يوميات زوجة غير مُخلصة

للكاتبة الإيرلندية إدنا أوبريان (١٩٦٦م)
Diary of an unfaithful wife by Edna O’berien 1966

كان قرطي ضائعًا. بحثتُ عنه فوق الأريكة وخلف الوسادة. وقلتُ كأنما أُخاطب نفسي: «سأفتقِده.» كان عبارة عن قطعة فيروز مُثبتة في سلسلةٍ صغيرة من الذهب. نزع «ب» القرط الآخر وسألني، في رقة، ما إذا كان ثُقب أذني يؤلِمني. قلتُ له: «كلَّا، إلا إذا عبث أحد بقرطي.» وسرعان ما كنا نتبادل القبلات من جديد. وفيما بعد وضع يدَه في جيبه فوجد القرط، وقال: «هل أنتِ التي وضعتِه؟» استأتُ من تفكيره بأن في وسعي أن أفعل شيئًا كهذا. كان واعيًا لأول مرةٍ بخطر افتضاح أمرِنا. فقد كان أمنُه «مُهددًا» (تلك الكلمة مرة أخرى).

لم يحدث أن رقصْنا أو لعبنا التنس أو أخذنا الباص سويًّا.

رعشه طويلة: من خلف عُنقي حتى عقبيَّ. أفكر في سياجٍ من الأسلاك شُحنت بالكهرباء لتُبعِد الخراف. وتنمو الفكرة معي. أغلب من أعرفهم من الخراف. قد لا يكونون كذلك في أعماقهم، لكني أقصد نفوسهم التي يعرضونها على الملأ في حفلات العشاء وغيرها من المناسبات. بوسعي أن أتصوَّر وجه «ب» الآن، وفي البداية كان غالبًا ما يتلاشى من ذهني حال ظهوره. عندما تلتقي عيوننا ونُحدق النظر، نفعل ذلك بطريقةٍ تجعلنا أكثر حياةً وأكثر موتًا. الموت بالنسبة إلى العالم الخارجي، والحياة بالنسبة إلى أنفسنا. هل هذا هو ما فعله نارسيس في البحيرة؟ هل هذا هو الحب؟

قال: «عندما لا تتحَّدث النساء في الفراش، تزيد قُدرة الرجل على تذكُّر الجسد.» لعلَّ «هي» تُطبق فمها.

كنتُ أول من وصل هناك. لا أستطيع أن أضبط وقت هذه الأمور. كما هو الحال في السمنة أو النحافة — فلم يحدُث أبدًا أن كنتُ سمينة أو نحيفة، لأني دائمًا في الطريق لأن أكون كذلك. كانت الردهة مزدحمة. وكانت هناك لوحات ملوَّنة عن رحلات إلى أماكن أخرى. الريفيرا زرقاء وكذلك أثينا. عندما دخل «ب» قلتُ له: «دعنا نذهب إلى أثينا الزرقاء.» كان بودي أن أذهب معه بعيدًا لمدة أسبوع. مجرد أسبوع واحد نعرف أنه سرعان ما ينتهي. كانت قاعة الطعام ضخمة. وطلبتُ مائدةً في الركن لأني شعرتُ أني سأقع لو جلسنا في الوسط. لا أستطيع مضغ الطعام أمامه. عندما نفترق يبدو دائمًا سعيدًا، بينما أكون مكتئبة. يُعجبني هذا فيه. ويُعجبني الرجال. أنا معجبة بزوجي أيضًا. ليس بسبب رقَّته، وإنما بسبب عمله، فهو يقضي اليوم كله بين السجلات والملفات والناس.

أتأرجح بين السعادة وأقصى درجات اليأس. التقيتُ صغيري جيريمي بعد المدرسة. تأخَّرت خمس دقائق. انصرف جميع الأطفال الآخرين. كان موشكًا على البكاء. قال «انحلَّ رباط حذائي.» لم يكن هذا صحيحًا. الأطفال خبثاء.

أمسية تسكُنها أمسيات جميلة أخرى. وأنا أستعدُّ للقاء «ب» فكرت في الاستعداد لزوجي، وبدا كل شيءٍ سليمًا وكاملًا ومُتناسقًا. كان مخدعي باردًا لأن الأنابيب أصيبت بشيءٍ من التلَف، وفكرتُ في ورقة نعناع تجمَّد الصقيع فوقها، واختلطت هذه الفكرة بزخارف الكعك وحشيشة الملائكة. كان شعورًا جميلًا في تلك الأمسية الباردة اللاهثة، أن أكون قادرة على التفكير في غُصن نعناع غطَّاه الصقيع، وفم «ب» عندما نلتقي ويمتدُّ ليلمس فمي بدلًا من أن يقول هاللو. ما كان يجب أن أطلب ذلك منه. قال: «أكتب إليك؟ لماذا يجب أن أفعل ذلك؟» لعلَّه ظن أني أُطالب ببرهان على حُبه. ويبدو أنه كان على حق.

أظنني أخون «ب» بتدوين كل هذا. إنما الأمران غريبان حقًّا: يقظته وإهمالي. فهو يتلفت حوله عندما نكون في مكانٍ عامٍّ. وعادة ما تكون ياقته ضيقةً للغاية مما يؤلِم عنقه عندما يتطلَّع حوله. كأنه مُتزوج وأنا لست كذلك.

