الفصل العاشر

خسر عدلي القضية ضد أبيه، وربما كان يعلم أنه سيخسرها على أية حال، فإن كان عقله قد حال دون هذه المعرفة فالذي لا شك فيه أن راوية زوجته كانت تعرف ذلك، وإنما حلا لها أن يصبح اسم الباشا وابنه على كل لسان. فالحياة مع عدلي راكدة، وراوية ليست خائنة بطبيعة تكوينها؛ فهي لم تخن زوجها ولا تنوي أن تخونه، وهي لهذا ضيقة بحياتها معه ضيق ملالة، وهو نوع من الضيق يجعلها تبحث دائمًا عن تسلية، قد تكون هذه التسلية كبيرة كقضية الباشا أو صغيرة كانضمامها إلى مجموعتَين من السيدات، إحداهن للحديث وهذه تضم خديجة وشهيرة، ومجموعةٌ أخرى للعب الكونكان لعبًا لا تلقي فيه بكثير من الأموال؛ فهي ليست مغامرة بطبيعتها، وهي تعلم مقدار الغنى الذي انسكب على زوجها بعد وفاة أمه، خاصةً وأن أباه في ترفُّعه أبى أن يأخذ نصيبه من تركة زوجته، وترك ذلك النصيب لابنه الذي رفع عليه دعوى السفه؛ فزاد هذا من إكبار الناس لزكريا ومن احتقارهم لعدلي. على أية حال لم يكن هذا الغنى سببًا يجعل راوية تنفق المال فيما لا يفيد؛ فهي تقدر أن ابنتها التي جاءت بها والتي لا تنوي أن تجيء بغيرها لن تغفر لها تبديد أموال أبيها. وقد كانت ابنتها هالة هي كل شيء في حياتها.

فما دامت حياتها قد خلت من الزوج فلا أقل من أن تعمرها لابنه.

وهكذا استطاعت رواية أن تتواءم مع حياتها وتقبلها، وتخلق فيها المتعة التي حرمتها بزواجها من هذا الأبله.

وقد كان عدلي خليقًا أن ينعم بحياته هو أيضًا، فهو يستطيع دائمًا أن يجد أصناف الطعام التي يطهوها، ويستطيع دائمًا أن يجد مجالس النساء ويشاركهن الحديث. كان يستطيع هذا جميعه ولكن قضية أبيه حطمت كل المُتع التي كان يستطيع أن يخلقها لنفسه. لقد وهم أن القضية ستحطم سمعة أبيه، فإذا هي لا تمس أباه في شيء، وإنما تحطم حياته هو تمامًا.

لقد وجد نفسه بين أصدقائه مجال سخريةٍ لاذعة، كانوا يخفونها عنه فأصبحوا يبدونها، بل لقد وجد السيدات من صديقات أمه يشحن عنه بحديثهن. حتى لقد أحسَّ فجأة أنه لا يجد في حياته شيئًا أو إنسانًا، زوجه لا تحدثه إلا بصيغة الأمر، وهو بأوامرها هذه مطمئن أن شئون البيت لا تحتاج منه إلى رعاية.

ولكن هو؛ هو عدلي ماذا يصنع بحياته؟ إن أموال أمه كلها عمارات؛ فهي لا تحتاج إلى إدارة، وإنما هي الدائرة يذهب منها موظفان كل شهر يجمعان الإيجارات ثم لا شيء بعد ذلك، وهو يذهب إلى دائرة أمه كل يوم ولكن بلا عمل.

تاه عدلي في الحياة، وتاهت به الحياة. لا يرافقه في التيه الممتلئ بالحسرة إلا صديقه عزت بهادر. لعلك لا تذكره، فقد مرَّ ذكره عليك مرورًا لا بريق فيه ولا إمعان.

وماذا بي أن أمعن عنده النظر، والحياة نفسها خلقته في عجلة، فلم تجعل له عمقًا يقف عند محب للتعمق؟

إنه ابن خالة خديجة، وكان طبيعيًّا أن تقوم بينه وبين عدلي هذه الصداقة التي تجمع السخفاء والضائعين في مواكب التفاهات، يزيدهم الغنى تفاهة ولا يستر عليهم حقيقة أمرهم. ومن عجب أن تصحب فضيحة عدلي مع أبيه فضيحة لعزت في الدوائر التي تحيط بهما.

