أدوار التصوف ومدارسه

مرَّ التصوف — إذا استعملنا هذه الكلمة بأوسع معانيها — بأدوارٍ مختلفة مُتمايزة لكلٍّ منها مميزاته وخصائصه، بل يكاد يكون لكلٍّ منها زمن معيَّن ظهر فيه، وقد ذكرنا أن اسم «الصوفي» لم يظهر ولم يَشِع استعمالُه قبل المائتين، والحقيقة أنه لم يُوجد إلى ذلك العهد شيء يَنطبق عليه وصف «التصوف» بمعناه الدقيق؛ أي الحياة الروحية المنظَّمة ذات الأحوال والمقامات والمواجد والأذواق والإشراق، وإنما الذي وُجد هو الزهد. فلو فهمنا التصوف بمعناه العام، اعتبرنا الزهد أول دور من أدواره، ولم يكن الصوفي في هذا الدور يعرف باسم الصوفي، بل كان يطلق عليه اسم الزاهد أو العابد أو الفقير أو الناسك أو القارئ، والقراء اسمٌ قديمٌ للزهاد.١ ولم يكن لهذه الألفاظ معنًى زائد على شدة العناية بأمر الدين ومراعاة أحكام الشريعة، والفقر والزهد في الدنيا بعض مظاهر ذلك.

فأساس الزهد في العصر الأول كان الفقر وإنكار الذات وهجر الدنيا، أو على الأقل تحقيرها، مع مراعاة دقيقة لآداب الشريعة وأوامرها، وبهذا المعنى نستطيع أن نعدَّ النبي عليه السلام والصحابة والتابعين من الزُّهَّاد، وكان زهدهم من النوع البسيط الساذج الذي لا يعدو ما ذكرناه مع استِشعار شديد بالخوف من الله وعذابه، والرجاء في جنَّته وثوابه، والمبالغة في تقدير المعصية.

لم يكن الزهد في هذا العصر الإسلامي المبكِّر حركة من الحركات الدينية، ولا مذهبًا من المذاهب، ولا نظامًا جماعيًّا، بل كان نزعة فردية رائدها الدين وحده؛ القرآن وسنة الرسول، والظاهر أن المسلمين في هذا العصر كانوا مُنصرفين إلى الجهاد في سبيل الله ونشر دعوته أكثر من انصرافهم إلى حياة الزُّهد والاعتكاف، فإن الجهاد — وهو بذل النفس في سبيل الله — كان أكبر شرف يناله المسلم، وكان نظير الاستِشهاد عند المسيحيين.

وقد روي عن النبي أنه قال: «لكل نبي رهبانية، ورهبانية هذه الأمة الجهاد.» والظاهر من سِيَر بعض كبار المجاهدين في الإسلام أن الجهاد كان ينظر إليه بنفس النظرة التي نظر بها فيما بعد إلى الزهد، فإن كثيرًا من صفات الزهد والتقشُّف ونحوهما خُلعت على المجاهدين، ولكن سرعان ما تحول هذا الزهد البسيط إلى زهد عميق معقَّد، وأصبحت له حياة منظمة وقواعد وشروط وشيوخ؛ فقد ظهر بعد الزهاد الأوائل زهاد آخرون سموا أنفسهم بأسماء مختلفة: كالقُصاص والبكَّائين والوعاظ، وأصبح لهؤلاء حلقات يَعقدونها للوعظ والقصص والتعليم، صارت فيما بعد نواة لمدارس الزُّهاد التي بدأت تظهر بعد القرن الأول الهجري بقليل، وهنا أصبح الزهد حركة دينية واتجاهًا خاصًّا في الحياة، كما أصبح ظاهرة جماعية منظَّمة داخل صوامع وربط أشبه ما تكون بصوامع الرهبان المسيحيين وأديرتهم.

ومن مُميزات هذا الزهد الجديد المبالغة في ناحيتَين؛ الناحية التعبُّدية التي ظهرت في المبالغة في النوافل والذِّكر، والناحية الأخلاقية التي أهم مظاهرها «التوكُّل» الذي هو أساس الأخلاق الصوفية جميعها، كالزهد في الدنيا والاشتغال بالله وحده ومراعاته في كل فكر وعمل، وترك الكسب والتطبب، وعدم الاكتراث بحظوظ النفس ومدح الناس وذمهم.

وقد ظهر في هذه الحقبة من الزمن مدرسة المدينة ومدرستا البصرة والكوفة على التوالي.

