الثورة الروحية في التصوف

التصوف هو المظهر الروحي الديني الحقيقي عند المسلمين؛ لأنه المرآة التي تَنعكِس على صفحتِها الحياة الروحية الإسلامية في أخصِّ مظاهرها. فإذا أردنا أن نبحث عن العاطفة الدينية الإسلامية في صفائها ونقائها وعُنفها وحرارتها، وجدناها عند الصوفية، وإذا أردنا أن نعرف شيئًا عن الصلة الرُّوحية بين المسلم وربه: كيف يُصوِّر هذه الصلة، وكيف يُجاهد طول حياته في توكيدها وتدعيمها، وكيف يُضحِّي بكل عزيز لديه — بما في ذلك نفسه — محافظةً وغيرةً عليها، وجَبَ أن نقرأ سِيَر الصوفية المسلمين ونتدبَّر أقوالهم، وإذا أردنا أن نُقارن بين الإسلام وغيره من الديانات لنَعرف حظ المسلمين من الحياة الروحية الخالصة، لم نجد نقطةً يَلتقون فيها مع غيرهم من أصحاب الديانات الكُبرى أفضل من التصوف.

بل لولا التصوف لكان الإسلام — كما فهمه المتزمِّتُون من الفقهاء والمتكلِّمين والفلاسفة — دينًا خاليًا من الروحانية العميقة ومن العاطفة، وكانت عباداته ومعاملاته مجموعة جامدة من القواعد والأشكال والأوضاع، ومعتقداته مجموعة من التجريدات أقل ما يقال فيها إنها تباعُد بين العبد وربه بدلًا من أن تُقربه إليه، وتُورث صاحبها الشك والحيرة والقلق بدلًا من الطمأنينة واليقين.

لستُ أول من يجهر بهذا القول، بل جهَر به من قبل أبو حامد الغزالي بعد طول التطواف، وانتهى إلى نفس النتيجة، ووجَدَ أن التصوف وحده دون سائر العلوم «المُنقِذ من الضلال».

إن العوامل الرُّوحية الحقيقية التي كان لها أثر فعال في تنمية العاطفة الدينية والحياة الروحية عند المسلمين قد أُخذت أصولها وبذورها منذ ظهور الإسلام إلى يومنا هذا من الإسلام نفسه؛ أي من الكتاب والسنة، ولكن هذه الأصول وتلك البذور نبتَت وترعرعَت في ظل ذلك النظام الشامخ الذي أقامه صوفية المسلمين وجاهدوا من أجله، والناظر في تاريخ الإسلام الطويل الحافل بالأحداث لا يُعجزه أن يرى كيف تغلغلت روح التصوف في حياة المسلمين في عقائدهم وعباداتهم ومعاملاتهم، وكيف كانوا يُنشِّئون الآلاف من المريدين في الطريق الصوفي ويُروِّضونهم على اقتحام عقباته، وكيف قويَ نفوذ الصوفية في بعض العصور فتجاوَز الدائرة الدينية إلى الأوساط السياسية وإدارة الحكم في أوطانهم، فأصبحت لهم في بعض العصور دولة داخل الدولة، كما أصبح لهم طابع ديني خاص داخل الإطار الديني العام.

وليس التصوف أسلوبًا من الأساليب يحيا الصوفي بمُقتضاه وحسب، بل هو في الوقت نفسه وجهة نظر خاصة تُحدِّد موقف العبد من ربه أولًا، ومن نفسه ثانيًا، ومن العالم وكل ما فيه ومن فيه آخر الأمر. فهو نوع من الفلسفة — إن شئنا أن نَستعمل كلمة الفلسفة بهذا المعنى الواسع — فوق كونه طريقًا خاصًّا في الحياة، بل إنه هو ذلك الأسلوب الخاص في الحياة من أجل أنه وليد تلك الفلسفة. فالصوفية لم يُشاركوا عامة المسلمين في نظرتهم إلى الدنيا، ولم يُشاركوا الفقهاء أو المتكلِّمين في نظرتهم إلى الدين، ولم يُشاركوا الفلاسفة في نظرتهم إلى الله والإنسان والعالم؛ ولهذا جاء التصوف الإسلامي ثورةً شاملةً على هؤلاء جميعًا، وكانت هذه الثورة أخص مظهر من مظاهرِه، أو كانت المظهر الذي أعلن فيه الإسلام عن روحانيته الصادقة.