كان عزت على صلة بسيدة طُلقت حديثًا من زوجها، وأعجبها جمال عزت، وربما أعجبها أيضًا فراغه. فالسيدات في أحيانٍ كثيرة يستطعن أن يعجبن بما لا يعجب به آخرون. ولم يكن عزت في صلته بهذه السيدة يطلب منها وفاءً أو ولاءً، فلقد عرف أنها اتصلت بعد أن عرفته بباشا عجوز أرغمته ظروف خارجة عن إرادته أن يعمل في الحياة السياسية؛ فإذا هو يتصدر منصبًا خطيرًا وليس له في نيل منصبه سابقة فضل، ولا عرف عنه الذكاء، لا قدر الله، وإنما هو منصب يتمنى كل حزب أن يكون شاغله من أعضائه. وحتى لا يزيد هذا المنصب الخلافات بين الأحزاب استقر الرأي أن يشغله شخص لا ينتمي إلى أي حزب، ولا يُعرف عنه أنه يميل إلى حزب بعينه. وبين شخصيات مصر جميعًا لم يكن هناك إلا عبد المحسن باشا وفيق؛ فشغل المنصب.

وتعرَّف في إحدى الحفلات بنجاة طُلبة، وفي خبرة أدركت نجاة أنه طلبتها؛ فعزت وإن يكن غنيًّا إلا أن غناه ليس بالقدر الذي يتيح لها أن تنال ما تشاء، أما عبد المحسن باشا فغناه لا نهاية له.

كان الباشا في السبعين من عمره، وحين خرج من هذا الحفل كان موعد لقائه بنجاة قد تحدد.

والتقيا.

كانت نجاة حاملًا منذ لقائها الأول بالباشا، وكانت قد أخبرت عزت أن يحدد موعدًا مع طبيب يعرفانه ليخلصهما من الجنين في شهره الأول، ولكن بعد أن تعرفت بالباشا اتجه رأيها إلى تفكيرٍ آخر.

– أنت لا تعرف منذ متى وأنا أحبك.

– هل كنتِ تعرفينني؟

– ومَن في مصر لا يعرف عبد المحسن باشا وفيق؟

– لم أكن أتصور أن سيدة في جمالك تحب رجلًا في …

– لا تكمل! إن أجمل سيدات مصر يتمنين منك نظرة.

– أنتِ تبالغين؛ إنني رجلٌ عجوز.

– عجوز؟ أنت عجوز؟ فليسألني من لا يعرف وأنا أدلُّه على الخبر اليقين.

– فأنتِ ترين أنني …

– شاب في العشرين؛ صحة تأكل الحديد، ولكنْ هناك شرط.

– اؤمري.

– تحتفظ بهذه الصحبة لي أنا وحدي.

– أنت تعرفين أن زوجتي ماتت.

– وأنا من أين أعرف، ربما لك زوجاتٌ أخريات تخفيهن.

– زوجات بالجمع؟

– صحتك هذه لا يكفيها عشر نساء.

– طمأنكِ الله.

– احلف.

– أحلف.

– أنا لا أصدقك.

– لا تصدقين يمين الباشا؟

– أنت معي لست الباشا، إنك هنا الولد الشقي الذي لا أضمن كلمة من كلامه.

– وماذا تريدين حتى تضمني؟

– هناك حكاية لم أتأكد منها، إذا تأكدت سأخبرك ما الذي أريده.

•••

– اليوم لا بد لنا من حديث.

– أنا تحت أمرك.

– لا بد أن نتزوج.

– ماذا؟

– لا شك أنك سمعت.

– لماذا؟

– أولًا هذا هو الوضع الطبيعي. فأنا سيدةٌ مُطلَّقة، وأنت مهما تكن فأنت غريب، ومقابلتي لك ستثير الأقاويل.

– ولكن مركزي .. ماذا سيقول الناس إذا أنا تزوجت؟

– أتخاف أن يُقال تزوج بسُنة الله ورسوله ولا تخاف أن يُقال اتصل بسيدة عن غير طريق مشروعٍ؟

– ولكن .. ولكن.

– ولكن ماذا؟ أنا لست من أسرةٍ بسيطة.

– هذا مؤكد، فأنا أعرف المرحوم والدك، وليس هذا هو الاعتراض مطلقًا، إنما أخشى أن يضحكوا من رجل في السبعين.

– سنك هذا شأني أنا وحدي، وأنا وحدي التي أعلم حقيقة سنك حين تخلو بنا الحجرة.

– يا حبيبتي.

– ومع كل هذا فأنا لم أقل لك الخبر المهم.

