جامعة الكنوز

للكاتبة الأفريقية بيسي هيد (١٩٧٧م)
The Collector of treasures by Bessie Head (1977)

كان سجن الدولة المركزي، المُخصَّص للعقوبات الطويلة، في جنوب البلاد، على مسافة يوم سفر كامل من قرى الجزء الشمالي. غادروا قرية بولنج في التاسعة صباحًا، وظلَّت شاحنة الشرطة تهدُر طول اليوم، وهي تسرع جنوبًا فوق الطريق الواسع المُترب الذي يربط طرفي البلاد. وعبر شبكة السلك التي غطَّت الباب الخلفي للشاحنة، بدا العالم اليومي المؤلَّف من الحقول المحروثة، والماشية الراعية، والمساحات الشاسعة من الآكام والغابات، لا مُباليًا لعيون السجينة الجوعى. وكأنها بُلِّغت فجأة قرار الشعور بالألم والوحدة، فقد تهاوت ببطءٍ إلى الأمام، دون أن تعي بغير ألَمِها. وغربت الشمس، ثم حلَّ الغسق، وتبعته الظلمة، وما زالت الشاحنة تهدُر غير مُبالية.

في البداية، تجلَّى الوهَج البرتقالي لأضواء بلدة الاستقلال الجديدة جابوروني، شاحبًا في الأفق، مثل شبحٍ مُدهش في الظلمة الماحقة للآكام، إلى أن بلغت الشاحنة طرقًا مرصوفة، وأضواء نيون، ودكاكين، ودور سينما، فغرق الشبح في الضوء الوهَّاج. كل هذا مرَّ دون أن تشعر بما استغرقه من زمن، ودون أن تتتبَّعه، ولم تتحرك عندما توقفت الشاحنة أخيرًا خارج بوابة السجن.

لطم ضوء الكشاف جانب وجهها مثل ضربةٍ مؤلِمة. وظن الحارس أنها نائمة، فناداها في حدة: «استيقظي. لقد وصلنا.»

صارع القفل في الظلام، ثم جذب الباب السِّلكي. وزحفت خارجةً وهي تتألَّم في صمت.

صعدا سويًّا بضع درجات، وانتظرا حتى طرق أحدُهم برفقٍ فوق الباب الحديدي الثقيل. انفرج الباب عن ثغرةٍ ضيقة أطل منها الحارس الليلي ثم اتسعت الثغرة لتسمح لهما بالولوج. وقادهما الحارس الليلي إلى مكتبٍ صغير، ونظر إلى زميله متسائلًا: «ماذا لدينا اليوم؟»

أجاب الآخر في غير مبالاة وهو يناوله ملفًّا: «إنها قضية مقتل الزوج في قرية بولنج.»

أخذ الحارس الملف وجلس إلى مائدة تحمل دفترًا كبيرًا مفتوحًا. وفي خطٍّ كبير سجل التفاصيل: ديكيليدي موكوبي. التهمة: ذبْح رجل. العقوبة: مدى الحياة. وظهرت حارسة ليلية فقادت السجينة إلى غرفةٍ جانبية، وطلبت منها أن تخلع ملابسها.

سألتها وهي تناولها رداءً قطنيًّا أخضر اللون، هو بذلة السجن: «معك نقود؟»

فهزت السجينة رأسها نفيًا دون أن تنبس بحرف.

قالت الحارسة في شيء من التفكُّه: «إذن قتلت زوجك؟ ستجدين نفسك في صحبةٍ طيبة. فلدَينا أربع أخريات بنفس الجريمة. أضحت «مودة» هذه الأيام. تعالي معي.» وقادَتْها في دهليز، ثم اتجهت يسارًا، وتوقَّفت أمام بوابة حديدية فتحتها بمفتاح، وانتظرت حتى تقدَّمَتها السجينة، ثم أغلقت الباب بالمفتاح مرةً أخرى. ولجتا فناءً صغيرًا ذا جدران بالِغة الارتفاع، اصطفَّت في ناحية منه عدة مراحيض وأدشاش ودولاب. مضت الحارسة إلى الدولاب، فاستخرجت منه لفافةً سميكة من البطاطين التي تنبعث منها رائحة النظافة، ناولتها للسجينة. وكان ثمة باب حديدي ثقيل في طرف الفناء المُسوَّر، يؤدي إلى زنزانة. مضت الحارسة إلى هذا الباب، وطرقته بصوتٍ مرتفع وهي تصيح: «الشمعة يا مسجونات.»

ردَّ صوت من الداخل: «طيب.» وتردَّد صوت احتكاك الثقاب. أولجت الحارسة مفتاحها من جديد، ففتحت الباب، وقفت تُتابع السجينة وهي تبسط بطاطينها على الأرض. وكانت السجينات الأربع المُحتجزات في الزنزانة قد اعتدلنَ جالسات، وأخذن يُحدقنَ صامتات في رفيقتهنَّ الجديدة. وعندما أغلق الباب، وجَّهنَ إليها التحية بهدوءٍ وسألتها إحداهن: «من أين جئتِ؟»

أجابت الوافدة الجديدة: «بولنج.» اكتفت النسوة بهذه الإجابة الموجزة، فأطفأن النور، ورقدنَ ليُواصلنَ النوم. وكأنما بلغت السجينة الجديدة نهاية رحلتها، فقد استغرقت أيضًا في نومٍ عميق بمجرد أن سوَّت البطاطين من حولها.

دق جرس الإفطار في السادسة من صباح اليوم التالي. وأقبلت النسوة على روتينهنَّ اليومي. فنفضن البطاطين، ثم طوَيْنَها وصففْنَها في أكوامٍ مرتبة. وصلصل مفتاح حارسة النهار في القفل، وسرعان ما أُطلقت السجينات إلى فناءٍ أسمنتي صغير ليقُمن بطقوس الاغتسال الصباحية. ثم ظهر سجينان عند البوابة، ترافقهما جلبة ما يحملانِ من دلاءٍ وصحون. وقدم الرجُلان لكل امرأةٍ صحنًا من العصيدة وكوبًا من الشاي الأسود، فاقتعدنَ الأرض الأسمنتية، وأقبلنَ على الأكل. والتفتت إحداهن، المتحدثة باسم المجموعة، إلى رفيقتهنَّ الجديدة، وقالت لها في رقة: «خُذي بالك، فالشاي بدون سُكر. ونحن نتحايَل على ذلك بأن نكشط السكر من فوق العصيدة ونضعه في الشاي.»

رفعت المرأة ديكيليدي، رأسها وابتسمت. كان الرعب الذي ساوَرَها في انتظار المحاكمة، قد جعلها أقربَ إلى الهيكل العظمي. وكان جلد وجنتَيها يُحدث صريرًا من جرَّاء ما هو مشدود.

ابتسمت المرأة الأخرى كدأبها. كان وجهها يحمل دائمًا تعبيرًا ساخرًا من التفكُّه الغريب. وكان لها جسدٌ ممتلئ ريَّان. قدمت نفسها ورفيقاتها: «اسمي كيبوني. وهذه أوتستسوي، والأخرى جاليبوي ثم مونوانا. وأنت ما اسمك؟»

«ديكيليدي موكوبي.»

