ثورة التصوف في مجال التوحيد

أبرز العقائد الإيمانية في الإسلام عقيدة التوحيد، فإن الدعوة الإسلامية تتركز في هذه العقيدة وعنها تتفرع العقائد الأخرى التي أوجب الله على كل مسلم اعتقادها، وقد أكد القرآن وحدانية الله تعالى في مواطن كثيرة من كتابه وأشار إليها بأساليب مختلفة: فتارة يقررها تقريرًا ويطالب الناس بالإيمان بها فيقول: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ،١  وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ،٢  اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ.٣ وتارةً يقررها في معرض الرد على المشركين الذين اتخذوا مع الله إلهًا آخر أو آلهة أخرى، والكفار الذي عبدوا الأوثان من دون الله، فيقول ردًّا على الأولين: أَءِلَهٌ مَعَ اللهِ،٤ ويتعجب من صنع الآخرين فيقول: أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ.٥ وتارةً يقررها في معرض الرد على الدهريين الذين قالوا: مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ،٦ أو الثنوية والمجوس الذين قالوا بوجود مبدأين كلٌّ منهما إله، أو النصارى: الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ.٧ وتارةً يدعو الإنسان إلى النظر في خلق السموات والأرض، وإلى النظر في النفس وما فيها من عجائب، أو في مظاهر الكون ودقائق صنع الله فيه، عله يسترشد بهذه الآيات ويهتدي إلى الإله الواحد الحق المبدع لهذا الوجود، وتارةً يقرر الوحدانية عن طريق تقريره لمخالفته تعالى للحوادث فيقول: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، أو يصف الحوادث بالتغير والفناء والدثور، ويصف نفسه بالقدم والأزلية والبقاء، إلى غير ذلك من الأساليب المتنوعة التي ترمي — على الرغم من تنوعها وتعدد صورها — إلى تقرير قضية أساسية واحدة، هي «أن الله واحد».

ولكن هذا المعنى البسيط لعقيدة التوحيد، وإن أرضى عقول بعض المسلمين وقلوبهم، لم يرضِ مسلمين آخرين كانوا على حظٍّ من الثقافة الفلسفية أو الصوفية أو الاثنين معًا، فحاولوا أن يفهموا «التوحيد» فهمًا جديدًا، أو على الأقل أن يلقوا عليه ضوءًا جديدًا استمدوه من ثقافتهم من ناحية، ومن تجاربهم الروحية من ناحية أخرى. فناقشوا المقصود بالتوحيد على وجه التحديد، وتكلموا عن أنواع مختلفة من التوحيد: توحيد العوام وتوحيد الخواص وتوحيد خاصة الخاصة، كما تكلموا عن توحيد الذات وتوحيد الصفات وتوحيد الأفعال الإلهية، بل تكلم بعضهم عن توحيد الحق (الله) للحق وتوحيد الحق للخلق، وتوحيد الخلق للحق، وغير ذلك مما لم يخطر لأهل السلف على بال.

لذلك نجد في تاريخ الإسلام الديني نوعًا من التطور في مفهوم «التوحيد»، وهو تطور قضت به طبيعة تطور التفكير الإسلامي والظروف الاجتماعية والثقافية التي مر بها المسلمون، وإن لم يكن ذلك التطور على وفاق تام دائمًا مع العقيدة الأولى التي نص عليها القرآن في بساطة ووضوح، وكذلك نجد مبالغة شديدة في تحليل مفهوم التوحيد وفي النظر إلى مستلزماته الميتافيزيقية والصوفية كادت أن تخرجه من ميدان العقيدة إلى ميدان المذهب الفلسفي أو «الثيوسوفي».

