الدمعة الرابعة: نم بسلام

بكائية إلى صلاح عبد الصبور

نم بسلام. يا شاهد عصري وضحيته، يا جرح العمر وأمل العمر، نم بسلام حتى نلقاك، نم بسلام.

الإنسان الإنسان عبر. لم يمض وحيدًا. فسفينتنا عبرت معه للشط الآخر. حملت زاد الأحلام. وبقية نار تخبو تحت رماد الأيام، ماذا نملك بعدك إلا أن نتغطى بالآلام، أن نسأل روحك. يا روح الشعر! زوري أحبابك في ليل القهر، جودي بالمعنى والإلهام، مطرًا يروي هذا الفقر، عودي. لا تنسينا، لا تتخلَّي، ففراقك مر، والوحدة بعدك في هذا القبر المأهول أمر، الإنسان الإنسان عبر، افترش الحصباء ونام، وتغطى بالآلام، فعليك سلام، وعليك سلام.

•••

كيف رحلت يا أعز الراحلين، عن مجلس الرفاقِ والحديثُ ذو شجون، قد كنت أرجو أن أكون أول الذين يذهبون، كالظلل كالسحاب في سكون. فكيف أبكيك وليس لي بيانك المبين، والعمر قد تدلى من مشنقة الضياع والحنين، فارسنا الحزين، يا صوت جيلنا الممزق الطعين، يا أنضج الثمار في بستاننا الضنين، ودفئنا وشمعنا في عتمة السنين، ألن نراك بعد اليوم لن نعاين الجبين؟ والضحكة التي يضج فيها ألف فارس حزين، تمدنا بآية اليقين، ألن ترن بعد اليوم لن تطل من حدائق العيون؟ يا فرحنا وجرحنا الدفين، أي جنون غالنا أي جنون؟!

•••

أرفض موتك يا من أحببت، كيف تغيب وأنت الحاضر ما فارقت؟ نبرة صوتك، ضحكاتك، لوعة نظراتٍ من عينيك الواسعتين، شلال الحكمة يتدفق من قلبك فوق الشفتين، ومرارة سخريةٍ تتحدى الموت. كيف يجوز عليك الموت؟ كيف أهادن كابوس الغدر الجاثم في «كنت»؟ كذب القائل ذات مساء أو ذات صباح: الموت غيابٌ مطلق، وسن ممتد مطبق. أبدًا لن تصبح لا شيء، فحضورك حي. دفء بين ضلوعي، جرح في قلبي، نور في عيني. لن تنقطع رسائلك إلي، وبأسرارك وإشاراتك ستظل تجود علي. رسمك معقود في عيني، صوتك مسموع في أذني. شخصك موجود وحواري ممدود معك إلى آخر نفس في. يا كأس لحظة بخمرة الخلود امتلأت، ووردة من شجر الليل نمت، ومن دموع الزمن الجريح أسقيت حتى ارتوت، يا زهرة من طينة السواد والأسى تفتحت، وبالندى تلألأت، لما تعرت للرياح والظلام والأشواك أدميت، مهما ابتعدت، فالبعاد لن يضيع نفحتك. «قد كنت عطرًا نائمًا في وردتك، لم انسكبت؟»

انتظار

١
ها هو البيت وراءك. ما زالت رائحة الدخان والطعام وثرثرة النساء والرجال والضحكة الصافية من فم الطفلة البريئة تطاردك وتتشبث بثيابك. ما زالت الكتب فوق الرفوف، حجارة الألفاظ التي رجمك بها. وبقع الدماء التي تقطرت على الأرض دون أن يراها أحد، ما زالت كلها راقدة هناك كحيوانات متعبة تلوذ بالجدار، تستقبل نسمات الليل الباردة، فتخبو نار في داخلك وتتوهج. تشعر بنداها يتساقط على رأسك كما يتساقط على شمعةٍ في آخر أنفاسها. تقول لنفسك: ها أنا ذا «أتحد بجسمي المتفتت في أجزاء اليوم المتفتت، أرقب جسمي يتحول دخانًا ونداوة»،١ يتدلى، مجروحًا من سقف الليل الأزرق. ترفع رأسك وتتأمل النجوم المتراصة من سقف السجن الكوني. تهمس بسؤال الأعمى المكسور الخاطر: وهل يأبق الإنسان من ملك ربه،٢ وتتابع خلوات عذابك في اليوم الميت، تتداخل في جلدك كي تتجول في تاريخه، تسمعها تهوي في أطرافك ثقلًا، ترجع مقهورًا لتلم الأشلاء. وتلم أطراف القميص الأبيض، وياقته حول الصدر وحول الرقبة.

– الدنيا برد. كان الأفضل أن تبقى هناك.

تحس بصوت الشاعر، وهو يحاول أن يمتد إليك كما يمتد الحبل لإنقاذ غريق. تنتبه للثلاثة٣ الذين يسيرون بجانبك مطرقين صامتين: الشاعر الكبير الأصلع الرأس، والشاعر المجدد الذي يشبه إخناتون، الناقد الممتلئ الطموح. تشعر أنك تهوي في جبٍّ معتم. يسرع الناقد بإدلاء حبل آخر: بالعكس. الهواء النقي هو ما يحتاجه الآن.

ترفع يدك لتتحسس موضع قلبك. تتأمل جسمك يتدلى من سقف الليل الأزرق.

يتلوى في جوف الجب الأسود. يسقط تحت سنابك خيل وحشية. يتفتت فوق الأسفلت. تتنفس بعمقٍ وتتقلب السكين في صدرك. تنظر للصديق مبتسمًا: الهواء النقي هو ما نحتاجه جميعًا. يخرج الشاعر الكبير عن صمته: خصوصًا بعد يومٍ مرهق. تقول بعد فترة صمتٍ: بالفعل. وتضيف لنفسك: بل يوم ميت. يسقط في أيام ميتة من أيام العالم مكرورة. يوم كذاب خوان، بعناه بثمنٍ بخسٍ، قايضناه وساومناه، ودفعناه للنخاس الأبدي، ثمن فطانتنا الصفراء. في الصباح والضحى تجمع في مكتبي أكثر من ثلاثين أو أربعين. ضاقت الغرفة على اتساعها بالثرثرة والدخان والضحكات وصليل أكواب القهوة والشاي، وطنين أجنحة الأشعار الزاحفة من الدواوين. بح صوتي من الكلام، كلَّت يدي من التأشيرات والتوقيعات، ضحكت كثيرًا حتى أصبحت الضحكة غصة، نهرت حزني القديم أن يطل من ستائر الجفون، أمطرت الجميع بحكمتي ودعاباتي المرة، حلقت فوق سفوح الصغائر والأكاذيب، وتوقفت وحيدًا عند القمة كالنسر الجارح والمجروح، تسللت كفي آلاف المرات لتمسح عش النسر الأبيض كالثلج، يتهدل فوق السالفتين كشلالٍ فضي، لكل واحدٍ كتاب أو ديوان أو مجموعة قصص يستعجل ظهورها لتغير وجه العالم، وكل واحد يتسمع طرقات أكف الملايين على بابي. وبقيت وحيدًا كالأبطال القدماء، كالفرسان الحكماء المحزونين، كمغنٍ سئم الجمهور ولزم الصمت.

تتتابع الخطوات، وتتهشم أصداء كعوب الأحذية على الأسفلت. تخوض الأقدام في ظلام الليل كأنها تخوض في نهرٍ جف ماؤه. يعبر بعض المارة وتنداح أصواتهم في السواد والصمت. تتكسر مقاطع حروفهم على الرصيف كقطع الفخار. يا ليل يا ليل يا ليل.

تنعكس أضواء السيارات العابرة على عينيك فتهز رأسك: «أبعد رماح النور عني.» وتتثاقل أطرافك، تعلو الموجة، تطفر من عينيك، تصغر كالإعصار بأنفاسك. ترتجف الشفتان: «حزني ثقيل فادح هذا المساء.» يسارع الشاعر الكبير يقترب منك ويمسك يدك: لم يكن يقصد ما قاله. ترفع يدك في غضب مفاجئ: أرجوك. يشاركه الشاعر المجدد رأيه، ويغتصب ضحكة: قلبك كبير أكبر من كل ما قال. تمر بيدك على موضع القلب، كأنك تخرج الشوكة من موضعها. تحس الوخز، وتملك نفسك من أن تلفظ آه. يشارك الناقد صاحبيه في محاولةٍ يائسةٍ لانتزاع ضحكةٍ منك: كم عذبناك بكلامنا. كم ناجيناك بألفاظ، كم آلمناك. لكن قلبك الكبير … تتحسس موضع الصدر، وتلتفت إليه بعينين تقطران لوعة وموتًا، تعاسةً وصمتًا. تحاول أن تنزع الشوكة، وتزم الشفتين من الألم، تهم أن تقول: حصل خير. تغالب الضحكة فيغلبها الحزن كوحشٍ يجثم فوق غزال. تصعد بصرك إلى السماء التي تتواثب فيها السحب السوداء، وتخنف أنفاس النجوم الفضية، تطوف بعينيك كتل الليل الساكنة كقططٍ سوداء، تسمع صوتًا في داخلك ينوح: «حزني ثقيل فادح هذا المساء. حزني غريب الأبوين. ويلتوي كالأفعوان يعصر الفؤاد، ثم يخنقه. وبعد لحظةٍ من الإسار» يا ترى هل يعتقه؟ تبتسم للصحاب، وتحاول أن تضحك وأنت تتحسس صدرك: «معذرة يا صحبتي قلبي حزين.» يسارع الشاعر المجدد والناقد في صوتٍ واحد: «من أين آتي بالكلام الفرح؟» يؤمن الشاعر الكبير على قولهما ويهتف وهو يربت على ظهر الشاعر، الذي يمشي بجانبه: راوية وشاعر. عندما نرجع لن أتركك، حتى تروي عني أيضًا. وعندما تموت سنبني لك قبرين وشاهدين.

يضحكان وتتردد أصداء الضحكة على الفم، وتجاعيد الوجه، وأطراف الثياب، وتتناثر مع حبات الهواء البارد. يختلس الناقد نظرة حانية إلى وجهك. يلمح انقباضه بالألم. يرفع صوته ليداري غصة انزلقت في حلقه: «حزن تمدد في المدينة. كاللص في جوف المدينة.» يقاطعه الشاعر المجدد محاولًا أن يستدرجك للكلام: «حزن ضرير، حزن طويل كالطريق من الجحيم إلى الجحيم. حزن صموت.» ثم تستغرقه موجة من الغناء فيمد صوته: «والصمت لا يعني الرضاء بأن أمنية تموت وبأن أيامًا تفوت، وبأن مرفقنا وهن، وبأن ريحًا من عفن، مس الحياة، فأصبحت وجميع ما فيها مقيت.» ويضحك وحده فتتفتت ضحكته وتتهاوى على رصيف الشارع كالزجاج المكسور. وتنعقد سحابة الحزن على وجه الصحاب، فيسدد سهمه الضاحك مرة أخرى، ويهتف: «سنعيش رغم الحزن نقهره، ونصنع في الصباح، أفراحنا البيضاء أفراح الذين لهم صباح.» يحس أن السهم خاب. أوشك أن يرتد إلى صدره، يختلس النظر إلى وجهك يتحسس قشرة الأحزان الصلبة التي التفَّتْ حوله، تتلوى الكلمات في حلقه، وتتبعثر على شفتيه. تتطلع إليه بعينٍ غاب عنها بريق الدعابة، تسحب نظرتك من وجهه إلى أعماق بئرك الدفين، توشك أن ترد على سؤاله الذي يخاطبك بلا صوت: «لا تسأل الشيء الحزين أن يبين؛ لأنه مكنون. شيء غريب غامض حنون. لعله التذكار. لعله الندم. لعله الأسى. لا تسأل الشيء الحزين أن يقر؛ لأنه كطائر البحار لا مقر. وقل له لقد ملكتني. فتحت لك. صندوق قلبي الكليم. فلتقطر الدموع كالنغم.»

تعاودك شكة الألم. وخزها أقسى ما كان. تنعقد خطوط جبينك، وتفتح فمك لتقول لنفسك: «لا شيء يوقف المأساة لا أحد.» يصعد من أعماق البئر الأسود صوت يناجيك: «من لي بمن يجس ذلك الشيء الحزين جستين؛ لكي يرى فجاءته، ويستبين وجهه ومشيته؟!» تمد ذراعك وتستند إلى الجدار الأبيض المرتفع على حافة الرصيف. تتحامل على نفسك وتسأل: أليس هذا هو المستشفى؟ يلتفون حولك منزعجين، يسرع الشاعر الكبير ليقترب منك ويمسك يدك: لم المستشفى؟ أنت بخير. تقول مداعبًا بينما تفاجأ بيدك اليمنى وهي تستقر على صدرك: زيادة الخير خير. ألم بسيط. للاطمئنان. يصدِّق الناقد على كلامك. نعم لن نخسر شيئًا. ما دام المستشفى قريبًا. ينبهه الشاعر الكبير: قريب؟ إنك تلمس جداره. يقول الناقد وهو يتأبط ذراعك: على بركة الله. هيا بنا. تحاول أن تمد الخطى، أن تبدو في مظهر من لا يحتاج لكتف يستند عليها، أو لذراعٍ تمسكه حتى لا يسقط. تتأوه في صوتٍ مسموع: آه ما أثقل جسمي الليلة! تقتربون من البوابة الحديدية. تتلفت وراءك، وتمسح نظراتك صدر الليل وخصلات الشعر المنسدل على كتفيه: يا ليل. يا ليل. يا ليل.

«عبرت بي آلاف الأقدام الهمجية. أقدام الأفكار الهمجية والنيات الهمجية، فتآكلت وشهوت. يا ليل. يا ليل. يا عين. داويني أيتها الغيمات الفضية. برحيق الأنداء الفجرية.»

يسبقك اثنان من الصحاب إلى الممشى المفضي إلى باب المستشفى. يتوقفان عند حجرة الحارس الليلي ويسألان عن الطبيب المناوب. تلمح رأس عجوز أشيب وعينيه الضامرتين تطلان من كوة زجاجية. تتجه مع الشاعر إلى سلالم الدرج الرخامي اللامع ببقع الضوء والظلال الرمادية الساكنة على صفحته. تحاول أن تبدو خفيفًا، وأنت تحرك الأطراف الثقيلة كالأصفاد. تضع على فمك قناع ابتسامة تكشف عن المرارة ولا تخفيه، وتقول لنفسك: «حزني ثقيل فادح هذا المساء.» يقهقه الملثم الشرير ولا يسمعه أحد. يتسلل الطارق المجهول وراء الخطوات الصاعدة على الدرج ولا يراه أحد.

٢

«رباه! ما سر هذه التعاسة العظيمة؟ ما سر هذا الفزع العظيم؟» ينفلت الناقد والشاعر المجدد، ويجريان بحثًا عن الطبيب — يبقى الشاعر الكبير بجانبك — يمد ذراعه بين الحين والحين ليتأبط ذراعك، أو ليمر بيده على يدك فلا تطاوعه. يهم أن يفتح فمه؛ ليستأنف الحديث الذي بدأه في أول الليل عن مشروعات فيحتبس اللسان. يوشك أن يكرر السؤال عن الندوة التي اشتركت فيها قبل حضورك، فيواجه بابك الموصد. تتراءى أمامه مسوخ الكلمات التي ألقيت في وجهك، فيخفض رأسه إلى الأرض. الهواء في المدخل لافح، وأنفاسك المتهدجة تتوالى متقطعة كأزيز النار في الحطب تزيده لفحًا. تطوف عيناك بالعجائز والأطفال والرجال المنتظرين على الأرائك، بالممرضات اللائي يسحبن المحفات وتشم رائحة الدواء والمرض والانتظار الممض، والموت المتربص خلف الأبواب والجدران الناصعة البيض. يشتد الوخز عليك، ويرفرف شيء في صدرك فتقول لنفسك: الطير الأسود. يكون الشاعر قد عثر على كرسي، فيجره نحوك، ويدعوك للجلوس. تشكره وتغالب ضحكة لا تريد أن تخرج: «شكرًا يا صاحب هذا البيت.» يمد يده إلى جيبه ويخرج علبة سجائره، ويقدم لك منها وهو يضحك: «نورًا يا صاحب هذا البيت.» تحس أصابعك ترتعش، وهي تبحث في جيب السراويل عن القداحة، تخرجها وتلتقط سيجارة، ثم تعيدها إلى مكانها، وتشعل له سيجارته. يؤيد الكلام مخاوفه: الأفضل أن تؤجلها لما بعد الكشف. يكفي ما أحرقت الليلة. تبتسم بمرارة: وما احترقت. تغمض عينيك قليلًا وتفتحهما. تتطلع من نافذة المدخل، وتنظر في ساعة يدك. يسارع الشاعر قائلًا: لا تقلق، لحظات ونعود إليهم. تتردد في ذاكرتك أبيات قرأتها قديمًا: انتصف الليل. وزمن الانتظار فات. وأنا أنا وحدي،٤ تغمض عينيك وتدير وجهك للحائط، وتتابع صدى أبياتك القديمة التي اندفعت إليك بغير ترتيب: «هذا المساء. أدرت وجهي للحياة، واغتمضت كي أموت. في هدأة السكوت، قد آن للشعاع أن يغيب. قد آن للغريب أن يئُوب.» تندفع أصداء بيتٍ قديمٍ كنت تحب ترديده: وكل ذي غيبة يئوب. وغائب الموت لا يئوب٥ تتوالى الأصداء الأولى: «للمركب الجانح أن يرسو على شط قريب. للجدول الناضب أن يفضي إلى نهرٍ رحيب.» يقطع الشاعر حبل النغم مؤكدًا: بعد الكشف سنرجع حالًا. ما هي إلا دقائق ونعود. لا تنظر في الساعة. أرجوك. تنظر في الساعة، وتندهش لقفزاتٍ عقاربها تتمنى لو كانت مي ومعتزة٦ في الفراش، أو لو كانتا بجوارك، لو وضعت يدك على رأسيهما وكتفيهما وتخللت بأصابعك شعرهما وقبلتهما كعادتك قبل الذهاب للنوم. تتمنى لو كانت هي أيضًا بجوارك. تسألك عما تريد، فتقول لها: «أن تكوني لي إلى الأبد، وأن تكون مقلتاك آخر الذي أرى من الحياة.» تلسعك الوخزة في الصدر، ويشتد لغيب القلب، فتمد يدك كأنك تبعد هواجسها: «كل شيء يا حبيبتي يهون، ما دمت لي إلى الأبد.» تتخيلها تضع يدها على قلبك فتقول: «حينما يكون قلبك الكبير جنب قلبي، فالبحر لا يفصلنا، والنار لا تخيفنا، والموت …» وتتوقف لتسحب نفسًا عمقًا يتدحرج في لهاتك كجدول يشق طريقه بصعوبة في الأحراش. وعندما تقع عيناك على الصديقين القادمين عن يمين الطبيب ويساره تتحشرج في أنفاسك المناجاة التي لا تستطيع أن تتمها: ينبئني تهز رأسك، وتنفي أنك في شتاء هذا العام. وقدة الحر المتلظي في ليل الصيف تعطيك الأمل، تعود للمناجاة التي ستقطع بعد لحظات، والتي بدأت فتتخللها ملامح الناقد الجادة، وابتسامة الطمأنينة على وجه الشاعر المجدد: «ينبئني هذا المساء أنني أموت وحدي، ينبئني هذا المساء أن هيكلي مريض، وأن أنفاسي شوك، وأن كل خطوة في وسطها مغامرة، وقد أموت قبل أن تلحق رِجْلٌ رِجْلًا، في زحمة المدينة المنهمرة.» تقول لنفسك وأنت تنهض بصعوبة وتمد يدك للطبيب: «أموت لا يعرفني أحد. أموت لا يبكي أحد.»

•••

طويل ونحيل أسمر، حاجباه الكثيفان يقفان كحارسين في ملابس السود أسفل جبهته الضيقة المربدة، ملامحه صارمة، وعليها آثار الإرهاق والحس المفرط بالمسئولية، يقدمه إليك الناقد، بل يذكر اسمه: الدكتور … ويقدمك إليه وهو يضحك باطمئنان الواثق، ويربت بيده على ذراعك: شاعرنا الكبير … تسلم عليه بيد لا تستطيع أن تمنعها من الارتعاش. يوسع الأصحاب مكانًا إلى الوراء، يرجوك الطبيب أن تصحبه إلى غرفة الاستقبال، يلتفت خلفه ويطمئن رجلًا مرتبك الأعصاب في أواسط العمر: لن أتأخر. ثم يلامس ذراعك، ويقول وهو يبتسم: «خير إن شاء الله.»