أما في «المدينة» فقد كان الزهد الساذج الذي استمدَّ مادته وقوته من القرآن والحديث مباشرةً، وكان النبي وصحابته المثال الذي احتذاه زهاد المسلمين، وظلَّ الأمر على هذا النحو حتى بعد أن انتقلت قاعدة الخلافة من المدينة إلى دمشق زمن الأمويِّين، فإن أتقياء المسلمين الذين كانوا على مذهب السلف ظلُّوا مُستمسِكين بسلفيتهم، وقاوموا كل أثر يأتيهم من قبل بني أمية، سياسيًّا كان أو غير سياسي، وأبرز دليل على ذلك أبو ذر الغفاري المُتوفَّى سنة ٣٢ الذي قضى الشطر الأكبر الأكبر من حياته في مناهَضة بني أمية وأساليب حياتهم وحكمهم، والسخط على أغنياء عصره، داعيًا إلى حياة اشتراكية عادِلة في حدود الإسلام وتعاليمه، ومن كبار زُهَّاد هذه المدرسة أيضًا حذيفة بن اليمان الذي كان أول من تكلم في القلوب وآفاتها، ومنهم سلمان الفارسي، وأبو عبيدة بن الجراح، وعبد الله بن مسعود، والبراء بن مالك الذي قال فيه النبي : «رب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه به لو أقسم على الله لأبره، منهم البراء بن مالك.»

وفي «المدينة» نفسها ظهر من جيل التابعين سعيد بن المسيب المُتوفَّى سنة ٩٠، وكان كأبي ذر الغفاري من أكبر المناوئين لبني أمية.

أما مدرسة «البصرة» فكانت إلى جانبها الإسلامي متأثِّرةً إلى حدٍّ ما بثقافة الهند، لا سيما في الناحية العمَلية من التصوف حيث أخذ الصوفية بمبدأ تعذيب البدن بالصوم ونحوه لتطهير النفس والتخلُّص من آفاتها والصعود بها إلى عالمها العلوي، وفي «البصرة» بعد الصوفية عن الاشتغال بالسياسة وحاوَلُوا إقامة التصوف على أساسٍ عَقلي وديني معتمدين على الكتاب والسنة وسيرة الصحابة، وأبرز شخصية في هذه المدرسة الحسن البصري المُتوفَّى سنة ١١٠ﻫ.

وفي «الكوفة» ظهر التشيُّع لآل البيت، وقام الصوفية بدورٍ هامٍّ في السياسة، وسواء أكان أول من تسمى باسم الصوفي جابر بن حيان الشِّيعي، أو أبا هاشم الكوفي، فإن هذا الاسم ظهر أول ما ظهر في «الكوفة» التي كانت آرامية الثقافة مُتأثِّرة بالمذهب المانوي الذي ظهر في تصوُّف الكوفيين في مسألة الحب الإلهي، وقد كان للتشيُّع أثر غير قليل في تصوف مدرسة «الكوفة»، بل كان يُطلق على مذهب يكاد يكون شيعيًّا ظهر بها وكان آخر أئمته عبدك الصوفي الذي تُوفِّي في بغداد سنة ٢١٠، وكان من تعاليمه أن الدنيا حرامٌ كلها لا يحلُّ الأخذ منها إلا بالقوت، وكان لا يأكل اللحم، ويقول إنَّ الإمامة بالتعيين، ومن أشهر رجال هذه المدرسة: طاووس بن كيسان من أهل اليمن مات بمكة سنة ١٠٥ﻫ، وسعيد بن جبير الذي مات مقتولًا.

وقد كانت الثقافة الآرامية التي امتازت بها مدرسة الكوفة امتدادًا للفكر الفلسفي الشرقي الذي تكوَّن خلال القرون الستة الميلادية الأولى، مستمدًا مادته من الفكر اليوناني والفارسي؛ أي إنه كان مزيجًا من الفلسفة الأرسطية والطب والكيمياء اليونانيين والميتافيزيقا الفارسية، فلما نقلت هذه الثقافة إلى اللغة العربية أثرت في الوسط الإسلامي عن طريقين:
  • الأول: عن طريق تأثيرها في الفرق الشيعية المتطرفة، وبالتالي في الفكر الصوفي في ميدان البحوث الغنوصية.
  • الثاني: عن طريق تأثيرها في المتكلمين في البحوث الميتافيزيقية.
وقد ظهر في الكوفة جماعة عرفوا بالروحانيِّين، منهم حِبَّان الحريري وكليب، اللذان تُوفِّيا قبل المائتين، وعلى يدَيهما ظهر تحوُّل كبير في مدرسة الكوفة باتجاههما اتجاهًا إباحيًّا. لم يعتدَّا بظاهر الشرع؛ أي بأحكام الشرع التي تجري على الجوارح، واعتبرا الزهد شيئًا منافيًا لإشباع الحياة الروحية، ومن هنا جاءت الإباحية، غير أنها لم تكن إباحية مُطلَقة تمنح لكل إنسان، بل للواصِلين إلى نهاية السبق في طريق العبادة، ومن المأثور من أقوال هؤلاء الروحانيين قولهم: «إن العباد يَصِلُون بعبادتهم إلى منزلة هي غاية السبق من تضمير أنفسهم وحملها على المكروه. فإذا بلغت تلك الغاية، تُعطى ما تشتهي.»٢ وقد شاع في مذهب أهل الكوفة التجسيم، فأجاز أبو شعيب الكلال المُتوفَّى سنة ١٧٠ على الله الفرح والحزن والتعب والراحة والملالة والرؤية ونحو ذلك.٣

ومن «الكوفة» انتشر التصوف إلى ما وراء العراق، وبخاصة في إيران؛ حيث كانت المزدكية منتشرة قبل الإسلام، وفي إيران ظهرت مدارس صوفية متعدِّدة مُختلفة في اتجاهاتها النظرية والعمَلية سنَعرض لها بالتفصيل فيما بعد.