ومن الغريب حقًّا أن مبالغة بعض مفكري الإسلام في تحليل التوحيد والدفاع عنه، وتحليقهم عاليًا في سماء التجريد، كما فعل المعتزلة والفلاسفة الإسلاميون، أو غوصهم بعيدًا في أعماق التجربة الروحية طلبًا للتوحيد كما فعل بعض الصوفية، قد أدى بهم — أو كاد يؤدي بهم — إلى إحلال صورة مبدأ مجرد (هو أشبه «بالمطلق» عند الفلاسفة) محل الله الخالق الفاعل المريد العالم المعبود كما تصوره الأديان. فقد جردوا الله من صفاته الإيجابية، أو قالوا بهذه الصفات وعطلوها، وهذا هو الاتجاه الذي اتجهه المعتزلة وبعض فلاسفة المسلمين كابن سينا، وعلى أمثال هؤلاء يرد أبو الحسن البوشنجي (المُتوفَّى سنة ٣٤٨) في الشق الثاني في قوله: «التوحيد أن تعلم أنه (أي الله) غير مشبه للذوات ولا منفي لصفات»،٨ يُشير بذلك إلى المعتزلة الذين نفوا الصفات الإلهية بمعنى أنهم أنكروا أن لها وجودًا زائدًا على وجود الذات؛ ولهذا سُموا «المعطِّلة»، ومن الصوفية من فهم من «التوحيد» إفراد الله بالوجود الحق الذي ليس إلى جانبه وجود، ذاتًا كان ذلك الوجود الآخر أو صفةً أو فعلًا، على اختلاف ما بينهم في التعبير عن هذا المعنى وصياغته. فإن بعضهم كان أدنى إلى الاعتدال وأقرب إلى مذهب أهل السنة كالحارث المُحاسبي، وبعضهم أشرف على القول بوحدة الوجود كأبي القاسم الجنيد، وبعضهم قال بوحدة وجود سافرةً مثل محيي الدين بن عربي، وسنشرح نظريته في وحدة الوجود بالتفصيل فيما بعد.
لمثل هذا تعددت صيغ التوحيد وتباعدت معانيها ومراميها؛ فمن القول بلا إله إلا الله، وهو الصيغة الإسلامية الأولى البسيطة في دلالتها، ظهرت الصيغ الآتية:
  • (١)

    لا إله إلا الله المنزَّه تنزيهًا مطلقًا من كل ما يتصوَّره العقل والوهم، وهذا تصور المعتزلة والفلاسفة وبعض الصوفية.

  • (٢)

    لا فاعل ولا قادر ولا مُريد على الحقيقة إلا الله، وهو تصور بعض الصوفية الذين يفهمون توحيد الله في صفاته وأفعاله على هذا النحو.

  • (٣)

    لا مشهود على الحقيقة إلا الله، وهو قول الصوفية الذين لا يَرون شيئًا إلا ويرون الله معه.

  • (٤)

    لا موجود على الحقيقة إلا الله، وهو قول أصحاب وحدة الوجود من الصوفية.

فلا عجب إذن أن نقول إن نظر مفكِّري الإسلام في معنى «التوحيد» ومبالغتهم في تحليل دقائقه، أدى ببعضِهم إلى القول بوحدة الوجود، وأننا لسْنا بحاجة إلى البحث عن أصل هذه النظرية عند المسلمين في مصدر خارج عن التفكير الإسلامي كالفيدانتا الهندية ونحوها، وسيتَّضح هذا الرأي في ضوء ما سنُورده من تعريفات المسلمين للتوحيد ومناقشة هذه التعريفات.

•••

يَقتبس التهانوي صاحب كشاف اصطلاحات العلوم والفنون من كتاب «مجمع السلوك» تعريفًا للتوحيد يصحُّ أن نَسترشد به في بحثنا هذا ونجعله نقطة البداية في مناقشتنا، فيقول:
التوحيد لغة جعل الشيء واحدًا، وفي عبارة العلماء اعتقاد وحدانيته تعالى، وعند الصوفية معرفة وحدانيته الثابتة له في الأزل والأبد؛ وذلك بألا يحضر في شهوده (أي شهود الصوفي العارف) غير الواحد جل جلاله.٩
فإذا تركنا المعنى اللغوي جانبًا، وجدنا التعريف يحتوي نوعين من التوحيد: التوحيد في عُرف العلماء وهو توحيد الاعتقاد، والتوحيد في عرف الصوفية وهو توحيد المعرفة والشهود، والأول علم وتصديق إن كان دليله نقليًّا، وهو توحيد العوام، وعلم وتحقيق إن كان دليله عقليًّا، وهو توحيد النظار من المتكلِّمين والفلاسفة، ويقرب من هذا ما أورده العروسي في حاشيته على شرح الأنصاري على الرسالة القشيرية١٠ حيث يقول: «قال بعضهم: التوحيد إفراد الحق تعالى بالقصد والعبادة، فإن كان ذلك اعتقادًا يقال للعبد مؤمن بالتوحيد، وإن كان علمًا من أدلة يقال له عالم بالتوحيد، وإن كان لغلبة الحق على القلب يُقال إنه عارف بربه.»

