التصوف والفلسفة

من بين الأساليب المتعدِّدة التي حاولت الإنسانية أن تُشبع بها رغبتها في معرفة «الحقيقة» أسلوبان هامان لا يزالان يتنازعان قصب السبق في مضمار الحياة الروحية وما يكتنفها من أسرار، وهما أسلوبا الفلسفة والتصوف.

وإذا كان غرضُنا أن نرسم صورة لمعراج النفس نحو هدفها الأعلى ونبين — على الأقل — بعض الطرق التي سلكها روَّاد الحقيقة للوصول إليها، كان لزامًا علينا أن نوضح الفروق الجوهرية التي يتميَّز بها كلٌّ من التصوف والفلسفة، والوسائل التي اصطنعاها في الوصول إلى غايتهما المشتركة، والأدوات النفسية التي اتخذاها عمادًا لهما في تحقيق غرضهما، ثم نُقدِّر بعد كل هذا النتائج التي حصَّلها الفلاسفة والصوفية بهذه الأدوات والوسائل ليتبين لنا مدى قرب كلٍّ من الفريقين أو بُعده من الهدف الذي نصب نفسه للوصول إليه، ولكن هذه مسائل يحتاج تفصيلها إلى كتاب برمته؛ ولهذا سنلجأ في عرضها هنا إلى الإيجاز وسنقصر همنا على معالجة النواحي التي تكفي في بيان أن المعراج الروحي الحقيقي إلى عالم الحقيقة هو المعراج الصوفي لا الفلسفي.

التصوُّف في جوهره «حالٌ» أو «تجربةٌ روحيةٌ» خاصةٌ يعانيها الصوفي، ولتلك الحال من الصفات والخصائص ما يكفي في تمييزها عن غيرها مما تعانيه النفس الإنسانية من أحوال أخرى، وفي هذا القدر وحده ما يكفي للقول بأن التصوف ليس فلسفة إذا قصدنا بالفلسفة البحث العقلي النظري في طبيعة الوجود بقصد الوصول إلى نظرية عامة خالية من التناقض عن حقيقته أو حقيقة أي جزء من أجزائه، وليس للصوفي — من حيث هو صوفي — أن يتفلسف بأن يتخذ من تجربته الروحية أساسًا لنظرية ميتافيزيقية في طبيعة الوجود؛ لأن النظرية الميتافيزيقية «دعوى» يقال لها إنها صادقة أو كاذبة ويطالب صاحبها بالدليل على صدقها وسلامتها من التناقُض، فينبغي ألا يكون أساسها «تجربة» شخصية أو «حالًا» معينة يعانيها فرد بعينه؛ لأن مثل هذه الحال لا يقال فيها إنها صادقة أو كاذبة ولا يطالب صاحبها بإقامة الدليل عليها، بل الناس في أمره بين شيئين؛ إما أن يُصدِّقُوا ما يخبرهم به أو يضربوا بكلامه عرض الحائط.

