الحقيقة والشريعة

سبق أن ذكرنا أن الحقيقة في عرف الصوفية هي المعنى الباطن المستتر وراء الشريعة، وأن الشريعة هي الرسوم والأوضاع التي تُعبِّر عن ظاهر الأحكام وتجري على الجوارح، وقد أجمع الصوفية في كل عصر على ضرورة التزام الشرع واتباع الدين، ولكنهم لم يفهموا في أي وقتٍ من الأوقات من الدين حرفيته، ولا من الشريعة مجرد طقوسها، بل كانوا دائمًا ينحون في فهم الدين والشريعة نحوًا يختلف قليلًا أو كثيرًا عن نحو الفقهاء، وفي هذا تظهر ثورتهم عليهم. نعم أوجس بعض أوائل الصوفية خيفةً من المبالغة في التفرقة بين الشريعة والحقيقة مما قد يؤدي إلى التراخي في القيام بواجبات الشرع، فألحوا في المطالبة بظاهر الشرع، وفي هذا يقول سهل بن عبد الله التستري المُتوفَّى سنة ٢٧٣ (أو سنة ٢٨٣): «ما من طريق إلى الله أفضل من العلم (يعني العلم بالشرع)، فإن عدلت عن طريق العلم خطوة تهت في الظلمات أربعين صباحًا.» ويقول أبو سعيد الخراز المُتوفَّى سنة ٢٧٧: «كل باطن يخالف ظاهرًا فهو باطل.» ويقول أبو بكر الزقاق الكبير، وكان من أقران الجنيد: «كنت مارًّا في تيه بني إسرائيل فخطر ببالي أن علم الحقيقة مباين للشريعة، فهتف بي هاتف من تحت الشجرة: كل حقيقة لا تتبعها الشريعة فهي كفر.»١

ومما يدلُّ على أن التزام الشريعة والاقتداء الدقيق بسنَّة الرسول كان من دأب قدماء الصوفية، تلك الصيحة المدوية التي صاحها أبو القاسم القشيري في مطلَع رسالته (التي ألَّفها حوالي سنة ٤٤٠ﻫ) في وجه صوفية عصره، مطالبًا إياهم بالرجوع بالتصوف إلى سيرته الأولى، وذلك لما رأى منهم من التواني والفتور في مسائل الشريعة اعتمادًا على ما سموه بالحقيقة. يقول: «إن المحققين من هذه الطائفة انقرض أكثرهم ولم يبقَ في زماننا هذا من هذه الطائفة إلا أثرهم كما قيل:

أما الخيام فإنها كخيامهم
وأرى نساء الحي غير نسائها

حصلت الفترة (أي الفتور والضعف) في هذه الطريقة، لا بل اندرست الطريقة بالحقيقة.

مضى الشيوخ الذين كان بهم اهتداء، وقلَّ الشباب الذين كان بسيرتهم وسنَّتهم اقتداء، وزال الورع وطُويَ بساطه، واشتد الطمع وقوي رباطه، وارتحَلَ من القلوب حُرمة الشريعة، فعَدُّوا قلَّة المبالاة بالدِّين أوثق ذريعة، ورفضوا التمييز بين الحلال والحرام، ودانوا بترك الاحترام وطرح الاحتشام، واستخفوا بأداء العبادات، واستهانُوا بالصوم والصلاة …»٢

ولم تَذهب صيحة القشيري صرخةً في واد، ولم تكن دعوته إلى المحافظة على الدين والتزام أحكام الشريعة سُدى، فإن الغزالي الذي أتى بعد القُشيري بنحو نصف قرن قد أخذ على عاتقه مهمة التوفيق بين التصوف وتعاليم الدين، أو بين الحقيقة والشريعة، وأقام من الدين أساسًا للتصوف، فمَزْج عناصر التصوف مزجًا تامًّا بعناصر من القرآن والحديث، ورفع بذلك من قيمة التصوف حتى في نظر أعدائه، وقد جاءت تآليف الغزالي في هذا الميدان نتيجةَ رغبة صادقة من نفس صادقة في تحصيل حياة روحية حقَّة للغزالي نفسه أولًا، ثم لغيره ممن يتوقون إلى طمأنينة النفس بإيصالها إلى الحقيقة ثانيًا. فإن الغزالي حاول أن يحلَّ مُشكلته الروحية أولًا، ولكنه خلَّف لنا تراث المعلم الرُّوحي الذي يرشد السالكين إلى حل مشكلاتهم الروحية أيضًا.

