لا يمكن أن يكون ميتًا، فقد تحدث إليَّ!

للكاتبة الأمريكية رونا جافي (١٩٦٣م)
He can’t be dead, he spoke to me by Rona Jaffe 1963

(نحن نشعر بالحزن عندما نعلم أن صوت الإنسان ودفء جسدِه يمكن استبدالهما الآن بالآلة. يُسمونها الآلة-الأم، وتُستخدم في عددٍ من دُور حضانة الأطفال، لكن البالِغين يجب ألا يشعروا بالتجاهل؛ لأن العِلم سرعان ما سيجد لهم رفيقًا آليًّا. وإلى أن يتحقَّق ذلك، يُوجَد البديل المعروف باسم «أحد المعارف»، أو «مرافق السهرة»، أو «الصديق» في بعض الأحيان، ولا يحتاج هذا النوع من المُنتجات إلا إلى عناية بسيطة لا تتجاوز قليلًا من الطعام بين الحين والآخر. وهو ذاتي الشحن، فعندما يُصيبه الإجهاد، يمكن توصيله بأي قابس في غرفة خالية لمدة أسبوع أو عشرة أيام، وعندئذٍ يصير كالجديد تمامًا. المعلومات اللازمة عن أماكن توافر «مرافق السهرة» أو «الصديق»، يمكن الحصول عليها بالكتابة إلى …)

•••

كانت الساعة قد شارفت على العاشرة والنصف عندما بلغ ثلاثتهم المطعم، في «القرية» (حي في نيويورك يُشبه الحي اللاتيني في باريس)، قبل أن يُغلِق المطبخ أبوابه. كانت هي فتاة ثرية تبدو كالراقصات. وكان هو نائبًا لرئيس وكالة إعلان صغيرة ويبدو نائبًا لرئيس وكالة إعلان كبيرة. وكانت صديقتها مُمثلة تبدو أشبهَ بنجوم السينما الصامتة. كانوا راضين عن مظهرهم. هو ثَمِل بعض الشيء، أما الفتاتان ففي وعيهما الكامل. ولهذا السبب كانتا لا تزالان تضحكان وتصخبان، وكان هو يميل إلى الدقَّة والحذَر. وعقب الكأس الرابعة شرع يُحرِّك يدَيه كما لو كان يربت على جوبة خالية، فكَّرت صديقتها أنه ربما كان لواطيًّا، أما هي فكانت تعرف أنه ليس كذلك، وأنه لا يُحِب أحدًا على الإطلاق، لا الرجال ولا النساء ولا الأطفال ولا الحيوانات. كان يُحِب البوربون والمارتيني.

طلبت هي وصديقتها عشاءً كاملًا لكلٍّ منهما. وأمر هو بشرابٍ وزجاجة نبيذ. كان يسير على نظامٍ خاص في الأكل لينقص من وزنه. وقد فقد بالفعل عشرة أرطال، وبقيَ أمامه ما يُماثلها. كانت تعرفه منذ سنتَين، وتعرف المُمثلة منذ ستة شهور فقط، لكنها كانت تعرف المُمثلة.

كانت ليلة سبت، وهو أمر لم يكن بذي أهمية لدى أيٍّ منهم. لكنه كان بالِغ الأهمية بالنسبة للآخرين في المطعم. وكان هذا يتألَّف من قاعدةٍ طويلة ضيقة احتل البار مُقدمتها، بينما وُضِعت الموائد في الخلف، وفصل بين الجانبَين حاجز عُلِّق فوقه هاتف. ولم يكن هناك من يأكل غير ثلاثتهم، لكن البار كان غاصًّا بالزبائن.

قال: «سيأتي صديقي في الحادية عشرة. أرجوكما ألا تُصدَما عندما تشاهدان رفيقته.»

قالت: «ولماذا نُصدَم؟»

– «سوف تريان. إنها موهوبة في الإيقاع بأصحاب الملايين. وكانت تأخذ من أحدهم ٧٠٠ دولار في الأسبوع، مقابل أن تصحبه في جولةٍ حول الخزان بعد ظهر كل أربعاء. لا تفعل شيئًا آخر معه. لا جنس.»