عندما نكون أنا و«ب» في أحسن حالاتنا معًا، يتحتَّم علينا دائمًا أن ننصرف. ويتملَّكني الخوف. أندفع إلى منزلي. أروي الأكاذيب لسائق التاكسي. وأفكر فيما يمكن أن أرويه له ليُضاعِف سرعته. ويكاد زحام المرور يُصيبني بالجنون. إنها أسوأ اللحظات، لا يخفق فيها قلبي وحدَه، بل كُلي.

المقاهي، الحدائق، المقاهي. يقول إننا لو ذهبْنا إلى الكوخ، فإن المرأة، امرأة ما، ستذهب قبلَنا بيومٍ وتُوقِد نارًا. تُوقِد نارًا! أريد الأمر باردًا، لنجلس تحت الأغطية، كالمرضى، ونرتشف الويسكي. لا أريدُه دافئًا ومريحًا كالبيت.

أعطى «ب» هبةً للساقي. قلت: «ما أغرب أن تفعل هذا!» قال إنه لا بدَّ من ذلك. قلت: «أنت مُحدَث نعمة.» وساد الصمت. أظن أنني جرحتُه. (صَبيٌّ مسكين قام بعملٍ طيب. أحقًّا لا يتخلَّصون من هذا الشعور؟) وعندما غادرنا المكان كانت السماء تمطر. ووقفنا ننتظِر سيارة. قال: «خذي أنت أول سيارة.» لم يقُل هذا أبدًا من قبل. كان يُرافقني عادة بعض الطريق ثم يُغادر السيارة. ربما كان المطر هو السبب. أتيت البيت غارقة في العطْر. أحمل زجاجةً معي لأُغطي رائحته بعد أن أتركه. أدخل منزل زوجي تفوح مني رائحة الجرم.

يقطن «ب» منزلًا عاليًا: مطرقة بابٍ من الطراز الجيورجي، أربع زجاجاتٍ من الحليب في اليوم (حسب الزجاجات الفارغة خارجه)، وستائر من الحرير الشفَّاف. أعرف كل هذا. أعرف رقم هاتف منزله. ولا يعرف أني أعرف. بحثتُ عنه في دليل الهاتف. وذات ليلةٍ مضيتُ لأرى المنزل. كما لو كانت رؤيته ستشفيني. قال زوجي عندما عدت: «كانت نُزهة طويلة.» قلت: «ذهبتُ إلى هامبستيد لأرى كيف تبدو.» «وكيف كانت تبدو؟» قلتُ في شيءٍ من المزاح: «تبعث على الاهتمام.» لكن البرد في الغرفة كان شديدًا. قلت: «يجب أن نفعل شيئًا بشأن هذه الدفايات.» قال «أ»: «حسنًا، لديك اليوم كله، أليس كذلك؟» اندفعتُ خارجةً من الغرفة لأُعِدَّ الشاي. الآخرون قد يفقدون أعصابهم أو ينهارون أو ينتحِرون، أما أنا فقد صنعتُ الشاي باعتداد شديد. وحملته إلى «أ» مع بعض التوست. وأدرت أسطوانة صلوات يهودية. تحدثنا في ودٍّ، لكن لم يكن في الإمكان التخلُّص من برد الحجرة. كان وجه جيرمي دافئًا في الفراش. من عادته أن يُقلِّص أنفه عندما أعطيه قبلة النوم. أضأتُ النور لأرى بُقَع النمش المُنتشرة على أنفه. وجدتها قاربت على الاختفاء. سألني «أ» لماذا أضأت النور. قلتُ لأرى بُقَع النمش. قال إن النمش كان هناك في الساعة الثامنة عندما مضيتِ إلى الخارج، أو إني لم أفكر في ذلك؟

نعش منعزل من الوحدة.

– «الدخول في حياة شخص آخر أمر مُرعب.» هارولد بينتر. «عدم الدخول في حياة شخص آخر أمر قاسٍ للغاية.» أنا. عندما أقع في الحُب فإنه الربيع أيًّا كان الوقت. لا أهمية للأوراق المُتساقطة، فهي تنتمي إلى فصلٍ آخر.

حاولتُ أن أمزح من أجل «أ» حدثته عن عجوز في التسعين تضع على مكتبها لوحة تحمِل هذه الكلمة: «الشبق». قلتُ لعلَّها تشدُّ من أزر نفسها. قال: «الاحتمال الأغلب أنها نصيحة شفرية لمُراهنات الجياد.» هذا الاتجاه للتقليل من المُبالغة في الأشياء والذي كنتُ أُحبه في «أ» هو الذي أكرهه فيه الآن كثيرًا. خرجنا لنزهةٍ قصيرة سيرًا على الأقدام. لم يحدث أبدًا أن مشى ثلاثتنا سويًّا. فإما أن يكون جيريمي معه في المُقدمة وأنا في أثرهما. أو نكون أنا وجيريمي معًا بينما يستغرق «أ» في خواطره. كانت أمامه قضية طلاق، وأفكر كم هو غريب أن يعرف أسرار الجميع ماعداي. وأنظر إلى زوجي وأودُّ أن أركع أمامه وأسأله المغفرة.