والنوع الأول بقسمَيه — توحيد النقل وتوحيد العقل — غير مأمون العاقبة؛ إذ المصدِّق عن طريق النقل وإن أقرَّ بالتوحيد لا يَسلم من أن تعتريَه الشُّبَه، والمصدق عن طريق النظر الفكري محجوب عن حقيقة التوحيد بعقله ونظره لأنه — في نظر الصوفية — لا يُشاهد الوحدة الإلهية ما دام يرى لنفسه وجودًا.

والنوع الثاني الذي هو توحيد المعرفة والشهود هو التوحيد الحاصل بالإدراك الذوقي في التجربة الصوفية. أو هو بعبارة أخرى تذوُّق لمعنى التوحيد ناشئ عن إدراك مباشر لما يتجلَّى في قلب الصوفي من معاني الوحدة الإلهية في حالٍ تَجلُّ عن الوصف وتَستعصي على العبارة، وهي الحال التي يَستغرِق فيها الصوفي ويَفنى فيها عن نفسه وعن كل ما سوى الحق، فلا يُشاهد غيره لاستهلاكه فيه بالكلية. يقول التهانوي:١١ «فيرى صاحب هذا التوحيد كل الذوات والصفات والأفعال مُتلاشية في أشعة ذاته (أي ذات الحق) وصفاته وأفعاله، ويجد نفسه في جميع المخلوقات كأنها مدبِّرة لها وهي أعضاؤها.» ثم يقول: ويُرشد فهم هذا المعنى إلى تنزيه عقيدة التوحيد عن الحلول والتشبيه والتعطيل، كما طعن فيهم (أي الصوفية) طائفة من الجامِدين العاطلين عن المعرفة والذوق؛ لأنهم إذا لم يُثبِتوا معه غيره فكيف يَعتقدون حلوله فيه أو تشبيهه به، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.

ولكن قول التهانوي أن الصوفية لا يُثبتون مع الله غيره، ولا مع صفاته صفات أخرى، ولا مع أفعاله أفعالًا أخرى، إذا أخذ على إطلاقه، لا يجعل الصوفية من القائلين بالتوحيد، بل بوحدة الوجود، وهو معنى للتوحيد كادت المدرسة البغدادية في القرن الثالث — ومن زعمائها أبو القاسم الجنيد — أن تقول به كما سيأتي بيانه.

«التوحيد» إذن شأنه شأن الإيمان الذي يتحدَّث عنه ابن خلدون في فصل علم الكلام في مقدمته: فكما أن الإيمان على درجات: منه إيمان بالقول، ومنه اعتقاد وتصديق بالقلب، ومنه حال للمؤمن أو ملكة فيه، أو صفة مُمتزجة بكاينه تصدر عنها أفعاله صحيحة سليمة مُتمشية مع ما يُطالب به الشرع من أوامر وما ينهى عنه من نواه، كذلك التوحيد: منه قول باللسان، واعتقاد بالقلب، ومنه حال للرُّوح أو تجربة روحية يشهد فيها الموحِّد وحدانية الحق وانفراده بالألوهية الكاملة، ومن كمال الألوهية عند الصوفية إفراد الحق تعالى لا بالعبادة وحسب، بل بالفعل والقدرة والإرادة والتدبير. فهو واحد بمعنى أنه لا معبود غيرُه، وهو واحد أيضًا بمعنى أنهم لا يَشهدون غيره فاعلًا وقادرًا ومريدًا ومدبرًا، ويفصل هذا المعنى الإجمالي الذي أشار إليه التهانوي ما أورده القشيري من أقوال للصوفية في معنى التوحيد في الفصل الأول من رسالته تحت عنوان «بيان اعتقاد هذه الطائفة (الصوفية) في مسائل الأصول»١٢ وفي الفصل الخاص الذي عقده في «التوحيد»،١٣ وكذلك فيما أورده الهجويري في «كشف المحجوب» في الفصل الذي عقده في «التوحيد».١٤