وجد الغزالي الحقيقة التي كان يَنشدها في الطريق الصوفي، ولكن لم تَصرِفه هذه الحقيقة عن الشريعة ولا حولته عن عقيدة أهل السلف، بل ظلَّ مُستمسِّكًا بمبدأين هامَّين حَفِظا عليه دينه؛ الأول تقديسه للشرع واتباعه الدقيق له، والثاني وجهة نظره في الله من حيث هو ذات قديمة مخالفة للحوادث، وأن النفس الإنسانية قد تستطيع أن تتَّصف بصفات الكمال فتتقرَّب بذلك من الله وتَعرفه أكثر من غيرها، ولكنها لا تستطيع أن تتحقَّق بمعنى الإلهية على أي نحو من الأنحاء، وبذلك أقفل الغزالي الباب في وجه أصحاب وحدة الوجود.

أما أن «الحقيقة» في نظر الغزالي لا تتنافى مع الشريعة فيدلُّ عليه قوله في الإحياء:

من قال إنَّ الحقيقة تُخالف الشريعة والباطن يخالف الظاهر، فهو إلى الكفر أقرب، وكل حقيقة غير مقيَّدة بالشريعة فغير محصولة.

فالشريعة جاءت بتكليف الخلق، والحقيقة إنباء عن تصريف الحق.

فالشريعة أن تَعبده، والحقيقة أن تَشهده، والشريعة قيام بما أمر، والحقيقة شهود لما قدر وأخفى وأظهر.

فكأن «الحقيقة» في نظر الغزالي تأييد — عن طريق الشهود — لما ورَدَ في ظاهر الشرع.

فالشريعة تدعوك إلى القيام بأعمال العبادة ونحوها، والحقيقة تُشهدُك معاني الألوهية وتصرُّف الحق في الكون، وتُوقفك على ما خفيَ عنك من أسرار القضاء.

هذا معنًى من معاني الشريعة والحقيقة فهمه جمهور الصوفية، ولكن من الصوفية من نظر إلى الشريعة والحقيقة نظرة أخرى واتجه في فهمها اتجاهات مختلفة نذكر من أهمها ما يأتي:

اعتبر بعضُهم الشريعة أسلوبًا من أساليب السلوك الخلقي، أو نوعًا من أدب النفس يراعى فيه اتباع الرسول، فلم يَنظُروا إلى تعاليم الدين في حدودها التي وضعها القدماء، ولم يُقسِّموها إلى فروض وسنن، بل أطلقوا الأمر إطلاقًا ولم يُفرِّقوا بينهما، وربما وضعوا النوافل في مرتبة أعلى من الفرائض؛ لأنها — في زعمهم — الوسيلة التي يتقرَّب بها العبد من ربه.

يَروي الصوفية فيما يَروونه من الأحاديث القدسية أن الله تعالى قال: «لا يزال العبد يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعه الذي يَسمع به، وبصرَه الذي يُبصر به، ويدَه التي يبطش بها … إلخ.» فأداء الفرائض طاعة، وأداء النوافل محبة، وأداء الفرائض يوصل إلى الجنة، وأداء النوافل يُوصِّل إلى صاحب الجنة.

