الفصل الثالث

لو كان المتزوج أحدًا آخر غير راشد، لكان من الطبيعي أن يكون شهر العسل في مصر، ولكن راشد يحب أن يذهب إلى أوروبا، ويحب أن يبهر زوجته بالحياة الباذخة التي يعيشها، والفتاة على ثقافتها في بواكير العمر ومطالع الحياة، فهي بُرعم يريده راشد أن يتفتح على يديه، وهو صاحب الخبرة الواسعة عن الورود التي لا تعرف الذبول، ولا يدركها ما يدرك الورود من شُحوب.

يريدها امرأة كاملة المعالم يدعو إلى بيتها كبارَ الناس، فيبهرهم من بيته غِنًى وافر يصاحبه الذوق الرفيع، وهو يعلم منها أنها في بيت أبيها كانت تهتم بالكتاب، ولكنه أيضًا كان يقدِّر أن التي تهتم بالكتاب تستطيع أن تهتم بكل شيء، وهو يريدها في حجرة نومه امرأةً ناضجة خبيرة عالمة بما يرضيه، ويطمئن غرور الرجل فيه ونزوته في وقت معًا.

وهو يريدها إذا ذهبت لمجتمع من النساء أوقعت في نفوسهن الحسرة والغيرة أو الإعجاب والإكبار، ويريد منها أن تكون أنموذجًا للأناقة.

طرازٌ عجيبٌ راشد، فهو قد نال من التعليم المنتظم قدرًا ربما اعتبره البعض ضئيلًا، وخرج بعد ذلك إلى الحياة، فإذا هو يُصاحب الحياة صحبة عميقة لصيقة، ويُوغل فيها إيغالًا رفيقًا في بعض الأحيان، وفيه عنف شديد في بعضٍ آخر من الأحيان، عرف الناس في كل متَّجه من متجهات الحياة، ودرس من القانون ما يعنيه من القانون، فإذا هو يفوق عُتاة المحامين ومشاهيرهم، وضارب في بورصة الأوراق المالية والقطن فانسكب عليه المال يزيده غِنًى، وأصبح راشد شخصية مرموقة في المجتمع المصري تضطر الأنظار أن تلتفت إليه، فلم يكن التعليم المنتظم هو المصدر الوحيد للثقافة في ذلك الحين، بل إن المحامين كانوا يعملون بغير شهادةٍ من الحقوق في ذلك الزمان. وقد اختار راشد من الثقافة ما يرى أنه يحتاج إليه؛ ولهذا لم يكن عجيبًا أن يُتقن الفرنسية، لا ليقرأ بها كورني وراسين، وإنما ليقرأ بها العقود وليضارب بها في البورصة، وليجتذب بها الأصدقاء من الفرنسيين، وتعلم الإنجليزية وأتقنها، ولكن شكسبير وملتن وهاردي وديكنز كانوا لا يعنون عنده شيئًا إلا أسماء يردِّدها على مسمع الإنجليز الذين يتعرف عليهم.

قد كان نوع الثقافة التي يتمتع بها راشد من فصيلة أخرى بعيدةً كلَّ البُعد عن تلك الثقافة التي أتقنتها خديجة، حتى لنستطيع القول في ثقة إنه من الطبيعي أن كلًّا منهما كان يعتبر الآخر غيرَ مثقف.

وراشد يعتبر الحياة عملًا ومتعة، وهو يمازج بينهما في مقدرةٍ بارعة، فلم يكن عجيبًا أن يصحب زوجته إلى باريس. كان راشد يريد أن يستغني بزوجته عن كل نساء العالمين؛ ولهذا كان يريد فيها كل نساء العالمين.

لم تكن خديجة تتصور أن ترى هذا الذي رأته في فرنسا، وكان أبعد شيءٍ عن ذهنها أن ترى هذا الذي رأته مع زوجها بالذات؛ فالأيام القليلة التي قضتها معه في بيته في مصر طالعتها منه مهابةٌ لم ترَ في حياتها رجلًا يتمتع بها، فحديثه أَمرٌ وإن تسربل بالرجاء، ورأيه نهائي وإن تزيَّا بالتواضع، نوع من المهابة لا يعرفه إلا صاحب الموهبة الكبيرة التي تجعل صاحبها كبيرًا.

وفي الباخرة إلى باريس: تعرفين أنني عِشت سنوات بلا زواج؟

– نعم.

– كان طبيعيًّا أن أعرف نساء أُخريات.

– ما دام قبل الزواج، فهذا شأنك.

– طبعًا أنا لا أستأذن منك عن شيء صنعتُه في الماضي.

– فلماذا تخبرني؟

– لا أريد أن أُخفي عنك أولئك اللواتي عرفتهن في فرنسا.

– أتريدهن أن يكنَّ صديقاتٍ لك وأنت متزوج؟

– اسمعي يا خديجة، أنا في صداقاتي الفرنسية لم أكن أعرف إلا فتياتِ الملاهي.

– إذن؟

– أنا أريد منهن أن يكنَّ تسليتَك في فرنسا.