يستأذن الصحاب في الدخول معك، فيشير إشارة مهذبة: لن نتأخر تعب بسيط. ثم ضاحكًا وهو يتفرس الوجوه القلقة والعيون الشاخصة: أمراض العصر. من أدرى بها من المثقفين؟ تلتفت إليهم وتجاهد لسحب قناع الثقة المطمئن على وجهٍ انسحب عنه الدم واللون: طيب دقيقتين. تنظر في ساعتك بسرعة. يقترب منك الناقد والشاعر الكبير ملهوفين. تحب أن تذهب لهم وتطمئنهم؟ تمط شفتيك مرجحًا الفكرة، ثم تقول بسرعة: البركة في الدكتور. لن نتأخر بإذن الله. يؤكد الناقد: أنت بخير، لا داعي لإزعاجهم الآن. يضيف الشاعر المجدد: كلها ثوانٍ وتكونون في البيت، تغيم سحابات عابرة على جبهتك وخديك، ترتد النظرة للباطن تجس الشيء الحزين، وتمر على جناحي الطير الأسود الراقد مفتوح العينين. تشير إليهم إشارة ترج الجسد الثقيل: شدوا حيلكم. يضحكون ويرتفع صوت هاتف: دائمًا أنت أنت نفسك. دائمًا مرح اتكلوا على الله. تقول لنفسك وأنت تتجه مع الطبيب إلى الغرفة المواربة الباب في الركن القصي وتفحص بعينيك وجوه المرضى على الأرائك، والأيدي المسندة إلى الصدور والخدود، والمحفات العابرة في المداخل والطرقات أمام أبواب المصاعد، والعيون الجاحظة المستسلمة للمددين عليها: إلى المصير. ينفذ بصرك في الجلد والثياب وتضيف: «الطارق المجهول ملثم شرير. عيناه مسقيان بالسموم. والوجه من تحت اللثام وجه بوم.» يبتسم الطبيب في وجهك وهو يفتح الباب، ويدعوك للدخول فيدوي صوت في سمعك: «إلى المصير، والمصير هوة تروع الظنون.»

٣

يشير الطبيب إلى السرير الأبيض الصغير في جانب الغرفة، يصفق بيديه، فتمرق من باب داخلي ممرضة صغيرة الوجه، ضيقة العينين، سريعة الخطى، تتقدم نحوك وترجوك أن تخلع القميص. عندما تلاحظ ارتعاش ذراعيك تمد يدها وتساعدك. تنظر إلى وجهها الصغير، وتطيل النظر، تتمدد على الفراش، وتتدلى قدماك من الطرف الآخر، وتحدق في السقف. تقرأ في طبقات الطلاء المتآكل صورًا وتهاويل ونقوشًا: وجوه مغمضة الأعين، جدران بيوت تتصدع، بوق ينفخ فيه طفل على هيئة ملاكٍ مكسور الجناحين، سفن تذهب ولا تعود، شطوط لن ترسو فيها أبدًا. يقترب الطبيب ويمد يده ليرفع القميص الداخلي إلى أعلى. يدق بأصابعه على الصدر والرئتين. يسرق النظر إلى عينيك وملامحك ويحاول أن يوقف المرارة التي تسيل منهما. يضع السماعة على أذنه، ويدق من جديد على الرئة اليسرى. ينفتح فمه ويغمض عينيه لحظة. يعاود تحريك السماعة من أعلى إلى أسفل، ومن أسفل إلى أعلى. تنغرز السكين عميقًا في الجرح، وتنفلت الآهة التي حبستها طويلًا. ويرف جناح الطير، وتتسع عيونه. نظرتك لا تخطئ الخطوط والتعاريج المنعقدة على جبهة الطبيب، لا تخطئ سيهزم بصره، وتربد ملامحه الدقيقة السمراء. تهم بسؤال ثم تسكت. تزم شفتيك كما زم شفتيه. يسألك بعد تردد، والسماعة لا زالت تفحص وتهمس له بالنبأ المكتوم: هل شكوت قبل هذا من القلب؟ يتحرك الوخز في الموضع القريب من السماعة، تثبت عليه نظرتك الحادة المستسلمة: أبدًا. أبدًا لم أَشْكُ منه. يأتيك صوته الممدود في حنانٍ مبالغ فيه: وما الذي كنت تشكو منه. تمط شفتيك وتقول وأنت تبحث في تاريخ جسدك: المتاعب العادية. يحاول الطبيب أن يغتصب ضحكة لا تلبث أن تتهاوى ثقيلة على فمه: متاعب المثقفين؟ تفكرون أكثر من اللازم. تحاول أيضًا أن تجاريه، فتقع الضحكة مكسورة النفس والجناح على الملاءة البيضاء الناصعة: كما تعرف؛ القولون العصبي. آلام الأسنان … يقاطعك الطبيب وهو يرفع سماعته ويتركها تتدلى على صدره: والتدخين. تسرع وتقول: طبعًا طبعًا. يسألك بأدبٍ جم: تكثر منه؟ ترد باقتضاب، وتتمنى لو تشعل واحدة: للأسف.

يتجه إلى مكتبه، ويضع السماعة في حقيبته، تطلب منك الممرضة أن تنهض وتساعدك على ارتداء القميص الصيفي الأبيض. يتناهى إليك صوته من بعيد، بعيد، خير إن شاء الله. استرح قليلًا. يأمر الممرضة بصوتٍ أقرب إلى الصراخ: لماذا تتعبينه بالوقوف؟ استرح يا أستاذ، ولا تنهض من مكانك. سأعود حالًا. يتوالى الوخز وتؤلمك الشوكة. تتابع نظرتك الممرضة التي انشغلت عنك بأدواتٍ وعلب وزجاجاتٍ على المكتب، وظهرها النحيل يتدحرج مع كل كلمة: كورامين. ثم وهي تستدير نحوك باسمة: لن تشعر بأي ألم؟ تسحب عينيك إلى داخلك. تتصاعد خطى اليوم المرهق وتذكاراته إلى أطرافك كالرصاص الصدئ الثقيل. يتصاعد معها الندم على الساعات الضائعة واللحظات المقتولة. تتجول في مبنى التليفزيون، والذي قضيت فيه ساعات. دائمًا وأبدًا نفس المصيدة. تستدرج إليها، وتشارك في مأدبة الثرثرة وتأكل لحمًا عافته نفسك منذ زمان. هناك تحدثت عن الغربة «إننا الأغراب في الفقر الكبير». غربة المثقف في أوروبا. زهرة العمر وقنديل أم هاشم. وأديب الخارج من جوف الهرم وأنفاس الموت الأبدي ليصدم بهواء الحرية، ويحترق بشمس الجنس المسعورة. «القطيع غاب راعيه، وطالت رحلته. وهو في بيداء لا ظل بها.» وحوار ممطوط يتهدج فيه صوتك، تتحشرج أنفاسك وهي تحاول أن تنفذ في غابات الشوك المغروزة في صدرك، وضحكات لم تستمتع بها، وثناء تتأفف منه، وبطولات حققها أبطال موهوبون، وما أغناك عنها. وتنادم غربتك وتسقيها وتنادمك. وتقول لنفسك وسط الأضواء على مرأى من فرسان العصر: «أسعى وراء الشمس، والشمس في ظهري.» ويختلس الحلم نظراته إلى شمسٍ أخرى ومدن أخرى، إلى حياة التفرغ تحت شمس كمبريدج الشتوية،٧ إلى العودة لمشاهد عنترة٨ الذي لم يتم ويحتاج لجو آخر وهواء آخر وفرسان غير الفرسان، إلى مشارف الخمسين،٩ التي تنتظر أن تكملها بذكريات وذكريات من زمن الجراد والاكتئاب والضحكات المغتصبة، وجيل الموتى قبل الموت، إلى وجوه تتذوق طعم البسمة، وعيون تحلم، وتعمل لمدن المستقبل، إلى أجسادٍ خلقت للحب، وعرفت سر المعجزة، لكن جاء الغيلان. تنتبه إلى ظل الممرضة التي تقف أمام سريرك والحقنة في يدها. تبتسم وتقول: أقل من ألم الشعراء. لن تحس بشيء. تمد ذراعك الأيسر، فتقول: أقل من ألم الأيمن. تمر بقطعة قطن في يدها اليمنى على العرق المنتفض: عرق لا يتعب. يدعو للشك. تضحك الممرضة، وهي تغرز الإبرة بتؤدةٍ وبراءة: سمعت عن رجلٍ يقول: أنا أشك، فأنا إذن موجود. ومنذ ذلك اليوم، وأنا أشك كل من يرقد على هذا السرير. توشك أن تنفجر الضحكة، فيتهدج صوتك ويشتد سعالك. تنزعج الممرضة. تطمئنها بعد أن تلتقط أنفاسك، وتقول بعد قليل: لو شككت ديكارت لأصبح رجلًا عاقلًا. تسأل الممرضة: من تدرك غلطتك؟ وتعتذر: حكيم الله يرحمه! تتجه الممرضة إلى المكتب، وتضع الحقنة في طبقٍ كبيرٍ من الصاج لا زال البخار يتصاعد منه. تستأذن وتنصرف من الباب الداخلي. تتذكر أنك كتمت سؤالًا كان يلح عليك. تسري غيمة التسليم في عينيك، وتثني ذراعيك على صدرك، وتشبك كفيك على موضع القلب. تغمض عينيك وتترك الذكريات والمرئيات وأبيات الشعر تتزاحم عليك كالفراشات السوداء، تحاول أن تطردها عبثًا، فيجذبها الحريق المتوهج في صدرك «وضع النطع على السكة والغيلان جاءوا». تزاحم حولك «كهان الأروقة الكذبة، اصطفوا حولك كالدببة. تلاغوا بالكلمات الرواغة كذباب الحانات. لما سكروا سكر الضفدع بالطين. انطلقوا في نبراتٍ مكتظة». وتسلوا بترامي الفقاعات القذرة والألفاظ الفظة، لاكوا لحم الكلمات المطعون، ونهشوا لحمي، باعوا أنفسهم للأصنام الكذبة، واتهموني أني بعت لهم نفسي. آه ماذا أجدت كلماتي حتى تقتلني الكلمات؟ ماذا أجدت رحلة عمري في أعماق البحر؟ أخرجت لآلئ أهديها للفقراء البسطاء، طيبة بيضاء ولامعة وبلون القلب، جاء الغيلان العشرة والغيلان الألف، غاصوا في مستنقع ألفاظٍ وشعاراتٍ عفنة، رجموني بالألفاظ، وطعنوا قلبي بسيوف الكلمات النتنة — «عجزت عن عوني معرفتي، لم تنفعني فلسفتي» كسرت راياتي، وتهاويت إلى القاع أمام الزوجة والأطفال وحيدًا عريانًا. ماذا أفعل؟ ماذا يبقى لي من تعبي الخاسر؟ هل يسلم حتى الشعر؟ ينتفض الطير الأسود، وينادي الجرح على السكين. تتسلل الممرضة على أطراف قدميها وتقترب من السرير وتنظر إليك. تسأل هامسة: هل نمت؟ تفتح عينيك وتهم بالنهوض، فتشير إليك ألا تتحرك. تعقد وتزم شفتيك وتهز رأسك، وأنت تقول: «تصارعت والهول وجهًا لوجه، ولكنني ما عرفت الفرار.»

٤

لا بد أنك نمت قليلًا بعد خروج الممرضة. فها أنت ذا تفتح عينيك، تفركهما، تحس أنهما محمرتان كعادتهما عندما تؤلمانك. ولا بد أنك حلمت بأنك سفينة يهدهدها الموجُ، وتشتد عليها الريح، فتغرق ويغطيها الماء، هل رأيت أيضًا الفئران تهرب منها؟ وهل شعرت بمحنة الربان الذي يكون — هو والفنان — آخر من يغادر السفينة الغارقة؟ لا بد أنك كنت تنتفض غضبًا، وتدق أجراس الخطر، وتتحدى الموج الذي يرتطم على جسدك، وينثر رذاذه الملحي البارد على ملابسك، ويزمجر سخطًا؛ لأنك لا تخضع لمشيئته. فها هو صدرك يرتجف، والموجة إثر الموجة تتصاعد في داخلك، وتضغط على رقبتك، وتريد لو تظفر من عينيك وأذنيك، وجسدك كله يستحم في مائها وملحها. تفتح عينيك على الجدران البيضاء الخرساء، تتحسس حديد السرير البارد، تطل من النافذة على كتل الليل المتراصَّة كجبال سوداء، تهمس في سرك: «الله لا يحرمني الليل ولا مرارته.» تتمنى لو يسعف مولاك الشعر، فتمسك باللحظة، وتكبلها في قيد الوقت، كي تتأملها في خلوة، أو تسمعها في صمت. لكن الشعر يفر ويوغل في الوحشة، فتلجأ إلى خزانة ذاكرتك التي لا تحفظ منه كثيرًا. وتحاول أن تسند ظهرك على الأعمدة الخلفية، أو تعدل من وضع المخدات تحت رأسك، فيقعدك العجز، ويشتد لهاثك، وتضطرب الموجة في صدرك، وتفور وتحرك شفتيك التي لم يبلغها القيد، ولم تُثقلها الأصفاد، وتوشك أن تبكي على الجسد المهزوم، لولا أنك تنكر هذا الضعف على نفسك: «لكنني مجرب قعيد، على رصيف عالم يموج بالتخليط والقمامة، أكسبني التعتيم والجهامة، حين سقطت فوقه في مطلع الصبا.» تحاول أن تتقلب على جنبك؛ لتضغط الشوكة التي عادت تؤلمك، وتحاول أن تثني الذراع، وتجس بيدك سطح الموجة التي ترتفع، وتلطم حاجز الضلوع، لكنك تفاجأ بأن الذراع لا تستجيب لإرادتك، وأن العزم لا يصل إلى الأطراف. رباه! أهو الشلل؟ هل تتحقق نبوءة شعري أم نبوءة قدري؟ هل أقضي ما بقي من العمر قعيدًا يجتر تجاربه المرة؟ تلقي بصرك للسقف والحائط وزجاجات الدواء والحقن المرصوصة على المكتب، تصدم أنفك رائحة آسنة صماء لا تعرف كيف تسميها. هل شُل الخاطر أيضًا؟ تتطلع من جديد عبر النافذة التي لا ترى منها نجمًا ولا سماء ولا قمرًا. ماذا كنت أريد من الدنيا؟ كنت أريد أن أُلبِّس هذا الكون الأعمى ثوب المعنى، وأنغم هذا الزمن الموحش موسيقى. كنت أريد أن أجعل من نثر الأيام المتشابه شعرًا يبقى، أن يحلو الإنسان بعين الله ويكبر حرًّا، يزهو بالتاج على رأسه، بالصدق النابع من نفسه. أردت أن أرى النظام في الفوضى، وأن أرى الجمال في النظام. وكنت نادر الكلام، وتطيل النظر وراء النافذة لعلك تبصر خيطًا مختبئًا خلف حجاب الغيم، لكنك تحمد نعمة ربك إذ أعطاك الليل، الليل الغارق في بحر حداد في بحر سواد في بحر الصمت الموت، ينتفض صدرك عندما تتردد الكلمة الأخيرة بصوتٍ يفاجئك. يفتح الباب وأنت تردد بينك وبين نفسك بينما تسحب نظراتك من الليل والنافذة والنجوم التي لم ترها والخيط الذي لم تهتد إليه «تعالى الله، هذا الكون موبوء ولا برء. تعالى الله، هذا الكون لا يصلحه شيء، فأين الموت؟ أين الموت؟ أين الموت؟»

٥

يدخل الطبيب الذي كان عندك منذ قليل على عجل. تتابعه بعينيك كأنك تتحقق منه: أسمر طويل ونحيل، على وجهه وجبهته صرامة وجدية لم تلحظهما من قبل. يهتف وهو يستدير: تفضل يا دكتور. من فضلكم انتظروا بالخارج. تطل رءوس تعرفها وإن لم تظهر من الباب إلا لحظاتٍ خاطفة. تلمح القلق على وجه الناقد والشاعرين. تتمنى لو تنادي عليهم أو تطمئنهم فلا تقوى على إخراج كلمةٍ واحدة. يدخل رجل ناصع الوجه مستديرُه، تسبقه نظارات تلمع كالبرق بين إطارين من السحب السوداء. تظهر أسنانه البيضاء التي تنفرج عن صوتٍ جهوري ضاحك: الشاعر الكبير؟ لا بأس عليك. ترفع حاجبيك دهشة، فيرتفع الصوت وتعلو الضحكة: طبعًا لا تتصور أن الأطباء يعرفونك. ها أنت جئت يا سيدي لأسمع نبضات قلبك بعد أن قرأتها. يقف الطبيب الأول بعيدًا، ويقدمه إليك: الأستاذ الدكتور … أخصائي القلب المعروف. ينهره الثاني بإشارةٍ من يده، ويقترب منك، ويسبقه نور أسنانه وابتسامته العريضة الصافية. تحاول أن تبدد الدهشة التي عقدت حاجبيك وتهمهم: أهلًا و… لكن الصوت يتهدج ويخونك. ينطلق الطبيب قائلًا: أرجوك لا تجهد نفسك، حتى الكلام ممنوع الآن. أليس غريبًا أن أطلب هذا من شاعر؟ يفتح حقيبته بسرعةٍ مذهلةٍ وفي لحظةٍ تتدلى السماعة على صدره. يقول وهو يمسح على يديك، ويمر بهما على رأسك المشتعل بتاج الثلج: أرجوك؟ لا تتكلم أبدًا. هذا أغرب أمر يوجه إلى شاعر. أليس كذلك؟ قل لربة الإلهام أن تدير وجهها قليلًا، أو فلأقل أنا ذلك. سأعمل كل شيءٍ، والرب يدبر ما فيه الخير. فرصة سعيدة إن شاء الله. هل تعلم أنني كنت أتمنى أن أراك من وقتٍ طويل. إي والله. قرأت كثيرًا من شعرك وأنا طالب، وما زلت رغم مشاغلي أقرأ فيه. هل أفضي لك بسر؟

تبتسم وأنت تحس أصابعه تدق على صدرك ببراعة، وتلمس برودة السماعة وهي تلهث صاعدة نازلة على جلدك. يأمرك بصوتٍ رقيقٍ أن تسعل، أن تزفر، أن تشهق بقوة، أن تأخذ نفسًا آخر، فتمتثل برغم الإعياء المسترخي في أطرافك وعروقك. لا تفارق الابتسامة الشاكرة فمك، وأنت تتابع ثرثرته الحبيبة، وتنظر بحبٍّ إلى قسماته الوديعة الطيبة. يستطرد حديثه كأنه يتلو تعويذة ساحر يحاول أن يخرج جنيًّا عنيدًا من جسد مريضه: هل تعلم أنني. أقصد أنني … لم أكتف بقراءته والحياة معه، لقد ساعدني أيضًا على الحب. طبعًا تتعجب. أقول لك السر وأمري إلى الله، باختصار: أحببت بشعرك.