كذلك خالفوا الفقهاء في اعتبارهم النية أفضل من العمل، وفي تقديمهم التأمُّل على العبادة، والتحريم على الإباحة. أما أنَّ النية أفضل من العمل؛ فلأنها أساسه ومَبنى قوامه، وقيمة العمل ليسَت فيه من حيث ذاته، بل من حيث الباعث عليه والدافع إليه. يقول الحديث الشريف: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئٍ ما نوى.» أي إنما قيمة الأعمال بحسب النية التي تَدفع إليها، «ولكل امرئٍ ما نوى» معناه لكل إنسان نصيبه من الجزاء على قدر نيته، وأما تفضيلُهم التأمُّل على العبادة؛ فلأنَّ التأمُّل عمل روحي بحت، والعبادة عمل رُوحاني بدني، وأما تقديمهم التحريم على الإباحة فهو اعتبارهم أن الأصل في الأشياء أن تكون محرمة على الإنسان وأن ما أحله الشرع منها استثناء من هذه القاعدة.

نظر هؤلاء الصوفية إلى باطن الشريعة دون ظاهرها، وإلى الحكمة في التشريع دون القيام بالأمر المشرع: فالإنسان مكلف من قبل الشرع لا ليقوم بأداء فرضٍ فرضَه الله عليه وحسب، بل لأنَّ التكليف يُحقِّق غايةً عُليا قصد إليها المشرِّع، وهذه الغاية تتحقَّق بالأمر المكلف به كما تتحقق بغيره من الأمور التي تُمثاله، وإذا كان الأمر كذلك، ظهرت ضآلة الأداء الفعلي للأمر المكلف به بإزاء النية الصادقة في أدائه، وظهرت ضآلة رسوم العبادة بإزاء التأمل الذي هو جوهر العبادة، ومعنى هذا أن مناط التكليف عند هؤلاء الصوفية هو القلب لا الجوارح، وخلاص العبد هو في إخلاص نيته لا في القيام بالعمل.

وإذا اتجه العبد الاتجاه الذي يُريده هؤلاء الصوفية، حصَّل الفوائد الروحية من العبادة وكان لهذه الفوائد أثرها في تطهير النفس وتصفية القلب وتقريب العابد من الله، وإذا تمَّت تصفية القلب وحصل القرب من الله، تحقق العبد بمعرفة الله، وهي في نظرهم الغاية القُصوى والمقصد الأسمى الذي قصد إليه الشارع من التكليف.

وهذا موقفٌ، على ما فيه من نبل الغاية وصدق النظرة الروحية، كثيرًا ما أخذ به ضعفاء القلوب من الصوفية فزلت أقدامهم وأدى بهم آخر الأمر إلى الوقوع في نحوٍ من الإباحية والقول برفع التكاليف، استنادًا إلى أن الغاية إذا تحقَّقت استُغني عن الوسيلة، فإذا وصَل العبد إلى مقام القرب من الله أصبح في غِنًى عن مخاطبة الشرع له.

ونحن لا نُنكر أن بعض من انخرطُوا في سلك الصوفية ممَّن لا خلاق لهم ولا صدق فيهم قد انحدَرُوا إلى هذه الهاوية، ولكنَّ جمهور الصوفية الصالحين الذي لهم قدم صدق في الطريق لم يُفرِّطوا في الشرع في قليل أو كثير، ولم تلقَ منهم تلك الإباحية إلا كل نقمة وإنكار.

يقول جمال الدين أبو الفرج بن الجوزي المُتوفَّى سنة ٥٩٧: «وقد أخبرنا ابن ناصر بإسناد عن أبي عبد الرحمن السُّلَمي قال: قيل لأبي نصر النصراباذي إن بعض الناس يُجالس النسوان ويقول: «أنا معصوم في رؤيتهن.» فقال: «ما دامت الأشباح قائمة فإن الأمر والنهي باقيان، والتحليل والتحريم مُخاطَب بهما.» وقال أبو علي الروذبادي وسُئل عمن يقول: «وصلت إلى درجة لا يؤثر فيَّ اختلاف الأحوال.» فقال: «وقد وصل ولكن إلى سقر.» وبإسناد عن الجريري يقول: سمعت أبا القاسم الجنيد يقول لرجل ذكر المعرفة فقال الرجل: «أهل المعرفة بالله يصلون إلى ترك الحركات من باب البر والتقرب إلى الله عز وجل.» فقال الجنيد: «إنَّ هذا قولُ قومٍ تكلموا بإسقاط الأعمال، وهذه عندي عظيمة، والذي يَسرق ويزني أحسن حالًا من الذي يقول هذا، وإن العارفين بالله أخذوا الأعمال عن الله وإليه رجعوا فيها، ولو بقيت ألف عام لم أنقص من أعمال البر ذرة إلا أن يُحال بي دونها؛ لأنه أوكد في معرفتي به وأقوى في حالي.»