ولما أصبحت «بغداد» مركز الإسلام السياسي والثقافي، وضعف شأن التصوف في البصرة، وورثت بغداد التصوُّف البصري والمدني معًا، وضعت له أسسًا وقواعد؛ ولذا نجد في تصوف المدرسة البغدادية زهد أهل البصرة الذي كان متأثرًا بنظريات المعتزلة الكلامية، وزهد أهل المدينة الذي كان متأثِّرًا بالحديث، ومن أبرز من ظهر فيهم الأثر الأول الحارث بن أسد المحاسبي المُتوفَّى سنة ٢٤٣، في حين ظهر الأثر الثاني في أحمد بن حنبل المُتوفَّى سنة ٢٤١.

•••

وفي أخريات القرن الثاني الهجري تحوَّل الزهد إلى التصوف وولد في الإسلام علم جديد في مقابل علم الفقه، أو بعبارة أدق: انقسم علم الشريعة إلى قسمين؛ علم الفقه الذي يبحث في الأحكام التي تجري على الجوارح، وعلم التصوف الذي يبحث في باطن الشريعة وتفهُّم أسرارها، والنظر في العبادات وأثرها في النفوس وما يترتَّب عليها من أحوال نفسية وفوائد روحية، وكان بدء هذا التحول في البصرة التي كانت مركزًا للزهاد والمحاربين لاستعمال الطقوس الدينية والتقاليد، مُعتبِرين الزهد أمرًا باطنيًّا وصلةً روحيةً صرفةً بينهم وبين الله، مخالفين في ذلك أهل الشام الذين كانوا يُعظمون من شأن هذه الطقوس والتقاليد. يقول ابن تيمية في رسالة «الصوفية والفقراء»:٤
أول ما ظهرت الصوفية من البصرة، وأول من بنى دويرة الصوفية بعض أصحاب عبد الواحد بن زيد (المُتوفَّى سنة ١٧٧) من أصحاب الحسن (البصري)، وكان في البصرة من المبالغة في الزهد والعبادة والخوف ونحو ذلك ما لم يكن في سائر الأمصار؛ ولهذا كان يقال: «فقهٌ كوفيٌّ وعبادة بصرية.» وكأنما حدث رد فعل للحركة التي قام بها أهل الكوفة في البحث في الفقه والاجتهاد في مسائل القضاء والإمارة، فأراد أهل البصرة أن يتداركوا ما عدُّوه نقصًا في مسلك الكوفيين فاعتنَوا هم بأمور العبادات والأحوال، وفي هذا يقول ابن تيمية في نفس رسالته:٥ «إنَّ الأمور الصوفية التي فيها زيادة في العبادة والأحوال خرجت من البصرة، فافترق الناس في أمر هؤلاء الذين زادُوا في أحوال الزهد والورع والعبادة على ما عُرف من حال الصحابة، والحقيقة أنهم في هذه العبادات والأحوال مُجتهدُون، كما أن جيرانهم من أهل الكوفة مُجتهدُون في مسائل القضاء والإمارة.»

هنا تدرَّجَ التصوف من زهدٍ بسيط لا قواعد له ولا أصول غير قواعد الدين وأصوله، إلى حياة روحية منظَّمة مؤسسة على قواعد مرسومة، وعلى أساليب من الرياضات والمجاهَدات مقررة، وعلى دراسة لأحوال النفس لمعرفة أمراضها وعِلَلها، ثم معالجة هذه الأمراض والعلل.

ومُجمل القول في هذا الدور الانتقالي من أدوار التصوف، أنه كان الاتصاف بالأخلاق الدينية وإدراك معاني العبادات ومغازيه الباطنية البعيدة. سئل الجنيد عن التصوف فقال: «الخروج عن كل خلقٍ رديٍّ، والدخول في كل خلق سَني.» وقال ابن القيم الجوزية في مدارج السالكين (شرح منازل السائرين للهروي): «واجتمعت كلمة الناطقين في هذا العلم على أن التصوف هو الخُلُق.»

ولما كانت الإرادة مصدر الأفعال الاختيارية كلها، جعل الصوفية علمهم مبنيًّا عليها؛ لأنها حركة القلب، والنظر في تفصيل أحكام الإرادة هو النظر في حركات القلوب كالرغبة والرهبة والخوف والرضا والحب والكره والقناعة والتوكُّل والشكر والصبر والحياء وما إلى ذلك من الأحوال.

يقول ابن القيم الجوزية في شرح مدارج السالكين في هذا المعنى: «إن هذا العلم (أي التصوف) مبنيٌّ على الإرادة، فهي أساسه ومجمع بنائه، وهو يَشتمل على تفاصيل أحكام الإرادة، وهي حركة القلب؛ ولهذا سُمي علم الباطن. كما أن علم الفقه يشتمل على تفاصيل أحكام الجوارح ولهذا سُمي علم الظاهر.»