قالت: «مهووس خزانات.»

قالت الممثلة: «أوه يا إلهي، كم أنا جائعة، جائعة!» وقالت هي: «سأموت من الجوع، فلم أتناول شيئًا طيلة اليوم. أيها الساقي، أحضر لنا من فضلك خبزًا وماء، الآن.»

ابتسم الساقي الذي كان شابًّا، ويبدو مثل مُغنٍّ شعبيٍّ عاطل. ابتسم لهم جميعًا وأحضر سلةً من الخبز الإيطالي الطازج وثلاثة أقراص من الزبدة فوق ثلاثة مُربعات من الورق.

قالت: «ليس هذا مطعمًا راقيًا. تعرفونه من زبدته الرخيصة.»

قال: «بوسعك أن تأخذي قطعتي. فلستُ بحاجةٍ إلى زبدة أو خبز أو أي طعام. لا شيء سوى الشراب. الخمر لا تُسبب السمنة.»

قالت الممثلة: «بالعكس، إنها أكثر مجلبة للسمنة من أي شيءٍ آخر. اسأل أي إنسان.»

قالت هي: «المارتيني يقتُل.»

– «من يقول هذا؟»

– «آن لاندروز. دوروثي كليجان. دكتور روز هاوسفراو. بول ف. بول.»

سأل: «من هو بول ف. بول؟»

قالت: «طبيب الأمراض الجلدية الذي أتردَّد عليه.»

أحضر الساقي الباسم (كان يبتسِم لأنه سيعود سريعًا إلى منزله وعروسه الشابَّة الجميلة التي لم ينقضِ على زواجه منها أكثر من ثمانية شهور. سيفاجئها مع ساقٍ يوناني وسيُطلِق عليه النار من مُسدس المبارزة الذي كان يستخدمه جدُّه وسيُخطئه)، أحضر صحنَين من اللحم وزجاجةً من نبيذ كاليفورنيا الأحمر ومارتيني.

ترك أحد الرجال البار واستخدم الهاتف. كان بوسعهم أن يسمعوه بسهولة، فأصغوا إليه مُتظاهرين بأنهم لا يفعلون.

كان يهتف: «هالو، هالو، يا للمسيح!»

ضحكت الممثلة. وتدحرجت العملات بصوتِ موسيقى عندما وضع الرجل السماعة. تحسَّس شعره بيدِه وهو يهتف: «ما إن نقول هالو حتى يختفوا.»

ضحكت المُمثلة مرة أخرى، في شيءٍ من الهيستريا وقالت: «هذه هي قصة حياتي. تقول هالو فيختفون على الفور.» وضحكت هي ثم ضحك هو لأنهما كانتا تضحكان، لكن الرجل الواقف بجوار الجدار، الذي كان يبدو وحيدًا للغاية، وضع مزيدًا من العملات في الهاتف: «سنترال .. كنت أتكلم مع ميلبانك، نيوجرسي، وانقطع الخط. كلَّا، ليسوا هم الذين قطعوه. أنت الذي فعلت. حسنًا، حاول مرة أخيرة.»

قالت: «يا للمسكين. لا تضحكوا. أريد أن أسمعه.»

«هالو، سالي موجودة؟ أوه .. جيم، آسف لأني أيقظتك، كلَّا، لا شيء، أعتقد أنها ستكلمني غدًا.» وتثاقَل صوته في كآبةٍ ثم وضع السماعة وعاد إلى البار.

احتلَّ مكانه عجوز كان يقِف في الانتظار، يرتدي معطفًا، وله لكنة ألمانية: «عزيزتي، ماذا تعنين بأنك لا تستطيعين الخروج؟ لكن سأُعطيك درس الإنجليزية. سآتي. أوه حسنًا. إذن سأراك خلال الأسبوع المقبل. كل ما في الأمر أن أمس كان الجمعة وقد كنتُ أراك دائمًا ليلة الجمعة، ولهذا فكرت .. حسنًا، ربما في الجمعة المقبلة. أتمنَّى لك حظًّا سعيدًا في درس اللغة الإنجليزية.»