تسرح عيناك وتبتعدان عن وجهه قليلًا. تغيم سحابة عليهما وتقول لنفسك: «الشعر زلتي التي من أجلها هدمت ما بنيت. من أجلها خرجت. من أجلها في أول المسا طعنت، وها أنا أعرض قلبي الذي أوجعني حتى بكيت، قلبي الذي …»

تلاحظ أن الطبيب يترك السماعة على صدرك، ويتجه إلى زميله مقطب الوجه. يتبادل معه الكلام المتدافع كقطرات المطر المفاجئة بالإنجليزية، وتلتقط أذناك كلمة القلب التي تتقطر فيهما كالحديد المصهور. يخرج الطبيب الأسمر النحيل مسرعًا ويغلق الباب وراءه. يرجع إليك الطبيب وهو يرسم نفس الابتسامة على شفتيه وملامح وجهه الذي لا يخفي الانزعاج. يستأنف كلامه وهو يواصل كشفه الدقيق، ويسرع فيه إسراع النبضات التي بدأت ترتجف، وترج صدرك: باختصار يا سيدي. أحببت بشعرك وتزوجت أيضًا. «وجه حبيبي خيمة من نور. شعر حبيبي حقل حنطة.» نسيت بقية الأبيات. أرجوك لا تجهد نفسك. والآن انقلب على وجهك، حتى لا تتذكر فتثير في نفسي حسرات الحب. نعم هكذا. لم تصدق أول الأمر. أحضرت لها الكتاب المقدس، وقرأت معها في نشيد الأنشاد. بالطبع لم أنسب الشعر لنفسي. معاذ الله من الكذب. إما أثبت لها أن الحب نبع خالد، يلهمك ويلهم صاحب النشيد، ويلهمني أيضًا. ساعدني شعرك أيضًا حين أردت أن أعزز حبي، وقلت لها عن ظهر قلب: آنستي — لم تكن قد أصبحت سيدة بعد — «إليك قلبي واغفري لي، أبيض كاللؤلؤة، وطيب كاللؤلؤة، ولامع كاللؤلؤة، هدية الفقير للفقير.» ولا تسل عن تأثير صوتي، وأنا أقول أبيض وطيب ولامع وأقدم لها قلبي في ليلةٍ لا أنساها، واتفقنا فيها على كل شيء. أليس غريبًا أن أصبح طبيبًا للقلب، وأن أُستدعى الليلة من نومي لأعالج قلبك كما عالجت قلبي؟ استدر الآن خير إن شاء الله. إن شاء الله خير. كم اليوم من أيام المسيح؟ أعني في أي يومٍ نحن؟ ينظر في ساعته بسرعة. يخطف الكلام ويقول: الخميس. نعم، ثم يفرد تقطيبة حاجبيه وجبهته ويسأل مبتسمًا: اليوم الثامن من أيام الأسبوع الخامس في الشهر الثالث عشر. الحق أنني لم أفهم ما قلت تمامًا، ننتزع ضحكة خافتة من أنياب الحزن وتقول رغم أوامره المشددة: وأنا لم أقل شيئًا. إنه بشر الحافي لشيخه بسام الدين. يصفق بيديه. معذرة لا وقت لدينا. سنتفاهم في الغرفة الأخرى حول … من قلت؟ آه! أرجوك الصمت، لا دعي للإجهاد أو الحركة. أنت تقدر بالطبع. وستبقى يومين عندنا. يبدو الذعر على وجهك ويثب من عينيك. تهم بأن تسأل أو تعترض، فيشير بيده إشارةً حاسمة: اطمئن. اطمئن تمامًا. إجراءات عادية نعملها كل يوم. تهم أن تحرك شفتيك، وترفع يدك، فيؤكد إشارته: أعرف أعرف. سنبلغ الزوجة الكريمة والأولاد. لماذا لا تريد أن تشرفنا يومين؟ على الأقل نتكلم عن الشعر، ونتعرف على الشيخ … الشيخ … يسرع إلى الباب الداخلي ويفتحه، يغيب لحظات تنشغل فيها بنفسك وتناجي بشر وبسام الدين. ها أنا ذا مقتول يا شيخي. في اليوم الثامن من أيام الأسبوع الخامس للشهر الثالث عشر. مقتول ولا قطرة دم. والسكين الألفاظ تشق اللحم. أي زمان هذا؟ لا يعرف فيه مقتول من قاتله، ومتى قتله. وأقول لنفسي: يا ليتك كنت خرجت. من مدن الموتى يسكنها جيل مات قبيل الموت. يا ليتك كنت ببشر الحافي في الصحراء لحقت، يا ليتك كنت لزمت الصمت. فتحسس رأسك. فتتحسس رأسك.

٦

تتحسس رأسك بكف مرتجفة. تتطلع للنافذة وتشعر أن الليل المتربص يحصي من مكمنه الأنفاس. الليل القبر يمد غطاء الكفن على الناس. تهتف: يا رب الكون المشئوم. أدركني فالليل طويل تنعق فيه البوم. ها هي تصرخ وهي تحوم: جروك لبئر الكلم المسموم. تركوك وحيدًا تغرق وتئن أنين يتيم. رجموك بلفظٍ كالحجر رجيم. كلمات في كلمات تنهمر كشلالٍ هادر، نسجوا منها حبلًا يلتف على رقبة شاعر. ورأيت الدنيا مولودًا بشعًا، فتمنيت الموت. والآن تنام وحيدًا وعلى عنقك تلتف حبال الصمت. يا ليتك كنت لزمت الصمت. يا ليتك كنت خرجت.

وتعود تتحسس رأسك عندما ينفتح الباب فجأة، ويدخل الطبيبان والممرضة التي تسحب وراءها محفة تدور على عجلات. ويلمحك الطبيب، فيهتف: ألم نتفق على عدم الحركة؟ ويقترب منك وهو يجاهد أن يفرش ابتسامة على فمه: ألا يستمع الشاعر مرة واحدة لربة الطب والشفاء؟ ترن الكلمة الأخيرة في أذنك رنين قيثارة مجروحة على جبلٍ بعيد. تتطلع للوجه الطيب الضحوك بنظرتك المفعمة بالتعاسة والسخرية. يتقدمون نحوك وهو يحذرونك من أي حركة، ويلف الطبيب الشاب ذراعك حول عنقه، ويدخل طبيب القلب ذراعه تحت خصرك ويحملك إلى أعلى، بينما تحاول الممرضة أن ترفع ساقيك بحذر، وتنزلهما على المحفة الواطئة. تنغرز الشوكة عميقة في القلب. يهم الطير الأسود أن يرفرف بجناحيه، وتتسع عيناه دهشةً ورعبًا. تتردد كلمة القلب، فتتذكر بيتًا قديمًا وثب إلى صندوق الذاكرة منذ قليل: «أشقى ما مر بقلبي أن الأيام الجهمة، جعلته قلبًا جهمًا.»

تخرج المحفة إلى القاعة الواسعة، فتسرع الخطى نحوك. هادئ أنت والليل والطارق المجهول والأصدقاء مسرعون، يتسابقون بجانبك وعينك ترعاهم، وتطوف بوجوههم وتحاول في صمتٍ أن تمسح عنها آثار الذعر. يهمس طبيب القلب للشاعر الذي اقترب منه هو والناقد: غرفة الإنعاش. يبتعد قليلًا ويسر إليها: أزمة حادة في الشريان. سأعمل ما في طاقتي. يهز رأسه كثيرًا وهو يلاحق المحفة، ويؤكد لهما: العمل عمل الله. لا بد من إجراءٍ سريع. نعم لا بد من حضورهم. نعم إن شاء الله. تلمح القلق يطل من العيون، فتقول وأنت تحاول أن تمد يدك لتصافحهم فلا تستطيع: ما لكم. شدوا حيلكم. يحذرك الطبيب وهو يعدو خلفك. يخبط الناقد كفًّا بكف. تطفر الدمعة من عينه، ويسند وجهه على الحائط. تبتعد المحفة وما زالت نظراتك تلمسهم وتجفف دموعهم، وتزيل غبار الذهول عنهم. تكاد النظرات تقول: «وما الإنسان إن عاش وإن مات، وما الإنسان؟ وهل من مات لم يترك له رسمًا على الجدران، وخطا فوق ديباجة وذكرى في حنايا القلب؟ وما الإنسان إن عاش وإن مات، وما الإنسان؟»

٧

أنذرني من قبل أن يجيء. رفقًا يا قاضي الوقت. مهلًا يا ملاح الموت. يا من تعبر نهر الغربة والنسيان، أنظرني حتى أعزف بعض الألحان، أو أشرب نخب العمر على مأدبة الخلان، وأودع من أحببت وأختم آخر فصل في مأساة الأحزان، وأقوم خطيبًا فيهم: إخواني، يا من كنتم أغلى الإخوان، أسألكم، أسأل نفسي: من نحن؟ وماذا نبغي؟ ما الإنسان؟ وإذا كان الإنسان هو الموت فما معنى أن نولد ونشيب ونلقى في الأكفان؟ وإذا لم يكن الإنسان هو الموت، فمن كتب عليه القسوة والحرمان؟ من أوقفه كالمسجون أمام السجان؟ إن كان الإنسان. هو الموت.

تسرع المحفة على عجلاتها وبجانبها الطبيبان، وخلفها الممرضة الصغيرة لاهثة الخطى والأنفاس. أرقد في سكونٍ وذراعي هامدة وأصابعي تتحرك شوقًا للقلم وللأوراق. هل فات الوقت؟ هل أزف الموعد؟ أنصت يا طير الموت الأسود. أسمع دقات الطبل المرعد، تعلو تهبط تدنو تبعد. أنصت يا طيري الهاجع في عش القلب المجهد؛ فالنغم الهارب يتردد حينًا، ثم يبدد، يتكسر فوق زجاج القلب ويخمد، يجمع أشلاء نشيد ضاع من المنشد: «أنذرني من قبل أن يجيء. تراب لونه الرديء.» أنذرني ولم أصدق نذره. أنبأني ولم أحقق نبأه. رأيته على الدوام يخفي عينه المختبئة، في طرقات المدن المهترئة، وفي حنايا الأعين التي تنم عن قلوبٍ صدئة. أنذرني من قبل أن يجيء. لم أنتبه لوقعه البطيء. هل آن أن تدهمني خيوله المفاجئة؟ ترتفع دقات الطبل الخافت، حتى تصبح كدوي الرعد. تتلبد سحب الغبار أمام عيني وتبرق حوافر الخيل. دقات القدر الغامض أم دمع القمر على صدر الليل؟ تسرع المحفة، وتسلمني من دربٍ مجهولٍ إلى دربٍ مجهول. تهبط من كون علوي في كونٍ سفلي. يا ربات القدر الرابض فوق العرش، تغزلن خيوط العمر، وتصنعن نسيج النعش. مهلًا يا ربات القدر ولا تقطعن الخيط الهش. لا تزعجن الطير الراقد في العش.

تشيعني النظرات الكابية والنظرات الحانية. يا أمي أين تراك الآن؟ ضميني واحميني من شر العين. وأنت يا حبيبتي الحنون. حبيبتي يا من دعوتها أغلى من العيون. هل يسعفك الوقت؟ أم يبلغك رسول الموت بأني مت؟

آه أزف الوقت، ضاع الوقت.

لا تعجل يا ملَّاح الموت بإغراق سفيني، الجرح ينادي السكين فلا تك أقصى من سكين. أتقول بأن الموت علينا مقدور، ذلك حق لكني أرفض هذا الموت الباهت حتف الأنف. كنت بسالف أيامي قد صادفني هذا البيت: الإنسان هو الموت. لكني لم أقبل أبدًا أن يصدق هذا البيت. فتمردت عليه وثرت. ودعوت الله بأن يرفع عنا زمن الموت، أن يقسو، كي نزدجر، علينا، ويعلمنا أن نتمزق إربًا أن نتفتت، حتى لا نمثل للموت، حتى يخرج من بئر الماضي الأسود طفل المستقبل ممتطيًا مهر الوقت، ويجوز بقافلة الموتى أرض الموت، لأرض تبزغ فيها شمس الحرية في السمت.

عجل يا ملَّاح الموت ولا تخش القدر أو المقدور. إن تَبْدُ جبال الملح أمامك والقصدير، فسنحيا في أطراف الألم ونبلغ شط المحظور، ونجرب لحظة رعب قاسٍ مر ومرير، حتى نرسو في جزر النور، نرسو في جزر النور.

تقف العجلات على باب الغرفة. تفتح عينيك على النور الباهر ينهمر من السقف على الأركان. تهتف من قلبٍ خنقته أمواج الظلمة والصدفة: أواه يا مدينتي المنيرة.

٨

مدينتي المنيرة.

«مدينة الرؤى التي تشرب ضوءًا، مدينة الرؤى التي تمج ضوءًا.» تلوح بعد طول الانتظار. تكشف عن نجومها وراء الغيم والضباب بعد رحلة العذاب والدمار، يا كم خرجت بحثًا عنك كاليتيم، مطرحًا أثقال عيشي الأليم، وملقيًا وراء ظهري بالأنا القديم. أقول كلما بدت أبراجك الحسان والمنار، ولوح الملاح سيد البحار، للمركب الذي أضنته طلعة الشموس والأقمار، ورحلة الضياع في عيون الليل والنهار: «حجارة أكون لو نظرت للوراء، حجارة أصبح أو رجوم.» هل آن أن أرسو على شطوط الحلم؟ أأنت يا مدينة الجمال والجلال وهم؟ أم أنت حق؟ أم أنت حق؟

أرقد في فراشي الكليم، عريان كاليتيم، مجردًا من النقوش والألقاب والرسوم، تطوف في خيالي السقيم حلمي العقيم حلمي القديم، أن تفتح السما أبوابها عن نبأ عظيم. «وها أنا ذا أستدير بوجهي إليك، وأبكي لأن انتظاري طال؛ لأن انتظاري يطول» أيا أملًا قادمًا من وراء الغيوم. أغيب في غياهب الضباب والدخان، أسأل عنك النسر مرة والأفعوان، وأسأل الشيوخ والكهان، عن شاهد يدل عن صداك في الزمان أو خطاك في المكان. وبعد رحلة العذاب في البحار والقفار، وبعد طول الانتظار، أراك يا مدينتي زاخرة الأنوار، أبعث من تابوتي القديم في مدافن التذكار أبعث فوق صدرك الطهور كالأبرار، أرضع من نهديك نور العدل والحرية، أطعم من كفيك خبز العدل والحرية. بعد طول الانتظار. بعد طول الانتظار.

تتزاحم السحب عليك، فترفع يدك محاولًا أن تبعدها. تتصور أنك راع يحمي بعصاه القطعان الطيبة من الذئاب. ينتهي إليك صوت الطبيب محذرًا كأنه ينفذ من أستار الضباب: أرجوك. أرجوك. تنظر من خلال الغيم المتناثر حولك كالقطن، تندهش وتعجب مما حولك: أجهزة تلمع في أيديهم، وعقارب تجري وتدور، أكواب وأنابيب وخراطيم يستقر أحدها في فمك، يخرج منها ليدخل في فتحة أنفك. تتنفس عطرًا أزرق، وتحوم فراشات حول الأنوار، ربي ما هذا النور!

يعملون. يعملون صامتين. أيديهم تغزل ثوبي المسحور. أفواههم نادرة الكلام. كذا يكون الناس في مدينتي المنيرة، كذا يكون الناس في بلادي جارحين كالصقور. لا. لا. كم جرحوني في زمان غابر قديم! كم غرزوا السكين في فؤادي الكليم في فؤادي اليتيم! لكنني أسامح. أغفر زلة اللسان والعيون والجوارح. ورحلة العذاب علمتني الصمت. أهل بلادي طيبون. قد يجرحون كالصقور، يقتلون، يسرقون، يشربون، يجشئُون. «لكنهم بشر، ومؤمنون بالقدر. وحين يسغبون يطعمون من صفاء القلب. وحين يظمئُون يشربون نهلة من حب. ويلغطون حين يلتقون بالسلام. عليكم السلام. عليكم السلام. ففي ذرى بلادنا يرفرف السلام.» ومن ذرى بلادنا يرفرف السلام. أهل بلادي طيبون يعملون صامتين. وفي مدينة الأنوار يعشقون يعرقون يزرعون، وحين يملكون. إرادة الإنسان أن يكون. لن يشغلوا أنفسهم بالموت والقضاء والقدر، ولن يحدقوا ﮐ «عم مصطفى» في لجة الفراغ والسكون، سيفرحون يضحكون يرقصون في مواسم الزواج والحصاد والمطر، وعندما يجيء الموت لن يخافوا طلعته، فالحب — يا حبيب — قد أزال شوكته، ومرت الحرية الخضراء فوق جرح العدم المهين، وها هو الجرح القديم يتحدى طعنة السكين.

تتحرك شوكة ألم في صدري. تطفو الموجة بعد الموجة توشك أن تغرقني. يبغي الطير الأسود أن يخرج من حلقي. يبغي أن يخنقني. ها هو ذا ينهض ويرفرف. ها هو فوق الجرح يحط ويسقط. اهدأ يا طيري الأسود، أَبعِد منقارك عن كبدي، واختر غصنًا آخر من شجرة جسدي. اهدأ أرجوك ولا تنقر في حبة قلبي. دعني أجمع ما يتناثر من خطبي. وأجدل من شعري عشًّا ترقد فيه بجنبي. وتعال لنصنع نغمًا يشجي قلب طبيب يأسو قلبك ويداوي قلبي. اسمع يا طيري غنوة حبي: «والعالم الذي أريد. أريد للرجال أن يعانقوا الرجال دون حقد. العالم الذي أريد. أريد للنساء أن يغفين وادعات، في أذرع الأزواج والأحباب والأبناء، العالم الذي يصبح الأطفال، نورة الأمل، بنَغْية الحنان والدمى وبالقبل. العالم السعيد، راحة الأجيال، في سعيها قوافل الأجيال نحو عالم سعيد.»

انظر يا طيري الأسود! هل تلمح نور مدينتنا، نور المستقبل؟

الزمن الآتي بالنجمين الوضائين على كفيه: الحرية والعدل. الزمن الكاسر للذلة والظلم كما تنكسر زجاجة السم، تتفرق شظيات لا يلتم لها شمل، الزمن المطلق للأنسام لتحمل حبات الخصب السحرية، وتفرقها في أرحام حدائقنا الجرداء المختومة بالعقم. هل تشهد هذا الحلم، أتلحظه لحظ العين؟ أم تحسبه رؤيا الغارق في قاع النوم؟ يا طيري الأسود قم. هل تلمح مدن الأمل وراء الغيم؟ أم هي وهم؟ أم هي وهم؟

تتكاثف سحب عاتية تصدم رأسك. يتخللها برق لا يلبث أن ينطفئ ويطفئ حسك. تتجمع سربًا من قطعان بيضاء وسوداء، سفنًا ترتطم على الشطآن وتتفتت في الخلجان، وتصارع جبل المرَدة والحيتان، تهرب منها الفئران ويبكي البحارة، لكن يبقى الربان، يبقى الربان، وحيدًا يكشف للريح الغاضب ستر الصدر العريان، يحمل بين يديه المصباح الواهن فوق الطوفان. يا هذا الربان! يا هذا الربان! غرق الغرقى قبل الغرق، وسقطوا في القيعان، هرب البحارة والفيران، والجرس المعول من ناقوسك لن تسمعه الآذان، أنقِذ نفسك يا ربان، أتمثل دور الفرسان المحزونين الشجعان، ذهب الفارس والفرس وغطاه رماد الأزمان، يا ربان! يا ربان! ماذا تصنع يا ربان؟!

– أنتظر الزمن الآتي بالسيف المبصر والميزان، لأزف النور لركب الشجعان، وأضع التاج على رأس الإنسان، الإنسان.

تطفو فوق الموجة، تتشبث بالسرج المزبد والموجة فرس رهان، تنزلق على ظهر العالم، تهوي تهوي في كهف لم تسكنه الجان، كهف سكنته القصة والأحزان يتصاعد منه دخان، يتصاعد منه دخان. ترتفع على ظهر الموجة، تتنفس فوق الماء كأنك سمكة صيد فرت من وجه الحيتان، هربت من شبكة صياد كي تقع بشبكة صياد ثان، تختنق وتسقط في القيعان، تتأمل جسدك يهوي في بئر أحمر قان، ينتفض، يحاول أن يهرب منك، فتتماسك نلقف حبلًا يمتد إليك كثعبان، تخرج من قاع البئر، وتتجول وسط حقول ومغان، تلمح شبحًا، أشباحًا تدنو منك فتهتف يا أصحابي، يا أحبابي، أتراكم غبتم عني، وتخليتم يا خلاني (تهتف لن يسمعك الجيران، لن ينتبه لصوتك قاصٍ منهم أو دان).

الطبيب يتمتم: ربي! رب الميلاد ورب الموت. ويراقب أنفاسك ويعاين نبض القلب الطبيب الآخر يتأمل وجهك ويهمس: يا رب. الممرضة تذهب وتجيء، تحرك أنابيب وتحضر أنابيب وتنشج: يا رب. وأنت تطفو على الموجة وتنزلق، تمتطي ظهرها وتسقط، تمسك بلجامها الفضي ويفلت منك. تتزاحم الأشباح حولك. تقرب وجوهها من وجهك. تعرفها، تتفرس فيها، وتناديها بالصوت المفعم بالكتمان: إليَّ إليَّ. يا حلاج. ثبت قلبي يا محبوبي. يا سيدنا القادم من بعدي. أدركني أو لن تدركني يا ليلكة الظل، أميرة روحي وجروحي، تنتظرين؟ ماذا تنتظرين؟ يا عشري السترة! مد يديك وأظهر لون القدرة، اصبر يا طير الموت الأسود. نَقِّرْ في صدري، لكن أبعد منقارك عن حبة قلبي. أمي يا أمي. أين تراك وأين أبي؟ نادي يا أمِّ عليها لتكون بجنبي. يا شجرة عمري نور العين رفيقة دربي، غطيني ضميني مدي كفك، داوي قلبي. تهوي في لجج الإغماء، يشح الضوء، وتبتلع الملح، تعض على لحم السر الهارب كالسمكة في الماء، تدخل في حال الصحو إلى حال المحو، وتلمس قلب الأشياء، تصبح خمرًا، خبزًا أسمر، نورًا، خصلة شعر ذهبي، أرضًا وسماء. تختنق بسرك وتعض عليه، تصرخ — من يسمعك؟ — إليَّ إليَّ! تعالوا يا أحبابي يا أصحاب الدرب، رفاق الجرح، إليَّ إليَّ.

