الفصل الثامن عشر

حين أُعلن قانون الإصلاح الزراعي كان راشد باشا قد لقي ربه، فلم يتح له أن يشهد نتيجة تصرفه الذي استبدل الأرض فيه بالعقارات، ولكن أسامة قرأ الفاتحة على روح أبيه شاكرًا له ما صنع؛ فقد استطاع أن ينجو به من الاستيلاء على أمواله.

أما يحيى فقد كان يملك أرضًا كثيرة، وكان قد أنجب ولديه باسل وشهاب، وكان من الطبيعي أن يبحث عن محامٍ ليقوم له بعمل الإقرارات. ولكن قبل أن يبحث كان حامد عبد البديع بين يديه.

– سعادة البك النسب له حقوق.

– طبعًا.

– بمجرد نشر القانون جئت لأقوم عنك بعمل اللازم.

– ألف شكر. فكرت أن أتصل بك ولكن مسألة الأتعاب جعلتني …

– مسألة ماذا؟

– وهذا ما كانت أخشاه.

– لا تقل هذا الكلام يا سعادة البك. عيب، لا يصح.

– إذا لم تأخذ أتعابك فاسمح لي، لن أستطيع أن أوكلك.

– وهل بيننا أتعاب؟ إنما بيننا نسب.

– هذا لا يمنع هذا.

– وماذا يقول أخي، وماذا تقول بنت أخي سعادتك هالة؟

– لن يعرف أحد منهم شيئًا.

– على كل حال هذه مسألة نتكلم فيها فيما بعدُ.

– وهو كذلك.

– كم فدانًا عند سعادتك؟

– ما يقرب من ستمائة وستين.

– كل هذا!

– نعم، فقد اشترى أبي أرضًا كثيرة.

– وكم عمارة؟

– هل القانون ذكر شيئًا عن العمارات؟

– لم يعد شيء مؤكدًا.

– عندي ست عمارات.

– العمارات تكتبها سيادتك باسم باسل وشهاب.

– وأظن أكتب لكلٍّ منهما خمسين فدانًا.

– طبعًا، ولكن الأرض الزائدة لها عندي ترتيبٌ آخر.

– ماذا؟

– ليس من المعقول أن تسلمهم ثلاثمائة وستين فدانًا.

– وماذا يمكن أن أفعل؟

– القانون أتاح لنا شهرًا للبيع.

– نعم.

– أنا — إذا سمحت — سأذهب إلى العزبة وأبيع بقدر الإمكان.

– لا بأس.

– غدًا تكتب لي توكيلًا.

– وهو كذلك.

– والباقي بعد البيع سأتصرف في شأنه.

– ماذا؟!

– سأتصرف في شأنه.

– ماذا تعني؟

– أعني أنك لن تسلم فدانًا واحدًا للحكومة.

– ماذا تعني؟

– يحيى بك، هل سعادتك محامٍ؟

– لا.

– إذن اتركنا نشوف شغلنا.

•••

كان وجدي جالسًا في بيته وحوله جماعته، عجيبة؛ كيف عرفهم ومتى عرفهم. هذه هي عبقرية وجدي وعبقرية ناهد.

وكانت ناهد فكري تزين الجلسة ومعها الراقصة الذائعة الصيت سوسن، وما أظنني بحاجة إلى أن أذكر اسم والد سوسن؛ فشهرتها قامت باسمها وحده دون اسم السيد والدها، وعلى كل حال فاسم أبيها إذا قالته لن يكون الاسم الحقيقي؛ فليس من المعقول أن تقول إن اسم أبيها هو عبد الدايم، وما دامت قد غيرت اسمها الأصلي الذي كان شلبية؛ فقد كان لا بد لها أن تبحث لعبد الدايم عن اسمٍ آخر يضرب إلى التركية أو إلى الأرستقراطية، وعلى كل حال هي في غير حاجةٍ إلى هذا البحث. والذين يلتفُّون حولها لا يعنون في قليل أو كثير باسم أبيها، فما دامت هي بهذا الجمال وهذه الرشاقة، وما دامت تستطيع دائمًا أن تضحك هذه الضحكة ذات الصليل؛ فهي في غير حاجة إلى أبٍ على الإطلاق.