غنَّت الممثلة بالألمانية: «إيش بين فون كوبف بيس فوس.»

قالت هي: «أنا مِن .. مكانٍ ما.»

– «لا. أنا من الرأس إلى القدم، هكذا أنا. غنتها مارلين ديتريش في الملاك الأزرق.»

– «ظننتُ «كوبف بيس فوس» مدينة.»

– «لا. برلين هي المدينة.»

– «هذه صورة جميلة: إنها كما هي، ثم تذمر العجوز المسكين، صح؟»

– «صح.»

مضى الرجل ذو اللكنة الألمانية والمعطف عائدًا إلى البار. وقالت الممثلة: «ألا يكون الأمر مضحكًا لو كان الاثنان يُحدثان الفتاة نفسها؟»

شرحت لها: «لدَيها صديق شاب، ألماني. وهذا أكبر سنًّا.»

قال رجل الإعلان: «عندما كنتُ صبيًّا صغيرًا في المدرسة كتبتُ رسالة غرامية إلى فتاة. وما زلتُ أذكر نصَّها. قلت: أُحبك يا جيرالدين. هل تُحبينني؟ إذا كنتِ لا تحبينني، أعطي هذه الورقة إلى هارييت.» وضحك.

– «لماذا كتبتَ ذلك؟»

– «لا أعرف. ربما أردتُ أن أثير غيرة جيرالدين.»

– «تصور هارييت عندما تتلقَّى الورقة.»

– «لم أفكر في ذلك أبدًا.»

قالت: «تعجبني، تعجبني هذه الورقة: أحبك يا جيرالدين. إذا لم تكوني تحبينني، فاعطِ هذه الورقة إلى هارييت.»

– «ليس هذا هو ما قلته. لقد قلت …»

– «لا يهم ما قلته. العبارة تُعجبني. فهي قصة حياتي.»

– «أوه، أي واحدة منهما أنت؟»

– «لم أُقرِّر بعد. أنا لا أحب غير العواطف.»

– «مُضحك.»

– «فعلًا. بل رائع. سأسجل هذه العبارة.» وأخذَتْ قلمًا من كيسها وبدأت تكتُب على حافة قائمة الطعام.

قال: «تأكدي من أنك تكتُبين العبارة صحيحة. أحبك ياجيرالدين، فهل تحبينني؟ أوه. ها هم قد وصلوا». ولوَّح لزوجَين وَلَجا القاعة.

•••

كان هناك هزٌّ للأيدي وتعريف بالأسماء وتحريك للمقاعد. وكانت الفتاتان حوريَّتَين بشعرٍ طويلٍ يصِل إلى الخصر، وجسدَين رشيقَين ووجهَين مليحَين بلا زينة. والاثنتان ترتدِيان بلوزتَين من القطن وجوبتَين من التويد. أما الرجلان فكان أحدهما أمريكيا والثاني إنجليزيًّا. وكانا ثَمِلَين.

قالت الحورية الشقراء: «أرى أنكم أكلتُم.»

وقالت الحورية ذات الشعر الأسود: «نحن لم نأكل. قطعة بيتزا فحسب وشيء آخر نَسيتُه.»

قال الأمريكي: «سوف تأكلين يا زهرتي الصغيرة. سوف آخذك إلى أفخم الأماكن … فيما بعد.»

فقالت حورية الشعر الأسود بحبورٍ: «أوه، طيب.» وابتسمت له.

طوت القائمة التي سطرت فوقها رسالة جيرالدين، ودسَّتها في كيسها. ونظرت طويلًا وفي دقَّة إلى حورية الشعر الأسود وهي تتساءل عن ذلك الذي تفعله مع أصحاب الملايين عند الخزان ويُساوي سبعمائة دولار في الأسبوع. ولاحظت أن الحورية كانت تنظر طويلًا وبدقَّة إلى المُمثلة. ولم يكن في نظرتها أثر للمنافسة الأنثوية. أسقطت المُمثلة بعضًا من كأسها، فظهرت بقعة فوق غطاء المائدة، وأبدى الجميع اهتمامهم.