فالقشيري يعرض في الفصل الأول من رسالته عقيدة الصوفية في التوحيد الذي يعتبره رأس العقائد الإيمانية جميعها، والأصل الذي بنى عليه الصوفية قواعد طريقهم وصانوا به عقائدهم عن البدع، مقتبسًا في كل ذلك ما هو أدنى إلى مذهب السلف وأهل السنة. ثم يُورد تعريفات التوحيد السنِّي لعدد كبير من الصوفية، وينبه إلى مخالفتهم في ذلك لمذاهب المبتدعة، وبخاصة المجسمة والمشبهة والمعتزلة، ويلخص عقيدتهم في التوحيد في جملة شاملة جامعة لزبدة ما فصَّله في الفصل المذكور.

وكذلك يفعل الهجويري في كتابه «كشف المحجوب» فيما كتبه عن «التوحيد» فيقرر معنى التوحيد وعناصره والصفات الإلهية التي يختصُّ بها الله دون سواه على نحو ما فعل القشيري، بل يكاد المؤلفان يتفقان في الألفاظ والمعاني، ولكن التوحيد الذي يعرضانه هنا هو توحيد الصوفية المتأثرين بمذهب السلف وأهل السنة، وهو توحيد إن وقف عنده بعض الصوفية، فقد تجاوزه آخرون إلى توحيد أكثر تعقيدًا وأدق معنى وأعمق روحانية. نجد إشارات كثيرة إلى ذلك فيما أورده القشيري من أقوال الصوفية في الفصل الذي عقده عن التوحيد وفي رسالة الجنيد عن التوحيد التي لا تزال مخطوطة.١٥
ولكي نرى التطور التدريجي في معنى التوحيد عند الصوفية، يَجدر بنا أن نذكر أولًا نصَّي القُشيري والهجويري لنوضح بهما الصورة الأولى للتوحيد، ثم نتبعُهما بصورة التوحيد الأخرى. يقول القشيري:١٦
قال شيوخ هذه الطائفة — على ما يدلُّ عليه متفرِّقات كلامهم ومجموعاتها، ومصنفاتهم في التوحيد — أن الحق سبحانه وتعالى موجود، قديم، واحد، حكيم، قادر، عليم قاهر، رحيم، مريد، سميع، مجيد، رفيع، متكلِّم، بصير، متكبر، قدير، حي، أحد، باق، صمد، وأنه عالم بعلم، قادر بقدرة، مريد بإرادة، سميع بسمع، بصير ببصر، متكلم بكلام، حي بحياء، باق ببقاء، وله يدان هما صفتان يخلق بهما ما يشاء سبحانه على التخصيص، وله الوجه الجميل، وصفات ذاته مختصَّة بذاته، لا هي هو ولا هي أغيار له، بل هي صفات له أزلية ونعوت سرمدية، وأنه أحديُّ الذات، وليس يُشبه شيئًا من المصنوعات ولا يُشبهه شيء من المخلوقات. ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض ولا صفاته أعراض، ولا يتصوَّر في الأوهام ولا يتقدر في العقول، ولا له جهة ولا مكان، ولا يجري عليه وقت ولا زمان، ولا يجوز في وصفه زيادة ولا نقصان، ولا يخصه هيئةٌ وقدٌّ، ولا يقطعه نهاية حد، ولا يحله حادث، ولا يحمله على الفعل باعث، ولا يجوز عليه لون ولا كون ولا يَنصره مدد ولا عون، ولا يخرج عن قدرته مقدور، ولا ينفك عن حكمه مفطور، ولا يعزب عن علمه معلوم، ولا هو على فعله كيف يصنع وما يصنع ملوم. لا يُقال له أين ولا حيث ولا كيف، ولا يستفتح له وجود فيقال متى كان، ولا ينتهي له بقاء فيقال استوفى الأجل والزمان، ولا يقال لِمَ فعل إذ لا علة لأفعاله، ولا يقال ما هو إذ لا جنس له فيتميَّز عن أشكاله.