لوري. جودي. جيل. بانسي. أسماء فتيات صغيرات. نحن نُعطي النساء أسماء لا يمكنهن أن ينضجنَ وينمون معها. هل بوسعك أن تتصور سيدة في التسعين من عمرها تُدعى «جودي»؟ أو «جيل» بصلعة وعكاز؟ أو«دونا» تخلع أسنانها الصناعية؟»

– «يمكنكِ أن تُناديني بما شئتِ من أسماء، وسأستجيب لك دائمًا.» وابتسم مُتظاهرًا بالعُهر، ثم مضى إلى الصالة ليجلب سترتَيهما.

ابتسمت في خبث: «وماذا عن أنتوني؟»

– «ماذا قلت؟» بصوتٍ غير واضح من بين المعاطف. عند باب المسكن. «ماذا؟ أوه، اسم زوجك؟»

ورأى ابتسامتها، فانفجر ضاحكًا، وانقض عليها، وصارعها إلى أن أوقعها أرضًا، وكانت تلك هي نهاية التمشية المقترحة.

•••

في النهاية، مضت معه إلى برمنجهام. انطلقا فوق طرق السيارات، مُخترقَين الأراضي الإنجليزية الخضراء. كانت الأبقار تستريح فوق سهولٍ من المخمل الأخضر، بينما انتصبت في الأفق مداخن بيضاء .. أجزاء من مولدات كهربائية، وبالقُرب أبراج كهرباء تحمل أسلاكًا سميكة مُتأرجحة.

قالت وهي تُومئ إلى المشهد: «إنهم يفعلون ذلك أفضل منا .. أقصد الجمع بين الصناعة والأرض الزراعية.»

– «في بعض الأماكن. لكن معدل الإنتاج لديهم لا يرقى إلى مَثيله عندنا أبدًا.»

– «من السهل أن تكون فعَّالًا وأكثر كفاءة عندما تريد شيئًا واحدًا وحسب.»

رمقَها بنظرة سريعة: «ماذا تعنين؟»

– «إذا كان الربح هو كل ما يعنيك، يمكن أن تحصل عليه بسهولة. أما إذا كنت تهتمُّ أيضًا بأمر الأرض التي تُلوثها، والناس الذين تُسمِّمهم، وبسلامة المُنتج الذي تصنعه، لن يكون الأمر سهلًا. فأمامك أهداف عديدة، ولا بد أن تكون دائريًّا لا خطِّيًّا.»

– «التفكير الدائري لا يؤدي إلى شيء. فهناك الكثير منه. كثير من النقَّاد ذوي الرءوس الخفيفة الذين لا يعرفون عمَّ يتحدَّثون.»

– «تقصد أنصار حماية البيئة؟»

– «هم وغيرهم. الأكاديميون. من لا يملكون السلطة وينتقدون حائزيها.»

– «أوه، فيكتور، هل تظن حقًّا أن هذا هو كل ما في الأمر؟ وأنه لا يُوجَد أساس حقيقي للاهتمام بالقضايا العامة؟»

– «بالتأكيد يُوجَد لدى البعض. لكن ما أعرفه، هو أن الدوافع الحقيقية للبشر، برغم ما يدَّعونه، هي حيازة القوة والسطوة. السطوة هي ما يسعى وراءه الجميع في واقع الأمر.»

حاولَتْ أن تُكيِّف ذهنها، وتُحوِّل تروسه إلى نقطةٍ تُمكِّنها من مجادلته. وكان ذلك عسيرًا. فقد بدا لها حديثه آتيًا من أرضٍ غريبة تمامًا عن تلك التي عاشت فيها، ولم تجد العبارات الواضحة التي تمكنها من اختراق الحدود.

بدأت في تردُّد: «هناك أنواع كثيرة من السطوة.»

وافقها في سرور: «بالتأكيد. ولدى كل شخصٍ النوع الذي يُناسبه. هذا ما يجب أن يُدركه فاعلو الخير. الجميع يعرفون ما يريدون، وهم يحصلون عليه.»

انتصب جدار في الحدود القائمة بين بلديهما.