ولكن بعض الفلاسفة كانوا متصوِّفة أيضًا كأفلاطون وأفلوطين من القدماء وأسبنوزا من المُحدَثين، وبعض الصوفية كابن عربي والسهروردي الحلبي وابن سبعين، هل نذهب في تعليل ذلك إلى ما ذهب إليه بعض النقاد من أن أمثال هؤلاء الفلاسفة المتصوِّفين والصوفية المتفلسفين كان لهم بالفطرة «مزاج أفلاطوني»: أي مزاج فلسفي شعري، وأن تصوفهم كان نتيجةً لتفاعل ذلك المزاج مع الدين؟ أم نذهب إلى عكس ذلك؛ أي إلى أن مزاجهم — مزاجهم الأفلاطوني — كان نتيجةً للتفاعل بين نزعتين فيهم؛ إحداهما عقلية والأخرى صوفية؛ وعلى الرأي الأول يكون تصوفهم نتيجةً لعملٍ فلسفيٍّ خاص في الدين، وهو المزاج الذي يُسمُّونه بالمزاج الأفلاطوني، وعلى الثاني تكون فلسفة المتصوفة نتيجةً لمُحاوَلة العقل تفسير التجربة الصوفية وما تكشفه لصاحبها من الحقائق، ويلزم من هذا أن التجربة الصوفية سابقة في وجودها على حركة العقل التفسيرية هذه، ونحن أميل إلى الأخذ بالرأي الثاني؛ لأنه تؤيده الوقائع التاريخية المستخلصة من حياة الصوفية أنفسهم: وضع أفلوطين فلسفة عقلية أولًا، فلما تصوف تجاوز حدود هذه الفلسفة وحاوَلَ أن يُخضِع فلسفته لتصوفه لا تصوفه لفلسفته؛ أي حاول أن يجعل من تصوفه تأييدًا لفلسفته ومن فلسفته تفسيرًا لما شاهده في «حاله»، وكذلك فعل ابن عربي، وكذلك رأى الغزالي أن «العلم» وحده لا يجعل من العالم صوفيًّا، وأن جميع ما حصله من العلوم — بما في ذلك علم التصوف نفسه — لا يغني فتيلًا في تحصيل حالات الصوفية والوصول إلى معارفهم، وأنه — لكي يتذوَّق مذاق القوم — لا بد أن يسلك طريقهم ويجاهد مجاهداتهم، وفي هذا يقول في الصوفية بعد أن درس كتبهم ووقف على أقوالهم:
وظهر لي أن أخص خواصهم ما لا يُمكن الوصول إليه بالتعلم، بل بالذوق والحال وتبدل الصفات، فكم من الفرق بين أن يعلم «الإنسان» حال الصحة وحد الشبع وأسبابهما وشروطهما، وبين أن يكون صحيحًا وشبعان، وبين أن يعرف حد السكر وبين أن يكون سكران. فكذلك فرق بين أن تعرف حقيقة الزهد وشروطه وأسبابه، وبين أن يكون حالك الزهد وعزوف النفس عن الدنيا. فعلمت يقينًا أنهم (أي الصوفية) أرباب أحوال لا أصحاب أقوال، وأن ما يُمكن تحصيله بطريق العلم فقد حصَّلت ولم يبق إلا ما لا سبيل إليه بالسماع وبالعلم، بل بالذوق والسلوك.١

هذه شهادة صريحة من الغزالي بأن التصوف في صميمه «تجربة روحية» وأنه شيء مختلف تمام الاختلاف عن العلم وعن الفلسفة: لا يُكتسَب بهما ولا يستند إليهما، وأنه ليس نتيجةً لعمل مزاج فلسفي خاص في المسائل الدينية؛ أي ليس وليدًا لعمل عقل ذي مزاج فلسفي خاص هو «المزاج الأفلاطوني» على حد تعبيرهم، بل هو وليد العمل والمجاهدة النفسية، أو السلوك المرسوم في الطريق الصوفي. فإذا كان للصوفي فلسفة كانت هذه الفلسفة تأييدًا لمشاهداته الصوفية وتجاربه وليست شيئًا مستقلًّا عنها. هذا إذن فرق جوهري وأساسي بين طبيعة التصوف وطبيعة الفلسفة من حيث هما طريقان لمعرفة الوجود المطلق أو الوجود الحق. هذا عالم وذلك عالم آخر. التصوف تجربة تتجه فيها «الإرادة» الإنسانية نحو موضوعها الذي تتعشَّقه وتفنى فيه، فتعرفه النفس عن طريق الاتحاد به معرفةً ذوقيةً كما سبق أن قلنا، وكما سنوضحه في الفصل الذي عقدناه في المعرفة الصوفية. فالصوفي يعرف «المطلق» اللامتناهي بقدر ما يتجلى له ذلك المطلق في قلبه، ومعرفته له وشهوده إياه واتحاده به شيء واحد، أو هي تعبيرات مختلفة عن حقيقة واحدة. أما الفلسفة فعمل من أعمال العقل المقيَّد بمقولاته، العاجز عن أن يتحرَّر من الحبالات التي نصبها حول نفسه؛ ليتخبط فيها ولا يرى لنفسه خلاصًا منها. يحاول الفيلسوف إدراك اللامتناهي بأدوات لا تعرف إلا المقيد المتناهي، ويطبق مقولات هذا العالم على عالم ليس من طبيعته الخضوع لهذه المقولات. هذا هو السر في فشل «ما بعد الطبيعة» كما أدركه الفيلسوف «كانت».