١٧ يُرى لا عن مقابلة١٨ ويرى غيره لا عن مُماقلة،١٩ ويصنع لا عن مباشرة٢٠ ومزاولة. له الأسماء الحسنى والصفات العُلى. يفعل ما يريد ويذل لحكمه العبيد. لا يجري في سلطانه إلا ما يشاء، ولا يحصل في ملكه غير ما سبق به القضاء. ما علم أنه يكون من الحادثات أراد أن يكون، وما علم أنه لا يكون مما جاز أن يكون، أراد ألا يكون. خالق أكساب العباد خيرها وشرِّها، ومبدع ما في العالم من الأعيان والآثار قلها وكثرها، ومرسل الرسل إلى الأمم من غير وجوب عليه، ومتعبد الأنام على لسان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بما لا سبيل لأحد باللوم والاعتراض عليه، ومؤيد نبينا محمد بالمعجزات الظاهرة والآيات الزاهرة بما أزاح به الغدر، وأوضح به اليقين والنكر.
ويقول الهجويري:
فإذا عرف العبد الحق وحده وأقرَّ بأنه واحد، ليس في ذاته جمع ولا تفرقة، ولا إثنينية، وأنه واحد لا بالعدد الذي إذا أضيف إليه غيره صار اثنين، وأنه ليس محدودًا فتقع عليه الجهات الست، وليس له مكان ولا في مكان، ولا عرض له فيحتاج إلى جوهر، ولا هو جوهر فيُماثل الجواهر، وليس مادة فيكون محلًّا للحركة والسكون، ولا روحًا فيحتاج إلى هيكل، ولا جسمًا فيحتاج إلى أعضاء، ولا يحلُّ في الأشياء وإلا شابه الأشياء، ولا يتَّصل بشيء وإلا كان ذلك الشيء جزءًا منه، وهو خالٍ من كل نقص، ومنزَّه عن كل عيب. لا شبيه له، لم يلد وإلا كان أصلًا لما ولد. لا يتغير في ذاته ولا في صفاته. متصف بصفات الكمال التي وصفه بها المؤمنون الموحدون ووصف بها نفسه. منزه عن صفات النقص التي وصفه بها الكافرون. حي، عالم، غفور، رحيم، مريد، قادر، سميع، بصير، متكلِّم، قائم بنفسه، علمه ليس حالًّا فيه، وكلامه ليس منقسمًا فيه. هو وصفاته قديمان، ما يعلمه ليس خارجًا عن علمه، الأشياء مُفتقِرة إلى إرادته، يفعل ما يريد ويريد ما يعلم ولا علم للحادثات بعلمه. حكمه حق، لا ملاذ لأوليائه إلا به، هو المقدر لكل شيء خيره وشره، وهو وحده الذي يرجى ويخاف، خالق النفع والضر، وله وحده القضاء في الأمر. قضاؤه حكيم كله، ولا سبيل إلى معرفة قضائه، يراه أهل الجنة في الآخرة ويشهده أولياؤه في هذه الدنيا.٢١

هذه هي صفات الحق كما قرَّرها هذان الصوفيان الكبيران، وهي متَّفقة في الجوهر مختلفة بعض الشيء في التفاصيل، كما أنها مستمَدة في جملتها من القرآن الكريم بطريق مباشر أو غير مباشر، وإذا كان لنا أن نردَّها جميعًا إلى أصل واحد أو صفة واحدة فهي «مخالفته تعالى للحوادث»، أو هي على حد قول الجنيد: «إفراد القديم من المحدث» أو «إفراد القدم من الحدث» على بعض الروايات. فإننا إذا أفردنا القديم بالصفات الواجبة له وميَّزناه عن المحدث في ذاته وصفاته وأفعاله فقد وحدناه.