وضع الساقي مِنشفة نظيفة فوق بقعة النبيذ، وأتوا على ما تبقَّى من الزجاجة.

قالت: «أوه يا إلهي. انظروا ماذا تفعل هذه الفتاة.»

كانت الحورية الشقراء قد عرَّت صدرها من فوق الخصر.

قال الأمريكي: «قالت إن السوتيان يؤلِمها. وكان لا بد أن تخلعه في الحال.»

عادت الحورية ترتدي بلوزتها القطنية وتُثبِّت أزرارها في بطء، ثم رفعت السوتيان ليتداوله الجميع ويرَوا شكله. كان من النوع الجديد الذي يبدو كأنه جُعِل لِطفل، ولا يمكن أن يُسبِّب ألمًا على الإطلاق ما لم يكن معقودًا حول عُنقها.

قال الأمريكي: «انظروا إلى هذا السوتيان. أليس طريفًا؟» ولم تكن الحورية قد رفعت عينَيها عن وجه الممثلة طول الوقت، وكانت ما تزال تبتسم.

غمغمت الممثلة في غضب: «الجميع يظنونني سحاقية. لماذا يعتقد الجميع هذا دائمًا؟»

قالت الحورية الشقراء: «أنا أُحِب سوتياني.» كان صوتها حلوًا ناعمًا. ورفعت طرف بلوزتها كاشفة عن صدر فخم ومِشدٍّ أسود من الدانتلَّا. ابتسم الإنجليزي في مزيجٍ من شعور التملُّك والزهو.

لكزت هي صديقتها، التي كانت لا تزال تُغمغم ساخطة على الذين يظنونها سحاقية، وأومأت إلى الشقراء، وبدأتا لعبة الأسماء: ميرنا حليب، نورا المرضعة، تيريزا نهد، وندى الراغبة، إيثيل المتلهِّفة.

سأل رجل الإعلان: «عمَّ تتهامسان؟» كان قد اكتشف أن كأس المارتيني الأخير ممزوجة بالماء، فأشار إلى الساقي أن يُحضر كشف الحساب.

قال الإنجليزي: «أرأيتم أن أحدًا لم يلحظ ما حدث؟ لم يلتفِت حتى أحد من الجالِسين إلى البار.»

قالت هي: «إنهم لا يفعلون هذا أبدًا.» وانطلقوا من بابٍ جانبي إلى الطريق، وقد تقدَّمت السيدات الرجال. وشعرت هي فجأة بكل ما ترتديه تحت ثوبها الصوفي .. كيلوت بكيني (اليزابث أردن، حرير)، لا جوارب (ساق مُجمَّلة مُزينة)، لا قميص داخليًّا، استدارات جسدها أسفل الثوب الضيق كما تبدو للرجال، كما لو كانت بطاقة هوية جديدة. لكنها لم تكن مُهتمَّة بالرجال الثلاثة. كانت مُهتمة بنفسها، كما لو كانت على شاشة فيلم وبين المُتفرِّجين في نفس الوقت، تجلس بين الجمهور تتأمَّل وتتفرج عليهم ينظرون إليها.

مشوا في هواء الليل البارد إلى منزلٍ كان مقررًا أن تُقام فيه حفلة. وعندما دقوا جرس المدخل السفلي، خرج إليهم زوجان أشارا إليهم بالابتعاد: «الحفلة انتهت وليس هناك أحد فوق.»

– «جاء رجال الشرطة وفضُّوها.»

– «لماذا؟»

– «بسبب الضجة. من يعرف؟»

قالت: «لنصعد. أنا أُحِب رجال الشرطة. إنهم كاملون، لا يخافون، مِقدامون، مُخلصون، يُمكن الثقة بهم. وهم يتميزون بالوسامة.»

– «لقد ذهبوا.»

فقال شخص ما: «إذن تعالوا نصعد.»

– «لن تجدوا أحدًا. تأخرتم كثيرًا.»

كانوا قد كسبوا واحدًا من الزوجَين: شابًّا أحول العينَين، في قامة ستيف ريفز، وشقراء نحيفة في سترة طلابية. وكانت معهما سيارة.