قالت كيبوني: «ولماذا هذا الاسم المأساوي؟ لماذا أسماك أبواك بالدموع؟»

قالت ديكيليدي: «مات أبي عند مولدي، فأسموني بدموع أمي.» ثم أضافت: «وماتت أمي بعد ذلك بستِّ سنوات، فتولى عمي تنشئتي.»

هزَّت كيبوني رأسها في رثاءٍ وهي ترفع في بطءٍ ملعقة عصيدة إلى فمها. وبعد أن ابتلعتها سألت: «وما هي جريمتك؟»

«قتلتُ زوجي.»

قالت كيبوني: «كلنا هنا لنفس الجريمة.» ثم سألت بابتسامة ساخرة: «أأنت نادمة؟»

أجابت: «ليس كثيرًا.»

– «كيف قتلتِه؟»

قالت ديكيليدي: «اجتززت كل أعضائه الخصوصية بسكين.»

قالت كيبوني: «أنا فعلت المِثل بموسي.» وتنهَّدت ثم أضافت: «كانت حياتي صعبة.»

ساد الصمت بعض الوقت بينما انهمكن جميعًا في الأكل، ثم استطردت كيبوني في تأمُّل: «رجالنا لا يظنون أننا نحتاج إلى حنانٍ ورعاية، كان زوجي يركُلني بين ساقَيَّ عندما يشاء. ومرة أجهضتُ بسبب ذلك. لم أكن أستطيع التهرُّب منه إذا مرضت، لهذا قلتُ له مرة إنه يستطيع الإتيان بامرأةٍ أخرى لأني عاجزة عن إشباع كافة رغباته. كان مسئولًا تعليميًّا، وكل سنةٍ يُوقِف حوالي سبعة عشر مدرسًا لأنهم تسبَّبوا في حمْل التلميذات، بينما كان يفعل مثلهم. وفي آخِر مرةٍ جاءني أبوا الفتاة يشكوان. فقلت لهما: اتركا الأمر لي. فقد فاض بي الكيل. وقتلتُه.»

أكملنَ طعامهنَّ في صمت، ثم حملنَ الصحاف والأكواب ليشطفنها في المغسل. وجاءت الحارسة بدلوٍ ومكنسة. لم يكن ثمة أثَرُ وسَخٍ في أي مكان، لكن لا بدَّ من غسل أماكن النوم بالماء الغزير، فهو روتين السجن. ولا يتبقى بعد ذلك سوى جولةٍ تفقُّدية من المدير. وهنا تحوَّلت كيبوني إلى القادمة الجديدة مُحذِّرة: «خُذي بالك عندما يأتي المدير للتفتيش فهو مجنون بشيءٍ واحد .. انتباه! قِفي مُعتدلة! يداك إلى جانبك! فإن لم تفعلي فقدَ صوابه وكال لك السباب. إنه لا يهتم بغير ذلك.»

ما إن انتهى التفتيش حتى أُخِذت النسوة، عبْر عددٌ من البوابات، إلى فناءٍ مكشوف مُشمس، يُحيط به سور مرتفع من السلك الشائك، حيث يَقُمن بعملهن اليومي. كان السجن مركزًا للتأهيل، يُنتِج فيه السجناء السلع التي يعرضها حانوت السجن للبيع. فتصنع النساء الملابس والصوف، والرجال أشغال النجارة والجلود والطوب والخضراوات.

كانت ديكيليدي تُجيد عدة أعمال، فهي تُطرِّز وتحيك وتغزل. وكانت النسوة الموجودات مُنهمكات في تطريز الملابس الصوفية، وبعضهن يعملنَ ببطءٍ لأنهن ما زلن يتعلَّمن. تطلَّعنَ إليها في اهتمامٍ عندما تناولت كتلة الصوف وإبر التطريز، وأنجزت غُرَز الصف الأول بسرعة. كانت يداها ناعِمَتَين رقيقتَين، كأنهما بلا عظام، وتتميزان بقوة غريبة، فشكلت بهما أعمالًا جميلة. وعندما انتصف النهار، كانت قد أتمَّت الجانب الأمامي من الجُرْسي، فتوقفنَ جميعًا عن العمل ليُبدينَ إعجابهن بالتصميم الذي ابتكرَتْه.

قالت كيبوني في إعجاب: «أنت موهوبة حقًّا.»

أجابت ديكيليدي بابتسامة: «هذا ما تقوله صديقاتي. فأنا المرأة التي لا ترشَحُ المياه من قشٍّ نسجته. ولهذا تلجأ إليَّ كل صديقاتي عندما يبغينَ إعداد أكواخهن. فهنَّ لا يستطعن ذلك بدوني. كنتُ دائمًا مشغولة، مُستخدَمة، لأني بهاتَين اليدَين كنت أطعم أطفالي وأتولى تنشئتهم. تركَني زوجي بعد أربعة أعوام من الزواج، لكني تمكَّنتُ من تدبير أموري وإطعام أفواههم. وإذا عجز أحد الناس عن دفع أُجرتي نقدًا، كان يُعطيها لي هدايا من الطعام.»

قالت كيبوني: «الأمور ليست سيئة هنا. فبوسعنا أن ندَّخِر بعض المال من مبيع منتجاتنا. إذا اشتغلتِ هكذا ستحصُلين على مالٍ لأطفالك. كم لدَيك منهم؟»

– «ثلاثة أولاد.»

– «هل هناك من يرعاهم؟»

– «أجل.»

غيرت كيبوني موضوع الحديث مرةً أخرى: «أنا أُحب طعام الغداء. إنه أفضل وجبات اليوم. جريش ذرة ولحم وخضراوات.»

هكذا انقضى اليوم بين الثرثرة والعمل، وعند الغروب أُقتيدت النسوة من جديدٍ إلى الزنزانة بعد أن حان موعد إغلاقها. فبسطنَ البطاطين، وأعدَّت كل واحدةٍ فراشها، ثم واصلنَ الحديث قليلًا في ضوء الشمعة. وعندما أوشكنَ على الرقاد، أومأت ديكيليدي برأسها في رقَّةٍ لصديقتها الجديدة كيبوني وقالت: «أشكرك. فقد كنتِ جدَّ لطيفة معي.»

أجابت كيبوني بابتسامتها الساخرة المُتفكِّهة: «لا بدَّ وأن نساعد بعضنا البعض. فهذا عالم فظيع. ليس هنا غير البؤس.»

هكذا استهلَّت المرأة ديكيليدي المرحلة الثالثة من حياةٍ أحالتها الوحدة والمرارة إلى رماد. لكنها كانت تجد الذهب دائمًا وسط الرماد، فيصِل الحب بين قلبها وقلوب الغير. ابتسمَتْ لكيبوني في حنان؛ لأنها أدركت أنها عثرت على حُبٍّ مُشابه. فقد كانت تهوى جمع هذه الكنوز.