أيام الآحاد التي أقضيها مع أُسرتي هي أسوأ الأيام.

رأيت إعلانًا عن فيلم فيه صور أربع نساء وتحتها سطر يقول: «مراهقة، زوجة قلقة، شيطانة، عاهرة.» أنا كل أولئك.

نبأ مُذهل في الصحيفة. ارتاب رجل في أن زوجته تخونه. وحدس أنها أرسلت برقيةً إلى عشيقها. فكَّر أنها لا بد كتبت مسودة البرقية أولًا وألقت بها في سلة المُهملات بمكتب البريد. ذهب إلى المكتب وعثر على المسودة. كانت تقول: «أحبك، أفتقدك، أراك يوم الثلاثاء.» قطَّعتُ النبأ وتركتُه على مكتب «أ» ليكون مزحةً وتغطية في الوقت نفسه. لم يعُد المطر يُخفي رائحة الجرم.

ضغطتُ يد «ب» فأجفل. كنت قد ضغطتُ على قطعةٍ من اللاصق؛ فقد جُرِح إصبعه أثناء الحلاقة. قلتُ إني قرأت مرةً أننا إذا اعتصرنا الليمون فوق المحار، فإنه يجفل وينكمش، رغم أن ذلك لا يظهر للعين المجردة. طلبنا دستتين من المحار وكميةً من الليمون، وكانت تلك من المرات التي كنَّا فيها قُساةً مع كل شيء. ما عدانا نحن. ولهذا كان الأمر على ما يُرام.

– «إنها في حرب مع قدرها. ماذا كانت تملك غير أن تموت شابة، مقيدة، محبطة؟» هذا ما قالته فيرجينيا وولف عن شارلوت برونتي. حسنًا، لن يقول أحد إني متُّ مُقيدة ومُحبطة. كل شابٍّ يصفِّر لي الآن أبتسِم له. إذا كانت علاقتي مع «ب» ستُعيدني إلى مراهقتي. فلأكن مراهقة في كل شيء.

أنا وجيريمي نأكل الكعك ونلعب.

بوسعي الآن أن أرى كيف تلغي الحرب التزام الشرَف اليومي، وكم في هذا من راحةٍ وخلاص؟ قرأت الصحف، حروب كثيرة، لكن في الجانب الآخر من العالم. «أ» و«ب» في خندقٍ واحد يحملان صورًا لي، كما نرى في الأفلام. ذهبتُ أربع مرات لأرى فيلم جان لوك جودار «امرأة متزوِّجة». إنه في صفِّي. فكِلا الرجُلَين يتكشَّفان عن مُغفَّلَين والمرأة — حتى — لا تَحْمل.

يتملَّكني شعور فظيع بأن الأمر سينتهي بطريقةٍ غبية. مثلًا، لا يظهر «ب» في أحد مواعيدنا، أو لا أظهر أنا، ثم لا نتمكن أبدًا من الاتصال ببعضنا البعض لنتَّفِق على موعدٍ آخر. ممكن. كتبتُ إليه رسالة واحدة. سألته زوجته: «ممن؟» قال: «الناشر.» قالت: «في يوم أحد؟» وانتهى الحديث — كما ذكره لي — عند هذا الحد. انتظرت إباحة أخرى، خيانة ثانيةً لها — مثلما ينتظِر المرء عملية شنق — لكنه لم يفعل. أشعر الآن بالسرور لذلك، رغم أني وقتها كنتُ ساخطة. قال: «ستكون جميلة هذه الرسائل، لكن الأفضل ألا تفعلي.» قلت: «ستكون جميعًا رقيقة للغاية وعميقة مثل نتف صغيرة من نثار الورق (كذب)، لكن الأفضل ألا نفعل.»

قُبلتنا الأولى — من بين جميع الأماكن في مدخل جاراج — كانت مضحكة. كان الجاراج مُغلقًا وفوق بابه لافتة تقول: «حد الارتفاع ٨ أقدام و٦ بوصات». تظاهر بأنه يقيس طولي ثم قبلني وتراجع إلى الخلف قائلًا: «والآن قبليني.» قلت: «لا أستطيع. لا أعرف كيف.» ومع ذلك فعَلْت. وتناولنا العشاء. رويتُ له كل الأشياء المضحكة التي خطرت ببالي، وكانت تتدفق طول الوقت. ضحكنا كثيرًا وشربنا نبيذ القران. اضطجع في المقعد الذي كان يُشبه الأريكة وابتسم. كانت بيننا وسادة فرفَعَها وقال: «تلقيتُ عرضًا بشلنٍ واحد مقابل هذه الوسادة.» ثم انحنى وأزال إحدى فردتَي حذائي ووضع الوسادة تحت قدمي. كان الأمر لذيذًا. قال إنه كان يجب أن تكون هناك غُرَف في الطابق الأعلى. قلت: «كلَّا. إذا كان سيحدُث شيء بيننا، فيجب أن يكون مرحًا، أخلاقيًّا، جذلًا.» «مرحًا؟» قال مدهوشًا. قلت: «أكان هذا سوقيَّةً منِّي؟» قال: «كلَّا على الإطلاق، لكن يبدو أنك فتاة حزينة. حزينة.» كنتُ مهرجانًا من الضحك في تلك الليلة بالذات. كان يجدُر به أن يراني في حالتي العادية. بالطبع لم أقُل له ذلك (هذا هو الفخ: نحن نُخفي الجانب الأصدق من نفوسنا عندما نُحِب). ابتسمتُ بحُزن. فمتى ظنُّوك شيئًا تبدئين في تمثيله بجنون. ظلَّ يداعب قدمي فوق الوسادة ولا أذكر أني شعرتُ بقلقٍ ما على تأخُّر عودتي إلى البيت.