قالت الممثلة وهي تضحك: «هل يُمكنه أن يرى الطريق حتى يقود سيارة؟»

انطلقوا إلى منزل الحورية ذات الشعر الأسود: شقة عالية السقف، أشبه بالكهوف، تُضيئها الشموع، وتبرز من أركانها نتوءات سوداء من أثاثٍ قديم، وينتصِب فيها تمثال مُتألق من الرخام الأبيض لامرأةٍ يونانية، وأشجار نخيل حية في أصص، وثلاث شرفات ومدفأة في كل غرفة، وأرضيات خشبية لامعة وسجاد من فراء القندس. وكان المرحاض عاطلًا عن العمل.

كان ثمة جهاز ستريو مُخبَّأ في دولاب. وأدارت المُضيفة أسطوانة تويست. وسأل رجل الإعلان: «أيوجَد هنا ما يُشرَب؟» لكن أحدًا لم يُجِبه. أصبحت حركات يدَيه الآن أكثر وضوحًا، فقد بدا كأنه يسير حاملًا فنجانَين من الشاي. أضاف: «أبحث عن شيء.»

– «في منزل غريب؟»

– «المطبخ .. المطبخ.»

قالت له الممثلة: «ماذا تتوقَّع من حورية؟ أعطِها كوب ماء وستعيش عليه أسبوعًا كاملًا.»

نزع الرجال ستراتهم. كانت الحورية ذات الشعر الأسود ترقص التويست بمُفردها برشاقةٍ ولم تكن ترتدي سوى جسدها الأبيض الطويل وجوب التويد والحذاء الجلدي الأسود. وكانت قامتها ترتفع ستة أقدام. وبسبب شعرها الطويل، المُنساب في استقامةٍ حتى رباط خصرها، بدت الجوب غير ملائمة، ألْيَق بمشرفة مدرسة أو رئيسةٍ لمنظمة نسائية في ولاية كونيكتيكت.

قال الأمريكي: «خذوا راحتكم.»

سألته حورية الشعر الأسود: «تريد أن أُعلمك التويست؟»

– «ولم لا؟»

– «ها هي. ليس هناك شيء آخر.»

– «هذا مسكن جميل. من أين جئت بهذه الأنتيكات الرائعة؟»

– «أوه من هنا وهناك.»

تجوَّلَت الحورية الشقراء في أنحاء المكان في سوتيان من الدانتلَّا السوداء، وجوب، وعقدٍ من اللؤلؤ، وقرطَين من اللؤلؤ، ثم انطلقت إلى المخدع.

وتبعها كلٌّ من الإنجليزي والأمريكي، وكان هرقل الأحول يبحث عن شراب، بينما عثر رجل الإعلان على نصف زجاجةٍ صغيرة من الفودكا، لكنه لم يجد كأسًا يشرب منها. وأحكمت الشقراء النحيفة إغلاق سُترتها حتى العنق. وكانت الممثلة، التي لا تدخن أبدًا، تنفُث في عصبيةٍ دخان عقب سيجارة عثرت عليه في مطفأة، وهي تتفقد الأنتيكات.

ذهبت إلى الحمام الذي كان مدهونًا باللون الأسود، وتطلَّعت في صندوق الإسعافات، فوجدَت به كحلًا، وكريمًا للبشرة، وصابونة، وقلادة من الزجاج (مهشَّمة)، وكولونيا، وشفرةً صدئة، وسبع فُرَش أسنان مُستعملة، وفي حالة جيدة.

مضت إلى المخدع. كان الضوء خافتًا ومصدره الشموع التي وضعت فوق قواعد النوافذ، وخلفها كانت السماء سوداء. لم تكن هناك ظُلَّات أو ستائر. وكان الأثاث غريبًا ورائعًا: سرير نحاسي في حجم طراز الملكة ماري، ودولاب يسع ثلاثة عشاق، أو أزواج، ضخام الأجسام، و«بيدَيه» مخلوع زرع بالزهور الحمراء. وكان هناك شخصان على الفراش، وآخران على الأرض. وفي البداية ظنَّتهم موتى، ثم تبيَّنَت أن الحوريتَين فقط هما الميتتان. ولأنه كان من الصعب التمييز بينهما في بياضهما، فقد بدا للوهلة الأولى أن كلًّا منهما مع رفيقها الأصلي، ثم أدركت أنها لحظة التعبير عن كرم الضيافة. فقد كانت الحورية ذات الشعر الأسود مُستسلِمة للإنجليزي الذي كان أقصر منها بقدم. وكان عاشقها الأمريكي يكاد يُصيب بالاختناق الحورية الشقراء التي كانت لا تزال ترتدي قلادتها وقرطها.