وإننا إذا نظرنا إلى التصوف نظرةً تاريخيةً وإلى الأدوار المختلفة التي مرَّ بها، وجدنا في كل هذه الأدوار ثورةً واحدة متصلة، يختلف شكلها باختلاف موضوعها واتجاهها. فقد اتجهت ضد العالم في كل عصرٍ من عصور التصوف، وفي عصر الزهد الأول بوجه خاص، واتجهت ضد رجال الدين من فقهاء ومتكلِّمين بمجرد أن دخل التصوف في دورِ نُضجِه ابتداءً من القرن الثالث، ثم اتجهت ضد الفلسفة التقليدية بعد ذلك.

ولنتناول هذه الثورة الروحية العارمة في مراحلها المختلفة ونَعرضها عرضًا تاريخيًّا بقدر المستطاع تيسيرًا لمعالجة المسألة، وإلا فالروح الثورية ظاهرة في التصوف برمَّته، وفي كل عصر من عصوره في موقفِها من الدنيا ومن الدين ومن الله.

(١) ثورة الصوفية على الدنيا

تتمثَّل ثورة التصوف على الدنيا في كل ما يَنطوي تحت ذلك الوصف العام الذي عنونوا له باسم «الزهد»، وقد كان الزهد دائمًا عنصرًا أساسيًّا من عناصر الحياة الصوفية عند المسلمين وغيرهم، ولكنه قد يَنفرد دونها فيُوجد الزاهد غير المتصوِّف. أما المتصوف غير الزاهد فلا وجود له في البيئات الدينية، ولا عبرة بأولئك المُشعوِذين الدجالين الذين يُثيرون في نفوسهم أحوالًا تشبه في ظاهرها أحوال الصوفية، فيدَّعُون أنهم منهم وهم دخلاء عليهم؛ لأن سيرتهم الأخلاقية والدينية تَشهد بذلك.

وقد أدرك الفرق بين الزهد والتصوُّف بعض كُتَّاب العرب السابقين كابن الجوزي الذي يقول: «فالتصوف مذهب معروف يَزيد على الزهد، ويدلُّ على الفرق بينهما أن الزهد لم يذمَّه أحد، وقد ذمُّوا التصوف على ما سيأتي ذكرُه.»١ وكذلك تنبَّه إلى هذه التفرقة ابن خلدون، وهي تَفرقة أخذ بها من المُحدَثين جولدزيهر وأفاض في الكلام فيها، وأخذ بها من بعده كلُّ مَن كتب في التصوف إلى يومنا هذا. ذلك لأن للتصوف ناحيتَين مختلفتَين؛ الناحية العمَلية وهي الزهد وما ينطوي عليه من حياة العبادة والانقطاع إلى الله، والعزوف عن الدنيا وشهواتها وكل ما هو مطمع للنفس، والأخذ بأنواع المجاهَدات والرياضات، والناحية الإشراقية التي هي التصوف بمعناه الدقيق، وتَنطوي على كلِّ ما يلزم عن حياة الزهد من الأحوال، وما يَنكشِف للصوفي بعد تصفية النفْس وتطهيرها من مواجدَ وأذواق ومعارف، وما يُدركه من معاني القرب الإلهي أو ما يُسمِّيه الصوفية «الاتصال بالله».

والثورة الروحية ضد الدنيا وكل ما يتَّصل بها، وإن كنا نَلمسها في كل دور من أدوار التصوف الإسلامي، تَظهر أعنف ما تكون في دوره الأول، حيث وجد من بين المسلمين من وُصف بصفة الزهد قبل أن يوجد فيهم من وصف بصفة الصوفي؛ ولهذا سأقصر كلامي هنا على الزهد في هذا الدور مُشيرًا إلى الأسباب التي دعت زهَّاد المسلمين الأوائل إلى الوقوف من الدنيا موقف عداء صريح وإنكار وهجر، وسأتناول كذلك موقف الإسلام نفسه من الدنيا ليتضح إلى أيِّ حدٍّ كانت ثورة هؤلاء الزهاد ضد الدنيا متَّصلة بدينهم.