ولج «ب» الحفل واضعًا نظارته، وخلعها، ثم وقف وظهرُه إلى الجدار، ثم وضعها من جديد. فكرت: هذا الرجل عصبي ووسيم. كان هناك ستون شخصًا يتناولون العشاء. أظنُّها كانت مقاعد مُستأجرة. المقاعد الصغيرة المُذهَّبة التي تراها في المطاعم الأنيقة. كنتُ أجلس إلى مائدته، ليس بجواره مباشرة وإنما أمامه. لم يكن يأكل شيئًا. وقلت عبر المائدة: «لماذا لا تأكل؟» قال: «لا آكُل لحم الكندوز.» بعد ذلك تبادلنا النظرات. رفض البودنج وكذلك أنا (بودنج جميل بالكستناء تعلوه الكريمة وتُحيط به قطع البسكويت من الجوانب). نظرة مُتورطة تذهب بالشهية. وفيما بعد، في المخدع، كانت هناك نسوة يتحدَّثن. لا أذكر سوى الرداء دون الوجه. كان رداءً طويلًا من المخمل الأسود. وبعد ذلك رأيتها تتحدَّث إلى «ب» وتنصرف. سألت: «من هذه؟» وقال لي شخصٌ ما إنها زوجته بينما كانت تمضي بعيدًا. كان ظهرها نحوي ولهذا لم أر وجهها أبدًا. يبدو أنها تُغني في نادٍ ليلي. عندما اختفت اقترب منِّي. قدَّم إليَّ مسواك أسنان، مازحًا. قلت: «إنها من الخشب ولستُ آكُله.» قال: «الفكرة أن شذراتها تعلق بأسنانك ويتعين عليك أن تتخلَّصي منها بالإضافة إلى بقايا الطعام.» يكتب روايات. إنها هكذا. تفيض بأشياء غريبة مضحكة، لكنها حزينة من وراء هذا كله. اقترب منَّا آخرون ليلتفوا من حوله، وفقدتُه. ثم لم أفقِدْه. شعرتُ أنه يدبر أمرًا. وجاءني بعد قليل: «نحن ذاهبون إلى مباراة بوكر وقد دُعِي زوجك إليها.» قلتُ دون أن يبدو شيء على وجهي: «حسنًا.» وراعيتُ أن أذهب إلى السيارة في رفقة «أ»، وكان من السهل أن أكون سعيدة. تدخين مُتواصل وشراب مُتواصل ولا أثر لرغبةٍ في النعاس.

لستُ أُنكر هذه الرغبة الوحشية. أريد أن يكون الجميع في حُبٍّ. إنه جُبن وضعف وقذارة. لكنه عظيم. يبدو أني أتناول بالتفصيل تلك المرحلة من حياتي لأن حياتي قبلها كانت مُجدبة.

أبكي قليلًا، أضحك قليلًا، أجري، أجل أجري في الطريق مع جيريمي كما لو كنتُ في التاسعة. أتمدَّد وأظنُّ أني قادرة على لمس النجوم. أتنفَّس بعُمق، أتحدَّث كثيرًا جدًّا. أترك نفسي أنطلق في فوراتٍ انفعالية، ثم أظن أني أتصرَّف في سُخف أو يظن أحد ذلك بالنيابة عني، وأكفُّ.

كان الحب دائمًا يُوجِّه حياتي. أعرف أن هناك مغامرات ليس أبطالها من الرجال، وليست حِسِّية، لكن لا شأن لي بهذه المغامرات. إنها ليست لي. أريد دائمًا أن أُحِب، فالقبر هو البديل. العقل بالتأكيد يتدخَّل ويُحدِّثني عن الهدف من الحياة، وعن الأمومة والمسئولية. لا بد وأن أعترف أن الكثير من الآباء والأمهات جادُّون. أغلبهم كذلك، وبالرغم من ذلك، فإن الكثير من الأطفال تُعساء. لماذا؟

لا أتمكن من الخروج للنزهة، لكن الأمر يخطر لي: الزنا. زناهم، زناي، زنا الجميع. ذهبت إلى الحديقة في الصباح. في أحد الأكواخ الصيفية رأيت عربة صغيرة تحمل طفلًا. وبالقُرب رجل وامرأة. ظننتُهما زوجَين سعيدَين خرجا سويًّا ليُنزِّها طفلهما. وعندما اقتربت منهما رأيتهما يتبادلان القبلات. وظللتُ أعتقد أنهما زوجان سعيدان. وعندما سمِعا وقع خطواتي فوق أوراق الأشجار — وكنا في الخريف — انفصلا في سرعةٍ وعُنف. خطواتي جعلت منهما عدوَّين. الإحساس بالإثم شيء فظيع. ولا يجعلني هذا أكفُّ عن رؤية «ب». لعله يُشجعني على ذلك وإن كان يحول بيني وبين الاستمتاع بالأمر. أردتُ أن أقول لعاشِقَي الحديقة: «استمرَّا. تبادلا القبلات. كونا سعيدَين.» لكني بالطبع لم أقُل شيئًا.