– وهناك أيضًا خبرٌ مهم.

– إني حامل!

– ماذا؟

– الذي حصل.

لقد عشت مع زوجتي أكثر من خمس وأربعين سنة ولم أنجب منها فأرًا.

– ولكنك في شهورٍ قلائل ستنجب منِّي طفلًا، وإني واثقة أنه سيولد بهذه الشوارب التي تحلي وجهك، والتي يرسمها رسَّامو الكاريكاتير بدلًا منك. ويقهقه الباشا من فرح أو من سعادة أو من النكتة؛ فقد اختلط عليه الأمر ولم يعد يدري.

ويعود إلى الجد لحظة.

– ولكن اسمعي .. اسمعي.

– قل.

– ألا يحسن أن يكون الزواج عرفيًّا؟

– ولماذا؟

– أنت تعرفين أن ثروتي كبيرة والطامعون فيها كثيرون، وإذا عرفوا أنني تزوجت سيرفعون دعوى سفه عليَّ، إذا كان الولد الأهبل عدلي رفعها على أبيه وهو أبوه، وإذا كانت دعوى السفه رُفعت على زكريا باشا عبقري السياسة والقانون؛ ألا تُرفع عليَّ؟ أما الزواج العرفي المستور فأنت تنالين به حقوق ابنك.

– بعد الشر.

– اسمعي الكلام، ومع ذلك لا يشعر به أحد.

– أنا موافقة.

وتم الزواج بشهادة عبود عبد القادر السفرجي، وسمهان عبد المولى السائق.

واستطاع الحمل بعد ذلك أن يظهر للعيان في غير خجلٍ، وقد أصبح هذا الحمل مزحة صويحبات نجاة تشاركهن السخرية منه، كما أصبح حديث الدوائر التي لا عمل لها إلا الحديث.

وعدلي وعزت يضحكان مع الضاحكين.

وقبل أن يفرح الباشا بقدوم ابنه انتقل إلى العالم الآخر، وانفجرت قضايا الميراث.

والعجيب أن الطفل جاء نسخة طبق الأصل من عزت، فقد أبت السماء أن تشارك الخاطئين في جريمة اختلاط الأنساب. والأعجب أن عزت أصبح هو الذي يدور مع نجاة عند المحامين ليتمكن من إثبات بنوة ابنه إلى رجلٍ آخر، ولكن شهادة الميلاد على كل حال قد كتبت اسم الطفل وجدي عبد المحسن وفيق. وذهبت الشهادة في طريقها القضائي، واستمرت علاقة عزت بوضعها هذا العجيب واستمرت معها القضايا توشك لا يبين لها نهاية، فالثروة ضخمة، وأبواب الطعن والتلاعب بالقانون هيهات أن تعرف حدًّا تقف عنده.

وهكذا أصبح عزت مثل عدلي سخرية الساخرين، فما بعجيب أن توثق بينهما الصداقة، وكلاهما غني وكلاهما فارغ بلا عمل.

في هذا الفراغ وفي هذا الشعور من كلٍّ منهما أنهما يعيشان الحياة، ولا يعيشانها، بدأ ذهابهما إلى السباق يكون منتظمًا، وبدأ أيضًا جلوسهما إلى مائدة القمار يكون يوميًّا.

ويحدث ما لا يتوقعه أحد؛ تحاول راوية أن تمنع زوجها من اللعب، فإذا هي ولأول مرة تواجه من عدلي عصيانًا.

كيف استطاع أن يعصي؟ لم يكن القمار قد تمكَّن منه إلى درجة الإدمان، ولكنه أحسَّ فجأة أنه يجب أن يعصي. ويحدث شيءٌ آخر لا يتوقعه أحد؛ لقد بدأ عدلي يتوارى بقبحه في جمال عزت، ويبحث عن النساء ويحاول أن يتعرف بهن، فإن رفضته واحدة لا تطيق قبحه قبلته أخرى يغريها ماله.

ليس لعزت زوج ولا ولد رسمي؛ فهو حرٌّ يفعل بماله ما يريد، أما عدلي فله ابنته وله زوجته، إن ذهب عنه هذا المال فأي مصير يمكن أن ينتظرهما أو ينتظرانه؟

أصبحت راوية تنظر إلى الحياة في هلع، وأصبحت فجأة تتمنى أن تعود إلى حياة الملالة، ولكن ما زال هناك أمل يمكن أن تلجأ إليه. وما لها لا تحاول؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