يا أحباب. يا أحباب.

٩

تنفرج أسارير الطبيب قليلًا. يأخذ نفسًا عميقًا يكشف الغمة التي أطبقت عليه، وكادت تنسيه أن يتنفس. يراقب جهاز القلب ويحصي الأرقام، ويبتلع الغصة، فتغيب كحجر في الدوامة. يلتفت لزميله الذي يقف عند طرف الفراش كحارس ليلٍ صامتٍ ويهز رأسه. يتطلعان لوجهك ويرقبان النفس الذي يصارع التيار ويطفو على السطح. تلوح بارقة أملٍ خفي.

تفتح عينيك وتنظر حولك، ثم تغمضهما. وتتمتم شفتاك بصوتٍ لا يسمعه غيرك: إليَّ إليَّ.

– ها أنا ذا بين يديك.

– الأميرة؟

تدخل كالنور الساطع. يتهلل وجهك وتضيء بعينك ومضة أملٍ دامع. سيدتي! سيدة الجرح الباسم كالفجر الطالع. ترقص شفتك وهي تتابع خطوات الحلم الرائع: «شمس في السمت. فيض عبيرٍ يسري فتبل ندواته جدران الغرفة.» مولاتي.

تهمس شفتاها: مولاي الشاعر!

– «يتضوأ نحرك. حقل ليالك مرشوش بالنور. ويزغرد شعرك. خمر تنسكب على صفحة بلور».

– شكرًا. هل تذكرني؟

– «إن أنس فلا أنسى ثوبك؛ صفحة فضة، تتمرغ فيها شمس الصيف. إن أنس فلا أنسى جيدك؛ كومة ماسٍ يتكسر فيها النور ويلتم.»

– «ليلكة الظل أنا. عابدة الظلام». تكمل نغمًا تترقرق منها: «الزهرة التي تخاصم السنا وتعشق القتام.» ما زلت كعهدك والوجه حزين. ما زلت كعهدك تنتظرين؟

– لا أنتظر سواك. هل ينسى العابد معبوده؟

– من أنا حتى تنتظريه؟

– من أبدعني وبراني. هل أنسى من سواني، من عدم نسج كياني؟ يا خالق سري وبياني، قم لتراني.

– خالقك كسير عاني، ملقى كالعدم الفاني.

– ترخي جفنيك كأنك مهموم. في وجهك تتمدد غيمة ضيقٍ مكتوم. هل أبطأ وحيك؟

– بل أبطأ نبض القلب وضاع يقيني. أترين شحوبي وغضوني؟ أسمعت أنيني؟

– ولهذا أشفقت عليك. خفت خطاه تسبقني ويجيء إليك.

– من تعنين؟

– من قتل الزهرة ورماها في الظل سنين، من ألفاها في جوف التنين، من خيب أملي، كذب عليَّ ومرت كذبته فوق مدينتنا كالإعصار المجنون. أنسيت سمندل؟

– أنساه؟ عشت حياتي أمقته وأعري وجهه.

– لن تنفعه أقنعته. سأعينك.

– لا شيء يعين، لا أحد يعين، عاجزة أنت كشاعرك المسكين. لن يخدعني الليلة، سأواجه ظلمه.

– سبقتك خطاه ومد على صدري ظله. عشت سنين العمر، وعيني تتحدى عينه. أتسمع وقع خطاه كعابر ليلٍ يسمع خطوات القتلة، لا أتذوق كأسًا حتى ألمح فيها نصله. وكما يتوقع عار في طرقات الليل الصدئة، أن يدهمه المطر الهاطل فجأة، أتوقع منه أن يأتي الليلة، كالدائن يطلب دينه.

– لن تتركك وحيدًا. وقرندل لن يتأخر. ها هو ذا.

تجري نحو رجلٍ يخطو في ضوء الغرفة كخيال بطلٍ مهزوم. رجل رث الهيئة ونحيل، عليه تراب الفقر والسفر، في فمه المتحدي أغنية لا زالت تتشكل. تسرع نحوه هاتفة: ها هو شاهد مأساتي.

تمسح نظراتك وجهه الذابل وعينيه الصامتتين، وتمر على القيثارة المتدلية من كتفه وتبتسم: وأنا من يشهد مأساتي؟

– سيخلصنا منه قرندل ثق من قولي. فالشاعر يخفي الخنجر في سترته، وسيغرزه في صدره. تتحسس صدرك وتقول: أم في صدري؟

يقترب قرندل منك يلمس سريرك كما تلمس أم مهد وليدها. في عينيه الصامتتين حنان نبي يعرف قدره. غضب المنتقم يصمم أن يأخذ ثأره. يمر بأصابعه على القيثارة فترن خفقات لحن شجي، وترفرف في جو الغرفة. رفع عينيه كأنه يتابع سرب طيورٍ مفردة، ثم يخفضهما لتلتقيا بعينيك: الكلمة أيضًا يمكن أن تقتل.

تدير عينيك الغاضبتين تجاه الحائط، وتعض على شفتيك. يأتيك صوته: أغنيتي أقوى منه، لحني من خنجره أرهف. تعرف خبرًا مني، سر الكلمة أمضى من حد السيف. تتردد أصداء غضبك، وتصطدم بالجدران، ينتفض جسدك، وتهتز رأسك وتتمتم: كذبة! قتلتني كذبة!

تنفجر حمم الكلمات في صدره، وتسيل صارخةً من فمه: لن نسمح أن تتجدد تلك الكذبة. لن نترك تلك الحية تسحر ألباب الناس وتصبح قبة. طعنت قلب مدينتنا ذات مساءٍ كذبة. فاسترخت مثقلة بالجرح. والليلة …

– الليلة صرعتني الكذبة، هل أجدتني الكلمات؟! هل أنقذني اللحن؟!

– الليلة قد تهوي أنهارًا وتلالًا ومنازل لو ولدت في مساحتها أخرى.

– تهوي فوقي وأنا أهوي. لن يجديني يا شاعر لحنك فارجع.

– دعني ألقي ظلي في عينيه. وأغني من أغنيتي آخر مقطع.

– انغرز النصل بقلبي. لن تدفعه أغنيتك عني.

تتحسس صدرك وتئن. يضطرب الطبيب ويمد ذراعه إلى زميله.

يشير إلى احتقان وجهك وعينيك يسرع بتثبيت الخرطوم الجديد في فمك، وبتثبيت عينيه، على عقارب الجهاز، تبكي الأميرة، وتميل على صدرك، تتسمع نبض الجرح. ذبلت زهرتك الليلية. ماتت أغنية قرندل، تستجير بالوصيفات فلا يستجيب أحد. تجري نحو النافذة فتصدها أكوام الليل، تعود وتندفع نحوك وتندب حظها على صدرك: أولا يكفيني في اليوم الواحد جرح واحد؟

يشتاق الجرح إلى السكين. يفزع الطائر الأسود، ويفتح عينيه. تهمس وأنت تتملى صفحة وجهها المتألق كالبلور: جرحي أعمق مما قدرت، وأوجع مما ظنت قيثار قرندل. أترين اللص الجاثم خلف قناع الليل؟ لن يفزعه صوت الديك الذهبي، ولن يطرده الفجر لن يرديه اللحن ولا الخنجر. آه قد سلمت. عودي أنت عودي لحياتك في قصر الورد قبيل آذان الديك. يا سيدتي وأميرة أحلام العمر.

إن يقهرني الموت فكوني أقوى منه، ومن ذل القهر. عودي للقصر كي يستجلي أتباعك طلعتك النورانية، ويشم رعيتك نسيم الحرية. فلتسرج أم الخير جوادك والعربة لتكوني معهم قبل الفجر. عودي. عودي. وارعي عهدي، عهد الشعر شاعرك قتيل مطروح. دمه مسفوح. فوق رصيف المدن الكاذبة القلب ينوح. عودي يا زهرة دمعي وجروحي. وانضمي للورد النائم في روضة روحي. لا تنسَيْ قبل ذهابك أن تهبي قبسًا من نورك، أو ظل شعاع من وهج جبينك فالنور شحيح. تقف الأميرة كالطيف المشلول، ترفع يديها إلى وجهها وعينيها لتزيح الدمع، وتمسح ظل الكابوس. تنعطف عليك، تقبل وجهك وجبينك وغضون الألم على وجهك وجبينك. تستدير وتنسحب على أطراف قدميها. ينهض قرندل من الركن الذي تكوَّم فيه، ويجر ساقيه وقيثارته الصامتة مدلاة بجانبه كالبلبل الذبيح يقفز ديك الفجر على جسد الليل الأسود ويصيح. تنفذ سيدة الأحلام المرة في بلور النافذة الشاحب، وتعود كما جاءت باقة نور، وردة حلم نبتت في بستان القلب المهجور. تثبت نظرتك عليها وتودعها وتقول: سلمت خطواتك نحو القصر. ولتعي يا سيدتي عهد الشعر. موعدنا؟ لا لا أدري. فقد انحسر النهر: قد ألقاك مع الفجر، أو في القبر. من؟ ضيف آخر؟ لا لا. الوقت تأخر؟ أي سر؟ لا شيء يعين. لا أحد يعين. أيلح عليك؟ عودي. عودي. يبتهل إليك ويتشفع بك؟ فليدخل هذا الضيف الآخر. رجل مجهول مكسور الخاطر؟ ومسافر ليل جاء يقول: سلامًا لمسافر؟ آه! قد سلمت. قد سلمت.

١٠

سلمت وما سلمت.

فلا تكاد تغمض عينيك وتناجي نفسك، لا تكاد تتذكر سر الأحرف التي جمعتها يومًا وتصفها أمامك، لا يكاد الطائر يهجع في مرقده، ويهدأ في عشه، وتأخذ نفسًا عميقًا، وتفتح عينيك المحمرتين بجمر الألم والوخز والانتظار، حتى تراه أمامك بطل الملهاة السوداء، ومهرجها المسكين. لا لون له أو أبعاد، الرجل الورقة، سقطت من شجرة هذا العالم ذات شتاء أو ذات خريف، لا تتميز من آلاف ملايين الأوراق، تنمو في رحم الليل، تحدق في عين الشمس، تتلوى تحت سياط الريح، وترتعش من الحاجة والبرد، تسقط لا يشعر أحد، لا تدري الأرض ولا الرمس. رجل رث الهيئة مرتجف الساقين، أجوف كالقصبة حافي القدمين، منخوب تصفر فيه الأنوار، أغنية الموتى الأحياء، تتلوى شفتاك اشمئزازًا، تنوي أن تبعد وجهك عنه، يستعطفك ويوشك أن يركع ويقبل قدمك. تهتف في غضب: انهض. انهض.

– لا تصرف وجهك عني يا مولاي. لا تحرمني نظرة عطف.

– ما تبغي الآن؟ ما هذا الخوف؟

أرجوك اسمعني. لا تكسر خاطر ظل مكسور.

– أولا يكفي أني جسدتك في الأوراق، أطلقتك فوق الخشبة، وتركتك تعرض مأساتك.

– حتى انغرز بصدري الخنجر، لكني الآن عرفت السر.

– السر! أي سر؟!

– هل تضمن ألا يسمعنا أحد، حتى الجدران.

– قل. لا وقت لدي.

– حتى الوقت. هل يأمن حذر جاسوس الوقت؟

– قلت تكلم.

يقترب منك على أطراف قدميه. يتلفت مذعورًا حوله. يرى الطبيبين عاكفين على الأجهزة غارقين في كابوس العمل الذي لا يرحم. يطمئن أن أحدًا لا يراه ينحني ويهمس في أذنك: بعد فوات العمر كشفت السر. التهمة كانت خطأ. سامحك الله.

– أفهمت إذن؟

– بعد فوات العمر. أنا لم أقتله.

– يا للسخف! ومن القاتل؟

– هل تضمن ألا يسمع أحد؟

– قلت تكلم!

– عشري السترة. هو قاتله، جلس على عرشه. حتى قاطع تذكرتي …

– ما شأنه؟

– مسكين مثلي. هو في الواقع جلاد وضحية. نفذ أمرًا لم يفهمه في إنسانٍ لم يعرفه. والأدهى من هذا …

– ماذا؟

– إني لم أقتل وحدي. أوحى الله أو الشيطان إليَّ.

– ومتى هبط الوحي؟

– بعد تمام اللعبة.

– اللعبة؟ أظننت بأني ألعب. إني …

– اصبر يا مولاي أعرني سمعك، بعد سقوطي فوق الخشبة، بعد التصفيق وثرثرة النقاد مع الجمهور وثرثرة الجمهور مع النقاد، خرجت إلى الشارع، شبحًا يتسكع بين الأشباح، لا أحد يحس بجرحي، لا أحد يجفف سيل دموعي ودمائي، هل تدري من صادفت على طرق الوحشة والقبح؟

– عشري السترة؟

– يقينًا لا. هذا لا يبصره مسكين مثلي.

– ومن صادفت؟

– موتى مثلي. ولدوا أمواتًا، قتلوا كل صباحٍ ومساء، لم يلمح أحد منهم قطرة دمٍ تنزف منه، أو تلمع فوق ثيابه، شغلتهم أحزان اليوم وأوجاع الأمس، جمع الزاد ليومٍ موعودٍ يزحف فيه الدود. لم يعنوا أنفسهم، حتى بقراءة نص التهمة، لم يشكوا الأمر لقاضٍ أو مسئول أو سجان، هل تعرف سر الأمر؟

– سر آخر؟

– السر بسيط. الكل قتيل لا يدري من قاتله ومتى قتله. خدم معصوبو الأعين تخدم الخدام، وعبيد تسجد لعبيدِ عبيدٍ. قلت لنفسي: مقتول من آلاف القتلى، من مليون ملايين، منذ سنين، ملايين سنين، والسيد … هل تدري من؟

– من؟

– عشري السترة. يتربع فوق العرش وبين يديه زمام القدرة. يتنزل منه الأمر، ولا يعرف أحد أمره. هل تعرف ماذا قلت لنفسي؟

– ماذا؟

قلت لنفسي: ماذا أفعل؟ هل تملك شيئًا حبة رمل في وجه الجبل المظلم، أو قطرة ماءٍ تائهةٍ في اليم؟ أدركت حقيقة نفسي وحقيقة جنسي، وبكيت بملء العين، وقلت لنفسي: ماذا تفعل؟

– حقًّا ماذا أفعل؟ لم يبق أمامي إلا أن أَقتُل أو أُقتَل.

– أعلنت الثورة؟!

– هل يعلنها من طعن الخنجر صدره؟ كان الليل ثقيلًا والمحنة أثقل، فتسكعت قليلًا في طرقات الوحشة، ثم رجعت.

– لنفسك.

– بل للمسرح. كان الناس قد انصرفوا والقاعة صمت وخواء. وطلعت على الخشبة وحدي أعرض ملهاتي السوداء. أعرض نفسي في مرآتي، كالأخرس يخطب في سوق الخرس، ويروي قصته الخرساء. رحت أمثل كل الأدوار بلا ترتيب، فأنا الآن مسافر ليل، قاطرة، قاطع تذكرة ومفتش، وأنا في نفس الوقت الناظر والسائق والحارس والحمال وجمهور المنتظرين. جمهور البسطاء الفقراء، حتى نفذ إليَّ الصوت.

– الصوت!

– صوت يأمرني أن أخرج من ملهاتي وأعود إليك.

– إليَّ أنا؟

– أنبأني الصوت بأنك تتألم فأتيت إليك. قل لي ماذا أفعل؟

– نفس سؤالك وسؤالي. هل ينفعني في حالي؟

– بم تأمر؟ بم يشملني عطفك؟

– هل عندك للجرح دواء؟ ها أنت تراني يعصرني الداء.

– ما أنا إلا خادمك وظلك، وصدى صوتك. أأسوي فرشك وأرتب عشك؟ أم أعرض فصلًا من ملهاتي كي أمسح دمعك وأخفف وجعك؟

– ما أبغيه لا تقدر أنت عليه.

– هل أستدعي أبطال التاريخ؟ ها هي ذي الأسماء، نُقِشت بحروفٍ بارزةٍ سوداء. هل يرضيك الإسكندر، قيصر، هانيبال، تيمورلنك والحجاج وجنكيز خان؟ هل أدعوهم؟

– القتلة. دعهم يا أحمق، لا تزعجهم في مقبرة التاريخ، ما أنا إلا أحد الفقراء، داستني قدم العظماء وألقتني حبة رملٍ في صحراء الدهماء.

– أرأيت بنفسك؟

– مرني يا مولاي بشيء. أرجوك.

– لونك يبدو مصفرًّا. فاذهب عني مشكورًا.

– عشت كما عاش ملايين المجهولين سواي، كجرادة حقلٍ يا مولاي. ألهث سعيًا خلف الخضرة واللقمة والماء، تسقط أيامي الجرداء بجوف ليالي السوداء، أما وجهي …

– وجهك ذكرني باللون الأصفر، واللون الأصفر يغشى عيني الآن، وكأني ألمح لون الداء ولون الطغيان، كنت حمامة أيك تدخل في معركة مع ثعبان، كنت فقيرًا لا أملك إلا كلماتي أنثرها في أوزانٍ أو ألحان، راحت أجنحة الكلمات ترفرف فوق السور وحول الجدران، تصطدم بأسلاك الزيف وأشواك الخسة والبهتان، حتى ارتدت للقلب وغارت فيه الأحزان. اذهب عني أرجوك.

– تصرفني؟ إني جئت أُقدِّم قرباني، أنسيت بأنك من عدمي سويت كياني؟

– لونك أصفر.

– أوَلا تكفي تهمتي الأولى؟

– تهمتك الكبرى أنك موجود. وعقابك ألا تحيا إلا كحياة الدود.

– ما ذنبي وأنا لا أملك حتى الزاد؟ هل يرضيك عذابي تحت سياط الجلاد؟

تذروني الريح على أرصفة الزمن الضائع حفنة عدمٍ ورماد، كجرادٍ أهلكه الجوع يجر صغار جراد.

– دعني، حوِّل وجهك عني، واسقط في مزبلة التاريخ لتنتظر قضاءه. أنقذ نفسك أو فتش عمن ينقذك بعيدًا عني. أنا لا أقدر حتى أن أنقذ نفسي أو بدني.

يتلوى الجرح وتسقط فيه السكين. تحاول أن ترفع يدك إلى صدرك، فتثبتها كف دافئة ناعمة الجلد. يثور غبار حولك. تتلبد سحب صيفية، يعوي الإعصار، وتختنق الأنفاس، ويسقط في عينيك غبار. تسأل نفسك: يا داري، يا دار الشقوة يا دار، هل زحف السيل الجرار؟

يقعي الزائر في الركن الصامت مكسور الخاطر. وكما سافر في الليل مع الوحدة والأحزان يسافر. يهمس في محنته: ربي، خرج العالم عن محوره، واختل الميزان. هل يعدله إنسان مثلي وأنا أضعف إنسان؟ ماذا أفعل؟ ماذا أفعل؟

تنتبه إلى صداه الذي يغيب شيئًا فشيئًا وتسأل نفسك: ماذا أفعل؟ تلتفت إلى الأشباح التي تقف بجوارك، وتتحرك أيديها ورءوسها في كل اتجاهٍ وتسأل: ماذا يفعلون؟ تشتد العاصفة، يثور غبار، تَربدُّ السحب وتتجهم نذر الإعصار. يتردد صوت المسافر الذي انزوى شبحه في ركن الجدار، وتكوم على نفسه كحيوانٍ محتضر وهو يردد: ماذا أفعل؟ ماذا أفعل؟ ماذا أفعل؟ تشتد العاصفة وينفذ صوت كالرعد: هجم التتار، هجم التتار.

١١

هجم التتار. هجم التتار.