ولكن هذه ليست إلا المرتبة الأولى من مراتب التوحيد، وهي مرتبة الاعتقاد بوجود الله ووحدانيته، وفي هذا المعنى يشترك أهل السنة جميعًا، صوفية كانوا أو متكلمين، وهناك مرتبة أخرى للتوحيد تحدَّث عنها الصوفية، وأطلقوا عليها اسم «توحيد الخواص» الذي أفضِّل أن أطلق عليه «توحيد الشهود»، وهو توحيد يَنكشِف معناه في تجربة الصوفي ويتذوقه تذوقًا ولا يجد التعبير إليه سبيلًا: هو «حال» لا يدركها العقل وإنما تتجلى في القلب، وهو شعور غامر شامل بالقدرة الإلهية التي تتجلى في كل شيء، والإرادة الإلهية التي تنفذ في كل شيء، والفعل الإلهي الظاهر أثره في كل حركة وسكنة في الوجود. بعبارة أخرى هو على حد تعبير أبي يزيد البسطامي: «الخروج من ضيق الحدود الزمانية إلى سعة فناء السرمدية»، أو هو «شهود المطلق» وتجليه في القلب على حد تعبير المثاليين، وأول من تكلم عن هذا النوع من التوحيد مدرسة بغداد التي كان من رجالها سَريُّ السقطي، والحارث المحاسبي، والجنيد، والنوري، والشِّبلي، حتى أطلق عليهم السراج صاحب اللمع اسم «أرباب التوحيد» لأنهم كانوا أكثر صوفية عصرهم كلامًا في التوحيد بوجه عام والتوحيد الصوفي بوجه خاص، وربما كان أبو القاسم الجنيد أبرز هؤلاء جميعًا في هذا المضمار وأدناهم إلى الأصالة، أو على الأقل كما يبدو لنا مما خلف من رسائل وما أثر عنه من أقوال؛ ولذلك سنختص نظريته في التوحيد بشيء من التفصيل.

يتردد الجنيد في كلامه عن التوحيد بين المعنيين الرئيسيين اللذين أشرنا إليها وهما «توحيد العوام» وتوحيد الخواص، أو التوحيد بمعنى الإقرار والاعتقاد والتوحيد الذوقي الذي هو «شهود قلبي»، وقد أورد القشيري للجنيد طائفة من الأقوال تشير إلى النوعين، من ذلك قوله في النوع الأول:
  • (١)
    التوحيد إفراد القدم من الحدث.٢٢
  • (٢)
    التوحيد إفراد الموحد بتحقيق وحدانيته بكمال أحديته أنه الواحد الذي لم يلد ولم يولد، بنفي الأضداد والأنداد والأشباه، بلا تشبيه ولا تكييف ولا تصوير ولا تمثيل.٢٣
فالتوحيد بهذا المعنى هو تمييز الله تعالى عن سائر الخلق في ذاته وصفاته وأفعاله، وهذا هو الإفراد المطلوب: فإن من أعطى القديم صفاته من الأزلية والبقاء والسرمدية والعلم المطلق والإرادة المطلقة إلى غير ذلك مما يليق بالجناب الإلهي، وأعطى المحدثات صفاتها من الحدوث والتغير والتناهي والفناء وغير ذلك مما يليق بالمخلوقات الكائنة الفاسدة، فقد وحَّد الحق توحيد الاعتقاد الذي يطالبه به الدين، ويكون إفراد الموحَّد بأمرين:
  • الأول: «بتحقيق وحدانيته»؛ أي بتقرير وحدة الصفات الإلهية، وتحقيق الوحدانية معناه وصف الله تعالى بوحدانية صفاته على الحقيقة، أي الإقرار بأن صفاته له لا يشاركه فيها غيره. فهو واحد في علمه وقدرته وإرادته، واحد في قدمه وأزليته وغير ذلك من الصفات.
  • الثاني: «بكمال أحديته»؛ أي الإقرار بكمال أحدية ذاته التي لا يدخلها كثرة ولا تعدد بوجه من الوجوه، وبذا تنتفي عن الذات الإلهية الكثرة العددية والكثرة الكمية والتأليفية مادية كانت أو معنوية.