•••

هناك نوعان من الرجال في المجتمع. أحدهما هو الذي يخلق التعاسة والفوضى، فيُوصَم أمام الكافة بالشر. فإذا ما راقب المرء كلاب القرية تُطارد إحدى إناثها الهائجة، تجدها تتحرَّك في مجموعاتٍ من أربعة أو خمسة. وعندما يبدأ الجماع، يحاول أحد الكلاب السيطرة على الموقف، ويُبعد الآخرين عن فرج الأنثى. وتقف بقية الكلاب، سيئة الحظ، على مقربةٍ وهي تنبح وتُطبق فكَّيها، بينما ينهمك الكلب المُتسيِّد في فيضٍ متواصلٍ من الأورجازمات، نهارًا وليلًا، حتى يُصاب بالإنهاك. ولا بد أنه، خلال هذا الإنجاز الهرقلي، سيتصوَّر أنه القضيب الوحيد في العالم، وأن هناك تدافعًا بالمناكب من أجله. هذا النوع من الرجال يعيش قرب المستوى الحيواني، وسلوكه على نفس الشاكلة. ومثل الكلاب والثيران والحمير، لا يتقبَّل أي مسئولية عن الصغار التي يُنجبها. ومثل الكلاب والثيران والحمير، يدفع الإناث إلى الإجهاض. ولمَّا كان هذا النوع من الرجال يُمثل الأغلبية في المجتمع فإنه يحتاج إلى قليل من التحليل؛ لأنه مسئول عن الانهيار التام للحياة الأُسرية.

يمكن تحليله طبقًا لثلاث فترات زمنية. في العصور القديمة، قبل الغزو الاستعماري، كان يعيش حسب التقاليد والتابوهات التي حدَّدها أسلاف القبيلة للكافة. لم يكن يملك من الحرية الفردية ما يُعينه على تقويم هذه التقاليد؛ لأنها كانت تتطلَّب الطاعة العمياء. فهي نظُم فضفاضة، تستهدف صالح المُجتمع ككل، ولا تراعي إلا قليلًا الميول والاحتياجات الفردية. لقد ارتكب الأسلاف أخطاءً كثيرة، أكثرها مرارة أنهم أعطوا للرجل مركز المُتسيِّد في القبيلة، بينما اعتبروا المرأة، بالمعنى الخَلقي، شكلًا ناقصًا من أشكال الحياة الإنسانية. وما زالت المرأة حتى يومنا هذا تُعاني من كافة الكوارث التي تتعرَّض لها أدنى أشكال الحياة الإنسانية.

ويُمثل العصر الاستعماري، وفترة العمالة التعدينية النازحة إلى جنوب إفريقيا، بلوى أخرى أصابت هذا الرجل. فقد تحطمت سيطرة الأسلاف. تحطم الشكل القديم التقليدي للحياة العائلية، واضطر الرجل للافتراق عن زوجته وأطفاله لفتراتٍ طويلة، يعمل خلالها من أجل الفُتات في أرضٍ أخرى كي يجمع من النقود ما يكفي لتسديد ضريبة الرأس الاستعمارية البريطانية. فلم يتمخَّض هذا الاستعمار عن إثراء حياته إلا في أقل القليل. عندئذٍ أصبح مجرد «صبي» للرجل الأبيض، وأداة من أدوات مناجم جنوب إفريقيا.

وبدا الاستقلال الإفريقي مجرَّد بلوى جديدة فوق البلاوي التي نزلت بحياته. فقد غير الاستقلال نسق التبعية الاستعمارية تغييرًا مفاجئًا ودراميًّا. سنحت فُرَص أكثر للعمل في ظلِّ برنامج المحليات الذي تبنَّتْه الحكومة الجديدة، وارتفعت الرواتب ارتفاعًا صاروخيًّا في الوقت نفسه. وتهيَّأت بذلك الفرصة الأولى لحياةٍ أسرية من نوع جديد أرقى من نظام العادات الطفولي، ومهانة الاستعمار. وكان على الرجال والنساء، في سبيل البقاء، أن يتحوَّلوا إلى الداخل، إلى طاقاتهم الكامنة. وكان الرجل هو الذي وصل إلى نقطة التحوُّل هذه، حطامًا هشًّا، دون أي طاقاتٍ داخلية. وكأنه استبشع صورته، فحاول أن يهرب من فراغه الداخلي، ولهذا أخذ يدور مُبتعدًا عن نفسه، فسقط في دوَّامة من التبديد والتدمير، أقرب إلى رقصة الموت.

هكذا كان شأن جاريسيجو مكوبي، زوج ديكيليدي. فطوال أربع سنوات قبل الاستقلال، عمل كاتبًا في إدارة الناحية، بمرتب ثابت مقداره خمسون روبية في الشهر. وبعد الاستقلال قفز راتبه إلى مائتي روبية. كان يميل، حتى في أيام فقره، إلى النساء والشراب، فصارت لدَيه الآن الإمكانيات للانغماس في الملذَّات. لم يعُد أحد يراه في منزله، إذ أصبح يعيش وينام مُتنقلًا من امرأةٍ إلى أخرى. ترك زوجته وثلاثة أبناء — بانوبوثي، الأكبر وعمره أربع سنوات، إينالامي وعمره ثلاث، والأصغر، موتسومي الذي لم يتجاوز العام — يُدبِّرون أمورهم بأنفسهم. ولعل السبب في سلوكه هذا، يرجع إلى أن زوجته كانت من النوع التقليدي، نصف الأُمِّي، الذي يبعث على السأم، بينما وُجِدت، بكثرة، أُخريات، جديدات، مُثيرات. فقد صنع الاستقلال الأعاجيب.

وكان ثمة نوع آخر من الرجال في المجتمع، يمتلك القوة على إعادة خلق نفسه من جديد. وجَّه هذا النوع كل قواه، العاطفية والمادية، نحو حياته العائلية، ومضى في طريقه بإيقاعٍ هادئ كنهر. إنه قصيد من الحنان.

هكذا كان شأن بول ثيبولو، الذي انتقل مع زوجته كيناليبي، وأطفالهما الثلاثة إلى قرية بولنج في عام ١٩٦٦م، عام الاستقلال. كان قد حصل على نِظارة المدرسة الابتدائية بالقرية. وخُصِّص له ولأُسرته حقل فارغ بجوار فناء ديكيليدي موكوبي، يبني فيه منزله الجديد.

يُشكل الجيران مركز العالَم بالنسبة لبعضهم البعض. فهم يتبادلون المساعدات في جميع الأوقات. ويقرضون بعضهم البعض السلع المختلفة. هكذا تابعت ديكيليدي باهتمامٍ فناء جيرانها الجُدد. في البداية ظهر الرجل مع بعض العمَّال لإقامة السور، الذي شُيِّد بسرعة وكفاءة. وترك الرجل لدَيها انطباعًا حسنًا في الحال، عندما ذهبت تُقدِّم نفسها، وتعرف القليل عنهم.

كان طويلًا، عريض العظام، بطيء الحركة، بالِغ الوداعة لدرجة أن ضوء الشمس وظِلَّها كانا يتلاعبان بعينَيه، ويجعلان من العسير تحديد لونهما الفعلي. وعندما يقف ساكنًا، ويبدو مُستغرقًا في التفكير، يتسلَّل ضوء الشمس إلى عينَيه، ويُعشِّش بهما، فيُعطيهما لون الظلِّ في أحيانٍ، ولونًا بُنيًّا خفيفًا في غيرها.

التفت نحوها مُبتسمًا في ودٍّ عندما قدَّمَت نفسها، وقال إنه نُقل هو وزوجته من قرية بوبونونج. وإنها ما زالت هي وأطفالها، لدى أقاربهما في القرية إلى أن ينتهي من إعداد الفناء. كان يتعجَّل الاستقرار؛ لأن الفترة الدراسية تبدأ بعد شهر. وقال إنهم سيشيدون كوخَين من الطين أول الأمر، ثم يُقيمون منزلًا صغيرًا من الطوب فيما بعد، وستأتي زوجته بعد أيام مع بعض النسوة، لإقامة الجدران الطينية للكوخَين.