لم يكن الزهد الرهباني من الفضائل التي دعا إليها الإسلام لأنَّ الإسلام في صميمه دين اجتماعي كما قلنا، والزهد الرهباني منافٍ لروح الحياة الاجتماعية، ولكن الإسلام دعا إلى نوع آخر من الزهد يُمكن وصفه بأنه القصد في اللذات وعدم التهالُك عليها أو الإسراف فيها إلى الحدِّ الذي ينسى الإنسان فيه ربه وآخرته، وهذا واضح كل الوضوح في سيرة النبي عليه السلام وسيرة الصحابة وصدر التابعين. دعا الإسلام إلى الزهد في الدنيا وإلى تحقيرها لا إلى هجرها والفرار منها، ودعا إلى عبادة الله تعالى في حدود رسمها ولم يدعُ إلى الانقطاع إلى هذه العبادة، ودعا إلى الأخذ بنصيب معقول من الحياة ومن كل ما كان رزقًا حلالًا ولم يدع إلى تحريم كل شيء، ودعا إلى النظر إلى الدنيا باعتبارها دار فناء ودار تحول وانتقال وأنها مزرعة الآخرة، وإلى الآخرة باعتبارها دار بقاء وخلود ونعيم مقيم أو عذاب أليم. يقول الله تعالى: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ.٢

في هذه الآية، وكثير غيرها من الآيات التي أسلفنا ذكرها في مناسبات أخرى، دعوةٌ إلى الزهد في الدنيا، ولكنه زهد روعي فيه جانب الدنيا وجانب الآخرة، وفضَّل فيه الثاني على الأول، ورُوعي فيه جانب العبد وجانب الرب، وفضل فيه الثاني على الأول، وفي هذه الآية وأمثالها بذور للثورة على الدنيا — بهذا المعنى الخاص — تلك الثورة التي أعلنها زهَّاد المسلمين صاخبة شاملة عندما نبتت هذه البذور في تربة جديدة وتوافر لها من العوامل ما ساعَدَها على النمو.

ولم تكن في العصر الإسلامي الأول حاجة إلى وضع حدود وقواعد للزهد في الدنيا والقصد في لذاتها، كما لم تكن حاجة إلى تمييز طائفة من المسلمين عن غيرهم من أجل انفرادها بالتقوى والورع، ولكن ظهرت هذه الحاجة كما يقول ابن خلدون: «عندما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده وجنح الناس إلى مخالَطة الدنيا، فاختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية.»٣
عرف الجيل الأول من المسلمين بالورع والتقوى والزهد في الدنيا، وكانت هذه كلها صفات عامة لهم، وفي هذا يقول أحد الصحابة لصدر التابعين: «أنتم أكثر أعمالًا واجتهادًا من أصحاب رسول الله، وهم كانوا خيرًا منكم. قيل: ولم ذلك؟ قال: كانوا أزهد منكم في الدنيا.»٤ يُشير بذلك إلى الزهد العام الذي كان أكثر شيوعًا بين الصحابة، لا إلى الزهد شبه الرهباني الذي أخذ به الصوفية أنفسهم في القرن الثاني وما بعده.

ولم يكن أثر الإسلام في نشأة الزهد وانتشارِه عن طريق تحقير الدنيا وحسب، بل عن طريق الرعب الذي أشاعه في قلوب المؤمنين من نار الآخرة وعذابها وأهوالها؛ ولذلك انصبغ الزهد الإسلامي الأول بصبغة الخوف من الله أكثر من انصباغِه بصبغة المحبة لله والقرب منه، وقد تجلَّى ذلك الرعب في أجلى مظاهرِه في بعض أفراد الصحابة والتابعين الذين أخذوا أنفسهم بأساليب تعذيب البدن كفارةً عما ارتكبوه — أو خيل إليهم أنهم ارتكبوه — من المعاصي والآثام، وهاك مثالًا من أروع الأمثلة التي تُصوِّر ما كان للخوف من عذاب الآخرة من أثر في نفوس أوائل المسلمين: مرَّ ثعلبة بن عبد الرحمن الأنصاري خادم رسول الله يومًا بباب رجل من من الأنصار فبصر بامرأة الأنصاري وهي تغتسل، فكرَّر النظر إليها، ولما أحسَّ بذنبه خرج هائمًا على وجهه إلى جبال بين مكة والمدينة. فبعث رسول الله عمر بن الخطاب وسلمان الفارسي في طلبه، فلقيهما راعٍ من رعاة المدينة، فقال له عمر: يا ذفافة هل لك علمٌ بشابٍّ بين هذه الجبال؟ فقال: لعلك تريد الهارب من جهنم، قال عمر: وما علمُكَ بأنه هرب من جهنم؟ قال: لأنه إذا كان نصف الليل خرج علينا من الشعب واضعًا يدَيه على أمِّ رأسه يَبكي ويُنادي: يا ليتكَ قبضت روحي بين الأرواح وجسدي بين الأجساد ولا تُجرِّدني ليوم القضاء.