– إذن؟

– سنذهب إلى الأماكن التي يرقصن فيها، وسيُقْبلن عليَّ وقد يقبِّلْنَني.

– يقبِّلْنك؟!

– وماذا يهمك؟

– لا أريد.

– كنت أستطيع أن أخفي عنك هذا، وأذهب بك إلى أماكن أخرى، وأزورهن دون علمك؟

– لا بأس، فلنذهب إليهن.

– سيصبحن أداةَ تسلية لك.

– أنت عندي الآن كل نساء العالم، وستجدين أنت عندي كل نساء العالم، وأنا لا أحب أن أعِد بأشياء سأنفذها، فإني أحب أن يكون التنفيذ هو الوعد، وتحقيقه في وقت معًا.

وكان عند الوعد والتنفيذ.

ورأت فرنسا، رأت منها باريس وغير باريس.

كانت في خيالها مسرح أحداث الروايات، ومعاني حب، وحدائق هوًى، ونسمات قصص لبلزاك ودوديه وفلوبير وغيرهم، وكانت في أنحاء خيالها رؤًى مُجنحة لا يحيط بها تعريف واضح، كانت تبدو في خفي الوعي منها أحلامًا يشملها ضَباب فهي بلا وضوح، وتكسوها أستار شفيفة فهي في نفسها عميقة ولكن بلا معالم، موجودة ولكن بلا تثبت، سماوية أحيانًا لعوبًا أحيانًا أخرى، أو أرضية مسرفة في عمق الواقع لما صنعه بها زولا وفلوبير وستندال والآباء الأوائل للواقعية الوليدة.

ثم رأتها وغاص بها زوجها في عميق حناياها، فازداد في عينيها جمالها ولم ترفض نفسها فيها، فهي واقعيةٌ إن أسرفت في الفجور، فهي تُعنى في الوقت نفسه بتجميل هذا الفجور حتى يصبح نوعًا من المتع البشرية التي تلتئم مع طبيعة الحياة في باريس، لا ترفضها باريس ولا من يزور باريس، حتى إذا خرجت عن باريسها هذه أصبحت تهتكًا تعافُه النفس وترفضه وتحتقر كل من يلمُّ به.

رأت الغواني اللاتي كنَّ صويحبات زوجها، وقبَّلن زوجها أمامها، فلم تحس لذعةَ غيرةٍ في قُبلهن.

لم تحس أن اللواتي يقبِّلْنه نسوة عرفهن، وإنما أحسَّت أن ماضيه هو الذي يُقبِّله. وكانت قد بدأت تحب زوجها، فهي تحب أن يرضَى عنه ماضيه كما يرضى عنه حاضره، وكما ترجو أن يرضى عنه مستقبله.

والغريب أن فتاة منهن طلبت أن تجلس معها في جلسة خاصة، كانت قد أحسَّت من لقاء هذه الفتاة بزوجها أنها أقربهن إليه.

وقالت لها الفتاة عجبًا: أنت زوجته؟

– نعم.

– حقًّا؟

– وأي عجيب في ذلك؟

– أردت أن أتأكَّد.

– أنا زوجته.

– أتعرفين كيف يظل زوجك؟

– أعرف كيف أُخلص له.

– هل أنت سخيفةٌ إلى هذا الحد؟

– هل الإخلاص سُخف؟

– الإخلاص مفروض لا يحتاج الرجل أن يُكافئ زوجته عليه.

– ماذا؟

– طبعًا أنت مندهشة أن تسمعي هذا الكلام منِّي.

– لا، أبدًا.

– بل أنت مندهشة.

– لنفرض.

– اسمعي، لقد كنت فتاة زوجك فترةً من الفترات.

– ربما أدركت ذلك من لقائِك به.

– إن ما نصنعه في الكباريه ليس هو الحب، إننا حين نحب لا نهَبُ هذا الحب إلا لواحد، وكان زوجك يغيب عني فترات قد تصل إلى سنة، ومع ذلك لم أكن أهب حُبِّي لأحد طوال فترة غيابه.

– ولكن؟!

– إن ما نهبه للزبائن إنما هي أجسامنا فقط، افهمي ما أقول، أنا أتكلم عن الحب.

– متى كان هذا؟

– لم تتغلب عليَّ واحدة من زميلاتي، أنت فقط التي تغلبت عليَّ.

– أتكرهينني؟

– لم يكن من الممكن أن يتزوجني، فهو شَرقيٌّ وأنا أعرف ظروفه.

– أشكرك.

– أتعرفين كيف تحافظين عليه؟

– ربما.

– إن لم تكن لك بضاعة إلَّا الإخلاص، فأغلب الأمر أنني سأستقبله قبل أن تمرَّ على زواجكما بضعة أشهر.

– الواقع أن هذه هي البضاعة الوحيدة التي أعرفها.

– إذن فسأعلمك.

وعلمتها.

لقد رأت باريس، وتعلمت في أهم جامعات الحياة على أعظم أساتذة الحب والمتعة ومعرفة الرجال.