قالت ديكيليدي: «أُحب أن أساعدكم. فإذا بدأنا العمل في ساعةٍ مُبكرة من الصباح، وكنَّا ستَّ نساءٍ أمكنَنا أن ننتهي من إقامة الجدران في أسبوع. وإذا رغبتَ في أن يكون أحد الكوخَين من القش، فإن الجميع يعرفون أني المرأة التي لا تتسرَّب المياه من قشها.»

أجاب الرجل مبتسمًا أنه سينقل هذه المعلومات إلى امرأته، وأضاف بعذوبته مُعربًا عن ثِقته في أنها ستُحبها عندما تلتقي بها، فهي ودودة تحظى بحُب الجميع.

عادت ديكيليدي إلى فنائها بمعنويات عالية. لم تكن تتلقَّى زيارات كثيرة. فمنذ تركَها زوجها لم يعُد أحد من أقاربها يتردَّد عليها خوفًا من أن تطلُب منه شيئًا. واقتصر زائروها على المُتعامِلين معها في شأنٍ من شئونهم، فهم إما يُريدون منها حياكة ملابس لأطفالهم، أو تطريز جرسيات للشتاء. وعندما تجد نفسها بلا عملٍ تصنع السلال ثم تبيعها. هكذا استطاعت أن تقوم بأود نفسها وأطفالها الثلاثة، لكنها ظلَّت محرومة من الأصدقاء الحقيقيين.

أثبتت الأيام صدق الزوج، فقد كانت زوجته لطيفة المعشر. كانت طويلة بعض الشيء ونحيفة، ذات شخصية مُشرقة ومُفعمة بالحيوية. ولم تحاول إخفاء ما تتمتَّع به من سعادة. وتَحقَّق ما وعدَت به ديكيليدي. فقد نجح فريق العمل المُكوَّن من ستِّ نساء في إقامة جدران الكوخَين الطينِيَّين في أسبوعٍ واحد، وبعد أسبوعين اكتمل إعداد الكساء الخارجي المصنوع من القش. وانتقلت أسرة ثيبولو إلى مقرِّها الجديد كما انتقلت ديكيليدي إلى أكثر فترات حياتها ازدهارًا وسعادة، صنعت فيها منحنًى كبيرًا، منفرجًا إلى أعلى. وتجاوزت علاقتها بأُسرة ثيبولو حدود التبادل الودي بين الجيران، إذ كانت علاقة غنية وخلَّاقة.

لم يمضِ وقتٌ طويل حتى نشأت بين المرأتَين صداقة من ذلك النوع العميق، الودود، الذي يتضمَّن المشاركة في كلِّ شيء، ولا يعقد أواصره غير النساء. وبدا أن كيناليبي في حاجةٍ إلى عددٍ لا حصر له من الأثواب لها ولبناتها الصغيرات الثلاث. ولمَّا كانت ديكيليدي قد رفضت أن تتقاضى أجرًا نقديًّا على هذه الخدمات، بحجَّة المنافع العديدة التي تتلقَّاها من جيرانها الطيبين، فقد رتَّب بول ثيبولو الأمر بحيث تأخذ أجرَها على صورة سِلَع منزلية، بحيث اطمأنَّت ديكيليدي إلى توفُّر احتياجاتها من الذرة والسكر والشاي واللبن الجاف وزيت الطهي، لعدة سنواتٍ قادمة. وكانت كيناليبي أيضًا من ذلك النوع من النساء الذي يجعل العالَم كله يدور حولها، فشخصيتها الجذَّابة كانت تجتذب عديدًا من النساء إلى فنائها، وبالتالي عديدًا من الزبائن لصديقتها صانعة الثياب؛ ديكيليدي. وسرعان ما أصبحت الأخيرة مُثقلةً بالعمل واضطرَّت لابتياع ماكينة ثانية للحياكة، والاستعانة بمساعِدة. وأَلِفَتِ الصديقتان القيام بكلِّ شيءٍ سويًّا، فهما دائمًا معًا، في مناسبات الزواج، والجنازات، واحتفالات القرية. وفي ساعات الفراغ كانتا تبحثان أمورهما الحميمة، بحيث أصبحت كلٌّ منهما تعرف تفاصيل حياة الأخرى معرفة تامَّة.

وذات يوم قالت ديكيليدي في أسًى: «أنت حقًّا محظوظة. فليس هناك زوج مثل بول.»

قالت كيناليبي في سعادة: «أجل. إنه رجل أمين.» كانت تعرف القليل عن بلاوي ديكيليدي فسألتها: «لماذا تزوَّجت رجلًا مثل جاريسيجو؟ لقد تأمَّلته جيدًا عندما عيَّنْتِه لي في ذلك اليوم، وتبيَّنتُ من الوهلة الأولى أنه من هواة الملذات.»

أجابت ديكيليدي: «أظن أني كنتُ أريد الخروج من فناء عمي، فلم أُحبه أبدًا. فبرغم ثرائه كان قاسيًا، شديد الأنانية. كنت مجرد خادمةٍ لدَيه، وكان يُسيء معاملتي. التحقتُ به في السادسة من عمري، عندما ماتت أمي، ولم أكن سعيدة عنده. وكان أطفاله يزدرونني لأني كنتُ خادمتهم. ودفع عمي نفقات تعليمي طوال ست سنوات، ثم طالبَني بترك الدراسة. وكنتُ أودُّ الاستمرار، لأن التعليم، كما تعرفين، يفتح أبواب العالم أمام الواحدة. وكان جاريسيجو صديقًا لعمي، والوحيد الذي تقدَّم إليَّ. وناقش الاثنان الأمر فيما بينهما ثم قال لي عمي: «الأفضل لك أن تتزوَّجي من جاريسيجو؛ لأن وجودك هنا أصبح مثل السلسلة حول رقبتي.» فوافقتُ كي أبتعِد عن هذا الرجل الفظيع. وقال جاريسيجو ساعتها إنه يُفضل الزواج من واحدةٍ مثلي على الاقتران بمُتعلمة؛ لأن المُتعلمات يتميزن بالغباء، ويرغبنَ في السيطرة على الرجل. والحق أني لم أرفع صوتي بالاحتجاج أبدًا عندما بدأ يلعب بذيله. أنت تعرفين ما تفعله الأُخرَيات. فهن يطاردن رجالهن من كوخٍ إلى آخر، ويضربنَ العشيقات. والنتيجة؟ أن ينتقل الرجل إلى كوخٍ جديد. وبذلك لا تكسب الواحدة شيئًا. وما كنتُ لأسلك هكذا. فيكفيني أن لديَّ أطفالًا. إنهم نعمة وبركة.»

قالت صديقتها وهي تهزُّ رأسها في تعاطف: «كفاية. لا أفهم الطريقة التي توزع بها الحياة عطاياها. البعض يحصلون على الكثير جدًّا، والآخرون لا ينالون شيئًا على الإطلاق. لقد كنتُ دائمًا محظوظة. يومًا ما سيزورني أبواي، اللذان يعيشان في الجنوب، وسترَين كيف يهتمَّان بشأني. وهو ما يفعله بول. إذ يُعنى بكلِّ شيء فلا يُساورني القلق، ولا أنشغل بهمٍّ.»