سيكون الأمر رائعًا لو عُدتُ شابة من جديدٍ ونظَّمتُ حياتي بصورة مختلفة. وهنا يثور بالطبع السؤال: من منهما كنتُ أتزوَّج؟ الإجابة ليس لها معنى مثل الإجابة التي سأحصل عليها من انتزاع أوراق الأقحوان. واحدة نعم. وواحدة لا. ينتابني شعور فظيع بأني ما كنتُ سأتزوَّج أحدًا منهما. أنا مُشوَّشة في أعماقي. أليس الجميع كذلك؟

يُطاردني شعور بأن الأمر سينتهي بطريقة غبية.

أعرف الآن أن الغيرة هي النتيجة المباشرة للخيانة. يقول «أ»: «قد أتأخَّر هذا المساء.» ويبدأ قلبي في الخفقان، وأقول: «لماذا؟ متى؟ أين؟» في اندفاع. وأظنه سيتركني في الغد، أو سيلتقي بإحدى المُطلقات اللاتي يتردَّدنَ عليه.

دائمًا أفكر إلى الأمام. أُعِد طعام العشاء بحيث يكفي ليومَين في حالة ما إذا اتَّصل بي «ب» واحتجتُ إلى الخروج فجأة. أذهب لرؤية أناسٍ لا أريد أن أراهم كي أُعطي الأكاذيب مظهرًا من الصدق. رأيتُ امرأةً مضجرة أمس، حدَّثتني عن مغامرةٍ لها فوق باخرة، وكيف أنها لم تستطع لأنها لو فعلت لشعرت بأنها مومس بينما يختلف الأمر لو جرى في منزلها. مراعاة المكانة والوقار! مضيتُ إلى الهاتف لأتَّصِل به. على الجدار هذه العبارة: «أُحِب لسلي وجوان.» حدثتُ «ب» عن العبارة. قلت: «ألا تظن أنها معقولة؟» قال: «جدًّا.» إنه أكثر عمقًا منِّي فهو لا يتحدَّث كثيرًا.

الغذاء مع «ب» في مشرب. كنت أتسوَّق. أخجلَني أن ألِجَه حاملةً مُشترياتي. ظننتُ أن الأمر سيبدو بيتيًّا تمامًا أو لعلني خشيتُ ألا أُصبح مُثيرة للاهتمام؟ جلسْنا متلاصقَين بسبب الزحام. الحركة وسط النهار شديدة. لم أشهدها قطُّ من قبل. تحدَّثنا عن البساتين. كان له واحدٌ ذات مرة وزرعه تفاحًا. قال: «أتعرفين أن هناك ورودًا لها رائحة التفاح؟» قلت: «كلَّا.» قال: «هل تعرفين أن للورود الحمراء قلوبًا بيضاء؟» قلت: «كلَّا.» قال: «اعتدتُ أن أُفتِّش فيها بحثًا عن الآفات.» كان ذلك جميلًا.

يضع نظَّارته ثم يخلعها من جديد. أظن أن عينَيه ضعيفتان. تبدوان أحيانًا مُتعبتَين ولهذا يبتسم في شحوب، في تناقُضٍ واضح مع ذقنه البارز مثل النتوء الجبلي.

مسكينة «إما بوفاري».

هناك صخرتان في اليابان (على ما أعتقد)، تقعان على جانبَي البحر، ويمتدُّ بينهما حبل. فهم يعتقدون أنهما صخرتا عاشقَين، أو أن العاشِقَين تجسَّدا فيهما بعد موتهما، أو غير ذلك من الأساطير التي تُناسِب حالتي وأنا تحت سلطان الحب.

شممتُ رائحة النرجس، لكني لم أر شيئًا منه إلا في الرأس. مرج كامل، أبيض، برائحته المرة الجميلة. كان معطف «ب» في لون الغبار، ولمسته أول مرة عند القبلة الأولى حيث كانت اللافتة تقول: «٨ أقدام و٦ بوصات». كأني كنتُ ألمس زهرة من الورق. الآن اختلط كل شيءٍ في رأسي: مرج النرجس، الغبار فوق الطرقات الجبلية، سُترته، الرمش الذي سقط فوق الحافة السُّفلى لعين نظارته اليُسرى، معطفه الذي يُشعرني بالورق، وقبلته التي تُشعرني بالزهرة. المرة الأولى دائمًا مجنونة. أعرف ما يمكن أن يكون عليه شعور مُدمني الخمر في الثانية التي تسبق اقترابهم من الشراب، وما يشعر به لصوص المتاجر عندما تُطبق أيديهم على سلعة، لأني أعتبر نفسي من هؤلاء، هؤلاء المغامرين الخائفين الشرِهين.