وينتهي هذا الدور الانتقالي بانتهاء القرن الثاني تقريبًا، وأهم مميزاته: الزهد المنظَّم، والرضا والتوكل، ومن أشهر من ظهر فيه من الصوفية: إبراهيم بن أدهم المُتوفَّى سنة ١٦١، ومعروف الكرخي المُتوفَّى سنة ٢٠٠، ورابعة العدوية البصرية المتوفَّاة سنة ١٨٥، وداود بن نصير المُتوفَّى سنة ١٦٥، والفضيل بن عياض المُتوفَّى سنة ١٨٩.

•••

دخل التصوف بعد ذلك في دور جديد هو دور المَواجد والكشْف والأذواق، ويقع هذا الدور في القرنين الثالث والرابع اللذَين يُمثلان العصر الذهبي للتصوف الإسلامي في أرقى وأصفى مراتبه. كان الدور السالف دور انتقال كما قلنا، اعتبر فيه التصوف طريقًا من طرق العبادة يتناول أحكام الدين من ناحية معانيها الباطنية وآثارها في القلوب، فكان بذلك مقابلًا لعلم الفقه الذي يَتناول ظاهر العبادات، فأصبح في هذا الدور طريقًا لتصفية النفس وتحصيل المعرفة في مقابل طريقة أهل النظر من المُتكلِّمين. لم يقف الأمر عند القيام بالرياضات والمجاهَدات بقصد تحصيل الأحوال والمقامات، بل اتخذ الصوفية من طريقهم وسيلةً للكشف عن معاني الغيب وأداةً لتحصيل المعرفة الذوقية التي لا وسيلة لغيرهم إلى إدراكها؛ ولذلك أطلقوا على علمهم أسماء جديدة تُشير إلى هذا المعنى، فسمَّوه علم الأسرار وعلم المكاشَفات وعلم الأحوال والمقامات وعلم الأذواق وما شاكل ذلك.

وقد فرَّقَ الصوفية — وهي تفرقة انتفع بها الغزالي واستغلَّها إلى أقصى حد — بين نوعين من العلم: العلم الذي يُكتسَب عن طريق العقل وإعمال الفكر، وهذا يخصُّونه باسم «العلم» فإذا أطلق اللفظ من غير تقييدٍ انصرف إليه، والآخر العلم الذي يدرك بطريق أشبه بالإلهام ويُلقى في القلب إلقاءً ولا يُدرى كنهُه ولا مصدره ولا يمكن تفسيره أو تعليله، وهو العلم الذوقي أو المعرفة Gnosis. كما فرقوا بين العالم والعارف، وأطلقوا اسم العارف على الصوفي دون غيره.

من هنا أصبحت المعرفة غايةً وهدفًا يسعى إليه الصوفي، وأصبحت الطريقة الصوفية بما فيها من مجاهدة ورياضة نفس، وسيلةً — لا غاية في نفسها — لتحصيل المعرفة بالحقائق وتوقيف صاحبها على الأسرار الغيبية، كما أصبحت أكبر سعادة أو غبطة ينالها الصوفي.

وإذا كانت المعرفة سبيل الوصول إلى اليقين، فأي سعادة لطالب اليقين وطالب الحقيقة أعظم منها؟ نجد هذا التحوُّل ظاهرًا في التعريفات التي وضعها صوفية القرن الثالث للتصوف. فنجد معروف الكرخي يصف التصوف بأنه: «إدراك الحقائق واليأس مما في أيدي الناس.» يريد بذلك إدراك الحقائق الإلهية بواسطة الكشف، والزهد فيما في أيدي الناس من متاع الدنيا.

وقد انصرفت عناية بعض المتأخرين من الصوفية إلى ناحية الكشف ورفع الحجاب عن عالم الغيب، فكَثُر كلامهم فيها وادِّعاءاتهم لها، وكانت طريقتهم في ذلك مجاهَدة النفس وتصفية القلب من كل ما سوى الله وتغذية الرُّوح بالذكر والأدعية والإكثار من النوافل، وكثر كلامهم في حقائق الموجودات العلوية والسُّفلية، وادعوا أنهم يُدركون الواقعات قبل حدوثها، وأنهم يتصرَّفون بهمَمِهم وقُوى نفوسهم في الموجودات السفلية بحيث تصير طوع إرادتهم، ولهم في ذلك حكايات تربُو على الحصر مما يُعدُّ عادةً من كراماتهم.

فأهم مُميزات هذا الدور اصطباغ التصوف بصبغة ثيوسوفية غنوصية، وتنظيم الطريق الصوفي الذي خطط فيه الصوفية معارج روحية، كلٌّ منها — بأسلوبه الخاص — يؤدي إلى الله ومعرفته، وأبرز مظاهره أن «التجربة الصوفية» أصبحت المِحور الذي تدور حوله حياة الصوفي، فهو يُنظمها ويُحلِّلها ويراقبها ويفسر بها في النهاية نظرياته؛ ولذلك أمكن أن يقال إن علم التصوف استبطانٌ منظمٌ للتجربة الدينية، وهذا الوصف أصدق على تصوف هذا الدور منه على تصوف أي دور آخر.