اجتذب الرجل، بول، كثيرًا من الأصدقاء مثل زوجته. وكان الاثنان يستقبلان الضيوف كل مساء، رجالًا أُميين يريدون منه أن يُدوِّن لهم بيانات الضرائب أو يكتب لهم الرسائل، أو رفاقًا راغبين في مناقشة القضايا السياسية، فمنذ الاستقلال أصبح ثمة جديد كل يوم. وكانت المرأتان تستمعان لهذه المناقشات بآذان مسحورة، لكنهما لم تشتركا فيها أبدًا. وإنما كانتا تلوكان المناقشات في حكمةٍ وجدية. فتقول كيناليبي: «عقول الرجال غريبة: فهي تُطوِّف بعيدًا وبجرأة. إنني أرتعِد عندما أسمعهم ينتقِدون حكومتنا الجديدة بحُرية. هل سمعتِ ما قاله بطرس بالأمس؟ قال إنه يعرف كل أولاد الزنا هؤلاء، وإنهم ليسوا سوى حفنة من اللصوص المُحتالين! ارتعدتُ كثيرًا عندما سمعتُ ما قاله. فالطريقة التي يتحدثون بها عن الحكومة تُشْعِرك في عظامك بأن هذا العالم ليس آمنًا، ليس مثل الأيام القديمة عندما لم تكن لدَينا حكومات. وقال لينتسوي إن عشرة بالمائة من السكان في إنجلترا يتحكَّمون في ثروة البلاد بينما يعيش الباقون تحت حدِّ الجوع. وقال إن الشيوعية ستحلُّ كل هذه المشاكل. وفهمتُ من الطريقة التي ناقشوا بها هذه النقطة أن حكومتنا لا تُحبذ الشيوعية. وارتجفتُ كثيرًا عندما اتضح لي ذلك.» وصمتَت برهة ثم ضحكَت في زهو: «لقد سمعتُ بول يُكرر عدة مرات أن البريطانيين لم يحكمونا سوى ثمانين سنة. ولا أدري لماذا هو مُغرَم بترديد هذه العبارة؟»

هكذا انفتح عالَم جديد تمامًا أمام ديكيليدي. بدا لها عالمًا شديد الثراء، يفيض بالسعادة، فانغمست فيه يومًا بعد يوم، مُتغاضية عن جدْب حياتها الخاصة. لكن هذا الأمر ظلَّ مثل الصداع المزمن في رأس صديقتها كيناليبي.

قالت لها ذات يوم مُستحثة: «يجب أن تَجِدي رجلًا آخر. فليس من صالح المرأة أن تعيش بمفردها.»

فأجابتها ديكيليدي التي لم تعُد تستسلم للأوهام: «ومن يكون؟ لن يتمخَّض عن ذلك سوى المتاعب لي ولأولادي، بينما كل شيءٍ الآن على ما يرام. فابني الأكبر يذهب إلى المدرسة وأنا قادرة على تسديد نفقاتها. هذا هو في الحقيقة كل ما يعنيني.»

قالت كيناليبي: «أقصد أننا جئنا لهذا العالم لنمارس الحب ونستمتع به.»

أجابت الأخرى: «أوه. لم أعبأ أبدًا بهذا الأمر. فعندما تُجربين أسوأ ما فيه، تفقدين الرغبة كلية.»

اتسعت حدقتا كيناليبي: «ماذا تعنين بذلك؟»

– «أعني أن الأمر لم يكن أكثر من قفزة! وكنت دائمًا أتساءل عن مغزاه وجدواه. وصرتُ أنفر منه.»

قالت كيناليبي مصعوقة: «أكان جاريسيجو هكذا؟ إذن فهو لا يعدو أن يكون مثل ديكٍ يقفز من دجاجةٍ إلى أخرى. ترى ماذا يفعل مع كل هاته النسوة .. أنا متأكدة أنهن لا يسعَين إلا وراء نقوده، ولهذا يتملَّقْنه.» وصمتت برهةً ثم أضافت في جدية: «هذا سبب آخر يُحتِّم عليك البحث عن رجلٍ آخر. آه لو تعرفين حقيقة الأمر لجُننتِ من اللهفة عليه، أقول لك. أحيانًا أظن أني أستمتع بهذا الجانب من الحياة أكثر مما يجِب. فبول يعرف الكثير عن ذلك. ولدَيه دائمًا جديد يُفاجئني به. وهو يبتسِم بطريقةٍ مُعينة عندما يكون قد فكر في شيءٍ جديد، فأرتعش قليلًا وأقول لنفسي: «ترى، ماذا ينوي بول هذه الليلة!»

صمتت كيناليبي ثم ابتسمت لصديقتها في خجلٍ وقالت: «يُمكنني أن أُقرضك بول إذا شئتِ.» ورفعت يدَها لتُوقِف ما ظهر على وجه صديقتها من احتجاج: «سأفعل ذلك لأني لم أنعم في حياتي بصديقةٍ مثلك أثِق فيها إلى هذه الدرجة. لقد عرف بول فتياتٍ عديدات قبل أن يتزوَّجني، ولهذا فالأمر بالنسبة إليه ليس غريبًا، فضلًا عن أننا كنَّا نُمارس الحب قبل الزواج، ولم أحمل أبدًا، فهو يُراعي هذا الجانب أيضًا. لا مانع لديَّ في أن أُقرِضه لك، لأنني أنتظر طفلًا جديدًا هذه الأيام، وأشعر أني لستُ على ما يرام.»

نظرت ديكيليدي طويلًا إلى الأرض، ثم رفعت إلى صديقتها عينَين مُبلَّلتَين بالدموع وقالت بتأثر: «لا يُمكنني أن أقبل هدية كهذه منك. لكن طالما أنك مُتعبة، سأتولى عنك غسيلَك وطهيَك.»

لم تعبأ كيناليبي برفض صديقتها للعرض السخي، وناقشت الأمر مع زوجها في نفس الليلة. وفوجئ بول بموضوع لم يتوقَّعه، فبدَت عليه الدهشة ثم انفجر في ضحكٍ مدوٍّ، استمر طويلًا حتى بدا عاجزًا عن التوقف.

سألته كيناليبي في دهشة: «لماذا تضحك هكذا؟»

واصل الضحك، ثم بدت عليه فجأة الجدية، واستغرق في التفكير بعض الوقت. وعندما سألته عن محور تفكيره أجاب: «لن أُخبرك بكل شيء. أُحب أن أحتفظ ببعض أسراري لنفسي.»

وفي اليوم التالي روت كيناليبي لصديقتها ما جرى بينها وبين زوجها من حوار مُتسائلة: «ماذا يعني بقوله إنه يريد الاحتفاظ ببعض أسراره لنفسه؟»

قالت ديكيليدي مُبتسمة: «أظنُّه مغرورًا بعض الشيء. كما أن الشخص عندما يُحِب بقوة، لا يميل إلى الاعتراف بذلك ويفضل الصمت.»

بعد ذلك بقليل، أُجْهِضت كيناليبي، ودخلت المستشفى لإجراء جراحة بسيطة. وأوفت ديكيليدي بوعدها «أن تغسل وتطهو» لصديقتها. فدبرت أمور منزلها، وتولَّت إطعام الأطفال، وحافظت على كل شيءٍ في نظام. وبالإضافة إلى ذلك، كان الناس يشكون من ضآلة غذاء المستشفى، فأخذت على عاتقها الطواف بأرجاء القرية كل يومٍ بحثًا عن البيض والدجاج، وبعد أن تُعِدَّ ما حصلت عليه، تحمله إلى كيناليبي، كل يوم، ساعة الغذاء.