– «القوة السياسية لا يُريدها كل إنسان. ولا يستطيع الجميع استخدامها. لكن كل واحدٍ يريد بعضًا منها. ولدى الجميع بالفعل هذا البعض. وقد تكون مجرد السلطة على الزوجة والأولاد، أو في لعبة كرةٍ أو شطرنج.»

– «القوة التي تتحدَّث عنها تبدو ذكورية تمامًا .. السلطة على الزوجة والأولاد؟»

– «أوه، يا للنساء! يا إلهي، هل راقبتهنَّ عن كثب، هاته الأمهات، التابعات، السلبيات، المجردات من كل حيلة؟ إيَّاك أن تُقلِّلي من شأن قوة الضعفاء والعاجزين!»

حدقت فيه صامتة. كان يقود بسرعة. ولم تُربكه القيادة على الجانب الأيسر من الطريق. كانت نافذته مفتوحة، يهبُّ منها الهواء على شعره، وذراعه اليُمنى مُستقرة على حافة النافذة، بينما يسراه تُوجِّه المِقوَد في ثقة. بدا لها جميلًا، بدا لها كأنه يقود قاربًا في مواجهة الرياح. جميل وواثق ومُحدَّد. يعرف ماذا يفعل. ويعرف فيمَ يفكر. ويملك العبارات التي يعبر بها عن أفكاره.

من السهل أن تكون جميلًا، وأن تكون مُتناسقًا مع نفسك، عندما تفكر بنفس الطريقة التي تفكر بها القوى الموجودة في عالمك. سهل جدًّا أن تكون على صواب، واثقًا، واضحًا، إذا كنتَ رجلًا، أبيض، مُهتمًّا بالربح، وناجحًا، بينما هي عاجزة عن صياغة عبارة واحدة تُجادله بها.

حاولت من جديد: «هناك القوة (ل) فعل شيء ما، ويجب أن تتوفر للكافة، لكنها ليست موجودة لدى الجميع. القوة لعزف «باخ»، أو للعب التنس. وهناك القوة (فوق) شيء أو إنسان، ولا يجب أن يتمتع بها أحد، لكن الناس يُمارسونها.»

– «ها، ها! أرأيتِ أبدًا عالمًا لا يفعلون فيه غير ذلك؟ إنك تحوِّلين الواقع إلى موضوع أكاديمي، إلى عِلم سياسي أو شيءٍ آخر ملعون. كل شخص يملك شكلَي القوة اللذَين تصِفينهما.»

– «بالله عليك يا فيكتور، ما هو نوع القوة التي يملكها طفل أسود في أحياء الزنوج الفقيرة المزدحمة؟ أو عامل زراعي مُتجول؟ أو امرأة غير مُتعلمة مع زوج مُتوحِّش تعمل في مصنعٍ مع ملاحظ على نفس الدرجة من الوحشية؟»

– «ربما القوة على تمزيق شخصٍ ما إربًا، أو لجمع كمية من الخس أكثر من غيره، أو لطهي حلةٍ كبيرة من اليخني. لا أعرف. أعرف فقط أن كل إنسان يمتلك شيئًا ما.»

انفجرت كالقذيفة: «لم ألتقِ في حياتي بمِثل هذا القدر من الرضا عن النفس! ما أجمل أن تعتقد أننا نحصل على كل ما نرغب فيه، ونمتلك جميعًا ما نستحقه! ما أجمل أن تتصوَّر البشر جميعًا في حالة حرب — لأن هذا هو ما تقوله في الحقيقة — عندما تكون بين الرابحين! أما الحقيقة فهي أن كثيرًا من الناس لم تُتَح لهم حتى الفرصة ليعرفوا ما يُريدونه، فضلًا عن التوصُّل إلى وسائل الحصول على هذا الذي يريدونه!»

– «الأمر لا يحتاج إلى فرصة، يحتاج فقط إلى مجرد التفكير.»

– «إنه يحتاج إلى فضاء! فضاء للاختيار، فضاء لتقليب الإمكانيات. أية امرأة هندية في بلدة ناعسة بجواتيمالا لا يمكنها أن ترى ما وراء قريتها المُغبرة، ولا تستطيع أن ترى لنفسها مُستقبلًا يختلف عن ذلك الذي تعيشه أمها وخالاتها وأخواتها وصديقاتها.»