•••

ظهرت في هذا الدور مدارس صوفية كثيرة ونبغ فيه من كبار المشايخ من لا يُحصَون عدًّا، وهي مدارس تتلاقى عند المعالم العامة في الطريق الصوفي، وتختلف اختلافًا قليلًا في اتجاهات وتفاصيل مذاهبها، وأهم هذه المدارس على الإطلاق: مدرسة بغداد ومؤسسها أبو عبد الله الحارث المحاسبي المُتوفَّى سنة ٢٤٣، ومدرسة مصر والشام ومؤسسها ذو النون المصري المُتوفَّى سنة ٢٤٥، ومدرسة نيسابور ومؤسسها حمدون القصار المُتوفَّى سنة ٢٧١، وسنكتفي بذكر أشهر رجال هذه المدارس والنظريات الغالبة فيهم.

أما مدرسة بغداد فأكبر ممثِّل لها مؤسسها المحاسبي كما قلنا، وقد صحب المحاسبي أو صحب من صحبه وأخذ عنه بطريق مباشر أو غير مباشر كلُّ من يَنتمي إلى هذه المدرسة أمثال: أبي القاسم الجنيد المُتوفَّى سنة ٢٩٨، وأبي حمزة البغدادي المُتوفَّى سنة ٢٨٩، وأبي الحسين النوري المُتوفَّى سنة ٢٩٥، وأحمد بن مسروق المُتوفَّى سنة ٢٩٨، وأبي بكر إسماعيل بن إسحق السراج المُتوفَّى سنة ٢٨٦، وأبي الحسن سري السقطي المُتوفَّى سنة ٢٥٣، وكثير غيرهم.

وتحوم نظريات هذه المدرسة حول المسائل الصوفية الآتية:
  • (١)

    التوحيد بمعناه الكلامي والصوفي، وما يتصل بذلك من مسائل المعرفة بالله والمحبة الإلهية والفناء في الله والبقاء به.

  • (٢)

    النفس وآفاتها، والأحوال والمقامات الصوفية؛ كالوجد والشوق والقرب والأنس والغيبة والحضور والإيثار والذكر والتوبة ورُؤية الله في الدنيا والآخرة.

ومنهج المحاسبي في التصوف منهج منطقي تحليلي يظهر فيه إدراكه للصلة بين الأسباب ومسبباتها في تطور الحياة الروحية: من ذلك تحليله لأسس العبادة حيث يقول: «أساس العبادة الورع، وأساس الورع التقوى، وأساس التقوى محاسبة النفس، وأساس المحاسبة الخوف والرجاء، والخوف والرجاء يرجعان إلى العلم بالوعد والوعيد، وفهم الوعد والوعيد يرجع إلى تذكر الجزاء، وتذكر الجزاء يرجع إلى الفكر والاعتبار.»٦ أي إن الإنسان إذا فكَّر في نفسه وفي الخلق واعتبر، أدى به ذلك عن طريق السلسلة السالفة الذكر إلى عبادة الله عبادةً صادقةً. ليس هذا تصوفًا ساذجًا بسيطًا، بل هو تصوفٌ منهجيٌّ له منطقه الخاص.
وقد عُرف المحاسبي بطريقته الخاصة التي من أجلها سمي «المحاسبي»، وهي طريقة إخضاع الأعمال والأفكار للنقد والاختبار لمعرفة مدى صدقها ومراعاتها لحقوق الله، وهذا هو معنى الرعاية الذي ألَّف فيه كتابًا خاصًّا، وتقتضي هذه الطريقة البحث عن معقولية العلم، فإنه ليس كل علمٍ نظري معقولًا. كما تتضمَّن البحث في ماهية الإيمان والمعرفة؛ لأن هناك فرقًا بين العلم بالإيمان، والعلم به مع العمل؛ ولهذا اتَّخذ المحاسبي «الإيمان بالله» أساسًا بنى عليه جميع أحوال القلب وحركاته، ووظيفة العقل عنده٧ ليست في إدراك الخير والشر، ولكن عمله مُنحصِر في إدراك الحكمة في تفضيل الله لفعل على فعل؛ أي إن العقل وحده غير كافٍ في معرفة الخير والشر كما ذهبت إليه المعتزلة، ولكنه كافٍ في إدراك حكمة التشريع الإلهي، ومن هذا الطريق تحصل الفوائد الروحية للنفس وتصحُّ إراداتها.

(١) مدرسة نيسابور في القرن الثالث

في منتصَف القرن الثالث الهجري انتقل مركز التصوف من بلخ أقدم مركز للتصوُّف في خراسان إلى نيسابور حيث ظهرت فرقة «الملامتية»، ولم تكن مدرسة نيسابور منقطعة الصلة بمدرسة بلخ ومدرسة بغداد، بل كانت على صلة بهما عن طريق الزيارة والتلمذة والصحبة.

