استيقاظ مود

للكاتبة الأمريكية مارج بيرسي (١٩٦٦م)
Maud awake by Marge Piercy 1966

بعد الحمَّام، جلستُ في قميصي الداخلي أمام مرآة زينة أُمي. بدا أن جوًّا احتفاليًّا يُخيِّم على الغرفة الصغيرة بجدرانها الوردية القديمة. قوَّستُ عُنقي، وشدَدْتُ قاماتي بقدْر ما أستطيع، لأبدو أطولَ ما يمكن أمام المرآة، مُجلَّلةً بالرغبة، أميرة وكاهنة في آنٍ واحد. طقس الوحدة الذي سيصهرنا في كائنٍ واحد. كان بوسعي أن أتبيَّن في صفحة وجهي، شحوب التركيز، قوة العزم والقرار. لو فقط كنتُ أبدو أكبر سنًّا. هل أقترض مساحيق أمي؟ كم من المرَّات تخيُّلت هذه الليلة، بأبطالٍ عديدين مُختلفين، في مُدن محاصرة، في سجونٍ وقصور وخِيَم. يفعل الحب — يا لها من عبارة متوترة. ها أنا الآن في بؤرة مشهد: أريد استعداداتٍ أكثر دقَّة، مونولوجًا، موسيقى تتصاعد حتى الذروة، كورسًا من المُشاهدين.

(تجلس أمام المرآة في الدقائق الأخيرة الضئيلة من تمالُك النفس والانفصال كشجرةٍ بينما فراشة الخوف تخفق في عنقها.)

«لم تنتَهِ بعدُ من ملابسك؟» تُغلق أمي الباب، فتصطفق حمَّالات الثياب، وتحفُّ أربطة عنق أبي. «لماذا تتلكئين؟ لست من أنصار ترْك الرجل ينتظر.»

هل تنصرف إذا ما تجاهلتها؟ اذهبي، أرجوك.

تنظر إلى الرداء المُلقى فوق الفراش، بلوزة سوداء اشتريتُها في الصيف الماضي لأذهب فيها إلى العمل: «ماذا سترتدين؟»

أستجمِع شجاعتي: «هذه بالطبع.»

أرتدي البلوزة، فتنزلق الأزرار الصغيرة الفاحمة السوداء، من بين أصابعي الساخنة.

«أسود؟ لماذا ترغبين في مظهرٍ كئيب؟» وتزيل بأظافرها في سخط، نسالة وهمية من الجوبة.

أنكمش، في محاولة لتجنُّب لمستها: «لا بأس من ارتدائها فلون بشرتي فاتح.» لماذا أدافع عن نفسي؟

«كأنما مات أبواك! أسود أسود أسود! حتى تشبعي من الجنازات.» وترتمي فوق البنش بتنهيدة راحة، مُعتمدةً بذراعها على حافة المِزْينَة: «ماذا ينتوي هذا الفتى .. مايكل؟»

– «التدريس في الجامعة.»

– «هؤلاء لا يكسبون كثيرًا.»

– «لا شأن لي يا أُمِّي، فلن أتزوَّجه!»

– «بالطبع لا. ألا يُمكنني أن أُعلِّق بشيء؟» وتلتقط شعرةً من فوق كتفي ثم تشدُّ ردائي: «وأبوه، ماذا يفعل؟»

– «كان طبيبًا، لكنه مات.»

– «مسكين». وتنحني لتقرص ذراعي هامسة: «يهودي؟»

أطرقت برأسي مُؤمِّنة.

تستدير إلى المرآة، ترمق نفسها وتتخلَّل شعرها بالفرشاة: «أبوك لن يحب ذلك. هل هو من الأصوليين؟»

– «كلَّا.»

– «أنت تعرفين المشكلة التي كانت مع جدتك. كان بابا يقول دائمًا: نحن في حاجة إلى أساليب جديدة في الأرض الجديدة. كان رجلًا مُتقدمًا للغاية. كان يقرأ خمس لغات، وكانت إنجليزيته تامَّة.»