يرتفع صدرك وينخفض، تتحشرج أنفاسك كالريح المختنقة في أسرار الغابات. يرفرف الطير الأسود، ويضطرب جناحاه ويقاوم العاصفة، يعلو ويهوي مذعور القلب والعينين. لو تنفذ كفاك إلى قفص ضلوعك فتهدهده وتحن عليه حنان الأم على صدر وحيد؟ لكن الإعصار شديد، والأفق الغائم غطته الرايات السود، ودوي الطبل الأجوف يقترب ويبتعد ويذهب ويعود. تفتح عينيك الدامعتين، تحاول عبثًا أن تنهض، تصرخ، يضنيك الألم، تئن، تتردد أطراف الجسد المكدود: جحافل التتار، واقفة هناك كالجدار، تسد عين الشمس بالغبار، تجلل السماء بالسواد والحداد والدمار، تزحف كالجراد كالإعصار، تفتك باخضرار العين والضمير والأشجار، إلي يا أحباب. قد أهلكني الدوار، إلي يا أحباب، فالتتار عيونهم تئز كالشرار. يرتفع أنينك فيثبت الطبيبان نظراتهم عليك، ويثبتان فتحة الخرطوم في فمك، يرتفع أنينك فيصحو المسافر من غفوته في الركن الداكن ويقترب منك: مولاي.

تشير بسبابتك إلى النافذة وتلهث: الأفق مختنق الغبار.

يتجه إلى النافذة وينظر، لا شيء سوى جبل الليل الأسود كالويل.

– «والأرض حارقة كأن النار في قرصٍ تدار.»

ينظر وينظر. الأرض قطة سوداء ملتفة على نفسها في عباءة النوم.

– «وكتائبي رجعت ممزقة وقد حمي النهار.»

النهار لا يزال بعيدًا، والكون يحتمي من الظلام بالظلام.

– «الخيل تنظر في انكسار.»

حقًّا هي خيل الليل، تعدو وتسابق خيل الليل.

– «والبوق ينسل في انبهار.»

تنبهر الأنفاس ولا أسمع إلا صوت الليل وصوت الليل عميق، اكشف عن وجهك يا ملك ملوك الصبح وأذن في البوق.

– «والعين تدمع في انكسار.»

يتراجع عن النافذة، ويختلس الخطى إلى فراشك. تضطرب أنفاسه وهو يرى اضطراب أنفاسك. تلمح عيناه الدمعة تترقرق فوق الجفن، وتنحدر إلى الخدين. يمد الكف المرتعشة كي يمسحها ويحس بأخرى تلمس شفتيه. يقرب أذنًا من فمك، ويسمعك تسر إليه: «زحف الدمار والانكسار. زحف التتار.»

يقف مسافر ليل كالصنم الأبكم، الوجه يطل عليك كوجه غرابٍ أسحم، وتحول عينيك عنه لتنظر وجه القدر المعتم، يخفق كالطير الأسود في داخلك ويؤلم، في مطلع النهار خيمت سحائب التتار، والتهم الجراد خضرة الشباب، غالها بالخوف والاصفرار. هتفت يا أماه لن نبيد، يا أماه جففي الدموع قولي للصغار، غدًا نشيد ما قد هدم التتار. ومرت الأيام. مرت الأيام واستقروا في الديار، وداست الأقدام في فؤاد الفارس الهمام، في فؤاد الفارس المغوار، وساخت الأحلام في قرار هوة بلا قرار، وضلت الخطى طريقها للدمعة البريئة، وأخطأت طريقها للضحكة البريئة، وانكفأ النهار في ضحاه كالعجوز ينكفئ في ساعة احتضار. سمعت من يقول هم هدية السماء للفانين من أمثالنا، لحفنة الأموات، حفنة التراب الآدمي والغبار، وكنت في زماني القديم أحضر الأسمار، أنشد الأشعار، «وعندما أمرت أن أثير زهوهم وأذكر انتصارهم، غنيت، كان في قرار اللحن، ما لم أجد كتمانه من وحشةٍ وحزن.» وعندما بكيت ملء العين: «جوهرة سقطت في الزمن الوغد، تحت حذاء الجندي الأبيض والجندي الأسود، برجًا سقط جريحًا في زمن التبريح، قصرًا أسطوريًّا سقط عليه الأجلاف ففرت منه الأسطورة، مهرًا وثابًا في درب المعراج إلى الله، جاء الدجالون فنزعوا منه الريش الفضي، واقتلعوا جوهر عينيه اللؤلؤتين.» وانهمرت أسئلة الموتى والأحياء عليَّ؛ سألوا عن معنى الحرية والحق، عن معنى العزة والصدق. نادى الجرح على السكين، فصحت: آه يا وطني! ولزمت الصمت. هل تفهم عني يا من تسافر في جنح الليل وما زلت، يا مَن مِن أجلك جعت ظمئت حييت ومت، بكيت وانتظرت أن تزول محنة التتار، أن يرفع الغبار والأسى والاصفرار، أن يعود الاخضرار، لأعين الصغار، للدماء في العروق، للربيع والدموع، للكلام والسلام، للأيام والأحلام والسنابل التي تموت في الهجر للصحاري والقفار، وعشت في انتظار سيد يجيء بعد طول الانتظار، يحمل قلب الأم في يمناه، في يسراه سيفه البصير كالنهار، وطال الانتظار. ثم طال الانتظار.

تنظر عيناك المتعبتان الدامعتان إلى وجهٍ أخرس أبكم، يعلو جسدًا كالطين المعتم أخرس أبكم. تتحشرج لجة أنفاسك، يرتعد الطير الأسود ينقر صدرك، يشرح منقار الشؤم ويتوعد، ترفع عينيك ووجهك نحو الأفق المربد: الريح تدمدم، والليل يهمهم، والسحب على صدر الأفق تغيم وتظلم. ينتفض الجسد على صوتٍ يخطب كالبرق المرعد: الليل تمدد، والصبر تبدد. يا أهل مدينتنا! انفجروا أو موتوا! انفجروا أو موتوا! تشرق بسمة طفلٍ في شفتيك وفوق جبينك تتمدد. تسأل نفسك: أهو السيد؟!

•••

يا أهل مدينتنا. يا أهل مدينتنا.

ينقشع الغبار وتنجلي العاصفة. تطفو فوق الموج وتشرب أنفاسك وتسترد شعاع الوعي. تنسحب ذيول الضجيج، وقعقعة العربات، ودقات الطبل، وأطراف الرايات السود. وتمد العينين والأذنين في السكون الرحب فتسمع صيحة ديكٍ مشروخة، وتفتش عن نور الفجر الذي لمسته كجمر في عيني شيطان، تنشر سحب ضباب مغبر، تلتف عن ظهور الطبيبين والممرضة الصغيرة المشغولة أبدًا كالنحلة، وعلى جسد المسافر المكوم بجوار السرير كصنمٍ يحلم أن يتحرك يومًا أو يتكلم. نورًا يفرش دربي، وليصبح طير الموت الأسود ديكًا يعلن مطلع فجر في قلبي. يتردد الصوت النافذ كالسهم، ويصطدم بجدار الغرفة، ويشع رنينًا ينداح كدوامة: يا أهل مدينتنا. يا أهل مدينتنا. تنظر، تتذكر، تهمس: هل يأتي السيد؟

تتطلع للنافذة فترى وجهه النجمي يزيح ستار الظلمة ويقترب منك، وجه يسبقه بريق عينين ملتهبتين بالغضب والتحدي، ويد ترتفع وتنخفض تفتش فيها عن سيفٍ مبصر. أين هو السيف المبصر كي يذبح طير الموت الأسود؟ ما زال يرفرف في صدري، يغرز منقار الشؤم بقلبي. أقبل يا سيد أقبل، لكن لا تنس السيف المبصر. ما زال بعيدًا عنك. تستعطفه عيناك، ولكن لا يتحرك. تغلبه الكلمات، تشل يديه وقدميه عن العمل. طالت غيبتك، تقدم. ساعدني أرجوك.

يفتح فمه فتتفجر الكلمات الغاضبة: يا أهل مدينتنا.

ترتسم ظلال ابتسامة على فمك ووجهك: أنا وحدي يا سيد ملقى ومحطم.

ينهمر الصوت كشلال ينبثق من نبعٍ قديم: رعب أكبر من هذا سوف يجيء.

تتكاثف المرارة على فمك: أكبر مما أنا فيه؟

ينطلق الشلال كما ينطلق المارد من جوف القمقم: «لن ينجيكم أن تعتصموا منه بأعالي جبل الصمت، أو ببطون الغابات. لن ينجيكم أن تختبئوا في حجراتكم أو تحت وسائدكم» لن ينجيكم. لن ينجيكم.

تحاول أن تقاطعه وكأنك تضع قشة أمام التيار: هل تنجيني كلماتك؟

تشير ذراعه التي ترتفع وتهوي بإشارة حاسمة: انفجروا أو موتوا. هذا قولي.

تحول عينيك وأنت تقول: قولك. قولك. كلمات في كلمات في كلمات.

يجيب بسرعة كأنه بدأ يلتفت إليك: لا أملك إلا أن أتكلم.

تردد وأنت تتطلع للنافذة بحثًا عن شعاع واحد: «كلماتك لا تسقي عطشانًا قطرة ماء، لا تطعم طفلًا كسرة خبز، لا تكسو عرى عجوز تلتف على قامتها المكسورة ريح الليل»، لا تشفيني من جرحي القاتم كالويل، بل تنجيني كلمات غاضبة كالسيل؟

يقترب منك ويمد سبابته كأنه يشرع سيفًا: لا أملك إلا كلماتي الغاضبة.

توشك أن تضحك فلا يسفعك الصوت: يا ليتك جئت لتضحكني أو تضحك.

يجهم وجهه ويتراجع قليلًا كأنه يفسح مكانًا للأحجار المنهمرة: أضحك؟ «إنا نحتاج إلى أن تغضب. ضحكت هذي المدن المتبلدة الحس، خمسة آلاف سنة، ضحكت حتى استلقت ميتة فاتحة فاها كالجرح الصديان، ظنت وخز الأيام النحس، دغدغة حنان.» تنسكب جداول الذكرى في وجدانك وتطفو على ملامح وجهك: أتذكرك الآن. أنت نبي مهزوم يحمل قلمًا.

يسرع قائلًا: ينتظر نبيًّا يحمل سيفًا.

تغالب الألم ينفض وخزه على صدرك: أنا أيضًا أنتظره. يقترب بوجهه كأنه يمد إليك البشارة: يأتي بعدي. يأتي بعدي.

تحاول أن تنهض وتصرخ في فمه وأذنيه: يأتي بعدك. يأتي بعدك. فمتى يأتي؟

ينتفض جناح الطير الأسود. تضغط بأصابعك على الألم، تحس الجرح وتهمس بالصوت المجروح: لم نبطئ عنك يا سيد؟ الطير الأسود يخفق في جنبي، ينقر في حبة قلبي، أولا يبصره سيفك؟

يتردد صوت لا تدري هل يأتي منه أو منك: سيفي لم يبرح جفن الغمد.

تسأل وأنت تعض على سرك: ومتى تكشف عن وجهك؟

– أنا لا أكشف عن وجهي إلا في أوج المجد، أو في بطن اللحد. تعض تعض على السر المختنق بصدرك.

– يا سيد، أبتهل إليك. اخرج من لحدك، اهبط من قمة مجدك.

– أنا لا أهبط إلا في منتصف الليل.

– ليلي انتصف وما دقت أجراس الفجر.

– إلا في منتصف الوحشة.

– الوحشة فاضت كالطوفان وأغرقت الصدر.

– إلا في منتصف اليأس.

– يأسي يقطعني نصفين ويقتلع النفس.

– إلا في منتصف الموت.

– انتصف الموت وعشش في الطير الأسود. أدركني أو لن تدركني بعد.

يزداد رفيف الطير الأسود في صدرك. يتخبط كالمذعور ويضرب بجناحيه. يدخل في أعضائك مختطف الخطوة مسروقًا، تفتح صدرك وتناديه: «أدخل عذبًا ورقيقًا، فأنا أتأهب لك، نقر حتى نجد طريقًا. آه ما أوجع خفق جناحيك، أبعد عني هذا المنقار الشائك» تتلفت حولك، تستنجد بالأشباح الواقفة حيالك: ما بالكم تقفون كأشباح؟ أنت بأشعارك. أنت بطبك ودوائك. أنت النائم في قاطرة الليل بصمتك وغبائك. فليفعل أحد منكم شيئًا. يا سيدي القادم من بعدي. أدركني فلقد طال عذابي. إني أنتظرك. أنتظرك.

يقف أمامك مهزومًا وبلا قلم أو صوت. تختلج الكلمات على شفتيه وتسقط في جوف الصمت.

يتحرك نحوك، يغمض جفنيه كالعرَّاف الأعمى، يطلق بالنبوءة رغمًا عنه: لا تنتظر الآتي. هو ينتظرك.

– ومتى ألقاه؟

– حين تدق الساعة ويحين الوقت.

– ناشدتك أن تدعوه. تعبت. تعبت.

– وأنا أيضًا أنتظره.

– كلمه. ناد عليه. ها أنا ذا في منتصف الوحشة، في منتصف البأس، في منتصف …

وا أسفاه. أحببت الموت. أحببت الموت.

– لأني أحببت العيش وعشت. إنك لا تعرفني.

– بل أعرفك وأعرف سر كلامك والصمت. كنت رفيقك في الليل الموحش، صاحبك وتابع ظلك، حامل قلمك، صندوق متاعبك وهمك، كم نادمتك، عاتبتك، سافرت على مركبك، سبحت على الأمواج، غرقت. أعرفك وأرسم صورتك كما أنت: «جبهتك المشرقة الصلبة، عيناك المتعبتان الطيبتان، كفاك المتكلمتان وعيناك الصامتتان تنيران وتنطفئان، مشيتك المرهقة المتماسكة كمشية جندي بين قتالين مريرين.»

– ألقى الجندي المتعب أسلحته. علقه الزمن الوغد من الساقين وشيب جرحه. قطع أوصال الحاضر والماضي.

– أولا تؤمن بالمستقبل؟

– «بل إني أخشاه؛ لأني أومن به، أوشك أحيانًا أن ألحظه لحظ العين. ولهذا فأنا أبصره ملتفًّا في غيم أسود.»

– والحرية؟

– هل عشت لشيءٍ غير الحرية؟ هل جدت بدمعي إلا كي أسقي شجرتها الذهبية؟

هل فجر فيك الغضب فبحت بما أمليت عليك سوى إيماني بالمستقبل والحرية؟ لكن المستقبل حلم قد لا أشهده، والحرية شط قد لا أرسو فيه.

– في منتصف الوحشة يولد طفل الحلم. في منتصف الظلم يضيء سراج العدل ويحكم. في منتصف اليأس يجيء القادم بعدي.

– أم في منتصف الموت؟

تشعر أن الطير الأسود قد جن جنونه. اختنق وراح يشق طريقًا يخرجه من قفص الصدر. فتح منقاره كالنورس المذعور، وتهيأ للاندفاع إلى البحر الواسع، والانطلاق على متن الريح. تحس أنه يتمدد كالكابوس ويفرش جناحيه عليك. ينفرد الجناحان ويغطي الظل القاتم على شرارة ضئيلة لا تزال تتقد في الداخل كأنها عين محمرة تومض وتنطفئ. يمتد الصوت كحبلٍ يرفعك من الكابوس: القادم سوف يجيء، القادم سوف يجيء.

تفتح عينيك المجتهدتين، وتنظر للوجه المتلمع العينين: هل أصنع شيئًا إلا أن أنتظر القادم؟

ينقر الطير الأسود، ويحفر ويحفر كي يقتلع الحبة، يرفرف بجناحيه لكي يطفئ الشرارة، ينفتح جرح في عمق الأرض المشقوقة، وتنز منه قطرات تلمع وتخبو كبريقٍ مذنب في آخر الليل، تتحرك شفتاك من الألم اللاسع: يا سيدنا القادم بعدي.

يقترب الوجه الصارم منك وينعطف عليك: اصبر، حتمًا سيجيء.

تريد أن تصرخ فلا تستطيع: الصبر تبدد. فمتى يأتي؟

يتصلب الوجه أمامك. تقرأ في صمت ملامحه: تعرف موعده!

تعض على سرك، وتحاول أن تعثر على اليد التي تبحث عنها: ناد عليه. أرجوك. أو فادع الموت.

يهبط صوت ينحدر من أعالي الجبل كرفيف النسر: لا يدعو الموت إليه سوى الموتى. أما أنت فحي.

ترفع إليه عينين شاهدا الجرح ولمساه وصبغهما بحريق الدم: أنا لا أدعوه جرحي يبتهل إليه يخفق الصوت ويمد جناحيه على صدرك ووجهك: جرحك مفتوح ككتابٍ قدسي، والسيف المبصر سيعود، وينطق كالوحي. أنا مثلك أنتظر القادم بالزاد وبالري.

تردد بصرك بين المسافر المكتوم في غيبوبته بجانب الفراش، وصاحب الوجه اللامع المتصلب كالكاهن الفرعوني على رأس مليكه المحتضر، والطبيبين العاكفين على الأجهزة والأنابيب والأدوات والدوارق، والممرضة الصغيرة التي تجري كالنحلة في مهب الريح. تضغط أجنحة الطير الأسود، ويتأهب للاندفاع، فتصرخ من تحت الجبل الجاثم عليك: يا حلاج. ثبت قلبي يا محبوبي.

ثبت قلبي يا محبوبي.

يدخل كالطفل الضاحك فرحًا بهداياه ولعبه، طفل شيبت الأيام الجهمة شعره، ترك الحارس والسجان وقاضي الشرع على الجسد الناحل أثره، فوق الذقن المرسل يتناثر دم، فوق الصدغ وتحت العينين بقايا دم، وعلى السترة والشال الأبيض والسراويل المترب بقع الدم. يتهلل نور العينين الساجيتين، ويبرق بالبسمة والكلمة فم، لا تخفي الحفر عليه وعلى الوجه الضامر ألم السوط المؤلم. يقترب قليلًا، تتذكر طلعته النورانية، تنضو عنه سحابته، ينضح الشبح المعتم ها هو ذا يقترب، يحاول أن يجري نحوك يتعثر في الأغلال الصدئة في رجليه ويديه، يقوم، يشد الخطو، تجلجل ضحكته الحلوة يوم تبدت للعين الشجرة، واندفع إلى عرس الصلب، وتمتم بالآيات وشكر الله وسلم. تتهلل طلعتك، وتخفق آخر أنفاس سراج العين، وتبتسم وتحتضن الحلم. توشك أن تطلق ضحكتك العذبة، وتمد إليه تفاحتها الناضجة بدفء العمر الغارب في ليلٍ مبهم، لكن الشوكة تنغرز وينطبق الفم، يقفز كالعصفور الأحدب يتملى وجهك يتكلم: تبدو كالغارق في النوم. تنسكب العينان على صدرك، وكأنك تقلب دنياك على جفنيك، أو غلبتك الأيام على أمرك.

تفتح شفتَيْك المالحتين بطعم العلقم، وتخاطبه كخطاب النائم في حلم: يا شيخي أنا إنسان يضنيني الفكر، ويعروني الخوف. ثبت قلبي يا محبوبي، أنا إنسان يظمأ للعدل، ويقعدني ضيق الخطو، فأعرني خطوك يا محبوبي، وشفيعي قلبي المثقل ودموعي في الليل.

يثبت عينيه في عينيك المغمضتين على الحلم النائم في فرش اليتم: بلساني تنطق يا ولدي، وبشعري الباكي تتكلم.

– إني أتعذب يا شيخي الطيب.

– فليغفر لي الله عذابك يا ولدي.

– أنا بين يديك صريع يا حلاج قتلتني كف العصر الدموية، داستني قدم العصر الهمجية، لدغتني بالسم أفاعي النيات المطوية، ألعاب الزامر والحاوي بالكلمات القدسية.

– قدس ربي كلماتك ورعاها كالورد ندية. كنت بسالف أيامي قد قتلتني الكلمات، ورأيت الدنيا مخلوقًا بشعًا شوهه الظلم، وعذبه الفقر الهائم في الطرقات، وتخليت عن السر فبحت وصحت.

– أنا أيضًا قتلتني كلمات تنزف كجراح. عجز لساني عن إلجام السر الجامح فانطلق وباح.

– قل يا ولدي، وانفض سرك وتكلم. ما أحلى أن نتكاشف بالأسرار ونحلم.

– كنت أحدثهم بحديث القلب. لم يستطع الكتمان فباح. وسقطت بقاع الجب.

– مثلك لا يسقط أبدًا يا ولدي. قد تسقط شجرة جسدك أو يهوي غصنك. لكن تبقى ثمرة فكرك، يبقى لحنك. ألم تقل على لساني: «كان من يقتلني محقق مشيئتي، ومنفذ إرادة الرحمن؛ لأنه يصوغ من ترابِ رجلٍ فانٍ أسطورةً وحكمة وفكرة.»