ويقوم التصوف الملامتي على أساسين رئيسيين؛ «الملامة» و«الفتوة»، وهما أكثر المصطلَحات جريانًا على ألسنة أهل هذه الفرقة. أما «الملامة» فيَقصدون بها كبح النفس واتهامها وتأنيبها على ما فرط منها، ورؤية التقصير فيما يصدر عنها من أعمال الطاعة، وأما «الفتوة» فاسمٌ أطلق في الأصل على مجموعة من الفضائل، أخصها: الكرم والسخاء والمروءة والشجاعة، فلما دخلت إلى أوساط الصوفية اكتسبت معنى الإيثار والتضحية وكف الأذى وبذْل الندى وترك الشكوى وإسقاط الجاه ومحاربة النفس، وقد ظهرت كل هذه المعاني في كتابات الصوفية والملامتية على السواء، وشكَّلت أفكارهم ونظرتهم إلى الحياة الروحية. بل إن النظرية الملامتية على الملامة — فيما أرى — فرعٌ من نظريتهم في الفتوة.

ومن أشهر رجال الملامتية الذين عرفت لهم نظريات في الفتوة الصوفية تختلف نوعًا ما عن نظريات البغداديين: أبو حفص الحداد وحمدون القصار. قيل إن مشايخ بغداد اجتمعوا يومًا عند أبي حفص فسألوه عن الفتوَّة فقال: «تكلموا أنتم، فإن لكم العبارة واللسان.» فقال الجنيد: «الفتوة إسقاط الرؤية وترك النِّسبة.» فقال أبو حفص: «ما أحسن ما قُلت، ولكن الفتوة عندي أداء الأنصاف وترك مطالبة الإنصاف.» فقال الجنيد: «قوموا يا أصحابنا فقد زاد أبو حفص على آدم وذريته.»٨
فالفتوة عند الجنيد «إسقاط الرؤية» أي عدم النظر إلى الأعمال نظرة اعتبار وتقدير، وهي «ترك النسبة» أي إسقاط العلائق والروابط التي تربط الإنسان بأي موجود سوى الله، وعلى ذلك فالفتوة عنده هي الزهد الكامل. أما أبو حفص فيرى الفتوة في أداء ما يراه الصوفي إنصافًا وعدلًا؛ أي القيام بجميع الواجبات الشرعية والاجتماعية دون أن يطالب القائم بها بإنصاف من جانب الشرع أو جانب المجتمع. أي إن الفتوة عنده هي التضحية الخالصة.٩

وليس الجديد في مدرسة نيسابور الملامتية أنها أضافت مُصطلحات أو صيغًا جديدة في التصوف، ولكن الجديد فيها أنها عُنيت ببحث الجانب السَّلبي للمعاني الصوفية التي كانت سائدة في عصرها؛ فالملامتي لا يتحدَّث عن مدح الأفعال والثناء عليها بقدر ما يتحدث عن ذم الأفعال واللوم عليها ورؤية التقصير فيها، وهو لا يتكلَّم عن الإخلاص بقدر ما يتكلم عن الرياء، وهو يفضل الحديث عن نقائص الأعمال ومساوئها على الكلام في مناقب الأعمال ومحاسنها؛ ولهذا كثر في مذهب رجال الملامة الكلام عن «النفس اللوامة» و«جهاد النفس» و«رعونات النفس» و«دعاويها» و«العبودية» و«التضحية» ونحو ذلك من المعاني التي تعبر عن روح مذهبهم، تلك المعاني التي تسرَّبت إلى تصوفهم من مصدرين أساسيَّين؛ الفلسفة الزرادشتية المجوسية، ونظام الفتوَّة، وكلا المصدرَين فارسي أو فارسي هندي.

وإن نظرة كبار الملامتية كأبي عثمان الحيري وحمدون القصار إلى العالم باعتباره شرًّا لا خير فيه، وأن الملامتي يجدر به التزام الحزن والكمد ورؤية التقصير في الأفعال مهما جوَّد فيها، واتهام نفسه دائمًا بهذا التقصير: لتشهد بأنها نظرة تشاؤمية غير إسلامية، أو أنها — كما يقول أبو بكر الواسطي — من أصل مجوسي. قيل إن الواسطي لما دخل نيسابور سأل أصحاب أبي عثمان الحيري: بماذا كأن يأمركم شيخكم؟ فقالوا: كان يأمرنا بالطاعات ورؤية التقصير فيها، فقال: أمركم بالمجوسية المحضة، هلا أمركم بالغيبة عنها برؤية مُنشئها ومجريها؟١٠ وفي هذا المعنى يقول أبو عثمان الحيري نفسه: «لا يرى أحد عيب نفسه وهو يستحسن من نفسه شيئًا، وإنما يرى عيوب نفسه من يتَّهمها في جميع الأحوال.»١١ وسيأتي مزيد تفصيل للملامة باعتبارها من أهم أساليب المجاهَدة.