وذات مساء، اصطدمت ديكيليدي بعقبة غير مُنتظرة، اعترضت روتينها اليومي.

كانت قد أعدَّت الطعام لأطفال صديقتها، وأفرغته في الصحون، عندما جاءتها زبونة تطلُب تعديلًا عاجلًا في ثوب زفاف. وكان الزفاف مُقررًا في اليوم التالي. فتركت الأطفال يأكلون حول النار ومضت إلى كوخها. وبعد ساعة، كان أطفالها قد خلدوا للنوم، فقرَّرَت أن تمضي إلى فناء جارتها لتطمئن على الأمور. ولجت كوخ الأطفال ورأت أنهم التجئوا إلى فراشهم واستغرقوا في النوم، بينما تبعثرت صحون العشاء حول النار دون غسيل. وكان الكوخ الآخر الخاص ببول وكيناليبي غارقًا في الظلام. معنى هذ أن بول لم يعُد بعدُ من زيارة المساء المعتادة لزوجته. فجمعت الصحون وغسلتها، ثم صبَّت مياه الغسيل القذِرة فوق رماد النار المُتوهج في الفناء. وكوَّمت الصحون بعضها فوق بعض وحملتها إلى الكوخ الثالث الإضافي الذي يقوم بدور المطبخ. وفي تلك اللحظة ولج بول ثيبولو الفناء، ولمح ضوءًا وحركةً في كوخ المطبخ، فمضى إليه وتوقف في مدخله المفتوح.

خاطبها في ودٍّ باسم ابنها الأكبر باناثوبي، كما جرت العادة: «ماذا تفعلين الآن يا أم باناثوبي؟»

أجابته ديكاليدي في سعادة: «أنا أعرف جيدًا ما أنا فاعلة.» واستدارت نحوَه لتقول إنه ليس من الصواب ترك الصحون الوسخة حتى الصباح، لكنها فغرت فمها مدهوشة. فقد طالعَتْها في عينَيه بُحَيرتَين صافيتَين من الضوء السائل، ومر بينهما شيء بالِغ الحلاوة، فائق الجمال، كأنه الحب.

قال برقة: «أنت امرأة طيبة يا أم باناثوبي.»

كانت تلك هي الحقيقة. وقُدِّمت الهدية ككتلة من الذهب. لا يستطيع تقديم هدايا كهذه سوى رجال من طراز بول ثيبولو. أخذت الهدية وأودعت قلبها كنزًا جديدًا. ثم أحنت ركبتَيها بالتحية التقليدية وابتعدت في هدوء نحو منزلها.

•••

انقضت ثماني سنوات على ديكيليدي في إيقاعٍ هادئ من العمل، والصداقة التي ربطتها بأسرة ثيبولو. وانفرجت أزمة ابنها الأكبر باناثوبي. فقد كان يُواجِه امتحان الشهادة الابتدائية في نهاية العام. وبتأثير هذا الحدث الهام، أفاق الصبي لنفسه، بعد أن كان، مثل بقية الصبية، مغرمًا باللعب. فأحضر كتُبه إلى المنزل وقال لأُمِّه إنه يرغب في استذكار دروسه بالأماسي، ويريد أن ينجح بدرجة «أ» ليسرَّها. حكت ديكيليدي القصة لجارتها في انفعال وزهو.

قالت: «باناثوبي يقرأ دروسه كل مساء الآن. ولم يكن يهتم بها من قبل. لقد ابتهجتُ كثيرًا بمسلكه فابتعتُ له مصباحًا إضافيًّا، ونقلتُه من كوخ الأطفال إلى كوخي حيث يُمكنه أن يستمتع بشيءٍ من الهدوء. ونحن نسهر كل ليلة حتى ساعةٍ متأخرة: أنا أحيك الأزرار وذيول الفساتين، وهو يستذكر.»

كما أنها افتتحت لنفسها حسابًا ادخاريًّا في مكتب البريد ليتوفر لدَيها المال الكافي للإنفاق على تعليمه الثانوي. فمصاريفه عالية بعض الشيء: ٨٥ روبية. ورغم كل ما ادَّخرَتْه، وجدت في نهاية العام، أنها تحتاج عشرين روبيةً إضافية لاستكمال المبلغ. وعندما أُعلنت النتائج في عطلة الكريسماس، نجح باناثوبي بدرجة «أ». فانتاب أمَّهُ فرح هستيري. لكن ما العمل؟ كان الابنان الآخران، اللذان يصغُرانه سنًّا، قد بدآ المرحلة الابتدائية، ووجدت أنها عاجزة عن تدبير مصاريف الثلاثة من مُدَّخراتها، فقررت أن تُذكِّر جاريسيجو موكوبي بأُبوَّته للأولاد.

لم تكن قد رأته في الثماني سنوات، إلا كما ترى أحد المارة في طرقات القرية. وكان يُلوِّح لها أحيانًا، لكنه لم يتحدَّث إليها أبدًا أو يستفسِر عن حياتها أو عن أطفالهما. فلم يكن شيء من هذا يَعنيه. كانت تُمثل له شكلًا دنيئًا من أشكال الحياة الإنسانية. وإذا بهذا الشيء البغيض يظهر أمام مكتبه ذات يوم، بينما كان في طريقه لتناول طعام الغداء. كانت قد سمعت من ثرثرة القرية أنه استقرَّ أخيرًا مع امرأةٍ متزوجة ذات أطفال، بعد أن طُرِد زوجها في واقعةٍ مُثيرة من الوقائع المألوفة في القرية تخللها العراك والسباب. والغالب أن الزوج لم يعبأ بما حدث، إذ تُوجَد دائمًا سواعد مفتوحة لأي رجل، طالما أنه يبدو كذلك. أما ما اجتذب جاريسيجو إلى هذه المرأة بالذات، فهو طبقًا لما ذكره عُشَّاقها السابقون ضاحِكين، أنها مولَعة بأشكال الجماع العنيفة مثل العض والخمش.

غادر جاريسيجو موكوبي مكتبه، ونظر في ضِيقٍ إلى هذا الشبَح من ماضيه، زوجته. أدرك أنها تريد أن تتحدث إليه، فمشى نحوَها وهو يتطلَّع إلى ساعته طول الوقت. وكان قد صار له، مثل كافة «الرجال الناجحين» كرش ضخم، وعينان مُحتقِنتان، ووجه مُنتفخ، تحفُّ به رائحة مختلطة من بيرة الليلة الماضية وجنسها.

خاطبها بصبرٍ نافد: «قولي ما تُريدينه بسرعة، ففسحة الغداء قصيرة، ولا بد أن أعود إلى مكتبي في الثانية.»

لم يكن بوسعها أن تتحدَّث إليه عن زهوها بنجاح باناثوبي، ولهذا قالت ببساطةٍ وهدوء: «جاريسيجو. أتوسَّل إليك أن تُساعدني في سداد مصاريف المدرسة الثانوية لباناثوبي. إنه ناجح بدرجة «أ»، وكما تعرف فإن المصاريف تُدفَع في اليوم الأول من الدراسة وإلا طردوا التلميذ. وأنا من جانبي جاهدتُ طول السنة لتدبير النقود، لكني ما زلت في حاجة إلى عشرين روبية.»