– «وما هو الخطأ في هذا؟»

– «الخطأ في هذا أنها ربما تكون تعسة!»

– «هراء. إن تطلعاتها ليست كبيرة، وبالتالي فهي غالبًا أقل تعاسةً من امرأةٍ من الطبقة المتوسطة ذات طموح. وعندما تُصبح بلدة امرأتك الناعسة في جواتيمالا مُستعدة للتقدُّم، ستعثر عليه.»

أطبقت يدَيها بعُنف حتى حفرت أظافرها في راحتيها.

واصل: «أغلب الناس يعيشون في حالةٍ من اللامبالاة وفتور الشعور. وهؤلاء لا يستحقون منِّي تنهيدة.»

تكلمت بهدوء وحزن: «كأنك تؤمن بأن كل ما يحتاجه الناس هو الطموح والإرادة. لكن هناك الملايين الذين لن يُتاح لهم أبدًا إمكانية الاختيار لأنهم لا يرَون جيدًا، ولا يملكون الطاقة لذلك؛ لأنهم لم يتلقَّوا غذاء كافيًا. الناس يُوضَعون قسرًا في الأماكن التي يحتلونها في الحياة.»

•••

كيف حدث أنها أصبحت عازفةً عن الجنس؟ متى بدأ ذلك، متى بدأت الوجوه تتلاشى، والأفواه تنفرِج وتنغلق من تلقاء نفسها، في بلاهةٍ وغباء، مُردِّدةً أنا، أنا، أنا، سيارتي، مباراة الكرة، أفضل مطعم في لندن باريس نيويورك ميلواكي، نفس الأشياء مرارًا وتكرارًا … متى بدأت أُذناي تنغلِقان؟ هل حدث ذلك بعد (سول)، الذي أخذ خطوتَين إلى الأمام وثلاثًا إلى الخلف؟ أم (دوج) الذي كان يُمارس الجنس ثم كفَّ مُجللًا بالعار؟

أو لأنها في كل مرةٍ تتعرَّض فيها لتجربة سيئة مع رجل تقول: لن أُكرِّر هذا ثانية .. أُقِلُّ شخصًا ما إلى برينستون، وأُصغي إلى مشاكل صَبي مع أهله، ولا أُبدي غضبي عندما أكون جائعة .. وكل «لن أُكرِّرها ثانية» تؤدي إلى مسافاتٍ أطول وأطول بين العشَّاق. وأخيرًا لا عشاق بالمرة.

وبفطنتها، كانت تقرأ بسهولة، وتُفسر السلوك، فتحذر ما إذا كان أحدهم يريد أُمومة، تمريضًا، تطبيبًا، علاجًا نفسيًّا، تثقيفًا، استرضاء، إطعامًا، مُلاطفة، مديحًا. عطاء، عطاء، عطاء. دائمًا.

ولِمَ لا؟ العبودية للجسد، الجنس. وفضلًا عن ذلك، ليس الجنس هو ما تُريده النساء من الرجال في واقع الأمر. فهن يشبعن أنفسهن بشكلٍ أفضل. إنما هو شيءٌ آخر، الرغبة في جسدٍ من ورائك، يمكنك أن تستند إليه برأسك، وتثِق في أنه لن يتحرَّك من مكانه، لن يجزَّ رقبتك، أو يقطع رأسك، أو يجذب شعرك. إنه رفقة شخصٍ ما موجود. كارول بصوتٍ متبلد: «أجل، ٢٥ سنة. إنها مدة طويلة. ليس زواجًا ناجحًا. بل هو مَيت تمامًا. فنحن لا نتحدَّث. إننا مجرد ساكِنَين لنفس المنزل. كل ما هنالك أننا نعيش في منزلٍ واحد. شيء واحد هو الذي يُبقيني هنا، وهو يُساوي كل الملل والروتين. إنه الرقاد في الفراش إلى جواره. لستُ أتحدَّث عن الجنس. فقط الرقاد إلى جواره. وجسده دافئ ومتين إلى جواري. إنه أمر لطيف. مريح.»

•••

لماذا تتكرَّر القصة القديمة دائمًا؟ دائمًا المرأة هي التي تدفع الثمن، رغم كل النوايا الطيبة من الجميع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