– أوَحَتْم كان علينا أن نقتل؟ أن ينهال الكَذَبة بفئوس الحقد على شجرتنا فتميل وتذبل؟

– يُقتَل كل الشعراء بكل بلاد الله، يقتلهم حقد الحطَّابين الفقراء المحرومين من الموهبة السفهاء.

– خوضت طويلًا في طرقات الله، والآن يعض الطير الأسود حبة قلبي، أولست تراه؟ ها هو ذا يضرب بجناحيه، ينشر ظل الموت، يسدد سيف الرعب فآه.

– لا يخشى الموت سوى الموتى. قم فالناس «عطاش لترويهم من ماء الكلمات. جوعى لتطاعمهم من أثمار الحكمة، ظمأى لتنادمهم بكئوس الشوق إلى العرس الرباني»، قم واسكب كأس غناك يندي القلب بحلم نوراني، قم يا ولدي.

– آه يا شيخي الطيب كيف أقوم وأمشي أو كيف أغني؟ أنا لا أملك حتى أن أفتح عيني.

– حاول يا ولدي، حاول.

– تتخلى عني القوة، يسري الشلل بأطرافي، يهوى شعري كالملح البارد في أعضائي، يخذلني نهر حياتي ودمائي، يجفو وقدة صحرائي.

– هيا يا ولدي نسعى في طرقات الله، فالفقر يعربد في الطرقات، يذل رقابًا وجباهًا، والمسجونون المصفدون يسوقهم شرطي مذهوب اللب، قد أشرع في يده سوطًا لا يعرف من في يده قد وضعه، ورجال ونساء قد فقدوا الحرية، اتخذتهم أرباب من دون الله عبيدًا سخريًّا. قم فالشر استولى في ملكوت الله.

– الشر قديم في الكون. أولم تعرف هذا يا حلاج؟ أولم يشهد دمك الطاهر طغيان الشر على الخير، ألم تلحظه لحظ العين؟ الشر قديم متجدد. في كل زمان ومكان يكتسب جنودًا ويعربد. لكن الشعر فراش محزون مجهد، يجذبه النور فيحرق بالنار ويجلد، يسقط كعجوز محتضر مقعد، يا كم حاول شعري أن يصنع من نار العالم نورًا يأتلق ويسعد، حتى احترق وصار بلون الفحم الأسود، صارت كلماتي شوكًا في الصدر، ودمعًا في العين تجمد.

– هل خبت وخابت كلماتي؟

– كلماتك ما خابت أبدًا فتشجع، وستأتي آذان تتأمل إذا تسمع، تتحدر منها كلماتك في القلب، وقلوب تصنع من ألفاظك قدرة، وتشد بها عصب الأذرع، ومواكب تمشي نحو النور ولا ترجع، إلا أن تسقى بلعاب الشمس، روح الإنسان المقهور الموجع. كلماتك.

– كلماتي. كلماتي. هل تقدر أن تنقذني من هذا المستنقع؟

هل تقوى أن تسحبني من شعري أو من شعري الغارق في الدمع؟ آه لو كانت كفًّا تحصد أو تزرع، تبني أو تهدم أو تردع؟

– كلماتك تنحدر إلى الناس، تحدثهم عن رغبة ربي: «الله قوي يا أبناء الله، كونوا مثله، الله فعول يا أبناء الله، كونوا مثله.»

– يا شيخي الطيب. في عصر ملتاث، قاس وضنين، لن يصنع ربي خارقة أو معجزة، كي ينقذ جيلًا من هلكى، قد ماتوا قبل الموت.

– الموت علينا مقدور، لكن كلماتك يا ولدي حية. صنعت مني أسطورة رجل فانٍ، رجل ظمآن يروى عطش الناس لنور العدل الباهر والإيمان، كم أحييت من الأرواح بسر الكلمات، وبعثت الحلم مسيحًا يحيي الأموات، وغدًا يتفتق منها فجر الحرية، أنظر فالنور …

– النور شحيح يا شيخي، والفجر على الأفق مقيد.

– النور سيأتي يا ولدي، وغدًا …

– كم عشت على أمل الغد.

– الفجر قريب يا ولدي، لن تخطئ طلعته الموعد.

– يا شيخي ميلًا لا تسرف، فالليل على الكون تمدد.

– الفجر سيولد في الغد، وسيزهو بمدائن ربي، ويتم الموعد والوعد.

بسمته تشرق كالرؤيا وتطوف على الوجه المتعب، كالبرق النافذ مجروحًا، من ثوب الظلمة والسحب لا تخطئ عينك دمعته، تنحدر كالطفل الميت، تتلوى الألم وتسكت. ترمقه، تشرب دمعته، وتُحوَّل عيناك للسيد: هل يأتي حقًّا يا سيد؟

تتفرج أسارير الوجه الفرعوني المتصلب، ويطل الصوت المرهق كابتسامة أبي الهول: لا بد سيأتي، لا بد.

تطوف عيناك بين الوجهين، لا تدري أيهما تصدق. تسحب كلمتك كمجدافٍ تاه على لجج الوحشة وتمزق: والطير الأسود؟ ها هو يتمدد في جنبي، والظل على قلبي يرقد. ساعدني يا شيخي الطيب، هات ذراعك مد يديك، وحاول أن تطرده يا سيد.

يأتي الصوت ولا تدري من أين يجيء: الطير الأسود سيحلق في الجو ويبعد، وقريبًا يسبق نذر العاصفة ويرعد.

تعض على شفتيك، على طرف مخدتك، على السر الموجع كالسيف المسنون الحد.

– يا طيري الأسود. يا طير الرعد. يا طير الغد. هل جاء الوعد؟ ما زلت ترفرف بجناحيك وتنقر حبة كبدي. أتعد الزاد لسفر يوغل في البعد؟ خذ ما شئت وغادر عشك في صدري، خلص نفسك من قيدك لتخلصني من قيدي. ماذا أفعل؟ قل لي يا شيخي الطيب، مرني يا سيد. ماذا أفعل؟ يزداد الحمل علي ولا أتحمل. يا شيخي قل.

يدنو منك. يتعثر في أغلال الساقين وقيد القلب المثقل. يحنو فوقك ويفيض على عينيك من النور الأكمل: تسألني ماذا نفعل؟ نلقي بذرتنا في أرض البشر ونرحل. هيا يا ولدي.

تعض، تعض وتفتح شفتيك فتخرج نسمة: أدركني يا مولاي، وخذ بيدي.

بريق النور بعينيك وتشرب إكسيره. تتكسر متعة الشفتين على شفتيك ويشع رنين البلور على البلورة.

ترقص آيات الله وتجري وتحوم حولك كفراشاتٍ مذعورة: هيا يا ولدي. هات يديك، اتبعني. يا أحباب الله الفقراء. ليسكب كل منكم دمعة حبٍّ ووفاء، ويرقرقها في كأس القلب المتعب إكسير حياةٍ ودواء. هيا ثبت قلبك يا محبوبي واتبعني فوق الدرب تباركك دروبي. يا شهداء العالم هذا شاهد مأساتي وشهيدي. هل نحرم هذا العالم من روح شهيد؟ هيا. خذ بيدي وغن نشيدي. هيا. هيا.

١٢

تطفو فوق الموج. تحس برودة ماء البحر على جلدك في أطرافك. تتساقط قطرات من كهف الأبطين وغابات الصدر، تتذكر أنك كنت بقاع البحر تخوض في حقل المرجان، وتلعب مع أسماك الذاكرة، وتجري خلف عرائسها الذهبية. تذكر أبياتًا من شعرك كعيون واسعة ظلت ترمقك وفي حدقتها الدمع وتنسدل عليها خصل الشعر الفضية وجدائله الشقراء العسلية. تمسك شبكتك بعينٍ منها تتألق بالنور، فتهتف وتقول: ربي. ما هذا النور؟ تبدو كالطلسم المسحور، يلقيه الموج الليلي إلى الصياد المقهور، إن وافاه الرزق. تأخذ نفسًا عميقًا، وتشعر أنك تصعد، تصعد على سلم الضفائر الطوال إلى شرفةٍ زرقاء في أفقٍ أزرق، وتطل على الموج الأزرق، لكن الأسماك الماكرة تورات في بئر الليل، وعرائسه الذهبية لجأت للكهف السري، ودموع العين السحرية ذابت في ملح القاع. تأخذ نفسًا آخر عميقًا وتشرب الزرقة فينسكب الصفاء في صدرك وجوفك وترف فراشاته الزرقاء حول رأسك وشعرك، تنتفض فجأة وتهتز، تنتبه لألم الخرطوم المغروز في فمك، وتنظر حولك: ما زال الليل هو الليل، والعالم جهم لا زال. الطبيبان في مكانهما محنيان عليك، تتفرس في وجهيهما فلا ترى غير بياض، تنظر للسقف بياض، للجدران بياض، والأشباح العابرة بياض يسيح في بحر بياض. ربي ما هذا النور؟ هل أشرق وجه الغد؟ هل لاحت أبراج المدن النورانية؟ أين النجمان على كفهما ميزان العدل وطير الحرية؟ تفكر أن تدعو أصحاب السفر، وتسأل أين الحلاج؟ وأين السيد ومسافر ليل وأميرة أحلامي المرة أين؟ هل حملتها المركبة إلى قصر الورد؟ وهل تتطلع من شرفته للأتباع وللحاشية الملكية؟

ربي ما هذا النور؟ تتعلق بجناح الزرقة، تسبح في بحر الصفو الأزرق، تسأل هل هذا طير الحرية؟ آه لو يحملني طير الحرية، لو يبعدني عن أرض البشر الطينية، أو يرميني في بحر الأبدية. روحي تطفو فوق البرزخ بين الأزل وبين الأبد أحزان القلب مصابيح تتألق فوق الدرب، وتأخذ بيدي. أخرج من شرنقة العمر المقهور، تطير فراشة روحي نحو النبع المستور؛ لتذوب بسر الأسرار ونور النور. وحدي الليلة وحدي أحتفل بليلة ميلادي، لا الحلاج يعين ولا السيد في الأفق ينادي: هل حان الآن أوان رقادي؟ كأسي ممتلئ، لا زال وفيه بقية أنشاد، وفمي صادي، لا زالت تشتعل النار، ولكن تحت رمادي،١٠ أتمنى. ماذا أتمنى؟ قبل رجوعي للمهد وقبل سقوطي في اللحد؟ أتمنى. ماذا أتمنى؟ آه ضاعت أمنيتي وتبخر وعدي.

أبحر في ذاكرة الأشياء، وأتحد بقلب الأشياء. لكن ذاكرتي جرداء. وإنائي امتلأ وفاض وأفرغ مما فيه فصرت فراغًا وفضاء. راهنت على الفرس الجامح شأني شأن صحاب العمر، وبكينا وتعذبنا من أجل عيونك يا مصر. من أجل الضحكة نرقبها فوق الوجه المغبر، ياما ذرفنا الدمع ونمنا فوق سرير السهد نعاين طلعة فجرٍ حر. حتى هجم تتار العصر، ونزعوا عين الخضرة والبسمة والسر. آه يا فرسان العصر! أعترف بأني يا فرسان العصر، يا فرسان الموت المصفر، أكرهكم من قلبٍ عشعش فيه غراب الحزن المر. كسرت أجنحتي، هل تقدر أجنحة فراش الشعر أن توقف زحف جراد القهر؟

ياما فكرت وكم سطرت هل تبقى الكلمة بعدي أم يبقى الصمت؟ يا للكابوس! خدر ملعون يهبط من رأسي حتى قدمي. إني أنهار، أتخلخل مقرورًا كالجبل الثلجي، وأتفتت كالأحجار، عيني يجلدها النور، القدر المغلي برأسي يلتف يدور، ذاكرتي تتخلى عني، شعري يتخلى عني، ينحسر كظلِّ عجوزٍ هرمٍ مقهور، خذ بيدي يا أنت. وأنت. وأنت. ما هذا الليل الأسود فوقي تحتي حولي، في الجو حريق مسود، والظلمة تغلي، أين صفاء الأفق، صفاء البحر، صفاء الموج، وكيف تحوم أجنحة سود حولي؟ أين سفيني، ساريتي، أين شراعي مجدافي هل تغرق مثلي؟ هل خرج الطير الأسود من جنبي، صعد في الجو، وهجم علي، أيبغي قتلي؟ أبعده يا حلاج، اطرده يا سيدي القادم بعدي، واحم الشاعر من عضته يا شعري. آه يخذلني الكل وأرتعش وحيدًا في ريح الصمت وبرد الليل. يخذلني الكل ولا يبقى إلا الصمت. الصمت. الصمت. أين رفيقة دربي؟ أين عيونك يا أمي؟ يا معتزة إن وحوش الليل تغير عليَّ. إلى أين صحاب العمر الضائع كزجاجٍ مكسور؟ أنا وقت مفقود بين الوقتين. عمر معقود بين الماضي والمستقبل، أنتظر القادم، أنتظر وأنتظر، فهل يأتي الآن ليأخذني أم يأتي بعدي؟ أنتظر وأنتظر ولا شيء يعين، ولا أحد يعين، ولا يجدي. افتح عين الشعر المحمرة في سردابي، تفتح وردته المحترقة عينًا تنزف بعذابي، قد كنت عطرًا نائمًا في وردتك — لم انسكبت؟ ودرة مكنونة في بحرها — لم انكشفت؟ تهوي الوردة في قاع البحر، يلتهم الدرة فك التنين. التنين التنين التنين. يا أصحاب العمر إليَّ إليَّ.

يا أحمد يا فاروق وعبد الواحد يا عبد الرحمن وعز الدين١١ أغرق في بحر الحكمة، أطفو أغرق أبلع أمواج الملح وملح الأمواج وأنكفئ وأتقيأ أرتعش وأختنق وأغرق أين الحكماء وأين حكيم؟١٢ أبحث عنك في البحار، في القفار، في حدائق الأطفال، في المقابر. يا وردة الصقيع. أبحث عنك يا مدينة الرؤى المنيرة. مدينتي التي تمج ضوءًا، مدينتي التي تشرب ضوءًا، جنية المحال، يا جنية المحال والجدائل الطوال. جدائل الضفائر الطوال والخميلة التي … وفي بلادي الناس في بلادي جارحون كالصقور، كالصقور جارحون طيبون، طيبون مؤمنون بالقدر. وحين يلتقون بالسلام يلغطون جارحون طيبون كالصقور، والطارق الملثم الشرير، والأجدل المنهوم طارق المجهول للمصير من تحت اللثام وجه بوم. أواه يا مدينتي، يا مي لا تخافي، والنجوم يا واحدتي النجوم يا حبيبتي، وألفة الحبيب حط فوقه الغيلان أعداء الحياة لا تخافي، وضع النطع على السكة والغيلان والسكة والرأس الوديع، قريتي يا قريتي و احسرتى لم تأتدم هجم التتار، و احسرتى إلا الدموع والخيل تصهل قريتي. أماه يا أماه يا أماه، قولي للصغار للصغار إلا الدموع والخيل تصهل قريتي. أماه يا أماه، قولي للصغار للصغار والتتار والدمار لن نبيد للصغار، حبيبتي زهران والحياة في مشارف الخمسين جارحون والصقور والسنور والحلاج. يا وردة الصقيع يا أميرتي، وسيدي يا سيدي قد انسكبت كنت عطرًا درة، وهل يساوي ليتها يا ليتها أغلى من العيون، والعيون ليتها يا عنترة وفي انكسار والطبول والعيون والدمار يا أماه والصغار ليتها حبيبتي يا أمي يا حبيبتي في هدأة السكوت كي أموت، للغريب أن يئوب أن يغيب للشعاع واغتمضت إنني أسقيتني أعض بالأسرار يا أماه يا حبيبتي الصغار للصغار. نجمتي يا نجمتي الوحيدة أوجدى حبيبتي قولي لهم صغار والعيون يا صغار قد سلمت، ربما وربما فقيرة خزائني حقول حنطتي مقفرة. أسقيتني أسقيتني يا رب إنني أحببتها أعض أنني اختنقت بالأسرار إنني أحبَّتْكم والعالم الذي أريده حبيبتي أغلى من العيون ليتها أحببتكم وطيبون كالصقور جارحون قبلهم كاللؤلؤة، وكاليتيم ليتها من العيون إنها … أغلى من العيون، موحش يولد فيه الرعب والنجوم بالنجمين وضائين سيدي يا سيدي النور والحرية التي أقول ما الذي لكم أقول الملك لك الملك لك، أسقيتني والنور لك والحب والعيون، والناس جارحون أين الموت أين الموت في بلادي فادح هذا المساء مدلى، رباه حبل العدل داوني وفي المدائن التي والعدل إنها خلصتني، خلصتني بالعدل والحرية العيون في غد تولد نفسي من جديد، والغد الذي في الفجر يا حبيبتي بالعدل يا رفاقي طيبون، العدل عادل وعادل والعدل ليتها والعدل والحرية.

١٣

يهوي يرتطم بقاع الجب وتعلو الدوامة. تصدم المفاجأة وجه الطبيب فيرفع يده عن الجهاز، يحني رأسه ويرفع يده ويرسم علامة الصليب. يدلهم وجه الطبيب الآخر ويقبل نحوك، ينظر في وجهك، وتتمتم شفتاه، ويرفع كفيه أمام وجهه. تجري الممرضة وتصطدم بالأنابيب النحاسية وتجهش بالبكاء. لا يبقى إلا الصمت وقطرات دموع تسقط فيه.

•••

تختلج فراشات الحزن الأبدي، تحوم في سقف الغرفة، ثم تحط على صدرك. ترف عين الطبيب ويرفع وجهه، ثم يخفضه ويصلب. ترف عين الطبيب النحيل وراء النظارة السميكة، وتتمتم شفتاه. ترف عين الممرضة الصغيرة التي جلست على الكرسي بجانب السرير، وتبحث عن منديلها الوردي. وتطل العذراء المكتئبة من خلف زجاج النافذة، وتنسكب أشعة وجه نوراني من أكفان سحابة. تدمع عيناها تدمع تدمع، وتقول:

الليل تولد في القبر كما ولد يسوع،
تبتسم كأنك يا شاعر في المهد رضيع،
وتقبل مريم عينيك وفي العين دموع.

تتقدم نحوك طيفًا يتجول في بستان الموتى. تتعطف عليك تقبل نور جبينك. تسقط دمعتها فوق الخد الناصع كالورد.

ترف فراشة كل الأحزان. ينهض من سافر في الليل طويلًا، ثم تكوم في ركن الغرفة، يخطو نحوك كالصنم الذاهل يتعثر في حفر الصمت. يقف أمامك ويتمتم كالأخرس فك القيد، وحل العقدة، وتحدَّى الموت. ما زال يتمتم ويقول:

أنطقت لساني يا مولاي الشاعر بعد دهور الصمت،
فتحت العين على عشري السترة وجموده،
الآن أعود إلى الأسواق وأسعى في رزق البيت،
وأمد يدي لمطر العدل القادم ووعوده.

يذرع أرض الغرفة محتقن الوجه سريع الخطو غضوبًا كالأسد الثائر في الأقفاص. يتقدم منك كبطل مهزوم يسقط في الفخ، وينهض يضرب جدران السجن، العالم يصرخ يحلم بالنصر المحتوم. يتدلى الحزن القاتم من وجه فرعوني صارم. يرفع يده ويشير يحركها الغضب الأزلي المحبوس. يدمدم ويثور:

في وجهك الملح فجر اليوم المنتظر،
وأبارك وجه السيد يأتي كالقدر.
النجم يشير إليك: تعال، سأكشف سري.
والأمل يطل من الظلمة كالطفل الضاحك كالقمر.
من مثلك يفنى ويخلد في نفس الوقت،
قد ذهب الضيف وزال الخوف الآن عرفت:
ما بقي الشعر، ومن يشعر فستبقى أبدًا من أنت.
وسيحيا سر الكلمات وتحيا أسرار الصمت.