وبإسناد عن أبي محمد المرتعش يقول: سمعت أبا الحسين النوري يقول: «من رأيته يدَّعي مع الله عز وجل حالة تخرجه عن علمٍ شرعي، فلا تقربَنَّه، ومن رأيته يدَّعي حالة باطنة لا يدلُّ عليها ويشهد لها حفظ ظاهر، فاتَّهِمْه في دينه.»٣

هذه أمثلة يسوقها ابن الجوزي للتدليل على أن قدماء الصوفية لم يُفرِّطوا في ظاهر الشرع على الرغم من مراعاتهم لباطنه وحقيقته، وأنهم أنكروا كل الإنكار مقالة من قال: «إنهم داوَمُوا على الرياضة حتى رأوا أنفسهم قد تجوَهُروا، فقالوا: لا نُبالي الآن بما عملنا، وإنما الأوامر والنواهي رسوم للعوام، ولو تجوهروا لسقطت عنهم.»

وآخرون — وهم الرمزيون من الصوفية — ينظرون إلى الشريعة نظرة أخرى، فيقومون بشعائر الدين كما كُلفوا بها، ولكنهم لا يرون فيها إلا رموزًا يقصد بها معانٍ باطنية يذهبون في فهمها كل مذهب. فرسوم الشريعة هي الظاهر، ومعانيها التي هي أعمال القلوب هي الباطن، وليس للظاهر قيمة في ذاته وإنما قيمته في المعنى الرُّوحي الذي يقصد منه، وهذه وجهة نظر وسط بين التزام أحكام الشرع على ما هي عليه لذاتها، وبين إسقاط أعمال الظاهر إسقاطًا كليًّا، وإن كانت أقرب إلى الثاني منها إلى الأول، وهي نظرة إلى الشريعة يمكن مقارنتها — في ظاهرها — بنظرة الإسماعيلية الباطنية إلى أحكام الدين. أقول «في ظاهرها» لأن الإسماعيلية الباطنية كانت لهم في نظرتهم إلى ظاهر الشريعة مآرب أخرى ليسَت من مآرب الصوفية في شيء.

وتظهر هذه النزعة الرمزية بصفة خاصة في تأويل مناسك الحج؛ فقد كان الحج في معناه وشعائره أكثر العبادات خضوعًا لهذا التأويل الرمزي، وقد أخضعه الصوفية لهذا التأويل منذ أقدم عصورهم. كأنهم لم يرَوا في القصد إلى بيت الله الحرام والقيام بشعائر الحج قدسية وروحانية كافية من حيث الظاهر، فطفقوا يبحثون عن معانٍ روحية وراء الرسوم الظاهرة، وربما سَهُل عليهم تأويل مناسك الحج تأويلًا رمزيًّا أن الحج سفر إلى بيت الله، والطريق الصوفي سفر إلى الله، فكان من الطبيعي أن يتَّخذوا من السفر البدني رمزًا للسفر الروحي، ولأذكر هنا مثالًا واحدًا من أمثلة التأويل الرمزي لبعض مناسك الحج أورده أبو نصر السراج في كتاب «اللمع»، وهناك نظائر كثيرة من التأويل الرمزي للعبادات الأخرى كالصلاة والصوم. يقول السراج:٤
فإذا بلغوا (أي الحُجاج) الميقات غسلوا أبدانهم بالماء وغسلوا قلوبهم بالتوبة، وإذا نزعوا ثيابهم للإحرام تجرَّدوا وحلوا العقد واتزوا وارتدوا، فكذلك نزعوا عن أسرارهم الغل والحسد،٥وحلوا من قلوبهم عقد الهوى ومحبة الدنيا، ولم يعودوا إلى ما خرجوا منه من ذلك. فإذا قالوا «لبيك لا شريك لك» لا يجيبون بعد ذلك دواعي النفس والشيطان والهوى بما أجابوا الحق بالتلبية وأقروا أنه لا شريك له.

