طريقة استنباط معاني القرآن

اعتبر الصوفية تلاوة القرآن ضربًا من العبادة؛ لأن لهم في تلاوة القرآن أغراضًا تتحقَّق فيها العبادة بمعناها الصحيح، وأهم أغراض التلاوة عندهم: الحضور التام بالقلب في الحضرة الإلهية، ومناجاة الله بكلامه، والخضوع التام للأمر والنهي كما ورَدا في آيات الأمر والنهي، وإيقاف العبد نفسه في موقف المخاطب بكل آية، وغير ذلك من المعاني التي يُراعيها الصوفية في عبادتهم. يقول أبو طالب المكي في «قوت القلوب»: «فإذا كان العبد ملقيًا السمع بين يدَي سميعه، مصغيًا إلى سرِّ كلامه، شهيد القلب لمعاني صفات شهيده، ناظرًا إلى قدرته، تاركًا لمعقوله ومعهود علمه، متبرئًا من حوله وقوته، معظمًا للمتكلم، واقفًا على حضوره، مفتقرًا إلى الفهم بحال مستقيم وقلب سليم وصفاء يقين وقوة علم وتمكين: سمع فصل الخطاب، وشهد علم غيب الجواب.»١

وتَنحصر طريقة الاستنباط عند الصوفية في تلاوة سورة أو آية من القرآن وتكرارها، متدبِّرين في كل تلاوة معاني ألفاظها، لا ينتقلون من آية إلى أخرى حتى يشاهدوا معاني الأولى ويفتح الله عليهم بما يعينهم على فهم الآية اللاحقة، مع حضور القلب وجمه الهمة والاشتغال بما هم فيه دون غيره، بحيث يتصف القلب بصورة المقروء ويتلوَّن بلونه، فيحزن للوعيد ويفرح للوعد، ويشعر بالخشية والرهبة عند تلاوة آيات الوعد والاعتبار.

يقول الحسن البصري: «والله ما أصبح اليوم عبدٌ يتلو هذا القرآن يؤمن به إلا كثر حزنه وقل فرحه وكثر بكاؤه وقل ضحكه وكبر نصبه وشغله وقلت راحته وبطالته.»٢
ويقول أبو طالب المكي: «فإذا فهم العبد الكلام (أي كلام الله) وعامل به المولى، تحقق بما يقول وكان من أصحابه ولم يكن حاكيًا لقائله. (وذلك) مثل أن يتلو منه: إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ،٣ ومثل أن يقول: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا،٤ ومثل قوله: وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا،٥ فيكون هو الخائف لليوم العظيم، ويكون هو المتوكِّل المنيب، وهو الصابر على الأذى المتوكل على المولى، ولا يكون مخبرًا عن قائل قاله، فلا يجد حلاوة ذلك ولا ميراثه. فإذا كان هو كذلك وجد حلاوة التلاوة، وكذلك إذا تلا الآي المذموم أهلها، الممقوت فاعلها مثل قوله تعالى: وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ، وقوله: فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا،٦ وقوله: وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ٧
وقد يتلو الصوفي الآية الواحدة أربع أو خمس ليالٍ لا يتجاوَزها إلى غيرها، كما أثر عن أبي سليمان الداراني، أو يتلو سورة مثل «هود» في ستة أشهر، أو القرآن كله في ثلاثين سنة. فإذا تلا الصوفي القرآن تلاوة فهم على النحو الذي وصفناه، تفتحت له معانيه رويدًا رويدًا، وزادت وضوحًا مع ازدياد مرات التلاوة، وانكشفَت له «الحكمة» التي هي جماع الأسرار الباطنية المودَعة في النصوص. هذا ما يفهمه الصوفي من قوله تعالى: وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ،٨ قالوا: «الكتاب» اسمٌ لظاهر القرآن، و«الحكمة» اسمٌ لباطنه. قال ابن عباس وغيره في قوله تعالى: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا٩ هي الفهم في كتاب الله عز وجل.١٠

فالحكمة عندهم، أو «الفهم» كما يسميها أوائل الصوفية، ليست نوعًا من العلم يكتسب بالنظر العقلي، بل هي العلم الباطن الذي يُلقى في القلب إلقاءً ويدرك القلب حلاوته ذوقًا، وبذلك تتقابل حكمة الصوفية وحكمة الفلاسفة تقابل الأضداد.

يذكر أبو طالب المكي من بين المَحجوبين عن فهم القرآن: «من نظر إلى قول مفسر يسكن إلى علم الظاهر أو يَرجع إلى عقله أو يقضي بمذاهب أهل العربية واللغة في باطن الخطاب.» ويقول: «هؤلاء كلهم محجوبون بعقولهم، مردودون إلى ما يقدر في علومهم، موقوفون على ما تقرر في عقولهم … وهؤلاء مشركون بعقولهم وعلومهم عند الموحدين، فهذا داخلٌ في الشرك الخفي.»١١

وقد اعتبر هذا من الشرك الخفي لأن من يفهم القرآن اعتمادًا على عقله أو اتباعًا لمفسر، يُشرك بالله؛ لأنه لا يعقل القرآن عن الله، ولا يعقل كلام الله على ما هو، بل بحسب ما يمليه عليه عقله، أو يمليه عليه عقل غيره من المفسرين، والعاقل الكامل من عقل عن الله كما يقول الحديث.

وإذا عرفنا أن معاني القرآن تَنكشِف لكل صوفي بحسب استعداده الروحي وبحسب وقته وحاله، أدركنا لماذا يختلف الصوفية في مشاربهم ونزعاتهم واتجاهاتهم الروحية. فإن ما يغلب على أحدهم من الأحوال نتيجة لتلاوته القرآن، غير ما يغلب على الآخر، والحقيقة أن كل صوفي عالَمٌ روحيٌّ قائمٌ بذاته، وأن الطرق الصوفية المؤدية إلى الله هي بقدر عدد هذه العوالم الروحية، وإذا عَرَّف بعض قدماء الصوفية التصوف بأنه «إدراك الحقائق» فليس لهذا التعريف من معنى إلا أنه إدراك الحقائق الإلهية كما يدركها كل صوفي على حدة، وبمقدار استعداده الروحي وتكوينه.

١  قوت القلوب، ج١، ص٦٩.
٢  قوت القلوب، ج١، ص٧١.
٣  الأنعام: ١٥.
٤  الممتحنة: ٤.
٥  إبراهيم: ١٢.
٦  النجم: ٢٩.
٧  قوت القلوب، ج١، ص٧٤.
٨  البقرة: ١٥١.
٩  البقرة: ٢٦٩.
١٠  قوت القلوب، ج١، ص٧٤.
١١  قوت القلوب، ج١، ص٦٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