قدمت إليه دفتر النقود البريدي، فتناوله وألقى عليه نظرة، ثم أعاده إليها وهو يبتسِم في تكلُّفٍ ابتسامةً ذات مغزًى. قال وهو يظنُّ أنه يُوجِّه إليها ضربة في وجهها: «لماذا لا تطلبين النقود من بول ثيبولو؟ الجميع يعرفون أن له بيتَين، وأنك امرأته الاحتياطية. الجميع يعرفون بأمر زكيبة الذرة التي يأتيك بها كل ستة شهور، فلماذا لا يدفع نفقات المدرسة أيضا؟»

لم تُنكر شيئًا أو تؤكده. وطاشت الضربة عن وجهها الذي رفعته إلى أعلى في كبرياء. ثم مشت مُبتعدة.

التقت المرأتان بعد الظهر كمألوف عادتهما، وروت ديكيليدي الحديث الذي دار بينها وبين زوجها، فهزَّت جارتها رأسها في غضبٍ وهتفت: «الخنزير! يظن الرجال جميعًا مثله. سأذكر الأمر لبول، فلا شك أنه سيقوم بتأديبه.»

وهو ما حدث لجاريسيجو. كان في أعماقه مومسًا نسائية، يستمتِع مثل كل المومسات المُحترفات بالفضيحة والتشهير؛ لأنهما يخدمان تجارته. فابتسم في دماثة وبلا تحفُّظ عندما اندفع بول ثيبولو غاضبًا إلى باب المنزل الذي يسكنه مع مَحظيته. واجه جاريسيجو أمثال هذا الموقف كثيرًا، وكان يعرف عن ظهر قلب ما سيدور من حوار.

صاح بول ثيبولو: «يا ابن العاهرة! زوجتك ليست محظية لي، هل تسمع؟»

قال جاريسيجو: «لماذا إذن تزودها بالطعام؟ الرجال لا يفعلون ذلك إلا للمرأة التي ينكحونها! فهي لا تفعل ذلك بغير مقابل.»

استند بول ثيبولو بإحدى يدَيه إلى الجدار وهو يرتجف من الغضب وقال في توتُّر: «أنت تُدنِّس الحياة يا جاريسيجو موكوبي. ليس في عالمك غير الدنس. أم باناثوبي تحيك الملابس لزوجتي وأطفالي، ولا تقبل مني نقودًا، فكيف إذن أدفع لها أجرتها؟»

أجاب الآخر بوضاعة: «وهذا ما يؤكد القصة من كل الجوانب. فالمرأة تفعل هذا للرجل الذي ينكحها.»

أطلق بول يده الأخرى في لكمةٍ عنيفة لإحدى عينَيه الباسمتَين، وانصرف. من يستطيع إخفاء عين زرقاء مُتورِّمة؟ كان يرد على كل استفسار بلهجة الضحية: «إنه عشيق زوجتي، بول ثيبولو.»

جلب هذا إليه اهتمام القرية كلها، وهو كل ما يبغيه حقيقة. فأمثاله من الرجال يحتلون الدرك الأسفل من الحكومة ويتوقون خفيةً للرئاسة، حتى تتَّجِه إليهم الأعيُن. ولهذا أضاف جاريسيجو المزيد من الوقود إلى الفضيحة، مُعلنًا أنه سيتكفَّل بمصاريف دراسة ابن مَحظيته، لكنه لن يدفع مصاريف ابنه هو، باناثوبي.

لم يعترض أهالي القرية على تلطيخ سمعة بول ثيبولو؛ لأنه كان إنسانًا كاملًا فوق كل تصوُّر، مما يصعُب عليهم تصديقه. فوجدوا لذة في أن يجعلوه موضوعًا للقيل والقال، ومع ذلك عنَّفوا جاريسيجو قائلين: «ربما تحصل زوجتك على أشياء من بول ثيبولو، لكن ليس هناك من يستطيع أن يدفع كلًّا من مصاريف دراسة أطفاله، ومصاريف دراسة أطفال رجلٍ آخر. وما كان باناثوبي سيُوجَد لو لم تتولَّ أنت إنجابه، فواجبك إذن أن ترعاه. وبالإضافة إلى هذا، فإن زوجتك إذا التحقت برجلٍ آخر، تكون أنت المسئول لأنك تركتها وحيدةً سنوات طويلة.»

عاش الناس مع هذه القصة أسبوعين، لأنهم أرادوا أن يكون بول ثيبولو من عالَمهم، ومثلهم بلا أخلاق ثابتة. لكن القصة تطوَّرت في اتجاهٍ درامي أثار الرعُب في أوصال الرجال، وانقضت أسابيع عدة قبل أن يجدوا الشجاعة على مشاركة نسائهم الفراش.

كانت طريقة جاريسيجو في التفكير هي التي أدَّت به إلى الهلاك. فقد أيقن فعلًا أن رجلًا آخر دقَّ وتدَه في حظيرة دجاجه، وكأي ديكٍ كانت هذه الفكرة كفيلة بإثارة شعر رأسه. فقرَّر أن يذهب إليها — الحظيرة — مؤكدًا حقوقه. وما إن زال ورَم عينه بعد أسبوعين، حتى استوقف باناثوبي في القرية وسأله أن يحمل إلى أُمِّه ورقة ويجلب منها ردًّا. كانت الورقة تقول: «الأم العزيزة، سأعود إلى المنزل لأسوِّي خلافاتنا. أرجو أن تُعِدي لي طعامًا وبعض الماء الساخن لحمامي.»

تلقَّت ديكيليدي الورقة وقرأتها فارتجفت من الغضب. كانت تلميحاته واضحة، فهو قادم من أجل الجنس. فلم تكن بينهما أية خلافات، ولم يدُر بينهما أي حوار.

قالت لابنها: «باناثوبي. هل لك أن تلعب قليلًا في الجوار؟ أريد أن أفكر قليلًا قبل أن أبعث معك بالرد.»

لم تكن أفكارها واضحة. كان ثمة شيء لا تستطيع أن تضع يدَها عليه في الحال. فقد أصبحت تُقدِّس الحياة التي عاشتها في السنوات الأخيرة، وكافحت خلالها لتقوم بأود نفسها وأطفالها. وهي حياة امتلأت بكنوز المودة والحُب التي جمعتها من الآخرين. كل هذا أرادت الآن أن تحميه من التلوُّث على يد الرجل الشرير. وبدافع الرُّعب خطر لها أن تأخذ أطفالها وتهرب من القرية. لكن أين تذهب؟ لم يكن جاريسيجو يريد طلاقًا، فقد تركت له أن يُفاتحها في هذا الصدد، ولم تسمح لنفسها أن تُرافق رجلًا آخر. قلَّبت الفكر بلا جدوى، حتى أيقنت أنه لا مفرَّ من مواجهته. وهنا ظهرت على وجهها نظرة مُتأمِّلة مُتمعِّنة. وأخيرًا، اطمأنت نفسها، ومضت إلى كوخها فكتبت الرد: «سيدي، سأُعِدُّ كل شيءٍ كما طلبت، ديكيليدي.»