– «مايك مُتخصص في اللغة الإنجليزية.»

تترك يدَيها تسقطان فوق فخذيها وهي تهزُّ رأسها: «لم أر أبدًا أي نفع عاد به ذلك على أبيك، وهو يبيع من بابٍ لِباب، ويعمل في دُكان أحذية، ثم يموت تاركًا لنا كل هؤلاء الأطفال. إنها حياة صعبة، يأكل فيها الكلب أخاه، فلا تُنصتي لهؤلاء الأساتذة عندما يقولون لك شيئًا مُختلفًا.» تجلس مُحملقة لحظة، ثم تنفجر كأنما عارضتها: «لكنه كان رجلًا ألمعيًّا، لا تنسَي ذلك!»

لماذا لا يأتي؟ أعبث بشعري. تلمسني مرة أخرى لتصنع به شيئًا ما. يقْشَعرُّ جلد رأسي، وتنتقل منه شرارة إلى يدِها: «هكذا كنت أُصفِّف شعري في سنِّك يا حبيبتي. سيبدو شعرك حلوًا للغاية بهذا الشكل. دعيني أقُصُّه لك.»

قوة الإغراء في صوتها المُلاطف: اتركي نفسك لي، وسيكون كل شيءٍ رائعًا في حديقة ما كان. لا أجرؤ على تذكُّر كم كنتُ أُحبها عندما كنت صغيرة فوق حجرها: «مايك يُحبُّه هكذا.» لماذا تُحدق فيَّ بذلك التَّوق العارم، ليس لي. وإنما خلالي، لتجعل مني شبحًا يُجسِّد أحلام يقظتها؟ عندما تؤطِّرنا المرآة، نحن الاثنتَين، جنبًا إلى جنب، لا أستطيع النظر إلى نفسي بموضوعية.

يرن جرس الباب بدقاته الثلاث، الوسطى معطوبة ومكتومة، دينج تونك دونج. أنهض وأجري إلى الباب.

«الآن تُسرعين.» وتمرُق إلى جواري، مُحتكَّةً بي، نحو الدوران المؤدي إلى غرفة المعيشة، وهي تربت على شعرها.

أبي يهزُّ يدَ مايك، وقد بدا الاثنان مُتجهِّمَين، بينما تقافزت أمي مُتورِّدة بالفضول: «لا بد أنك مايكل! تكلَّمَت مود كثيرًا عنك!»

«كيف حالكم؟» لو كان مايك قد دُقَّ بمسمار إلى الجدار، ما بدا أكثر تصلُّبًا. فقد تجمَّد وجهه في رسميةٍ عمياء، ناظرًا إلى الأمام مباشرة، إلى لا شيء. يجلس في المقعد الذي عيَّنتُه، إلى جوار التلفزيون. يبدو مُوصَدًا في مواجهة منزلنا. أحنُّ إلى الرسوم المُدوَّرة على شكل العجلة فوق الأذرُع العظيمة للأريكة، والطواويس المُذهَّبة المُختالة فوق العتبات العالية، والفوضى الخزفية المبهرجة فوق الأرفُف ذات الحليات الدقيقة التافهة. هذا المنزل، المزخرف بالحواشي والأجهزة، يطفو مثل فقاعةٍ فوق سطح كبرياء أبوَيَّ وزهوهما. لم أرهما من قبل أكثر عُرضةً للانتقاد من الآن، أمي في المقدمة، فوق الأريكة، وأبي في الخلفية، وراء سحابةٍ من الدخان، يتساءل، ولا شك، لماذا لم أظلَّ في العاشرة من عمري، أو لماذا لم أكن صبيًّا. لكنه يتحامل على نفسه، ويُسلِّك حنجرته: «ماذا تدرس في المدرسة؟»

– «الأدب يا سيدي.»

يُطرِق أبي برأسه: «هل تعمل والدتُك؟»

– «إنها مُتخصِّصة في المكتبات.»