قالت هي: «انظروا ماذا يفعلون. يجب أن أُحضر نظارتي.»

وعندما عادت مُرتديةً نظارتها، كانت الحوريتان قد شرعتا تؤكدان أنهما ليستا من الموتى، ببعض الأصوات اللبقة. وولج الآخرون الغرفة، واحدًا بعد الآخر، وبقوا دقائق ثم عادوا إلى الموسيقى. وفتحت الفتاة النحيفة ذات السترة الطلابية، الباب الخارجي في هدوء واختفت.

عاد رجل الإعلان إلى المخدع وأخذها من يدها: «تعالَي معي، أريد أن أقول لك شيئًا.»

مضَيا إلى غرفة المعيشة. قال: «لست أُحب هذا .. لا أجد فيه أية تسلية .. هناك شيء .. لا أعرف.»

قالت: «لستُ أُحبه أنا أيضًا.»

كانت المُمثلة تتبادل القبلات مع الفتى الأحول (الذي كانت قوة إبصاره موضع شكِّها) فوق الأريكة.

سألها: «أتُريدين شرابًا؟»

– «كلَّا، شكرًا. ترى ألدَيها أسطوانة دايز أفينادو؟»

– «رأيتها تضعها على الجهاز.»

– «أوه. طيب.»

– «تُريدين شرابا؟»

– «أوه .. طيب .. أخ.» أعادت إليه الزجاجة: «الفودكا غير المُثلجة تحرق قلبي.»

– «أعائدة أنت إلى هناك؟»

– «لألقي نظرة فقط .. سأعود فورًا.»

عندما وَلَجت المخدع ألْفَتِ الأربعة جميعًا فوق الفراش النحاسي، ولوَّحوا لها هاتِفين بمرح: «انضمِّي إلينا.»

– «كلَّا. شكرًا.»

– «تعالي، تعالي. الجو بارد عندك.»

هزَّت رأسها فعادوا إلى لعبتهم. كان الرجلان والحورية ذات الشعر الأسود، يعتنون بالحورية الأخرى التي لم تبدُر عنها حركة واحدة منذ وصولهم.

•••

تأمَّلتهم من جلستها غير المريحة فوق المسند الخفي للفراش الضخم، وهي تتفحَّص شعور اللامعقول الذي انتابها .. الإثم، الفضول، وفوق كل شيء، الملل. «أنا بصَّاصة قذِرة.» هكذا ردَّدت لنفسها. وانتظرت عبثًا أن تشعر بتأثير الكلمات. «لم يعُد لديَّ ما أقوله للمحلل النفسي.» ألفت نفسها تتثاءب. كانت الساعة الثانية صباحًا. بوسعها أن تشتري «الصنداي تايمس» في طريق عودتها.

رفعت إليها الحورية ذات الشعر الأسود وجهها الأبيض المجرد من كل تعبيرٍ قائلة: «أنت تُشعرينني بالحرَج. إذا خلعتِ ملابسك يكون هذا أفضل. ويمكن أن تحتفظي بالنظَّارة.»

– «آسفة. لن أنظُر إليكم بعد الآن.»

– «أوه، بوسعك أن تفعلي. لكنك تبدين مختلفة جدًّا في هذا الرداء. لو كنتِ فقط مثل كل إنسانٍ آخر، لما انتبهنا إليك.»