كان النهار قد انتصف عندما جرى باناثوبي بالردِّ إلى أبيه. وانهمكت ديكيليدي بعد الظهر في الاستعداد لمجيء زوجها. وجاءت كيناليبي تتأمَّل في ذهول الاستعدادات الضخمة، وإناء الماء الحديدي الكبير الذي امتلأ بالماء. وتوهَّجَت النيران أسفله، وأواني الطهي الإضافية فوق النار. ولم تنتبِه للسكين إلا فيما بعد، فلم ترَ منه سوى لمحة عابرة. كان من سكاكين المطبخ الكبيرة التي تُستخدَم في تقطيع اللحوم، وقد أمسكت به ديكيليدي، وركعت أمام حجر رَحى، وراحت تصقله في أناة. ما استحوذ على اهتمام كيناليبي عندئذٍ هو التعبير المأساوي على وجه صديقتها المُتلع إلى أعلى. أصابها الارتباك. وألفت نفسها عاجزةً عن الاشتراك في الثرثرة النسائية المألوفة. وعندما قالت ديكيليدي: «أنا أقوم ببعض الاستعدادات من أجل جاريسيجو. فهو قادم الليلة.» هرعت إلى كوخها مذعورة. كانت تُدرك أن الأمر يعنيها هي وزوجها، وعندما ذكرت له النبأ، قضى بقية اليوم شاردًا، قلقًا، يفعل كل شيءٍ بالمعكوس، لا يرد على سؤال، ويترك كوب الشاي حتى يبرد، وبين الحين والآخر ينهض واقفًا، ويخطو جيئة وذهابًا، وهو غارق في التفكير. وبلغ بهما القلق ذروته مع حلول المساء، فلم يعودا قادِرَين على إخفاء مشاعرهما خلف ستار من الحديث. وجلسا بكوخهما في صمت. وحوالي الساعة التاسعة، بلغ مسامعهما الخوار الوحشي لعذاب الاحتضار، فاندفعا سويًّا إلى فناء ديكيليدي موكوبي.

•••

جاء البيت مع الغروب، وألفى كل شيءٍ مُعدًّا له كما طلب، فاتخذ مجلسه عازمًا على الاستمتاع بحياة الرجال. كان قد جلب معه حزمةً من علب البيرة، فجلس في الخارج يرتشفها على مهَل، وعيناه تستقرَّان بين الفينة والأخرى على فناء ثيبولو. لم يلمح غير امرأته وأطفالها، أما الرجل فكان غائبًا عن الأبصار. وابتسم جاريسيجو لنفسه، وقد سرَّه أنه قادر على الصياح، مثل الديك، بأعلى ما يستطيع من صوتٍ دون أن يتحدَّاه أحد.

وضعت ديكيليدي أمامه حوضًا من الماء الدافئ ليغسل يدَيه، ثم قدَّمت إليه طعامه، وفي ركنٍ آخر، قدَّمت الطعام لأطفالها، ثم أمرتهم بالاغتسال والاستعداد للنوم. ولاحظت أن جاريسيجو لم يُبدِ أي اهتمامٍ بهم. كان مشغولًا تمامًا بنفسه. ولا يفكر إلا في راحته الخاصة. ولو كان أبدى لأطفاله ذرَّةً من الحنان، لفلَّ ذلك من عزمها، وصرفَها عن الفعل الذي خططت له بعنايةٍ طول فترة بعد الظهر. لم ترقَ هي أيضًا إلى مستوى اهتمامه، فعندما جلبت صفحة طعامها وجلست بالقُرب منه، لم يُوجِّه نظرةً واحدة إلى وجهها. شرب بيرته وهو يرمق الفناء المجاور بين الفينة والأخرى. ولم يَظهر رجل الفناء مرةً واحدة إلى أن ساد الظلام ولم يعُد من الممكن تمييز شيء. فبدا عليه الارتياح التام. وقرَّر أن يُكرر هذا المشهد كل يومٍ إلى أن يُحطم جَلَدَ الديك الآخر، ويدفعه إلى الغضب والغلط. كان يُحب هذه المناورات.

سألته: «جاريسيجو. هل ستُساعدني في مصاريف مدرسة باناثوبي؟»

أجاب في غير مبالاة: «سأفكر في الأمر.»

نهضت واقفة، وحملت جرادل المياه إلى الداخل، وصبَّتها في حوض استحمام كبير من القصدير، ليأخذ حمامه. وبينما كان يفعل، انهمكت في ترتيب الكوخ، واستكمال آخر الأعمال المنزلية الروتينية. وعندما انتهت، وَلَجَت كوخ الأطفال. كانوا قد لعبوا كثيرًا طول اليوم، فوجدتهم غارقين في النوم من التعَب. انحنت إلى جوار الحصائر التي استلقوا فوقها، وحدَّقت إليهم طويلًا في حنانٍ بالِغ. ثم أطفأت مصباحهم، ومضت إلى كوخها. وجدت جاريسيجو مُستلقيًا فوق الفراش، وقد بسط يدَيه وساقَيه بطريقةٍ توحي بأنه لم يفكر إلا في نفسه، ولا ينتوي أن يُتيح لأحدٍ مشاركته الفراش. كان قد امتلأ بالطعام والشراب، فاستغرق في نومٍ عميق ثقيل. والظاهر أن محظيته علَّمته أن الرجل يجب أن يلجأ إلى الفراش عاريًا. هكذا رقد، غير مَحميٍّ، مجردًا من وسائل الدفاع، منبطحًا فوق ظهره.

أحدث حوض المياه قعقعة عالية عندما أخرجته من الغرفة، لكنه واصل نومه، غائبًا عن الوجود. عادت إلى الكوخ، وأغلقت بابه. ثم انحنت وتناولت من أسفل الفراش السكين الذي أخفته في قطعة قماش. وبدقَّة ومهارة يدَيها الكادِحتَين، أمسكت بأعضائه التناسلية، واجتثتها بضربة واحدة. وبفعلتها هذه، قطعت الشريان الرئيسي الذي يمتدُّ إلى الفخذ، فتدفَّق شلال من الدماء، وزأر جاريسيجو وخار مُعربًا عن ألَمِه. ثم ساد الصمت. وقفت ترقُب احتضاره الأليم بنظرةٍ متفحِّصة لا تهمل أدق التفاصيل. وانتزعتها طرقةٌ على الباب من استغراقها. كان الصبي، باناثوبي. فتحت له وحدقت إليه صامتة. كان يرتعِد في عُنف.

قال هامسًا في رعب: «أمي. أسمعتِ أبي يصرخ؟»

قالت وهي تلوِّح بيدِها في الهواء بإيماءة تعني: هذه هي الحكاية وما فيها: «لقد قتلته.» ثم أضافت بحدة: «باناثوبي. استدعِ الشرطة.»

استدار وهرب إلى الظلام. وتردَّد في أعقابه وقع زوجٍ من الأقدام فقد جرت كيناليبي عائدةً إلى فنائها وقد أوشكت أن تفقد صوابها من الخوف. ومن الظلام برز بول ثيبولو، فتقدَّم من الكوخ ووَلَجَه. التقط كل التفاصيل، ثم استدار إلى ديكيليدي ونظر إليها في ألَمٍ أعجزه عن النطق. وأخيرًا قال: «لا تشغلي بالك بأمر الأطفال يا أمَّ باناثوبي. سأتولى أمرَهم كأطفالي تمامًا، وسأوفر لهم جميعًا الدراسة الثانوية.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