(٢) مدرسة مصر والشام في القرن الثالث

ظهرت هذه المدرسة في القرن الثالث الهجري، وأشهر من نبغ فيها على الإطلاق ذو النون المصري المُتوفَّى سنة ٢٤٥، ويعتبر ذو النون في نظر كثيرين من القدماء والمحدثين المؤسس الحقيقي للتصوف الثيوسوفي في الإسلام، وقد عرفت مصر والشام بثقافتهما الأفلاطونية الحديثة التي انتشرت في هذه المنطقة في النصف الأول من القرن الثالث الهجري، وفي هذه المنطقة عاش ذو النون الذي يظهر تأثُّرُه بها إلى أقصى حد، فقد اشتغل بعلوم الأسرار: السِّحر والطلسَمات والكيمياء، ومزجها بالتصوُّف على نحو ما فعل رجال الأفلاطونية الحديثة في عصرها المتأخر (عصر يمبليخوس وأبروقلس). كان حكيمًا (بالمعنى اليوناني)١٢ وزاهدًا ومحدِّثًا وعالمًا بالكيمياء، وكان، على حدِّ قول عبد الرحمن جامي،١٣ أول من تكلم في الأحوال والمقامات، وإذا قلنا الأحوال والمقامات فقد قلنا التصوف كله من حيث هو معراج روحي يقطعه السالك إلى الله، وكان كذلك أول صوفي إسلامي تكلم في المعرفة على أساس علمي منظَّم، وأول من اعتبر المعرفة بالله الغاية القصوى من الطريق الصوفي، كما اعتبر أبو يزيد البسطامي «الفناء في الله» غاية هذا الطريق.

يقول ذو النون: «إنه بمقدار ما يعرف العبد من ربه يكون إنكاره لنفسه، وتمام المعرفة بالله تمام إنكار الذات.» والمقصود بمعرفة الله هنا إدراك العبد أن الحق وحده هو الفاعل لكل شيء، المريد لكل شيء، القادر على كل شيء، وأن العبد لا فعل له ولا قدرة ولا إرادة، وهكذا تُؤدي المعرفة بالله — كما يفهمُها ذو النون — إلى تمام إنكار الذات؛ إذ يصبح العارف محوًا لا فعل له ولا أثر، وهذا معنى الفناء الصوفي الذي تحدث عنه أبو يزيد وكان أول من أفاض القول فيه.

وقد فصَّل ذو النون القول في المعرفة وأنواعها ودرجاتها وطرق الوصول إليها على نحو لم يُسبَق إليه. فمعرفة وحدانية الله طريقها الكتاب والسنة، ومعرفة فردانيته وقدرته طريقها الكشف، ومعرفة اسم الله الأعظم هبةٌ من الله يختصُّ بها من يشاء من عباده.

ولا شك أن إلمام ذي النون المصري بعلوم الأسرار كان له أثره في تصوفه، فقد اعتبر التصوف واحدًا من هذه العلوم، ولعله كان في ذلك متأثرًا بجابر بن حيان صاحب الكيمياء الذي كان صوفيًّا أيضًا؛ إذ الصلة بين التصوف وعلوم الأسرار أقدم من ذي النون لأنها ترجع — فيما يقال — إلى الإمام جعفر الصادق وتلميذه جابر بن حيان المذكور، غير أن ذا النون كان له الفضل في تعميق فكرة «الباطنية» وتطبيقها في نَواحٍ شتَّى من تصوفه. من ذلك مثلًا أنه في كلامه عن التوبة — وهي أول المقامات الصوفية — يذكر نوعَين؛ توبة العوام، وتوبة الخواص التي هي من العلم الباطن. فيقول: «توبة العوام تكون من الذنوب، وتوبة الخواص تكون من الغفلة (أي الغفلة عن ذكر الله).»١٤ وفي كلامه عن «المحبة» يقول: «إنها سرٌّ من أسرار الله لا يجوز الخوض فيها.» بل إنه تحت تأثير فكرة السرية أو الباطنية في التصوف، كثيرًا ما يستعمل لغة الرمز التي كانت شائعة في بعض الأوساط اليونانية، كأن يتحدَّث عن «كأس المحبة» «التي يسقي الله بها المحبين».١٥ ومما يتصل بباطنية التصوف: الوجد والسماع، وهما المظهر الخارجي لما يعتلج في تفس الصوفي من أحوال باطنية، وقد كان ذو النون أول من وضع تعريفًا لهاتين الحالتين، وبالإضافة إلى المصطلحات الصوفية الإشراقية المتصلة بموضوع المعرفة والأحوال والمقامات، وكلها من وضعه تقريبًا، استعمل ذو النون الثروة الكبيرة من المصطلحات التي كانت شائعة إلى عهده. كما نقَل مصطلحات من علوم إسلامية كعلم الكلام وأضفى عليها مسحة صوفية؛ من ذلك «التوحيد» الذي كان أول من عرَّفه تعريفًا صوفيًّا بقوله: «هو أن تعلم أن قدرة الله تعالى في الأشياء بلا مزاج، وصُنعَه للأشياء بلا علاج، وعلة كل شيء صنعه ولا علة لصنعه، وليس في السموات العلا ولا في الأرضين السفلى مدبرٌ غير الله، وكل ما تصور في وهمك فالله بخلاف ذلك.»١٦

وقد خلَّف ذو النون طابعه في تصوف البلاد التي زارها، وهي كثيرة منها: دمشق وبيت المقدس وأنطاكية وبغداد، وفي الجزء الغربي من العالم الإسلامي برمَّته. بل كان بمثابة مدرسة متجوِّلة مُتنقِّلة وحوله جماعة سرِّية باطنية لهم نظام سري خاص، ومن أبرز تلاميذه: يوسف بن الحسين الرازي المُتوفَّى سنة ٣٠٤، وأبو تراب النخشبي المُتوفَّى سنة ٢٤٥.