فلما أُتيَ به إلى رسول الله قال: ما الذي غيبك عني؟ قال: ذنبي، قال: أفلا أعلمك آيةً تمحو الذنوب والخطايا؟ قال: بلى يا رسول الله! قال: قل اللهمَّ آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، قال: إن ذنبي أعظم من ذلك، قال رسول الله: بل كلام الله أعظم، وأمره بالانصراف إلى منزله، فانصرف ومرض ثلاثة أيام، فأتى سلمانُ النبيَّ وقال: إن ثعلبة لمائت. فدخل رسول الله عليه فأخذ برأسه فوضعه على حجره، فأزال رأسه عن حجر النبي، فقال له رسول الله: لم أزلت رأسك عن حجري؟ قال: لأنه ملآن من الذنوب، فقال رسول الله: ما تجد؟ قال: أجد مثل دبيب النمل بين جلدي وعظمي، قال: فماذا تشتهي؟ قال: مغفرة ربي. قال فنزل جبريل على النبي فقال: يا أخي إن ربك يقرئك السلام ويقول: «لو لقيَني عبدي بقُراب الأرض خطيئة للقيتُه بقرابها مغفرة.» قال فأعلمه رسول الله ذلك فصاحَ صيحةً فمات.

هذا مثال من أمثلة كثيرة تُبيِّن كيف كان الخوف من الله وعذاب الآخرة من أكبر العوامل، إن لم يكن أكبر العوامل، التي دفعَت أتقياء المسلمين الأوائل إلى هجر الدنيا والانقطاع إلى الله. فقد تمثَّلت لهم الدنيا دارًا حافلة بالذنوب والمعاصي كبيرها وصغيرها، وخطرًا يُهدِّد كيانهم الديني ويَحُول بينهم وبين الإعداد للآخرة، ولم يَقف الأمر ببعض هؤلاء الأتقياء عند هجرهم الدنيا والزهد فيها، بل أخذوا على أنفسهم مهمة دعوة الآخرين إلى نفسِ هذا الهدف، لا سيما بعد الذي شاهَدُوه من إقبال بعض مُعاصِريهم على الدنيا وأعراضها، واختلال الميزان الاقتصادي والاجتماعي بين طبقات المسلمين، وما لبثَت هذه الدعوة حتى انفجَرَت في صورة ثورة علَنية ضد الدنيا والطبقات المترَفة صاحبة الثراء، وقد حمل لواء هذه الثورة صحابيٌّ من أقوى الصحابة عارضةً وأقدرهم على الدعوة؛ وهو أبو ذر الغفاري.