حجراتنا. غاباتنا. مطاعِمنا. حرارتنا وأشواقنا التي لا يشهد عليها سوى الأثاث. في إحدى الغُرَف كان هناك سقف مُزخرَف أُعجبت به. لم أقل ذلك. فيما بعد قال «ب»: «سقف جميل.» قلت: «لا أستطيع أن أُشير إلى الأشياء التي أراها أو أقول الأشياء التي أفكر فيها عندما أُحِب شخصًا ما.» قال: «هذه وحدة، وحدة يائسة.» وفكرت: هو وزوجته يتشاركان الأشياء ولهذا يبقى معها وسوف يبقى معها. أأنا مهووسة وبلهاء؟ كان المسكن لأحد أصدقائه، ومرتبًا بصورةٍ لا تُصدَّق.

كان قد تناول العشاء في الخارج. قال إن الحديث دار حول الحمَّامات وطُرزها … إلخ. قلت إن الأزواج الأثرياء يُسبغون خيالًا ومالًا فائقَين على الحمَّامات. سألته ما إذا كانت هناك علاقة بين ذلك وبين الجنس، ألا يظن أن كل هذه المرايا، وكل هذه الزجاجات الزرقاء، وكل هذه الأحواض، كل هذه الأوراق البديعة التي تُغطي الجدران، هي محاولة لصُنع هالة جنسية جميلة؟ تطلَّع إليَّ باهتمامٍ وقال إن الأمر مُحتمَل، ثم نزع نظارته، ودلَّك عينَيه، الأمر الذي يفعله عادةً عندما يكون ضائقًا بشيء أو متعبًا. أظنُّ أني وضعتُ قدمي على الأمر. أعتقد أن «لدَيهما» حمامًا جنسيًّا. حاولتُ مصالحته فقلت: «عندما أُحِب أفضل الأماكن المُوحشة المهجورة، المطاعم الرخيصة، والبيرة المرة بدلًا من الويسكي.» قال: «يجب أن أتذكَّر ذلك.» قالها ببذاءة. كان الزعل الأول بيننا. لم يكن زعَلًا بل خلاف في الرأي حول الحمَّامات. يا إلهي! لا أملك فكاكًا من ديانتي وأساطيرها. فقد نشأت عليها.

عندما ذهبتُ مع زوجي لنلعب البوكر، لم ألعب لأني لا أعرف. أجلسوني بجوار «ب» كي أكون قريبةً من الباب، فأفيد في إحضار الشراب إليهم، كنتُ الشخص الوحيد الذي لا يلعب. ومع ذلك دوَّن لي ما تجمَّع لدَيه من أوراق رابحة. أول ما كتب: «زوج»، ثم «زوجان». وقلت: «أليس الأمر حميميًّا للغاية؟» فضَحِك بخُبث وكفَّ عن الكتابة، وترك الورقة أمامي، وكانت هذه الإيماءة البريئة في الظاهر، مثل حِلفٍ عُقِد بيننا. وازداد اللاعبون استغراقًا وصمتًا. وفكرت: إنهم يكشفون عن نفوسهم الحقيقية في هذه اللعبة. وقلت له: «إنك لا تبدو شديد العدوانية.» نظر إليَّ وإلى يدي المبسوطة على المائدة، ثم وضع يدَه إلى جوارها، ورغم أنه لم يلمسها، فإنه كان بهذه الإيماءة يُراوِدني عن نفسي لأول مرة. لم نفُه بكلمة. نظرت إلى «أ». كان قد استدار إلى شخصٍ ما يسأله: «ماذا لديك؟» وفكرت: لن أنسى هذه اللحظة مُطلقًا. يد «ب» ويدي مُتلامِستان رغم أنهما غير مُتلامستَين. ذهني، أطرافي، وعيي، كلها تطير مثل أذهان وأطراف ووعي في حالة انفلاتٍ مرح. لعبوا طويلًا، وقبل أن نفترق كتب إليَّ «ب» على ظهر ورقة: «هل تُقابلينني غدًا صباحًا في الكنكو على طريق كنج؟ لا بأس إذا لم تتمكني، لأني أذهب هناك على أية حال لأشحذ قريحتي.» قرأتها، وراقَبَني وأنا أقرأها، ولم يكن أحدُنا مدهوشًا.

لا أُسِرُّ بشيءٍ لأحد، ليس غير هذه المفكرة التعسة. اليوم سأغسل الستائر، سبعة عشر زوجًا منها، وأُنشِّي ما يحتاج منها إلى تنشِية، وأكويها كلها ثم أُعلقها من جديد وأكون مُتعبة للغاية بحيث لا أحتمل التفكير في الأمر.

سألني «ب»: «ماذا فعلت بالأمس؟»

قلت: «شممتُ رائحة السنط، ورأيتُ الأوراق تتطاير في رأسي، بكافة الألوان، وعندما رقدتُ في المساء، لم يكن بوسعي أن أطرد الأوراق والألوان من رأسي.»

قال: «حلوة، فتاة حلوة.» لا بد أنه يظن الحياة معي ستكون شاعرية، بالأوراق التي تتطاير، والروائح والمشاعر، وألا يكون المرء مُضطرًّا إلى تقطيع الجزر. هذا هو الانطباع الذي أُعطيه. لا شفاء لي.