تفور رغبتي في حمايته وأنا أشهد التوتر يتزايد حول فمه وعينَيه: «سوف نتأخَّر على العرض». وأجذب سُترتي، فأصطدم به عندما قفز واقفًا، مُتأخرًا بعض الشيء، ليُساعدني.

قَرَقَتْ أُمي بلسانها: «مايكل! أعرف أننا لسْنا بحاجةٍ لأن نطلُب منك ألا تُبقي مود بالخارج حتى وقتٍ مُتأخِّر. أنا واثقة أنك فتى طيب، وأنت تفهم أننا سنشعر بالقلق عليها. ثم إنك لن تسوق بسرعة.»

أشعر بنا نتحوَّل، تحت نظرتها التي تشعُّ بهجةً وسعادة، إلى مُراهقي الرسوم المتحركة. وأخيرًا نُصبح في الخارج ومايك يهرولني نحو السيارة.

«يا سلام! حلو الخروج. أليس كذلك؟» لا يردُّ عليَّ. «ماذا كنتَ تفعل؟» مرة أخرى لا إجابة. لماذا؟ لا بد أنه غاضب لأن أبويَّ وجَّها إليه هذه الأسئلة الكبيرة. يقود السيارة كأنما يهرُب من أحد، مُنطلقًا في شوارع جانبية بصورةٍ عشوائية، في دوائر عفوية، لكنها تزداد اتساعًا. التوتر العصبي رفيق ثالث بيننا. ليس هذا صمتُنا الجميل، لكنه صمتٌ فَجٌّ، وضيع. يُسلِّك حنجرته دون أن يتفوَّه بشيء. لا أجد ما أقوله وأُذيب به جمود وجهه. إنه لا يُحبني. أُسرته استعادته بأن سرقَتْه منِّي.

أخيرًا: «قولي شيئًا!»

– «ماذا تُريدني أن أقول؟»

– «ألا تعرفين؟ فكِّري.» ويدفن عقب سيجارته في المطفأة فينبعث منها دوش من الشرار الأحمر .. «تُهْنا.»

«سأنتبه إلى لافتات الشوارع.»

يقود ببطءٍ أكثر وهو مُنحنٍ إلى الأمام. يقود مُتطلعًا أمامه مباشرة، وأجلس إلى جوار النافذة أرقُب الأضواء تومِض مُبتعدة، خائفة لو نظرتُ إليه أن يتَّهمني بالتحديق فيه. ماذا فعلت؟

«ربما كان الأمر هكذا: كل عملية الترقُّب والواقع. الخيال يذوي مُتحولًا إلى حقيقة.»

ألمح لافتة شارع شبرمان، لكني لا أجرؤ على مقاطعته. كرة من الزئبق البارد الزَّلِق تتشكل في معدتي.

– «ما رأيك لو انتحرنا الآن؟ قبل أن نذوق الواقع؟ من يعرف إلى أي درجةٍ سيخيب أملُنا؟» كل ما أفهمه أنه لا يُريدني. أتمنَّى لو أن حائطًا سقط وغطَّى عاري. تزداد ظلمة الشارع أمامنا ونحن نُقَعْقِع فوق معبرٍ لخطٍّ حديدي: مصانع ومخازن صغيرة بواجهات مُصْمتة مقبضة.

– «أجيبيني! أَأَنت هنا، هل مللت؟»

– «أنا تعيسة. ماذا تريد؟ أنا هنا، وراغبة. لماذا تُعاقبنا؟» أميل بخدي على الزجاج. موقع انتظارٍ خالٍ.

– «لماذا لا تقولينها؟»

– «أقول ماذا؟»

– «ماذا تتصورين؟ لا شيء غير أنك تُحبينني. إذا كنتِ.»

أُحدِّق فيه وهو في انحناءته العدائية فوق المقود: «بالطبع أُحبك». يتوقَّف إلى جوار مُنحدَرِ الشحن لمبنًى مُظلم: «لماذا لا تقولينها؟»

– «متى؟ أنت لم تُعطِني الفرصة أبدًا.»