فإذا استلمُوا الحجر الأسود وقبَّلوه، علمُوا أنهم يُبايعون الله بأيمانهم، فمن الأدب ألا يمدُّوا بعد ذلك أيمانهم إلى مُراد وشهوة. فإذا جاءوا إلى الصفا، فمن الأدب ألا تَعترض بعد ذلك كدورة الصفا قلوبهم. فإذا هم هروَلُوا بين الصفا والمروة وأسرعوا في مشيهم، فمن الأدب أن يسرعوا في الفرار من عدوِّهم ويُهروِلوا من متابعة نفوسِهم وهواهم وشيطانهم.

والذهاب إلى «منى» رمز للتأهُّب للقاء لعلَّهم يصلُون إلى مُناهم، وطلوعهم عرفات رمز لتعرُّفهم على معروفهم وهو الحق، وكسرهم للحجارة رمز لكسر الإرادات والشهوات، ورميهم الحجارة رمز لترك ملاحظة الأعمال ومُشاهَدة النفوس لها، والتعلُّق بأستار الكعبة رمز للتعلُّق بالله دون غيره، إلى غير ذلك من مناسك الحج.

فهنا نجد لكلِّ عمل من أعمال الجوارح عملًا يُوازيه من أعمال القلوب، ونجد الحج سفرًا روحيًّا أكثر منه سفرًا بدنيًّا ومجموعة من الأقوال والأفعال، ولا شك في أنها نظرة عميقة في الدين متى الْتُزمت في حدود الدين ولم تَخرج عنه، ومتى جمع بين الرمز والمرموز إليه، ولكنها نظرة محفوفة بالخطر؛ لأنها قد تؤدي إلى المبالغة فيما اعتبر روحانيًّا أو باطنيًّا في شعائر الدين إلى الحد الذي يُؤدي إلى إسقاط التكاليف وإحلال التكاليف الروحية محل التكاليف الشرعية، كإحلال «الحج بالهمة» محل الحج إلى البيت الحرام، أو إحلال «الذكر» محل الصلاة، أو نحو ذلك، وممن نزع هذه النزعة في الحج خاصةً الحسين بن منصور الحلاج وصاحبه وتلميذه أحمد بن سهل بن عطاء الآدمي.

وهنالك طائفة أخرى هم «الملامتية»٦ يتعمَّدون الظهور بين الناس بما يشعر أنه منافٍ لظاهر الشرع استجلابًا للذم والملامة؛ وذلك لأنهم يعتبرون الدين معاملة بينهم وبين الله، وسرًّا لا يطلع عليه أحد سواه. بل لا تطَّلع عليه نفوسهم؛ لأن رؤية الأفعال في مذهبهم مُبطلة للأفعال. فهم لا يظهرون للخلق خيرًا ولا يدَّعون لأنفسهم طاعة؛ ولذلك خالف الملامتية الصوفية في كثير من تعاليمهم وطقوسهم، فلم يَلبسوا خرق الصوفية ولم يَحضروا مجالس السماع ولم يُبيحوا لمريديهم التواجد والظهور بمظهر الجذب أو أي مظهر يشعر بالدعوى أو يجلب الشهرة؛ وذلك سترًا لأحوالهم.

•••

هذه كلها وجهات نظر للصوفية في الشريعة والحقيقة، وكلها — ما عدا الأولى — اتجاهات في الدين وراء الحدود التي رسمها الفقهاء، وإخراج له عن الدائرة التي حصر الفقهاء الدين فيها، وهي نزعات عملت — عندما صدقت — على توسيع الأفق الروحي للعبادات، وإن أفسد جمالها في بعض الأحيان ضعفاء الإيمان من الصوفية أنفسهم أو من الدخلاء عليهم.