كان هذا الرجل أحد الأفراد القلائل الذين اهتدَوا بفطرتهم السليمة إلى عقيدة التوحيد قبل الإسلام. فلما بلغَتْه الدعوة الإسلامية وجد المُشاكَلة القوية بينها وبين ما اطمأنَّت نفسه إليه من قبل، ولما لقيَ الرسول عليه السلام وسمع منه القرآن أسلم وجهَر بإسلامه، فآذته قريش، ولكنه لم يَعبأ بإيذائها. سأله أبو بكر يومًا في محضرٍ من النبي وقال: يا أبا ذر، هل كنتَ تُؤلِّه في جاهليتك؟ قال: نعم، لقد رأيتني أقوم عند الشمس فلا أزال مصليًا حتى يُؤذيني حرها فأخرَّ كأنني خفاء، قال أبو بكر: فأين كنت تَوجَّهُ؟ قال: لا أدري إلا حيث يُوجهني الله عز وجل.٥
قضى أبو ذر شطرًا من حياته في الجاهلية وشطرًا في الإسلام في زمن النبي والخلفاء الثلاثة الأول ومات في خلافة عثمان سنة ٣٢، وقد هالَه ما كان عليه بعض المسلمين — لا سيما القُرشيِّين — من ثراء عريض وبذخ، وما كان عليه فُقراؤهم من ضنك وبؤس وضيق، فجهر بدعوة اشتراكية صاخبة انزعَجَ لها الخليفة عثمان كما انزعَجَ معاوية بن أبي سفيان وحاوَلا أن يَصرفاه عنها، ولكنه مضى في دعوته غير هيَّاب، وطالب أن يكون لفقراء المسلمين حقٌّ في فضل أغنيائهم. ألم يقلِ الله عز وجل في كتابه: وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ،٦ وخُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا،٧ ووَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ.٨ وكان أبو ذرِّ صادقًا في دعوته مُصمِّمًا على نشرها. أراد معاوية أن يَختبرَه فبعث إليه ليلًا بألف دينار، فلما أصبح الصباح أراد أن يستردَّها منه بحيلة، فوجد أنه فرَّقَها كلها، وبعث إليه حبيب بن مسلمة أمير الشام بثلاثمائة دينار، فقال لحاملها: «ارجع بها إليه، أما وجد أحدًا أغرَّ بالله منا؟ ما لنا إلا ظلٌّ نتوارى فيه، وثُلة من غنم تروح علينا، ومولاة لنا تصدَّقَت علينا بخدمتها، ثم إني لأتخوَّف الفضل.»
لقيَ أبو ذر في دعوته كثيرًا من العنت والاضطهاد على يد معاوية خاصة؛ فقد أخذه معاوية بالشدَّة ونهى الناس عن مجالسته وهدَّدَه بالقتل ونفاه بالربذة، وفي هذا يقول: «إن بني أمية يُهددونني بالقتل، وبطن الأرض أحبُّ إليَّ من ظهرها، والفقر أحب إليَّ من الغنى.»٩ قال له رجل: يا أبا ذر، ما لك إذا جلست إلى قوم قاموا وتركوك؟ فقال: «إني أنهاهم عن الكنوز.» ومما يُؤثَر عنه قوله: «يُولدون للموت ويُعمِّرون للخراب، ويَحرصون على ما يفنى ويتركون ما يبقى. ألا حبذا المكروهان؛ الموت والفقر.»

(٢) ثورة الصوفية على الفقه

كان الزهد وما يتطلبه من إنكار الذات وهجر الدنيا أساس التصوُّف في دوره الأول إلى حوالي سنة مائتَين من الهجرة، مع مراعاة دقيقة لآداب الشريعة الإسلامية وأوامرها.

وكانت أحكام الشريعة في أول عهد الإسلام تؤخذ بالرواية؛ أي بالتواتر، لا فرق في ذلك بين عبادات واعتقادات أو مُعاملات، ولكن ما لبث المسلمون أن بدءوا يُناقشون في مسائل الدين ويتدارسُونها، ويَبحثُون عن علل الأحكام على نمطٍ علمي، ثم يُدوِّنون ما يَتناقشون فيه، وكان أول ما اتجهت الهِمَم إلى النظر فيه مسائل الشريعة؛ أي الأحكام العمَلية التي يَدرسها علم الفقه، حتى إن كثيرًا من المسلمين قد حسب أن الاشتغال بهذا العلم والعمل به هو الغاية من الدين. كان هذا دور الاجتهاد الذي ظهر فيه الأخذ بالرأي في المسائل الفقهية.

غير أنَّ هذه الحال لم تَدُم طويلًا، فقد بدأ بعض المسلمين يَنظُرون إلى كمالٍ ديني آخر غير هذا الكمال الذي هو استنباط الأحكام الشرعية والعمل بمُقتضاها. ذلك الكمال الديني الآخر هو البحث في المعاني الباطنة للأحكام بالإضافة إلى معانيها الظاهرة، وكان هذا إيذانًا بظهور علم جديد، هو التصوُّف، إلى جانب علم الفقه. أي بظهور علم باطن الشريعة إلى جانب علم الظاهر. يقول ابن عبد البر في كتاب «مختصر جامع بيان العلم وفضله»: كتب ابن مُنبِّه إلى ابن مكحول (المُتوفَّى سنة ١١٣): «إنك امرؤٌ قد أَصبت فيما ظهر من علم الإسلام شرعًا، فاطلب بما بطن من علم الإسلام عن الله محبةً وزلفًى، واعلم أن إحدى المحبتَين سوف تمنع عنك الأخرى.» فابن منبه وهو في هذا العصر المبكِّر في تاريخ الإسلام، يُفرِّق بين علم الشرع (الفقه) الذي غايتُه معرفة الأحكام، وبين علم باطن الشرع (الذي عرف فيما بعد بالتصوف) الذي غايته التقرب والزلفى إلى الله تعالى.