– «لأنك دخلتِ السيارة وجلستِ أبعدَ ما يمكن.»

– «لكنكَ … دعنا نبدأ من جديد. طاب مساؤك يا مايك.»

– «يا إلهي. لقد افتقدتُكِ هذه الأيام الثلاثة. من لحظة نُهوضي في الصباح دون أن يكون تليفونكِ هو الذي أيقظني.»

ظُلمة، فيما عدا ضوء الشارع الأزرق الشاحب، ووهَج الساعة التي يخلعها ويُلقي بها فوق لوحة القيادة. صمتٌ معدني يُحيط بدقات أصابعه فوق المقود. يلمس كتفي ونتبادل القبلات في خجَل. مُلاطفات بطيئة ونحن نتظاهر بعدَم حاجتنا إلى العجلة. أشعر بثقل تنفُّسي. يُقبِّل عنقي، ويمسُّ شعره الحريري شفتي .. أزرار قميصه صغيرة وخانعة لأصابعي، كأنها تختفي من تلقاء نفسها. تحته يبدو عاريًا، بشعر أصفر يُحدِث دغدغة.

– «لماذا هذا التجويف وسط صَدرِك؟»

يتعمد مضايقتي: «ولماذا ليس لدَيك مِثله؟»

تحرير كل واحدٍ منَّا يختلف عن الآخر. تبدو ملابسه الداخلية، للمفاجأة، مألوفة؛ لأنها تُشبِه ما تبتاعه لي أُمي في الأوكازيون: أقطان، بيضاء، طفولية. أجذب بخرق، فيتحرَّر. أمر كوميدي: ذات مرة أعطاني عمِّي علبة صغيرة، تزيح غطاءها فينبثق رجل يَحمل مطرقة وينهال بها على أصابعك.

يتحسَّس بطني في رقة: «بشرتُكِ ملساء وبيضاء، كأنها من القمر. لكنكِ أكثر دفئًا.»

•••

– «أرشديني.»

– «لماذا تتوقَّع منِّي أن أُخبرك. المفروض أنك أنت الذي يعرف كيف.»

يئن: «يا إلهي!» يعتدل جالسًا وهو يدعك ظهره: «المِقود اللعين يكاد يخترق عمودي الفقري. تعالَي ننتقل إلى الخلف.»

نتكئ، كلٌّ منَّا على الآخر، شاعِرَين بالحنق والغيظ. يُداعب شعري. وأمدُّ يدي إلى علبة سجائري، فأُشعل واحدةً نتبادل تدخينها.

– «مايك، هل أنا مختلفة عن الأُخريات جسديًّا؟»

– «وكيف أعرف؟»

– «ألم …»

– «خِبرتي قدْر خبرتكِ بالضبط.» يُحوِّل وجهه بعيدًا.

– «أرجوك. انظر إليَّ. أنا مسرورة. لأننا مُتساويان.»

– «تُحاولين التهوين من الأمر.»

– «يجب أن تكون مسرورًا أنت الآخر. لو كان لك ماضٍ، لأصبتُك بالجنون من كثرة الأسئلة.»

يضمُّني إليه: «على كلٍّ .. المفروض أن تأتي مُزوَّدة بالإرشادات الضرورية. مثل كل الأشياء الجديدة.»

على الأقل، في هذا الوضع يُمكننا أن نبتسِم لبعض. أدفن ركبتيَّ في فَرش المقعد.

•••

– «على الأقل نجحْنا يا صديقتي العجوز.» يمسك بكتِفي: «أنت مُحاربة مُمتازة. تودِّين أن نكتفي الليلة؟ أشعر بالرغبة في ساندوتش بسطرمة ساخن.»

– «أظنُّ أني اكتفيت، إذا لم يكن لديك مانع.»

أتبعه حول السيارة حتى المقعد الأمامي، ونجلس مُتجاورَين.

– «كم الساعة الآن؟»

– «الحادية عشرة فقط»، وبابتسامة مُلتوية: «سنُعيدك في الثانية عشرة والنصف. أليس هذا هو الحد؟»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