•••

يَنفرد التصوُّف من بين جميع الأساليب التي حاوَل الإنسان أن يُشبع بها رغبته في معرفة الحقيقة بأنه لا يَفترض وجود «حقيقة مُطلَقة» وحسب، بل حقيقة مُطلَقة يُمكن معرفتها والاتصال بها، فهو ينكر أن المعرفة الإنسانية قاصرة على معطيات الحس أو على نتائج أساليب الفكر، أو على تكشف ما ينطوي عليه العقل من معلومات، فإن هذا تحديد لمدى النشاط الروحي عند الإنسان، وتخطيط ناقص لميدان الحياة الروحية؛ ولهذا وجب أن نتلمَّس معنى التصوف في حياة الصوفية لا في منطقهم، في ذلك القبس الإلهي الذي يُنير صدورهم، وفي ذلك الشهود الذي يتحدَّثون عنه والمعرفة التي يتذوَّقونها: لا أقول التي يُدركونها عقلًا أو التي يستطيعون التعبير عنها، فإن الإدراك العقلي والقُدرة على التعبير من أعمال العقل، ونحن بإزاء أمور فوق طور العقل.

في الحياة الصوفية وحدها يعرف الصوفي الحقيقية الوجودية في ذاتها، كما يعرف صلته بها؛ لأنه يحمل قبسًا من نورها في قلبه، وشبيه الشيء منجذب إليه، والفرع دائم الحنين إلى أصله، وبينما يهيم الفيلسوف في ميدان العقل لا يبرحه، يتجاوز الصوفي ميدان العقل إلى ميدان الوجدان والإرادة أو ميدان الحرية المطلَقة، وبينما يظلُّ الأول يدور في دائرته المغلَقة يناقش ويجادل ويعترض ويفترض، ولا يصل — إن وصل — إلا إلى فكرة عن الحقيقة لا حياة فيها ولا روح، حقيقة صورية محضة لا تتَّصل بنفسه بصلة، يحيا الثاني حياة روحية خصبة يشعر فيها بالسعادة العُظمى، لا من جراء معرفته بالحقيقة فحسب، بل من أجل اتصاله بها وشعوره بالاتحاد معها، وهنا ينطق بلغته الخاصة محاولًا التعبير عما في نفسه، وإن كان أكثر ما يَنطق به من قبيل الرمز الحائر والأسلوب الغامض الذي لا يفهمه إلا من تذوَّقَ أحواله، وفي هذا يقول قائلهم في لهجة المطمئن الواثق: «ذق مذاق القوم ثم انظر ماذا ترى. إن علومنا ذوقية محضة وعلينا أن ندلك على الطريق وليس علينا إدراك النتائج. قد أتيناك فاعلين لا قائلين ولا مفكرين، فدع عنك ثقتك العمياء في الحس والعقل ودع عنك غفلتك، واعلم أن الفلسفة إن علَّمتْك شيئًا فقد علمتك نهاية الشوط الذي تستطيع أن تجري فيه في ميدان العقل، ولكنها لا تخبرك بشيء عن الميادين الأخرى التي في استطاعتك أن تجري فيها.» هذا تعبير آخر عن نفس المعاني التي ضمنها الغزالي عبارته التي اقتبسناها آنفًا.

١  المنقذ من الضلال، ٢٦-٢٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