ولما ظهر الصوفية وأخذوا بمنهجهم في فهم الدين، بدأ الفقهاء يتوجسون منهم خيفةً مدة من الزمن، ثم ما لبثوا أن ناصبُوهم العداء علانيةً واضطهدُوهم كلَّ نوع من أنواع الاضطهاد التي يُحدثنا عنها التاريخ؛ ذلك أن شقة الخلاف بينهم قد اتسعت على مر الزمن، وأصبح لكلٍّ من الطائفتين وجهة نظر خاصة في ماهية الدين نفسه وكيف يجب أن يفهم، وماهية الأحكام الشرعية وكيف يجب أن تستنبط وتعلل، وماهية العبادة وعلى أي نحو تؤدَّى، وما هو الحلال وما هو الحرام، وأيهما أفضل الفروض أم النوافل، وعلى أي نحو يجب أن نتصور الصلة بين الله والإنسان: أهي صلة محبٍّ بمحبوبه أم صلة عابدٍ بمعبوده؟ وما هو التوحيد: أهو إفراد الموحَّد بفصات تميزه عن المحدثات، أم إفراده بالوجود الحق؟ إلى غير ذلك من المسائل التي كانت في صميم الدين. كان من الطبيعي إذن أن يقع الصدام بين الطائفتين لاختلافهما في الفكرة والمنهج والعاطفة، وظهر الخلاف على حقيقته حوالي المائتين بين الفقهاء ومتصوفة البصرة والكوفة، ثم تلاه سلسلة من الاضطهادات في مصر والشام والعراق انتهت في سنة ٣٠٩ بمأساة الحسين بن منصور الحلاج.

وكان من أبرز الشخصيات التي ناهضت التصوف وقاومت الصوفية أحمد بن حنبل، بالرغم مما كان يُكنُّه لبعض الصوفية من احترامٍ وتبجيل كما تشهَد بذلك الحكايات التي تُروى عنه مع الحارث المُحاسبي، ولكن إشفاق ابن حنبل على الإسلام وتخوُّفه من انتشار نفوذ الصوفية كانا أغلب عليه من تقديره لهم. إنه لم يُنكر عليهم أقوالهم، ولكنه كان يعترف صراحةً أنه لا يَفهمهم لأنهم يتكلَّمون بلُغة لا عهد له بها.

تَروي الحكايات أنه استمع يومًا إلى الحارث المُحاسبي وهو يَدرس لتلاميذه في حلقة من حلقاته وكان مُختفيًا وراء ستار، فخرج وهو يبكي؛ لا لأنه فهم كلام المحاسبي، ولكن تأثُّرًا بنغمة الصدق التي لاحَظَها في وصاياه.

ثم جاء أتباع ابن حنبل فكانوا أشد مقتًا للصوفية وتنكيلًا بهم، وقد بلغ اضطهادهم لهم أقصاه في محنة الصوفية المعروفة بمحنة غلام الخليل،١٠ وهي المحنة التي اتُّهم فيها نحو سبعين صوفيًّا، من بينهم الجنيد شيخ الطائفة ببغداد، وحوكموا وحكم عليهم بالإعدام ثم أفرج عنهم.