ولم يكن ما رأته من باريس وحدها هو حصيلة علمها، إنما ما رأته من زوجها كان أعظم، هذا الرجل المهيب الذي سمِعت عنه في فترة الخطبة أن رجال المال العُتاة لا يخشون أحدًا في البورصة قدر خشيتهم منه، هذا الرجل الذي استطاع بهيبته الذكية الخارقة الذكاء أن يجعل حمزة البلاشوني، وكيل أعماله في الدائرة الزراعية، رجلًا في غاية الأمانة، كان هذا الوكيل كما سمعت عنه يقول إن الإنسان حين يسرق أي صاحب مالٍ يعرف أنه قد يُفصل من عمله، فإن كان صاحب المال قاسيًا غاية في القسوة فقد يذهب به إلى السجن، أما مع راشد بك فلا يعرف أي مصيرٍ ينتظره، فهو خليقٌ أن يصنع به كل ما لا يتوقَّعُه أحد.

راشد هذا ينكشف في ملاهي باريس عن هذا الشخص الذي يستطيع في مقدرة فائقة أن يجعل كل لحظةٍ معه متعة، حتى يصبح الجالسون والجالسات جميعهم وجميعهن مغمورين في فترة من الحياة مليئة بالحياة، تلفُّهم سعادة غامرة تزلزل أعماق أعماقهم، فيزداد غوصهم في لحظاتهم، لا يريد أحد منهم أن يفكر فيما كان يصنع بأمسه أو فيما قد يصنعه به غده، وراشد هو روح هذه الغمرة الطاغية من الإمتاع وهو الينبوع أو هو إن شئت الشلَّال الهادر بالإسعاد، وهو في الوقت نفسه يستطيع أن يجعل كل فردٍ من الموجودين يعتقد أنه هو لا راشد سبب هذه السعادة وهذا الإمتاع. كيف استطاع هذا الرجل المهيب أن يكون خبير متعة لا يُدانيه في خبرته المتخصصات من فتيات الملاهي في باريس أو أصحابهن؟

وتومض في ذهن خديجة فكرة تعمل فيها النظر، وتوشك أن تؤمن بها: إن معرفة الإنسان كيف يكون سعيدًا، وكيف يعتصر لحظات السعادة اعتصارًا لا يُبقي من رحيقها على قطرة، موهبة لا تتأتى إلا لعبقري يعرف كيف يعيش، ويعرف من مسالك الحياة في جدِّها ولهوِها ما لا يعرفه أبناء الحياة مجتمعين.

والذي لا تعرفه خديجة أن راشدًا ترك في مصر مشكلة يضيق بها أشدَّ الضيق تهدر قدرًا من ماله، ولكنه مع ذلك أقنع نفسه بأنها مسألةٌ هينة ميسورة، وأنها لا تستحق حتى أن يؤخر سفره من أجلها.

لقد اغتاله صديق له في عشرة آلاف جنيه.

والذي لا تعرفه أيضًا أن سبب اغتيال صديقه لهذا المبلغ هو زواجه منها، ومعرفته لسيدة من سيدات مصر لها أهمية كبرى في المجتمع المصري، والذي لا تعرفه أيضًا أنه فُجع في صديقه وفي ثقته به فجيعةً إن لم تَزد على فجيعة المال، فهي تستوي معها.

ولكن أهذا الحديث يناسب لحظات المتعة التي يعتصرها راشد، ويسقيها صِرفًا غير مشوبةٍ لزوجته الحبيبة خديجة؟ سننسى كل هذا الذي يضيق به راشد، ونتيح له ما أتاحه لنفسه من شهور صاخبات بالهناءة في ربوع فرنسا جميعًا.

وعرفت خديجة عن زوجها شيئًا لم تكن تتوقَّع أنه يتخلق به، فهو لا يلعب القمار مطلقًا، قد يشرب مع الشاربين، ولكنه لا يقرب مائدة القمار.

– ولكنك تضارب في البورصة.

– البورصة خبرة وبُعد نظر مالي، ولا يُصاب فيها الإنسان إلا إذا حدثت أشياء لم تكن في الحسبان، ولكن القمار تسليم أموالي كاملة ليدٍ غير أمينة ولا مخلصة ولا صديق لها، وهي أيدي الحظ. أنا لا أقبل هذا لكرامتي ولا لثقافتي ولا لعقلي.

– فهل المقامرون جميعهم أغبياء؟

– بل إن كثيرًا منهم أذكياء.

– فما لهم يقامرون؟

– لقد أخطئوا الطريق إلى المتعة، فتلمَّسوها على مائدة القمار، أما أنا …

– لا تكمل، لقد رأيت، نعم إن أحدًا لا يعرف طرق المتعة كما تعرفها أنت.

– ولكن هناك شيئًا لم أقُلْه.

– وهو؟

– وهو أنني مع كل هذه المتع ظلِلت مخلصًا لك، لا أهب نفسي إلَّا لك.

– وهذا حق أيضًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