يخفق جناحا الفراشة، وتهيم هنا وهناك باحثةً عن منفذ. بدأ شعاع الفجر يطل، يفتح عينًا والعين الأخرى مغمضة في حضن الليل. يصطدم جناحا الفراشة ورأسها الدقيق بالجدران والستائر ومقابض النافذة. تسقط، تتعثر، يجذبها النور المصنوع تحوم بعيدًا عنه، تسقط في مستنقع أحزان العالم، من يشعر بعذاب فراشة؟ يشير الطبيب ذو الوجه الأبيض إلى الممرضة، فتجفف عينيها المحمرتين بمنديلها الوردي، وتسحب الملاءة البيضاء من تحت قدميك وتغطيك. يتجه الطبيبان إلى الباب، تتوقف الممرضة أمامك، وتمسح بيديها دمعة بللت طرف الملاءة. يخرجون ويغلقون الباب. تبقى في الصمت وحيدًا، تبقى وحدك. يتقدم منك الشيخ صغيرًا كخيال الظل البائس هرب من الجمهور الأرضي إليك. يتعثر في أغلال القدمين، وفي قيد الكفين. ما زالت بقع الدم على ذقنه، ما زالت تلمع كعيون الرعب المحمرة فوق الثوب، ما زالت كزهور الجرح النازف في شجرته الدموية. يخطو نحوك، يكشف بأنامله المرتعشة وجهك، ينظر في المرآة يسبح يدعو ويتمتم:

يا شاهد موتي وشهيدي
من في الدنيا سيعوضنا عن شاعر؟
قم يا ولدي لنسافر فالعالم كافر
يا صاحب دربي وحبيبي.
فلنصعد للنور الصافي
ولنرجع برقًا وسحابًا
أمطارًا للقلب الجافي.

يسحب الملاءة على وجهك ويتمتم، يحاول أن يمسح وجهه فيصلصل القيد، يسطع نور في عينيه الشاحبتين ويهمس:

يا صاحبي وحبيبي، هل يساوي العالم الذي وهبته دمك، هذا الذي وهبت؟
تعود كي تنام في حضن التراب، تراب جدنا وأهلنا تنام، تنام في سلام.

•••

وقالت لك الأرض: الملك لك.
تموت الظلال ويحيا الوهج،
الملك لك. الملك لك.
الإنسان الإنسان عبر،
ومات ذلك الوديع دونما احتفال، معلمًا ورائدًا في سنة الكمال.

•••

ومن موته انبثقت صحوتي،
وأدركت يا فتنتي أننا
كبار على الأرض لا تحتها.

•••

إننا الأغراب في القفر الكبير.
إننا ضقنا وضاقت روحنا.
القطيع
غاب راعيه وطالت رحلته،
وهو في بيداء لا ظل بها.

•••

أبكي سهمًا أخطأ هدفه
ليلًا من غير صباح.
أبكي أول طير مات على الغصن.
آه أيتها القيثارة!
يا قلبًا جرح عميقًا بسيوف خمسة.١٣

•••

في الخلاء المواجه للقبر،
تجلس سيدة هي مصر،
تداعب أطفالها الشعراء بغصن من الكلمات الندية.
تقرأ وجه حصان يسافر في الحلم،
وجه فتي شقه سفر الليل،
أيقظ في قاعه حفرتين مبللتين بنار من الدمع
محشوتين برعب البشر.

•••

وا حرَّ قلباه!
كل المصابيح ترحل نازفةً.
ترحل الخيل، والليل يبقى.
يرحل السيف، والبيد تبقى.
يرحل الشاعر، الكلمات
ويبقى البكاء، الخديعة.١٤

•••

نهر أنت يسارع نحو مصبه، صوفي عجلان الخطو إلى ربه، صارعت الموج صراع البطل البائس، لم تظفر إلا بنصيب الملاح البائس، لكنك عشت وجربت النشوة في الإبداع، وكتبت شهادة ميلاد القادم من رحم الأيام الحبلى بالأوجاع، جاء وما كنا ننتظر بهذي السرعة، لم نتحسب وقع خطاه البشعة. عشت الفن، عرفت، رأيت وألقيت بنفسك في النار، لم تتركنا بعدك زادًا لجراد العصر الجرار، ريشًا في وجه السيل الزاحف بالمجد أو العار. يا ربان سفينتنا الغارقة تركت الدفة للتيار. هل يجرفنا الموج الجارف بعدك أم نصمد للإعصار؟

•••

ضاقت كأس القلب المثقل عن فيض البحر، فتحطم وتحطمنا معه، وانداحت في الرمل الغادر روح الخمر، والمصباح انطفأ وما طلع الفجر، وا حسرة ليل يجمعني ورفاق العمر!

•••

حزنك! ماذا أكتب عن حزنك؟ أين الكلمات تعبر عما يجرحني في عينيك؟ خرس كل لغات الأرض، ولا تفصح عن سر عذابك أو شجتك. تبصر ما لا نبصر. تسمع ما لا نسمع، لو كنا نعلم ما تعلم، لأمتنا الضحك على الغم، وبكينا ما شاء الدمع على القدر المفجع.

•••

الشعر ملاذك، بل منفاك الموعود، وطنك في غربتك على أرض الوطن المنكود، أمك وأبوك وصاحبك الأوحد، يتخلى أحيانًا عنك، ولكن لا يجفوك يهرب أيامًا أو أعوامًا، ثم يعود لينظم عقد الحرف المنضود، تعصف حولك ريح الزيف، تنكسر على صخر الرغبة والخوف. يتغضن وجه الزمن السيء بالغلظة والإرهاب. تنطفئ قناديل البهجة، فالليل خواء وخراب، لكن الشعر يجيء إليك، فيمسح فوق الرأس المتعب، وترفرف أجنحة الطير الوافد من بار ناس والأوليمب ونجد ويثرب، فتردد قيثارتك أنين الجرح ونبض القلب.

بعد شهور الوحشة والبعد يعود إليك الصوت الشارد في الصحراء. بعد التيه اللاغب في نثر الأيام المتشابهة يزورك طيف ملاكك ذي المنقار الذهبي رفيقًا كالعذراء، يكتب آخر بيت في شعر الزمن المقتول. يكفيك من عناء الرحلة الوصول، وأن نفسك التي تعذبت وجربت تغير الوجوه والفصول، قد أشرقت بنورها ونحن لا نزال في غياهب الغروب والأفول.

•••

عشت حياتك تتأمل معنى الموت وتحياه كما فعل حبيبك أفلاطون، نلمس زحف الأفعى في جسد الكون المحبوب الملعون، زحف الدودة في أصل الشجرة، وأخذت تمد الكفين، وتقطف منها الثمرة. لا ليس الكل بباطل، ليس كقبض الريح. كذب سليمان ووقع «المازني» في هاوية اليأس يئن أنين جريح. أحببت حياتك وحياة الناس. كل حياتك لحظة صدق، لحظة إحساس، وقضيت سنيك الخمسين على مسرح هذا العالم تتعثر، تسقط، تنهض، تصرخ من أعماق الدهشة والألم القاسي: كوني يا نفسي من أنت، وطني هو هذا الوطن، وأرضي هي هذي الأرض، وهنا أقف وأتعذب، وأثور وأرفض، أبكي وأضحك، أهتف أحيانًا قد سلمت وتعروني رعشة ألم عذب ومض جربت جحيم العالم، ذقت نعيمه، حتى امتلأت كأسي واستغنيت وأتممت، فإذا جاء الموت ووضع على رأسي التاج تبسمت، وهتفت تعال وخذ ثمرتك، فقد شيبها طول الحزن على شجرة الليل وشبت. وينادي: أنت الحي الأوحد بين الأموات، فما أبعدك عن الموت!

•••

ما جدوى العيش؟ ما جدوى الحب؟ ما جدوى الفن؟ ماذا أفعل؟ ماذا أفعل؟ أنا لا أملك إلا الكلمة، والكلمة تسقط تحت حذاء الرخ المغرور، تسقط كالطير ذبيحًا تحت عيون الشعب المقهور. ماذا أفعل والسيف الأعمى لا يبصر، والكلمة حقل مجهور مقفر، ومثقف هذا العصر يدنسها، يعبث بجناحيها، يكسوها أقنعة زاهية كحواة السيرك ويفقأ عينيها كالطفل المأفون، يحشدها بالفرقعة وبالجمجمة كالبالون، ويظل سؤالك عطشان، فهل يرويه الحلاج بدمه والمجنون؟

•••

نحن صحابك ورفاق طريقك: هل أخطأنا في حقك خطأ الصوفية والفقراء مع الحلاج؟ هل أحببنا كلماتك أكثر مما أحببناك. فتركناك تموت لتحيا كلماتك؟ لم نفهم أن اللفظة حجر واللفظ منية، أن الكلمات مسيح يحيي الموتى، أو مسخ وبغي تلد الموت. يا جرح العمر أجبني، قل بي أرجوك الصمت. ضقت بأحوالي ضقت، بليالي وأيامي المختنقة في سحب الكلمة ضقت. في كل مساءٍ أنوي أن أهوي في قاع الصمت، أن أتوحد بالصوت الهاتف من أعماقي، من أعماق الأرض بلا صوت، أن أجمع أشلاء العمر المتفتت في لحظة صدق، أو حتى لحظة صمت، ثم تطل عيون تستدرجني للكلمة، والكلمة موت، آه ضقت بكلماتي وبصمتي ضقت.

عشنا في الألفاظ الجوفاء سنين، نأكل نشرب نتجشأ ألفاظًا، حتى صرنا ألفاظًا تقتات على جثث الباطل والبهتان. هل نتعلم من درس حياتك أن نقتصد قليلًا في الألفاظ، أن الكلمة إن لم تهد إلى درب الفعل، تصبح طبلًا في كفِّ أصمَّ ولعبة طفل؟ حقًّا كنا الأسياد وحقًّا كنا، ولما كان لما نلفظ معنًى. لما كانت كلمات العرب تحرك جيشًا وتسير سفنًا، وتشيد علمًا أو تصنع فنًّا، حتى غصنا، ساخت أرجلنا في المستنقع وغرقنا. ربي! كيف ترعرع في وادينا الطيب، هذا القدر من السفلة والأوغاد؟

كي يعطي الكلمة معناه، اختار الحلاج الموت.
كي تعطي الكلمة معناها، يا شاهد هذا العصر استشهدت.
فمتى يتعلم صناع الكلمة منك؟
ومتى يصبح صنع الكلمة تضحية حتى الموت؟

كيف نحول كلماتك أفعالًا تمطر بالخير؟ ماذا نفعل كي لا نترك شبح الفقر يعربد في الطرقات ويفجر؟ مد إلينا كفك، أدفئنا من أنفاسك، لا تحرمنا صوتك وإشاراتك. واسأل ربك أن يلهمنا قول الحق، ويؤيدنا — حبًّا فيك — بروح الصدق. ألهمنا أن نخلع ثوب الألفاظ، ونخرج للناس كما خرج الحلاج وسقراط، أن نصهرها في نار الغضب ونغمسها في خبز الفقراء، فلعل الرقبة تنجو من مشنقة الإحباط. ألهمنا، علمنا، لا تحرمنا صوتك، حتى نجلد ظهر الأحياء-الموتى بسياط وسياط، حتى نحلو في عينيك ونبصر أنفسنا في مرآتك، في مرآة الشعب ومرآة الله.

•••

كيف رحلت يا أعز الراحلين؟

متى تعود للقاء والحديث ذو شجون؟ إن كان في الموت العزاء فلأكن إليك أول المسافرين.

•••

يا كم دعوتني الحكيم، ودعوتني المسيح. كم مسحت كفاك جرح قلبي الجريح، وأدركت عيناك أنني مقيد كسيح. كأنني المشلول لا أعيش لا أموت لا ألوذ بالكتمان لا أبوح. غرقت في بحار علمي العقيم غطت جثتي المتون والشروح، وكم طرقت باب حبك الكبير، وكم طعمت يا أمير من مائدة السرور، وعدت في الجراب كسرة لقلبي الكسير، وقطرة تبل غلتي في وهج الهجير. وكنت ثم كنت يا صديق، ولم أزل كجثة الغريق، مطفأة العيون في كهوف حكمتي العقيمة الدروب والجحور والشقوق، أبحث عن حقيقةٍ تلوح، ثم تنطفئ البروق، أبحث عن طريق، ومن فؤادك الذي رأيت فيه الله والإنسان يبدأ الطريق، فهل تراني بعد ما رحلت أبصر الطريق؟

•••

بدموعي تمتلئ العين ولا أجد عزاء. يتسلل شيطان القلق لفرشي كل مساء، يحضنني، يغرز قرنيه بعنقي، يوحي ما يوحي من أسرار الحمقى والحكماء، فمتى أنجز وعدي لك يا خير أحبائي؟ أمسكت بحبل الصمت الممدود فلم يسقط ثمري الموعود، وتعثرت على درب الكلمة والدرب قيود وسدود. جفت سحبي وتسرب مائي في الأخدود، يا روح حبيب العمر المفقود، باركني وامسح بيديك على رأسي المكدود، فلعل المطر يعود، لعل المطر يعود.

•••

كيف أصدق؟

الرفاق يتلقون العزاء. أحضنهم ويبتل وجهي بدموعهم. فاروق يعانقني وتنداح المرارة إلى فمي وقلب مشلول مغلول مذهول. عبد الرحمن ينشج في ركنٍ وحيد، عيناه دموع تتحدر كالشلال.

النعش يقتحم الصفوف كالبطل المأسور، تسنده أكتاف الأحباب وأيديهم. الفجيعة على الوجوه التي ترفض التسليم. يا أيها الراكض إلى أين؟ أهي دعابة جديدة؟ أيمكن أن تكون جادًّا؟ أطل برأسي النسر الجميل الجليل، وأصرخ بملء صوتك المتهدج الجريح: ليس هذا عرسي ولا مأتمي. انصرفوا. انصرفوا. يا صوت ضميري وضمير بلادي، اخرج من هذا النعش وناد. اخرج لا تتمادَ، أريد أن أداعبك. أسمع منك عجائب العباد والبلاد والأحوال. والزمن عجيب يلد الخرافات العجيبة، أهي خرافة جديدة؟ هيا لا تسرف في سخريتك. نادني يا حكيم كما تفعل في كل لقاء. فالحكمة توجعك وتوجعني في زمن الحمق الأسود. أنثر ضحكاتك تمسح عني وحل الرحلة. أشعل مصباحك كي أجد طريقي في ليل المحنة. أدفئ قلبي الغارق في ثلج الحكمة. وحرك صنمه. أبعث فيه لعازر، مره أن ينفض نومه، ويواجه يومه. تعالَ نغادر هذا المسرح، هذا الوهم الأسود، تعال بنا بعيدًا لنثبت أن اللعبة وهم. هذه الغربة وهؤلاء المشيعون وهم. فحضورك هو الحقيقة الوحيدة الباقية بعد أن يُشيَّع الميت وينصرف الممثلون، تعال تعال فأنت حاضر لا تغيب.

عين الشمس لا تزال تسطع، الريح تتنفس، الطيور ترفرف في السماء، الأطفال تولد في كل لحظة، والأشجار تنمو، والعجائز يجرون أقدامهم ويسعلون، الكتَّاب يفكرون في عمود الصفحة الذي سيسودونه والشعراء يصطادون عصافير الكلمات السود، ويستعدون. لم أنت وحدك ساكن هنا؟ أأنت الذي يحملون؟ أم أنت الذي أحمله في دمي وألقاه مساء اليوم حسب الموعد القديم؟

لا لا لا. وهم. كذب. كابوس. أمشي في كابوس الخمسين، وأنت تطل عليَّ من الشرفة — شرفة مسكننا في مقتبل العمر، تذكرني بالعهد القائم والعهد أمين،١٥ سيذهب الجميع، ثم تسدل الستار.

وأنت أنت فوق الوهم والتمثيل. أنت حاضر ولن تغيب. كيف أقول كنت؟ كيف أستطيع؟ وأنت يا حبيب نبض القلب، ومضة العيون، وأنت — ما حييت — ساكن في القلب والعيون، وكائن ودائمًا تكون؟

يا صاحبي وحبيبي.
«قد كنت عطرًا نائمًا في وردتك، لم انسكبت؟
ودرة مكنونة في بحرها، لم انكشفت؟»
وهل يساوي العالم الذي وهبته دمك، هذا الذي وهبت؟
لا. لا أقول قد رحلت، بل أقول في غدٍ سنلتقي كما وعدت.
١٩٨١م

خاتمة

لا أجد تعبيرًا عن حياة صلاح وكفاحه لمعرفة نفسه ومجتمعه وعالمه خيرًا من كلمات «روسو» في مقاله المشهور عن الفنون والعلوم: إنه لمنظر جميل وجليل أن نرى الإنسان يرفع نفسه من العدم بجهده الخاص، ويبدد بنور عقله تلك الظلمات التي لفته بها الطبيعة (لنقل: تلك الظلمات التي لفته بها الحياة العربية. في ليل الهزيمة والقهر والتخلف والثرثرة). أنه ليرفع نفسه فوق نفسه، وينفذ بروحه إلى أطباق السماء، وينطلق كالشمس بخطواتٍ جبارةٍ عبر الفضاء الشاسع للكون. أما الأمر الذي يبقى هو الأعظم والأصعب، فهو أن يعود إلى نفسه ليدرس الإنسان، ويعرف طبيعته وواجباته وغايته.

ومع أن هذه العبارات العاطفية المتحمسة لا تصور عذاب صلاح تصويرًا دقيقًا، إلا أنها تضع أيدينا على هذه الحقائق التي لا يدركها إلا أصحاب طريقه وجرحه، لقد استطاع أن يرفع نفسه بإرادته من العدم العربي المحيط به إلى الوجود الشعري الذي يبدد هذا العدم، ولو في لحظات الخلق المتاحة، هذا الارتفاع فوق العدم الذي يغرق هو وزملاؤه المبدعون في مستنقعه كل يوم — قبل الإبداع وبعده وفي أثنائه — قد مكنه في الوقت نفسه من العلو فوق نفسه المحدودة والمقيدة في أغلال المكان والزمان وفوق الموقف الأدبي والتاريخي والاجتماعي والسياسي الذي يحاصره. أما المناطق السماوية العلوية التي يذكرها النص، فهي قصائده ومسرحياته وإيقاعاته الشعرية وقراءاته ومشروعاته، أي البديل الفني عن ذلك العدم الذي تختنق فيه ليل ونهار. وفي النهاية يعود صلاح الإنسان إلى نفسه بعد أن ينطفئ وهج اللحظة وتهوي أجنحتها، يعود ليعطف إلى الداخل، ويشتبك في الصراع اليومي مع قبح الحياة اليومية لكي يفحص طبيعته وواجباته وغايته.

هذه الحياة اليومية التي اختفت منها قيم المحبة والتقدير والثقة والاحترام المتبادل، وأصبحت لا تسمح بنمو حياةٍ إنسانيةٍ سوية، ناهيك عن حياةٍ مبدعة، وأتى على خضرتها جراد الكراهية والحقد والادعاء والثرثرة وعدم الاكتراث؛ هذه الحياة اليومية التي غطت وجهها الحجب والأقنعة الشائهة، وظلت تمد حبال مشنقتها كل صباح؛ كيف لا يدينها ويسجل علامات التصدع والانهيار في بيتها الآيل للسقوط؟ كيف لا يفضح القردة والأفاعي والثعالب المتربصة وراء الأقنعة (بشر الحافي)؟ غير أن الشاعر الذي يحاول أن ينتزع نفسه من مستنقع الخراب والبلاء ليعتصم بلحظات البراءة والنقاء (يا من يدلني عن طريق الضحكة البريئة والدمعة البريئة)، هذا الشاعر الذي يجوس عاريًا مكشوف القلب في أسواق المدن الجاحدة المتبلدة الحس، يشتاق على الدوام إلى مدينته المنيرة التي ينام فيها الأبناء في أحضان الأمهات، مدينة الرؤى التي تشرب ضوءًا وتمج ضوءًا، مدينة المستقبل التي كُتِبَ على المغتربين المحتجين منذ أفلاطون إلى اليوم أن يحلموا بها، وأن يتركوا العالم وهي جنين أسطوري في بطن الغيب، ويظل النقاد المتفائلون يدينونه بحزنه. ويطالبون بطرده من المدن السعيدة التي يقلق نومها دون أن يكلفوا أنفسهم بالسؤال: ومن المسئول عن هذا الحزن كله؟! هذه المدن المقنعة المغتربة عن نفسها، كيف لا يباح للفنان أن يغترب عنها؟ كيف لا يسمح له بأن يكون هو نفسه ويحقق هذا المثل القديم الذي تقوم عليه الحقيقة والأصالة؟ أليس هذا هو دأب المفكرين والمبدعين في كل زمانٍ ومكان؟ ألا نتحمل الخسارة الفادحة في حاضرنا ومستقبلنا إذا حرمناهم من هذا الترف البائس الضئيل أن يقولوا لنا: «لا.» ولأنفسهم والقيم الباقية: «نعم.» ولكن مجتمعاتنا التي اختلطت فيها القيم وجثم عليها كابوس القهر وعبيده لا تطيق هذا. إنها تتربص بكل صوتٍ صادق، وتجدل مشنقة التعذيب لكل بادرة حياة. وهكذا يقع الإبداع العاري من كل سندٍ يحميه فريسة الكلاب التي تنهشه من كل ناحية، عبيد السلطة وخدمها وحشمها، الثرثارين الكَذَبة من يمين ويسار. البيروقراطيين زبانية الموت وسدنة الجمود والركود والتحجر، أوباش العصر وجلاديه الجدد وطواويسه المزيفين الذين يجوسون بيننا كالكوارث، ويبرعون في رصف بيانات الإدانة والاتهام قبل أن يتعلموا ألف با الحب والعلم والفهم والاحترام (إذا فرغت جعبتهم الفارغة لم يعدموا حرية يسددونها شاعر مغترب عن مجتمعه، غير ملتزم تقدمي وميتافزيقي وصوفي ووجودي!) وبدلًا من ضم صوتهم إلى الأصوات الصادقة لرفع ركام الظلم ورواسب التخلف وأقنعة البطولة الكاذبة تراهم ينادون، كما نادى أفلاطون قديمًا بحسن نية أخلاقية، بطرد الأصوات النقية التي تزعج أحلام المدن الغافية وفرسانها المهزومين! هذا هو الأمر المحير في حالتنا اليوم. كأننا قد التصقنا بأقنعتنا فلا نقوى على انتزاعها لنتحسس وجوهنا الحقيقة، كأننا نصنع أغلالنا بأيدينا، ونحب أدوار عبوديتنا التي نؤديها بلا وعي، ونكره أن نكون أنفسنا، ونواجه واقعنا، ونحيا في النور والحوار والنتيجة هي هذه اللعنة التي عبر عنها طه حسين عندما قال: إننا لا نعمل ولا نحب لغيرنا أن يعمل. فمتى نتعلم أن اليد التي تجرح هي اليد التي تشفي الجرح، وأن خلاصنا لن يتم إلا بأيدينا، ولن يتحقق إلا بالعمل؟ أقول العمل لا القول، العمل الذي نحقق به ذاتنا ومجتمعنا وننقذ أنفسنا وحاضرنا ومستقبلنا المهددين بالخراب والانقراض.