لم تكن الثورة التي قام بها الفقهاء ضد الصوفية في الحقيقة إلا ردَّ فعل للثورة الروحية التي أراد الصوفية أن يُحدثوها في الدين، فقد أدرك الصوفية أن الدين قد أصبح في عرف الفقهاء جملة رسوم وأوضاع لا حياة ولا روحانية فيها، وهذه الرسوم والأوضاع إن أرضت ظاهر الشرع وأشبعت عقول المشرعين المفتونة بتقعيد القواعد وتعميم القوانين حتى ولو أدى ذلك إلى اصطناع «الحيل» و«المخارج» غير المعقولة، لم تكن لتُرضي باطن الشرع ولا تُشبع العاطفة الدينية عند الصوفية؛ لذلك كان لا بدَّ من أن يَنقسِم «علم الشريعة» إلى قسمَين؛ علم ظاهر الشرع الذي يَدرس الأعمال التي تجري على الجوارح، وهي: العبادات كالصلاة والصوم والحج، والمعاملات مثل الحدود والزواج والطلاق والعتق والبيع، وقد سُمي ذلك «علم الفقه»، وهو علم الفقهاء وأهل الفتيا، والثاني علم الأعمال الباطنة أو أعمال القلوب، وهو التصوُّف أو علم الحقائق الذي سُمي أهله بالصوفية وأرباب الحقائق وأهل الفهم من أهل العلم، كما سُمِّي الآخرون أهل الظاهر وأهل الرسوم.

إلى هذا يُشير رويم البغدادي المُتوفَّى سنة ٣٠٣ بقوله: «كل الخلق قعدُوا على الرسوم وقعدت هذه الطائفة (يعني الصوفية) على الحقائق، وطالب الخلق كلُّهم أنفسَهم بظواهر الشرع وهم طالَبُوا أنفسَهم بحقيقة الورع ومُداوَمة الصدق.»١١

فالتَّفرقة ظاهرة في عبارة رويم بين الشرع وحقيقة الشرع، بين الظاهر والباطن، أو بين الدين في الرسم والدين في الجوهر، وهذه النظرة وحدها هي لب التصوف، وهي العامل الأكبر في تحويل الإسلام — على أيدي الصوفية — من دين رسومٍ وأوضاعٍ إلى دين حي روحي، وتَرجع المُقابلة بين الشريعة والحقيقة — وهي مسألة سنُفيض الكلام فيها فيما بعد — في أصل نشأتها إلى المقابلة بين ظاهر الشرع وباطنه، ولم يكن المسلمون في أول عهدهم بالإسلام ليُقرُّوا هذه التفرقة أو يفكروا فيها، ولكنها بدأت بالشيعة الذين قالوا إن لكلِّ شيء ظاهرًا وباطنًا، وأن للقرآن ظاهرًا وباطنًا، بل لكل آية فيه وكل كلمة ظاهر وباطن، وينكشف الباطن للخواصِّ من عباد الله الذين اختصهم بهذا الفضل وكشف لهم عن أسرار القرآن؛ ولهذا كانت لهم طريقتهم الخاصة في تأويل القرآن وتفسيره، ويتألَّف من مجموع التأويلات الباطنية لنصوص القرآن ورسوم الدين وما ينكشف للسالكين من معاني الغيب عن طرق أخرى ما أطلق عليه الشيعة اسم «علم الباطن» الذي ورثه النبي عليًّا بن أبي طالب — في زعمهم — وورثه علي أهل العلم الباطن الذين سمُّوا أنفسهم بالورثة.

وقد اتبع الصوفية طريقة التأويل هذه واستعملوا فيها أساليب ومصطلحات الشيعة إلى حدٍّ كبيرٍ، ولكنهم استعمَلُوا أيضًا طريقتهم الخاصة التي سمَّوها طريقة «الاستنباط» أي كشف معاني القرآن بترديد قراءة نصوصه.

١  تلبيس إبليس، ص١٦٥.
٢  الحديد: ٢٠.
٣  مقدمة ابن خلدون، ط بيروت، ص٤٦٧.
٤  قوت القلوب للمكي، ج٢، ص١٦٠.
٥  الحلية لأبي نعيم، ج١، ص١٦١.
٦  المعارج: ٢٥.
٧  التوبة: ١٠٣.
٨  التوبة: ٣٥.
٩  الحلية، ج١، ص١٦٢.
١٠  هو أحمد بن محمد بن غالب، ولد بالبصرة وتُوفِّي ببغداد سنة ٢٦٢. كان مشهورًا بالورع والتقوى، ولكنه كان ينكر على الصوفية كلامهم في الحب الإلهي والاتصال بالله وما إلى ذلك من المقالات التي انتشرت في القرن الثالث الهجري. انظر كشف المحجوب ترجمة نيكولسون، ص١٩٠-١٩١.
١١  الرسالة القشيرية، ص٢٠-٢١؛ قارن تلبيس إبليس، ص١٦٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