في بيت وجدي الكئوس تدور حتى لقد أصاب الكئوسَ نفسها دوار من الخمر أو التنقل. لا يهم.

وتلفُّ أيضًا على المدعوين غابة ينفذ من خلالها الدخان المخدور، والغابة لا تكف عن الدوران.

يعدها لهم فتًى توسط حلقتهم، إن أنعمت فيه النظر، وأنت محتاج إلى إنعام النظر؛ فالدخان ضبابٌ كثيف، والرؤية ليست ميسورة وما هم في حاجة إلى رؤيةٍ ميسورة، ولكن أنت لا بد لك أن تنعم النظر، فإذا فعلت وجدت الفتى الجالس الذي يعد المخدر هو جابر عبد البديع! أتذكره؟ ما إخالك إلا تذكره؛ إنه زوج هالة وهو هو نفسه أخو حامد.

•••

باع حامد من أرض يحيى تسعين فدانًا وكان القانون يبيح للأسرة ثلاثمائة فدان، فكان لا بد أن يستولي الإصلاح الزراعي على مائتين وسبعين فدانًا.

– إذن نسلم الأرض.

– يحيى بك، أهذا كلام؟

– وهل هناك كلامٌ آخر؟

– هذا شغلي أنا.

– وهل هناك شغل أيضًا فيما يفرضه القانون؟

– القانون صديقي، وأنا أعرف كيف أتصرف معه.

– حتى القانون أصبح صديقك.

– مؤكد.

– كيف؟

– من الذي يطبق القانون؟

– القضاة.

– هذا في القضايا العادية، أما في الإصلاح الزراعي فهناك جهاتٌ كثيرة قبل أن نسمع كلمة القضاء هذه.

– آه فهمت.

– ومن يفهم إذا لم يفهم يحيى بك؟

– إذن نتفق على الأتعاب.

– أنت مُصرٌّ على تسميتها أتعابًا.

– سمِّها أنت كيف تشاء.

أحب أن أسمِّيها هدايا.

– لتكن إذن هدايا.

– كم أهديتني عن الأرض التي بعتها عنك؟

– ثلاثون جنيهًا عن الفدان.

– ستكون الهدية في هذه الفدادين.

وقبل أن يكمل جملته دخلت بهيرة: أتعملان؟

– نعم.

– إذن أترككم.

– وهل هناك عمل يخفى عليك، تفضلي يا بهيرة هانم.

– وهو كذلك.

وقال يحيى: لم تقل هدية الفدادين الباقية.

– أقولها لك غدًا في التليفون.

– كنتَ على وشك قولها.

– لم أكن أنوي أن أقول الرقم.

– فماذا كنت تنوي أن تقول؟

– كنت سأقول إننا سنجعلها هديةً واحدة لكل الأرض مرةً واحدة.

– لا بأس.

– ولن آخذ شيئًا إلا بعد أن تطمئن إلى قبول التصرف من الجهات المختصَّة.

– موافق.

•••

حين دق جرس التليفون ردَّت بهيرة: بهيرة هانم؟

– أنا.

– أنا حامد عبد البديع.

– مرحبًا يا أستاذ.

– أنا سعيد الحظ جدًّا.

– كذا!

– وهل في هذا شك؟

– شكٌّ كبير.

– لماذا لا قدر الله؟

– بالأمس أنهيت الحديث بمجرد دخولي.

– وهل تهمك هذه الأعمال؟

– أليست أعمال زوجي؟ يا أستاذ حامد زوجي لا يُخفي عنِّي شيئًا أبدًا.

– وهل معقول أن شخصًا له زوجة مثلك يخفي عنها شيئًا؟

– أهذا رأيك؟

– هذا جزء من رأيي يا أفندم.

– الجزء الأول؟

– لا، هذا الجزء العشرون والأخير.

– وماذا عن الجزء الأول؟

– الجزء الأول خاص بالجمال والأنوثة.

– كفى كفى!

– حضرتك التي سألت يا أفندم.

– من معك؟

– وهل معقول أن يكون أحد معي وأنا أتكلم عن هذه الأجزاء؟

– متى سنراك؟

– أمرك.

– الليلة.

– تحت أمرك.

– يحيى بك موجود؟

– أيهمك وجوده؟

– المهم وجود حضرتك.

– الساعة السادسة اليوم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