•••

أما الفرع الشامي من هذه المدرسة فأظهر رجاله وأقدمُهم أبو سليمان الداراني (وداران قرية من قُرى دمشق) المُتوفَّى سنة ٢١٥، وتلميذه أحمد بن أبي الحواري المُتوفَّى سنة ٢٣٠، وأحمد بن الجلاء الذي يَنتمي إلى الشام بالإقامة وكان من أصلٍ بغدادي، وهم أقرب إلى الصوفية القح منهم إلى الصوفية المتفلسفِين أو أصحاب النظريات، وإن كنا نَلمس في بعض أقوالهم أثرًا لنظريات ذي النون، من ذلك قول أحمد بن الجلاء: «من رأى الأفعال كلها من الله عز وجل فهو موحدٌ لا يرى إلا واحدًا.»١٧ وهذا — فيما أرى — تعبير عن نفسِ المعنى الذي قصد إليه ذو النون في كلامه عن «المعرفة بالله» الذي شرحْناه فيما سبق، وأغلب كلامِ هؤلاء الثلاثة في الدنيا وحقارتها، والشهوات واشتغال القلب بها أو خلوه منها، وفي القلب وصفائه وصدئه، والصدق في التوبة، ومحبة الله، وما إلى ذلك من المسائل التي خاض فيها معظم الصوفية في عصرهم، ولكنَّهم يمتازون عن عامة الزهاد بدقة التحليل النفسي ووصف أحوال النفس في لحظات قربها من الله أو بعدها عنه، قال أحمد بن أبي الحواري: «دخلت على أبي سليمان (الداراني) يومًا وهو يَبكي، فقلت له: ما يُبكيك؟ فقال: يا أحمد، ولم لا أبكي وإذا جنَّ الليل ونامت العيون وخلا كل حبيب بحبيبه، وافترش أهل المحبة أقدامهم وجرَت دموعُهم على خدودهم وتقطرت في محاريبهم، أشرف الجليل سبحانه وتعالى فنادى: يا جبريل، بعيني من تلذَّذَ بكلامي واستراح إلى ذِكري، وإني لمطلعٌ عليهم في خَلواتهم، أسمع أنينهم وأرى بكاءهم، فلم لا تُنادي فيهم؟ يا جبريل ما هذا البكاء؟ هل رأيتم حبيبًا يُعذِّب أحباءه؟ أم كيف يَجمل بي أن آخذ قومًا إذا جنَّهم الليل تملَّقوا لي؟ فبي حلفت أنهم إذا وردوا على القيامة لأكشفنَّ لهم عن وجهي الكريم حتى يَنظُروا إليَّ وأنظر إليهم.»١٨

فالداراني هنا — وهو في حضرة القُرب من الله — يَسمع صوت ربه في أعماق قلبه يُناجيه، ويَبكي بكاءَين: بكاء الحسرة والندم على ما فرَط في حق الله، وبكاء الغبطة والسرور بما وعد الله به أحبَّاءه المخلصين في حبه من إسباغ رحمته عليهم، وكشفِه لهم عن وجهه الكريم في الدار الآخرة. أي إن «المحبة» هي سبب استِحقاق الرحمة والتمتُّع بأعظم نعيم أعدَّه الله لعباده في الجنة وهو رؤية وجهه الكريم، وهي بهذا فوق العبادة إذ هي أصلها وأساسها.

١  تلبيس إبليس، ص١٦٠.
٢  التنبه للملطي، ص٧٤؛ قارن الميزان للذهبي، رقم ٢٧٦٧.
٣  مقالات الإسلاميين للأشعري، ص٢١٣، ٢٨٨؛ والفرق بين الفرق للبغدادي، ص٣٢١.
٤  ص٣-٤.
٥  الصوفية والفقراء، ص١٢-١٣.
٦  تذكرة الأولياء لفريد الدين العطار، ج١، ص٢٢٦-٢٢٧.
٧  راجع مقاله في ماهية العقل.
٨  الحلية، ج١٠١، ص٢٣٠.
٩  انظر كتاب الملامتية والصوفية وأهل الفتوة للمؤلف، ص٣٦-٣٧.
١٠  الرسالة القشيرية، ص٣٢.
١١  طبقات الشعراني، ج١، ص٧٤.
١٢  وصفه بهذا الوصف القفطي (ص١٨٥، ط ليبرت) والمسعودي وغيرهما.
١٣  نفحات الأنس.
١٤  القشيري، ص٩، س٦.
١٥  تذكرة الأولياء لفريد الدين العطار (ج١، ص١٢٦، س١٢).
١٦  تذكرة الأولياء للعطار، ج١، ص١٢٩، س١٣؛ والقشيري، ص١٥٣، س٧ من أسفل.
القشيري، ص٤، س١٣ من أسفل.
١٧  القشيري، ص٢٠، س١١ من أسفل.
١٨  القشيري، ص١٥، س٨ من أسفل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