هبطت من فوق مسند الفراش، وتقدَّمت من المرآة لتتأمَّل زينتها. وجاء رجل الإعلان في جلده الخجول تسبقه أكبر كأسٍ في العالَم، حملَها كما لو كانت ورقة تين. قال مُعتذرًا: «لم أرغب في التخلُّف عن الركب.» وارتمى بسرعة في مقعد من طراز لويس السادس عشر: «تعالي تحدثي معي.»

– «كيف يُمكنك أن تفعل شيئًا كهذا؟»

قال: «آسف. إنه خطأ في التقدير. لقد قلت لك. أما زلت غاضبة؟ كان الأمر في نيتي ثم نسيتُ أن أذكره لسكرتيرتي.»

– «أما زلت تفكر في موضوع تذاكر المسرح؟ قلت لك إن الأمر ليس بذي أهمية. كنتُ أقصد خلعك لملابسك.»

– «أوه. الملابس. هذا ما كنتِ تقصدينه؟»

– «طبعًا.»

خفض صوته: «بيني وبينك .. أمثال هذه الحفلات تجعلني عنينًا.»

كانت الجماعة قد انتهت من الفقرة الراهنة. وظلَّت الحورية الشقراء مُمدَّدة على ظهرها، وقد التمعت اللآلئ فوق عُنقها الأبيض. ثم رفَّت بعينَيها المُظلَّلتَين للإنجليزي الذي قام، بصفته مرافق سهرتها، بالجانب الأكبر من العمل، وقالت في دماثة: «كان ذلك لطيفًا.»

تساءلت الحورية ذات الشعر الأسود: «لا أعرف لماذا لا تنضمِّين إلينا؟ إننا جميعًا أصدقاء.»

قالت: «أفضل الاختيار. ولا أُحب أن أُهين أحدًا.»

– «أوه. ليست هناك إهانة ما. فأنا مضيفة ممتازة، وصدقيني أن أحدًا لا يُرغَم على شيءٍ في منزلي. أعني أني ما كنتُ لأدعو أحدًا يحاول فرض نفسه على واحدٍ من ضيوفي. فإذا كنتِ لا ترغبينني، لن أفكر أبدًا في أن أفرض نفسي عليك.»

قالت هي: «الأمر يصعب شرحه.»

ودق جرس الباب.

صاح رجل الإعلان: «الشرطة! لا تجيبي!»

وقالت حورية الشعر الأسود: «سخف.» ومضت إلى الباب.

لم يتحرك أحدٌ عدا رجل الإعلان بكأسه الكبيرة، وكان عاجزًا عن الاختيار بين الدولاب والحمام، فجثم مشلولًا بينهما.

رجعت الحورية ذات الشعر الأسود وقالت: «إنها تلك الفتاة التي انصرفت إلى منزلها. لم تتبيَّن الطريق، فأعددتُ لها فراشًا فوق الأريكة.»

– «لم تتبيَّن طريقها إلى منزلها؟»

أجابت في رقة: «أجل. كانت ثملة.» وقفزت إلى الفراش.

مضت هي إلى غرفة المعيشة تبحث عن صديقتها. لكن المُمثلة والصبي الأحول كانا قد اختفيا. ثم لحظت أن حاجزًا من قطع الأثاث قد أُقيم في ركن الغرفة، ودُلِّي فوقه ستار. وشعرت لأول مرة بعاطفةٍ ما، بالوحدة.

نهضت فتاة الصبي الأحول، التي كانت تغطُّ في النوم فوق الأريكة، وتطلَّعَت حولها وأبصرت الحاجز، فانطلقت نحو الباب، وغادرت المسكن من جديدٍ دون أن تنبس بشيء.

قال رجل الإعلان وقد جاء يبحث عن زجاجة: «ماذا حدث؟»

– «تلك هي الفتاة الوحيدة التي أُتيح لها أن تتخلى عن فتاها مرَّتَين في ليلة واحدة.»

قال لها: «تحدثي إليَّ.» وجلس فوق الأريكة خلف الكأس والزجاجة، مثل طفلٍ عملاق وُلِد من جديد. وجلست بجواره في ردائها الصوفي. وبرزت الممثلة من خلف الستار، في نصف ثيابها، وإن كان شعرها مُرتبًا غير مُضطرب.