أتأرجح بين السعادة وأقصى درجات اليأس. جشع، أكاذيب، إمساك، أكاذيب، ويُمثِّل الحب جانبًا ضئيلًا وسط هذا كله. ترى كم هناك من أنواع الحب؟ كم شخصًا من الذين أعرفهم قادر حقًّا على الحب؟

حدث ما كنتُ أعتقد طول الوقت أنه سيحدث. كنا سنلتقي في البهو ولم يأت. وبعد ساعةٍ وأكثر تقدَّمتُ من مكتب الاستقبال. سألتُ عما إذا كانت هناك رسالة لي. لا شيء. بعد ساعة أخرى عُدتُ إلى البيت.

في اليوم التالي، عندما لم يتَّصِل بي، طلبتُه أنا. ردَّت عليَّ امرأة. وضعت السماعة. لا بد أنه فهم. فقد طلبَني بعد قليل. أنكرتُ أني حاولت الاتصال به. قال إن زوجته شعرت بالأمر وقالت إنه لو رآني مرةً أخرى فسينتهي كل شيءٍ بينهما. قلت «هذا لا يعقل.» قال: «الناس هكذا .. يجب أن نكفَّ عن اللقاء بضعة أسابيع.» كان يبدو خائفًا. قلت: «هل يمكن أن نلتقي مرةً واحدة فقط.» قال: «بعد أسابيع.» هكذا انتهي الأمر، بصورةٍ عبثية.

يقول كامي: «لا آسَف على شيء، وبهذا أعرف أنه كان حسنًا.»

لستُ بآسفة. ما زلت أحتفظ بذكرى شيء حسن لكنه لم يكتمل. آمُل أن يتَّصِل بي. لن يفعل. بل إن الأمل في هاتفٍ منه غاض. وأصبحتُ أُعزِّي نفسي بأن هناك أيامًا يحتاجني فيها، لكنه لا يملك شيئًا حيال ذلك.

أصنع كعكًا. كعك ماديرا وحساءً باردًا. أظن أني حامل. أميل إلى هذا الظن رغم ما يتوفَّر من أدلةٍ على العكس. عاد جيريمي من المدرسة. قلت: «لدَينا كعك بيتي.» وقال: «مذاقه بشع.» خاب أملي فيه؛ لأنه لم يُحب الكعك ثم خاب أملي في نفسي؛ لأني عوَّلتُ على هذه السخافة: أن يُحسِّن الكعك من صورتي في عينَي ابني. لدَيه حسن الإدراك أكثر مما لدي. يُريدني سعيدة، ولا يعبأ أبدًا بالكعك البيتي أو الملاءات النظيفة، فهو يريد أن يبقى في عالمه الخيالي الخاص. يريد أخًا. يا إلهي، إذا كنتُ حاملًا فلا بد من اختبار دم.

قرأتُ مرة أن سقوط كافة الرجال العظماء، والزعماء، والرجال الصغار، الذين سقطوا، كان جزءًا من شخصياتهم. أنا أومن بذلك، كما يؤمن المرء عندما يُثبت لنفسه شيئًا. ليلة أمس بعد أن أطفأنا النور شرعتُ بالبكاء وقال «أ»: «هذا البكاء أصبح عادةً لدَيك.» قلت: «لقد انتهى الأمر تقريبًا.» قال: «ماذا؟» وأخبرته. رويتُ له الأمر مباشرة. قال: «لقد حدست.» قلت: «لماذا لم تسألني؟» قال: «لم أكن أودُّ أن أعرفه.» أدركتُ عندئذٍ أني ما كان يجب أن أُخبره، وأني بذلك ضاعفتُ من سوء الموقف. فقد حقَّرته. قال: «آمُل ألا ألتقي به أبدًا.» قلت: «لماذا؟» (أسئلتي بلهاء). قال: «لأسبابٍ واضحة.» شهقتُ وعندئذٍ غادر الفراش وأضاء النور وتناول الكتب من فوق المنضدة المجاورة للفراش، وأخذ أيضًا زجاجة الأسبيرين، وغادر الحجرة. وتبعتُه بملاءة. قدمتُها إليه في غرفة الضيوف. حاولت أن أعتذِر فقال: «لا تفعلي!» كنت أعرف أن أفضل شيءٍ هو أن أُغادر الغرفة وأتركه بمفرده وأترك الأمر يصلح نفسه بنفسه، لكني لم أستطع. ظللتُ واقفة أُردِّد: آسفة، آسفة، رغم أني أعرف حماقة ذلك. لم أتمكن من الحركة. هذا الشلل، هذا الفشل لإرادتي في أن تُحرك جسدي، أرعبَني. ألقى بالملاءة خلفي .. فاستقرَّت على الأرض في كومة. لم أستطع جذبَها معي. بالكاد قدرتُ أن أحمل نفسي. تساءلتُ ما إذا كان سيقتلني.