ولذلك لم يكن بدٌّ من أن يدبَّ الخلاف بين الصوفية والفقهاء ويتهم الفقهاء الصوفية بالابتداع في الدين ويتهم الصوفية الفقهاء بالجمود وضعف الروحانية؛ وذلك للاختلاف الجوهري بين الطائفتَين في المنزع والغاية، ولم يكن بدٌّ من أن يثور الصوفية في أوجه الفقهاء الذين أصبح الدين على أيديهم مجموعة من الرسوم والأشكال والأوضاع التي لا حياة فيها، ولم يكن بدٌّ أيضًا من أن يثور الفقهاء في وجه الصوفية لأنهم اعتبروا أنفسهم حماة الشرع الذائدين عنه، والشرع لم يأتِ إلا بأحكام الظاهر، ولم يضع حدودًا لأحكام الباطن، فلم يضع حدًّا للنفاق والرياء، والشرك الخفي أو عدم الإخلاص، أو ما شاكل ذلك من أعمال القلوب، بل ترك أمر ذلك إلى الله.

ومن القصص التي لها مغزاها في إظاهر الفرق بين فهم الفقهاء للدِّين وفهم الصوفية، وبيان أن الفقهاء اعتبروا أنفسهم دائمًا حراسًا قوَّامين على الدين، ما رُويَ من أن أحمد بن حنبل كان عند الشافعي يومًا فمرَّ شيبان الراعي الصوفي، فقال أحمد: أريد يا أبا عبد الله أن أنبِّه هذا على نقصان علمِه ليَشتغِل بتحصيل بعض العلوم، فقال الشافعي: لا تفعل، فلم يَقتنِع وقال لشيبان: ما تقول فيمن نسيَ صلاةً من خمس صلوات في اليوم والليلة ولا يَدري أي صلاة نسيَها، ما الواجب عليه يا شيبان؟ فقال شيبان: يا أحمد هذا قلب غفل عن ذكر الله تعالى، فالواجب أن يؤدَّب حتى لا يغفل عن مولاه. فغُشي على أحمد، فلما أفاق قال الشافعي رحمه الله: ألم أقل لك لا تُحرِّك هذا؟»٧

لا شكَّ أن أحمد بن حنبل كان يُفكِّر في جوابٍ فقهي يتصل بعدد الصلوات وأوقاتها، وفي مخرج فقهي أو حيلة فقهية تُخرج ذلك المصلِّي من ورطته، ولكن شيبان لم يفكر في هذا كله وإنما فكر في أساس الصلاة وجوهرها وهو ذكر الله وعدم الغفلة عنه.

وقد اعتبر الصوفية أنفسهم أيضًا حماة الدين بمعناه الحقيقي — لا الظاهري — فوضعوا حدودًا لأحكام الباطن وأعمال القلوب وعدُّوا ذلك جزءًا من الدين، بل عدُّوه الفقه الحقيقي في الدين. ذلك أنهم اعتبروا الدين معاملة شخصية بين العبد وربه، وقاسوا طاعة العبد لا بمطابقة فعله لأحكام ظاهر الشرع فحسب، بل بمطابقته لروح الشرع وحقيقته أيضًا، وبمقدار ما ينطوي عليه الفعل من إخلاص وبعد عن الرياء، ومن هنا كان الفقيه الحقيقي في نظرهم هو البصير بأمر دينه، الفاهم لحقيقة شرعه، لا العالم بظاهر أحكام ذلك الشرع.

قيل للحسن البصري يومًا: فلانٌ فقيهٌ، فقال: «وهل رأيت فقيهًا قط؟ إنما الفقيه الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، البصير بأمر دينه.» فالفقه الحقيقي في نظر الحسن هو البصر بأمور الدين وإدراك أسرار الأحكام، لا مجرَّد العلم والعمل بالأحكام، ونتيجة ذلك الإدراك هو الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة.