•••

لم يكد يمر يوم واحد على رحيل شهيد الشعر والعصر، حتى اشتعل الجدل العقيم: من الذي قتله وكيف قتل؟ ما التهم التي سددت سهامها إلى قلبه، حتى اختنق وخذلته طاقته على تحمل الجراح؟ وأنا أنزه نفسي عن المشاركة في هذا الجدل، كما أنزه الأصدقاء الذين كانوا معه في ليلة الوداع. فالثلاثة الذين كانوا معه أصدقاء أحمل لهم الود والتقدير. وحتى الرسام المجهول الذي كان معهم، وسمعت أنه لم يتورع عن قذفه بأبشع التهم على مشهدٍ من زوجته وابنتيه، أدعو الله أن يغفر له ويسامحه (يعلم رب الغيب حقيقة ما قالوه وما فعلوه. ولقد كنت على موعد اللقاء بالصديق المسافر في اليوم نفسه، الذي قدر على أن أشيعه فيه). لكل أجلٍ كتاب، ولم يبق إلا التسليم. غير أن هناك حقيقة لا بد أن أشهد بها، وأشهد عليها كل المبدعين المخلصين في أمتنا العربية: لقد ظل صلاح يُقتل طوال العشرين سنة الأخيرة، وظلت الفخاخ تنصب له من جهلة اليمين وأدعياء اليسار (في الجو الذي تعذب فيه جيلنا التعس فقدت هاتان الكلمتان معناهما كما فقدت كل القيم معانيها.) وتبقى قضايا وأسئلة أكبر منا جميعًا: لماذا يُقدَّر على أفضل أبنائنا وأخوتنا أن يسقطوا ضحية الضنى والقهر والتعذيب؟ إلى متى نضن عليهم بالكلمة الطيبة طوال وجودهم معنا، فلا نقولها — إن قيلت على الإطلاق — إلا بعد غيابهم عنا؟١٦

كيف نسترد المقدرة على الحب والاحترام، على الأقل لمن هم أولى الناس أن نضعهم في حبات عيوننا وقلوبنا؟ إلى متى نظل أعدى أعداء أنفسنا؟ وإلى متى نختنق بالصغار والادعاء وتطاول بعضنا على بعض؟ هل كتب على الموهوبين أن يكونوا دائمًا ضحية الحطابين الفقراء من كل موهبة؟ وإذا صح ما يقوله الحلاج في هذه البكائية «يُقتَل كل الشعراء بكل بلاد الله» فهل كتب علينا أن نكون أبشع البلاد قتلًا لأبنائنا المبدعين في كل مجال؟! ألا يكفي أننا مهزومون حتى نهزم أنفسنا بأنفسنا؟ أنحاول برفع أصواتنا القبيحة أن نتصامم عن أصواتٍ أخرى أولى بأن ننتبه إليها: أصوات الآلات والحفارات التي تقيم المستعمرات والمستوطنات على أرضنا السلبية. وأقدام العدو التي تدوس جثثنا الممدودة بلا وعيٍ ولا حياة؟ ألم تدق ساعة العمل التي توقف طاحونة القول التي سحقت كرامتنا، وتوشك أن تسحق وجودنا نفسه؟ وإذا كان قدر الأدباء والكتاب أن يتكلموا ويكتبوا، فمتى تصبح كلمتهم فعلًا وكتابتهم عملًا أو دليلًا يهدي إلى عمل؟ متى نتعلم من عذاب صلاح ورحيله أن الجو الذي تعيش فيه هو أحسن الجو الذي لفظت فيه حضارات منقرضة آخر أنفاسنا وأننا محتاجون — هنا والآن — لجوٍّ جديدٍ يقوم على الحرية والحوار واحترام الإنسان والعمل المبني على المنهج والعلم والحب؟

أسئلة كثيرة لا أستطيع أنا ولا من هم أفضل مني من الواقفين في الصف نفسه الذي وقف فيه صلاح أن نكتمها عن أمتنا. فمتى تفتح عينيك وعقلك يا شعبي المسكين؟ ومتى تستيقظ للخطر الأكبر يا وطني الأكبر؟

•••

ومما قيل إن الراحل العزيز لم يلتزم بالتقدمية كما يفهمها أنصارها أو أدعياؤها. ولكن لا شك أنه بقي محاربًا صلبًا للإرهاب والاستبداد والتسلط بكل صوره، وأنه ربما تعاطف مع التقدمية لو أنها لم تأت على أيدي الجلادين بمختلف أشكالهم. لقد ظل عدوًّا لكل قهر أو إلزام. لا لأن الإلزام شر أخلاقي فحسب، بل لأنه — كشاعر — لا بد أن يرتاب في كل من يؤيده تحت أي شعار أو تبرير أو تعميم.

إن الشاعر لا يكون شاعرًا جيدًا أو رديئًا؛ لأنه تقدمي أو أيديولوجي، بل لأنه قبل ذلك شاعر أو غير شاعر. والفن ليس دعاية، ولا يجب أن يكون. ولكن ببغاوات العصر والسلطة التي تحكم قبضتها على أجهزة الدعاية تريد من الشعراء أن يكونوا دعاة. فلا عجب أن يصطدم الشاعر والفنان صاحب الضمير الحر والرؤية المستقلة بمثل هذه السلطة (التي يضطر أن يكسب لقمته في ظلها)، ولا عجب أن ترتاب هي أيضًا فيه وتسلط ببغاواتها لنهش لحمه والتربص به. ولكن القيم الفنية لا تخضع للقيم السياسية، والموهبة المبدعة لن تكون حرة إذا وضعت يدها في قيود الاعتقاد المذهبي. ربما تقول الأجيال الجديدة من النقاد أن صلاحًا وجيله ظلوا ثوريين رومانتيكيين في شعرهم ونثرهم وفرديين في رؤيتهم للحياة، قد يكون هذا صحيحًا، وله أسبابه التاريخية والاجتماعية. ولكن هذه الأجيال — التي نتمنى أن تكون أسعد حظًّا منا — لا تستطيع أن تجردهم من إخلاصهم ووطنيتهم وصدقهم مع أنفسهم ودفاعهم عن قضية الحرية والعدل بمعناها الفني والإنساني الشامل. لا شك أن للفن دوره في المجتمع، وهو في النهاية نتاج هذا المجتمع. ولكن اغتراب الفنان العربي عن مجتمعه في السنوات الثلاثين أو العشرين الأخيرة ظاهرة واقعة تستحق الدراسة لا الإدانة. ويجب ألا ننسى أن الفن المغترب فن سياسي أيضًا، مهما ابتعد عن سياسة معينة، وهو في النهاية تعبير عن مختلف الضغوط التي جثمت على صدر الفنان وألجأته للاغتراب والاختناق بالعذاب والحزن والصمت، وبدلًا من أن نقول ينبغي أن يكون شعرك أو فنك كذا وكذا، علينا أن نكافح لإزالة القيود عن طريق الشاعر والفنان، وخلق المناخ الذي يستطيع أن يبدع فيه، ويتحمل مسئوليته. إن الفنان إنسان قبل أن يكون صاحب مذهب. والوظيفة الأولى للشعر ولكل الفنون هي أن تجعلنا أعمق وعيًا بإنسانيتنا وبالعالم المحيط بنا. لا أدري إن كان هذا الوعي سيجعلنا أكثر أخلاقية أو أكثر فعالية، ولكنه سيجعلنا بالتأكيد أكثر إنسانية. يكفينا من الشاعر أنه ينبهنا إلى الوحوش التي تسعى في زحام المدينة (بشر الحافي) أو الوحش الذي يحكم عليها بالموت، وهو نفسه جثة ميتة (بعد أن يموت الملك). أما خطة العمل التي تجعلنا نتخلص منهم فليست وظيفته. إن الشعراء بطبيعة اهتماماتهم وصنعتهم الفنية — كما يقول «أودن» في مقاله عن الشاعر والمدينة — غير مهيئين لفهم أمور السياسة أو الاقتصاد. إن اهتمامهم الطبيعي ينصب على الأفراد والعلاقات والتجارب الشخصية. بينما السياسة والاقتصاد يهتمان بأعدادٍ كبيرةٍ من الناس، أي بالمتوسط البشري (والشاعر يضيق إلى حد الموت بفكرة الإنسان العادي) والعلاقات غير الشخصية وغير الإرادية إلى حدٍّ كبير. إنه يحدثنا عن مدن المستقبل لا عن أزمات البطالة والتضخم والإسكان، عن معاناة الإنسان في مجتمعاتنا الحديثة التي يتضاءل فيها ويتشوه «ويتشيأ» ويغترب ويمتحن في كل لحظة في إنسانيته ووجوده الحقيقي الأصيل، لا عن العامل والفلاح والموظف ومشكلاتهم المحدودة. ورسالته هي تغيير ضمير الفرد وقلبه ووعيه، أما تغيير ظروفه الواقعية فأمرٌ متروكٌ للسياسة والعلماء والمصلحين. إنه يطرق أبواب الخلاص لا أبواب الإصلاح. ويأخذ بأيدينا على طريق الحقيقة لا طريق الواقع المحسوس. والمهم — وليس هذا دليلًا — أن يكون أمينًا وصادقًا وقريبًا من قلوبنا.

أليس أمام الشعر إذًا فرصة للفعل والتغيير؟ أكان يمكن أن يظل العالم على ما هو عليه لو خلا من كل الشعراء؟ أَوَليست قضية العدل الاجتماعي أهم من كل قضايا الفن وأنصاف المظلومين والمضطهدين؟ أليس أجدى من عشرات الملاحم والدواوين؟ ولكن المشكلة تكمن في فهمنا لمعنى الفعل والتأثير، لا شك أن العالم كان سيفتقر إلى الحرية والعدل والجمال — أكثر من فقره المزمن فيها — لو خلا من أمثال هوميروس ودانتي والمتنبي والمعري وشكسبير وجوته وموزار وبيتهوفن وشوقي وسيد درويش، ولا شك أن واقعنا كان سيبدو أكثر قتامة وبؤسًا لو خلا من صلاح وزملائه المجددين والمتمردين، لقد قدموا لنا الشهادة الحقيقية على ظلم واقعنا وظلامه وتفاهته وتمزقه، أما الفعل المؤثر الذي يغير منه فقد يأتي أو لا يأتي على أيدي غيرهم. والمهم أن قصائدهم نفسها «أفعال» باقية في عالمنا، قيم مؤثرة على قلوبنا وعقولنا، تعطينا الحماية والأمان الخلقي والعقلي والوجداني، وتزيدنا وعيًا بإنسانيتنا. إن المثل الأعلى للشاعر والإنسان هو الذي يقترب من وحدة الشعور والعقل، والفكر والفعل. فكيف نتهمه في ظل القهر والتمزق بأنه حزين وسلبي؟ أليس تجسيدًا نقيًّا لحريتنا ووحدتنا المفقودة، لعذابنا وتعذيبنا لأنفسنا؟ والمجتمع الأمثل هو الذي يكفل الحرية الكاملة للاختيار الأخلاقي، فهل في بلادنا نظام واحد وحيد يسمح بهذا المجتمع اللائق بالإنسان؟ إن الدعائي الثرثار ورجل السلطة الحديدي يتهمان الشاعر بأنه يعزف ألحانه في الوقت الذي تحترق فيه روما (هذا إن كانا يشعران بأنها تحترق!) وهما يطالبانه بأن يستغل قدرته على صوغ الكلمات في إقناع الناس بما ينبغي أن يفعلوه. ولكن مهمة الشعر ليست هي إخبار الناس بما يفعلون، بل مهمته — كما قدمت — هي تعميق معرفتنا بأنفسنا وبالعالم الحقيقي: بالخير والشر، بالجمال والقبح، بالحرية والعبودية، ربما استطاع بذلك أن يجعل ضرورة الفعل أكثر إلحاحًا، وأن يجعل طبيعته أكثر وضوحًا، بحيث يقودنا إلى اتخاذ القرار العقلي والعملي والأخلاقي الحر، ومع ذلك فلا بد أن نقتصد في الكلام عن رسالة الشعر والتزام الشاعر … إلخ، وغير ذلك مما ضيعنا فيه السنين الطويلة بلا ملل أو كلل. ولا بد أن نقول لأولئك الذين يتجهون للشعر طلبًا لرسالة أو برنامج إصلاح: إنكم تطرقون الباب الخاطئ، ولا بد أن نقول لهم أيضًا إن الشعر يضيء ويكشف، ولكنه لا يملى ولا يعلم. إن الفنان لا «يحدث» شيئًا بمعنى الفعل المباشر، اللهم إلا أن يجعلنا نؤمن بالحياة، ونفرح بها، ونمجدها، ويزيدنا وعيًا بالحرية الإنسانية؛ لأن مجاله كما قلت هو عالم القلب لا عالم السياسة والاقتصاد.

إن المعذبين في الأرض (بتشديد الذال المكسورة) قد أرهقوا صلاح عبد الصبور بالكلمات الضخمة والشعارات الغليظة شأن كهان الأروقة الكذبة والحطابين الفقراء مع كل فنان ناجحٍ موهوب. طالبوه بأن يعبر عن أفكارهم هم، أن يضع آراءهم هم في شعره، فأي تعذيب للضمير الحر أقسى من هذا التعذيب؟ إن المجتمع الموحد في العاطفة والأهداف والكرامة والآمال هو الذي يمكن أن يتفجر بالأدب الناضج والشعر الصادق، هذا المجتمع الموحد الذي يكون فيه كل الأفراد كالبحارة المشاركين في شد حبال السفينة هو الذي يحلم به الشاعر. فلنوحد مجتمعنا العربي. ولننهض به من حضيض التخلف، ولندار جراح كرامته قبل أن نتهم الشاعر وندينه بسؤالنا: لماذا أنت حزين؟

إن الحياة كلٌّ واحدٌ مؤلَّف من وحداتٍ كلية، تتألف بدورها من وحداتٍ كليةٍ أصغر. هناك العضو المفرد، والفرد الإنساني، وهناك الفرد والأسرة، والأمة والعالم، وكلها بنيان أو منظومة، أو مجموعات على علاقة بمجموعات أكبر. وكل مجموعة على حدة مختلفة عن سواها. لكن ليس لها معنى إلا في علاقتها بالمجموعات الأخرى. ليس هناك كل بغير الجزء، ولا أي جزء بغير الكل. وكذلك ليس الكل مجرد محصلة للأجزاء. وإنما هو شيء جديد. هذه مسلمات استقرت اليوم في العقل الحديث، فلماذا نكررها هنا؟ لأنه يحدث في بعض الأحيان أن يعمل الجزء وكأنه ليس جزءًا من كل أكبر منه (كما في النشاط السرطاني في الجسم الحي)، والنتيجة في هذه الحالة هي المرض المميت والتدهور والانهيار. هذا ما حدث للمجتمع البشري عبر التاريخ، وهو ما حدث لمجتمعنا العربي في السنوات الأخيرة. فقد الجزء صلته بالكل، فقد المجتمع صلته الحميمة بالمجتمع المجاور له، انفصل كل فرد واغترب عن كل فرد، تورمت الأجزاء وبعض «الكُلَّات» أو الوحدات الصغرى تورمًا سرطانيًّا وغفلت عن علاقتها بالكل، وفقد الوطن الأكبر علاقته العضوية بالعالم الذي يعيش فيه. والنتيجة؟ هذا التمزق والضياع والانتحار المنذر بالانقراض، وسط هذا الخراب يقف الشاعر وحده. يواجه الزلزال والمباني المتصدعة، عاريًا في مهب الرياح والأعاصير، يقف وحيدًا عاريًا ليقول لنا: أنتم محبوسون داخل أنفسكم، معزولون عن بعضكم. تائهون عن الحقيقة. تسعون وراء الشمس، والشمس في ظهوركم. لا كل في نظركم إلا الأنا الصغيرة الأنانية. إني أعيدكم للكل، أُرجِع العضو لجسده، والفرد لمجتمعه، والمجتمع لوطنه الأكبر، والوطن للعالم والإنسانية. أنا ضمير التاريخ المثقل بالذنب. هل يسمع صوتي؟ هل تتركني حشرات السلطات والشعارات لأتم أغنيتي؟ عودوا للكل، لإنسانيتكم، لوعيكم، لعالمكم، لحقيقتكم. أنا شاعر المحبة أقول لكم وأتنبأ بالموت وأبشر بالميلاد. قوموا. احتجوا، اختاروا وتحملوا مسئولية الاختيار. اهتزوا. اقشعروا من فرقتكم وهوانكم. افعلوا شيئًا. انفجروا أو موتوا. أنا الشاعر. ضعيف ومعرض للخطر، أقول كلمتي وأتحطم. عشت أنادي بمجتمع الحرية والعدل، وأحارب الهوان والقهر، وأحذر من رعبٍ أكبر من هذا سوف يجيء، تحركوا على صوتي كما يحرك البحارة أيديهم بالمجاديف على إيقاع الأغنية المنطلقة من واحدٍ منهم، فيتحرك المركب الواحد، ويشق صدر الموج والريح. تذكروا انهيار الدولة العباسية، وتمزق دويلات المرابطين. إن الحرية والعدل والديمقراطية والعقل مهددة. بل هي في الواقع تخرب كل يوم. يجب علينا أن نختار، يجب على كلٍّ منا. قد تكون نظمنا سيئة ولا أمل فيها على الإطلاق، لكن لا يمكن أن يخرب الإنسان تمامًا. ولهذا أتجه إليه وأتعذب من أجله. لعلكم تحلمون معي وتعملون في سبيل مجتمعٍ جديد، مجتمع يكون كل فرد فيه قادرًا على الحب والفهم، حتى ولو لم يحبني أحد ولم يفهمني أحد. أنا لا أنصح ولا أصلح الكون، وإنما أقدم التجارب والحكايات والأمثلة، وعلى كلٍّ أن يستخلص منها نتائجه. أنا وقت مفقود بين الوقتين، جسر مشدود بين الماضي والمستقبل. تذكروا يا من تعبرون علينا، أننا تعذبنا هنا من أجلكم، لكيلا تنتهوا نهايتنا، وليكون حظكم أسعد من حظنا. أضنتني شهوة إصلاح العالم. تمنيت أن أترك هذا العالم خيرًا مما كان عليه قبل مجيئي. لكن القدرة كانت محدودة، والأيام ضنينة فاذكرني يا من تأتي بعدي، واحفظ عهد الشعر، وعاهدني أن تتسامح وتكافح.

نوفمبر ١٩٨١م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