قالت الممثلة وهي تتنفَّس الصعداء: «لقد ناقشنا الأمر وقرَّرنا ألا نفعل شيئًا.»

وهمس هو: «يا للصبي المسكين!» وأشار إلى الحاجز الذي برز منه الآن كنج كونج بعينَين زائغتَين. «الفتيات يُطاردْنه لأنه يبدو فحلًا. وكل ما يبغيه هو فتاة تُريده لنفسه ولا تستغله.»

قالت الممثلة: «هذه هي أنا .. أُمُّ الجميع.»

تبيَّن الفتى أنه وقع في غرامها، فأخذ يُردِّد في سعادة:

«انظروا إليَّ. لقد نِلتُ أجمل فتاة في الحفلة. أفضل وأجمل وأروع فتاة في الغرفة كلها.»

قالت الممثلة: «هالو ماما.» وجرعت قليلًا من زجاجة الفودكا.

– «أجمل فتاة في المكان كله. تعالَ نخرج لتناول الإفطار.»

وكان رجل الإعلان يقول: «هذه السنة سنتي. سأُحقِّق فيها أحلامي. أترك عملي وأكتب كتابًا. إن نجمي في صعود. وعندما يكون في صعود أعرف ذلك. هذه السنة نجمي في صعود.» كان ثَمِلًا للغاية. «أعني .. أنتم تفهمون بالطبع .. يكون لديك المال وتعرف كيف تُغير حياتك. ولسوف يكون لديَّ الكثير منه هذه السنة. إنها سنتي. وسأُصبح ثريًّا .. لأن نجمي في صعود.»

نظرَت إليه المُمثلة ثم هربت إلى المخدع ويدُها على فمها.

قالت هي: «ما رأيك في أن ترتدي ثيابك؟ سيخرج الجميع لتناول الإفطار.»

– «لا أفطر أبدًا. لنذهب إلى منزلي ونحتسي شرابًا.»

– «لا بد أن أنام. نحن الآن في الرابعة والنصف.»

ارتدى ملابسه وأقبلت الحورية السمراء وشرعت تبسط الملاءات فوق الأريكة.

سألتها: «ستنامين هنا؟»

– «كلَّا. لكن ربما فعل أحدهم.»

عادت المُمثلة وقد ارتدت قفَّازها.

– «طابت ليلتكم. شكرًا جزيلًا.»

– «أتُغادرين الآن؟»

تصافحوا جميعًا. أربعة منهم في ملابس الطريق والمعاطف، والحورية ذات الشعر الأسود رطبة، أخَّاذة، رشيقة، وساحرة. كانت على راحتها تمامًا حتى بدت وكأنها مُغطَّاة بالثياب. قالت: «كان لطيفًا لُقياكم. آمُل أن أراكم مرة أخرى.»

– «هذا ما نرجوه. شكرًا. طابت ليلتكم.»

ظلت الحورية الشقراء (التي لم تتحرَّك منذ خمس ساعات) في المخدع. وفتحت الحورية ذات الشعر الأسود الباب الأمامي.

لم يقُل أحدهم شيئًا. لكنهم عندما بلغوا الطريق شاهدوا الستارة المخملية للنافذة الأمامية تنحَسِر عن أجساد بيضاء، ولمحوا مُضيفتهم والأمريكي يلوِّحان مُودِّعَين وهما يبتسمان في مرح. لوَّحوا لهما بدورهم. وضحكوا في ارتياح لأنهم أصبحوا أحرارًا.

تفرَّق الجمع عند الكافيتريا الليلية القريبة. واستقلَّت هي سيارة أجرة مع مرافق سهرتها .. رجل الإعلان الشاب الذي كان نجمه في صعود. لم ينبس أحدهما بكلمةٍ بعضَ الوقت. وانسابت السيارة في شوارع صباح الأحد الهادئة. وأخيرًا مال ناحيتها قائلًا: «لا أُحِب المراوغة. نعم أم لا؟»

قالت: «لا.»

تراجع إلى الخلف وقد بدت الحيرة والألم على وجهه: «ترفضينني!»

وقطَعا بقية الطريق إلى مسكنها في صمت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