ولكن نستطيع أن نقول إن جمهور الصوفية مُجمعون على أن الفقه في الدين يشمل العلم بأحكام الظاهر وأحكام الباطن جميعًا، وأن الفقه في أحكام الأحوال ومعاني المقامات ليس بأقل خطرًا من الفقه في أحكام الطلاق والعتاق والقصاص. يقول أبو نصر السراج:٨ «لأنَّ تلك الأحكام (أي أحكام الظاهر) ربما لا يقع في العمر حادثة تحتاج إلى العلم بحُكمها، فإذا وقعت فيكفي فيها التقليد وبذلك يسقط الفرض.٩ أما الأحوال والمقامات والمجاهَدات التي يتفقَّه فيها الصوفية ويتكلَّمون عن حقائقها؛ فالمؤمنون مُفتقرُون إليها، ومعرفتها واجبة عليهم، وليس لها وقت مخصوص دون وقت. مثال ذلك الصدق والإخلاص والذكر ومجانَبة الغفلة؛ وذلك أن العبد واجبٌ عليه أن يعلم في كل لحظة قصده وإرادته وخاطره، فإن كان حقًّا من الحقوق لزمه، وإن كان حظًّا من الحظوظ جانبه. قال تعالى: وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا.» فالفقه في أحوال النفس — أي معرفة النفس وأحوالها وخواطرها وقصودها — فرضُ عينٍ على كل مؤمن، بل هو الفقه الحقيقي لأنه أساس الفقه الشرعي، ويرى السراج أن الصوفية لا غنى لهم عن الفقهاء، وأنه يجب عليهم أن يأخذوا عنهم علومهم ليُجانبوا الابتداع في الدين والانسياق مع الهوى. فإذا لم يبلغ أحد منهم مرتبة الفقيه في الدراية والفهم، رجع إلى أصحاب الفقه في الأمور التي تشكل عليه، ولكن السراج يفضل الصوفية على أصحاب الفقه والحديث حيث يقول: «إنهم (أي الصوفية) ارتفعوا إلى درجات عالية وتعلَّقُوا بأحوال شريفة ومنازل رفيعة من أنواع العبادات وحقائق الطاعات والأخلاق الجميلة، ولهم في معاني ذلك تخصُّص ليس لغيرهم من العلماء والفقهاء وأصحاب الحديث.»

•••

كل ذلك لم يرق في نظر الفقهاء واعتبروه خطوة نحو الإباحية والتحلُّل من الشرع، ولكنه كان في نظر الصوفية تدرجًا طبيعيًّا في مطالب الحياة الروحية، فقد كان المسلمون مقبلين على حياة روحية أعمق وأقرب اتصالًا بالله، ولم يكن الفقه الشرعي وحده كافيًا في تحقيق هذه الغاية؛ ولذلك وجد الصوفية طلبتهم في التصوُّف كما فعل الغزالي.

ولم تكن ثورة الصوفية على الفقهاء قاصرة على نظرتهم إلى ظاهر الشرع وباطنه، بل تعدت ذلك إلى فهمهم لمعاني أحكام الشرع ذاتها من فرض ونافلة وحلال وحرام ومكروه ومندوب إليه وما شاكَلَ ذلك، فأوجبُوا على أنفسهم أمورًا لم يَرِد الشرع بإيجابها، وحرموا أمورًا لم يَرِد الشرع بتحريمها: وكأنهم بذلك منحوا أنفسهم حق التشريع، غير أن تشريعهم كان لأنفسهم لا لغيرهم.

١  الحلية، ج١٠، ص٣٤٤.
٢  الرسالة القشيرية، ص٢.
٣  تلبيس إبليس، ص٣٦٨.
٤  اللمع، ص١٧١.
٥  إشارةً إلى قوله تعالى: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (الحجر: ٤٧).
٦  راجع كتاب «الملامتية والصوفية وأهل الفتوة» للمؤلف.
٧  رسالة القشيري، ص١٨١.
٨  اللمع، ص١٧-١٨.
٩  يعني أن العلم بأحكام الشرع فرض كفاية لا فرض عين، يسقط عن الجميع إذا قام به واحد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