لم يفعل. ما زال في حجرة الضيوف. أعتقد أن كل شيءٍ سيكون على ما يرام في هذا الوقت من السنة المقبلة. اتصلتُ بواحدةٍ تعرف «ب» وزوجته وسألتها: «هل ترينهما؟» قالت: «إنهما لا يُقابلان أحدًا، خوفًا من أن يفقد أحدهما الآخر.» خطر لي أنه من المُستحيل أن أكون قد عرفتُه ذات يوم، وأن أحدًا لا يعرف أني عرفته، وأحببتُه، وتلقيتُ حُبه. إنه سِر سيأتي وقت — وسوف يأتي هذا الوقت — يتلاشى في عالَم الأحلام. مثل أبطال فيلم «العام الماضي في مارينباد» لم أعُد واثقة إذا كان شيءٌ قد حدث فعلًا، أو هو شيء قلتُ لنفسي إنه حدث كوسيلةٍ لقضاء الوقت. ليس لديَّ شيء يخصُّه، لا ذكرى، ولا حتى إحدى رواياته تحمِل توقيعه. أملك بالطبع التواء جسده فوق جسدي. لو كانت الأجساد كالأحجار، أو الخشب، أو أواني السكر الفضية، لاحتفظ جسدي بكل علامات جسدِه، لكان جسدي مثل سطح مائدة، يحمل ويحتفظ بالدليل على كل ما جرى له.

عدم المعرفة هو أسوأ ما في الأمر. لو أرسل ورقةً أو برقية، أو أي شيءٍ بكلمة واحدة: «انتهينا.» لتحمَّلتُ الأمر، لكني ما زلتُ أتعلق، مثل قطعة من صحيفة مُبتلة مُتشبثة بسياج. التعلق بالأمل هو الذي يُحطمني. لو أمكنني أن أكفَّ.

كونه كاتبًا هو بالتأكيد ما دفعه لصُحبتي. إنهم يمتصُّون الآخرين، ثم يضعونهم على الورق ويقضون عليهم بذلك قضاءً مُبرمًا.

مرة واحدة فقط سألني عن «أ». وقلت: «إنه وحيد لا أصدقاء له.» ما كان يجدُر بي أن أقول ذلك.

كم أنا كئيبة!

جرحتُ نفسي على حافة علبة كُمِّثرى من الصفيح، وتركتُ الجرح يتعفن، وبذلك رفعتُ من شأن نفسي في عيون أُسرتي، وحقَّرت من نفسي في عيني.

كم أنا كئيبة!

طول اليوم كنتُ حزينة، رغم أني ثملة.

ذهبت إلى المدرسة، المدرسة التي يتردَّد عليها طفله. كنا مرةً نتناول الغداء وقال إنه يجِب أن يذهب ليكون أمام باب المدرسة في الثالثة والنصف. رافقته جانبًا من الطريق ثم توارَيت. كانت المدرسة في منزلٍ عادي بميدان، وعندما عُدت أبحثُ عنها، لم أكن واثقة أني سأستدل عليها. لكن الأمر لم يكن صعبًا. كان العنوان في الخارج، منقوشًا فوق لوحةٍ نحاسية. وصلتُ في الثالثة والنصف تمامًا، ومع ذلك لم يكن ثمَّة أثر لطفلٍ واحد. ظللتُ واقفة وقلبي يخفق بسرعة. مرَّت خمس دقائق دون أن يظهر أي طفل. ثم فكرت: إنهم لا يخرجون قبل الثالثة والأربعين دقيقة مثل بقية المدارس. لكنه قال الثالثة والنصف بدافع الحرص. وكرهته بسبب كذِبه. أول طفل ظهر عند الباب قد يكون طفله: أسمر، يفتقد إلى الشمس؛ لأن بشرته تحمرُّ بسهولة، وتصفر في الطقس المُعتم. استقل سيارة قادتها امرأة. أطفال آخرون، أمهات، سيارات: انصرفتُ قبل أن يخرج الجميع. وبدا لي الأمر كله — ذهابي هناك — دليلًا على فساد الذوق. لا يُمكنني أن أفعل هذا ثانية. الآمنون يُثيرون حفيظتي، لكن الأغبياء مثلي يثيرونها أكثر.

بوسعي أن أجد عُذرًا ما؛ أن أُرسل له هذا العذر، وأؤكد ذلك بأمانة كاملة: يُمكنني أن أفعل لو تأكدتُ أنه سيصِله هو، وهو وحدَه. لكن إذا وقع في يد شخصٍ آخر يكون هذا غدرًا. والغدر هو الشيء الوحيد في نهاية الحب الذي يُلغيه تمامًا .. بشكلٍ ما، الحب الذي يتغير أو يخبو، أو يتلاشى، طبيعي، أما الحب الذي ينتهي بالغدْر فلا تعود له في الذهن أية علاقة بالحُب على الإطلاق.

روعة. عاد جيريمي من المدرسة وقلت: «أحَدَثَ اليوم شيءٌ لطيف؟» قال: «أجل، أفلتَ أحد حيوانات الهامستر من صندوقه وأكلَ كلَّ زخارف عيد الميلاد.» انطلقنا نضحك. وفكرتُ فيما بعد أنها أول مرة منذ شهور تخطر ببالي فكرة لا علاقة لها ﺑ «أ» أو «ب». قلت لنفسي: لتكن هذه أولى لحظات كثيرة حُرة، وتناولنا أنا وجيريمي الحلوى والشاي، وضحكنا. لا أطلب أن يكون اليوم مثل الأمس أو مثل الغد. أريد أن أعيش من أجل اللحظة، من أجل التجربة الخاصة التي لا تتكرَّر. قد تكون ضحكًا، أو حبًّا أو ألمًا، أو لذة، أو أي شيء. أريد أن أكون حرة. لن أُحقِّق هذا أبدًا، لكن أحدًا لا يسعه أن يقول إني لم أحاول.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