كل ذلك مع نفي الأضداد لأنه تعالى لا جنس له فلا ضد له، والأنداد؛ أي الأمثال المساوية له؛ لأنه تعالى لا جنس له فلا مثل له، والأشباه؛ أي النظائر إذ لا يشبهه شيء من خلقه وإلا تساوى بخلقه، ويلزم من هذا أنه يستحيل في حق الله تعالى التشبيه، لمخالفته للحوادث، والتكييف؛ لأن الكيف عرض وهو غير محل للأعراض، والتصوير؛ لأن التصوير فرع الإحساس، والله تعالى لا يدرك بالحس، فبالتالي لا يلحقه التصوير، والتمثيل لتنزهه تعالى عن المثيل والنظير.

وجملة القول في هذا النوع من التوحيد أنه اسم آخر للتنزيه؛ لأنه يتركز حول معنى واحد هو المتنزه عن صفات المحدثات، والجنيد وكثيرون غيره من رجال التصوف الذين تكلموا عن «توحيد الاعتقاد» لم يزيدوا كثيرًا على ما ذكره المتكلمون في هذا الموضوع، بل قرروا أقوالهم فيه مجردة عن الأدلة العقلية والمهاترات التي تفيض بها كتب المتكلمين. فوحدانية الله إذن هي تنزيهه عن صفات الخلق بنفي كل خواطر التشبيه والتمثيل والتصوير. قال أبو الحسين النوري: «التوحيد كل خاطر يشير إلى الله تعالى بعد ألا تزاحمه خواطر التشبيه.»،٢٤ وقال أبو علي الروذباري (المُتوفَّى في مصر سنة ٣٢٢): «التوحيد استقامة القلب بإثبات مفارقة التعطيل والتشبيه، والتوحيد في كلمة واحدة: كل ما صوره الأوهام والأفكار فالله بخلافه»،٢٥ وقام رجل بين يدي ذي النون المصري فقال: أخبرني عن التوحيد، فقال: «هو أن تعلم أن قدرة الله في الأشياء بلا مزاج،٢٦ وصنعه للأشياء بلا علاج،٢٧ وعلة كل شيء صنعه ولا علة لصنعه، وليس في السموات العلا ولا في الأرضين السفلى مدبر غير الله، وكل ما تصور في وهمك فالله بخلاف ذلك.»٢٨
وقد أدرك بعض المحققين من الصوفية عدم كفاية ذلك النوع من التوحيد المستند إلى التجريد لأنه مجموعة من السلوب تصور الله تعالى بصورة تباعد بينه وبين خلقه. على أن غاية الموحد توحيدًا عقليًّا هي أن ينزه الله تنزيهًا مطلقًا، والتنزيه — كما يقول ابن عربي — عين التقييد؛ لأنه حمل صفات على الله، والحمل أيًّا كان تقييد. فالتنزيه المطلق إذن مستحيل عن طريق حمل صفات على الله، وأفضل شيء يقوم به العقل هو أن ينظر إلى الله من حيث أنه «هو» من غير أن يخبر عنه بنفي أو إثبات. قال تعالى: قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ.٢٩
ولما كان التوحيد الحقيقي فوق مقدور العقل، ولما كان التنزيه يحمل في ذاته معنى التقييد، اعتبرت طائفة من الصوفية التوحيد العقلي توحيد العوام، وتكلمت عن النوع الثاني من التوحيد الذي هو توحيد القلب والشهود، وكان رائدهم في هذا المضمار أبا القاسم الجنيد البغدادي الذي كان له الفضل في نقل التوحيد من الميدان الكلامي إلى الميدان الصوفي، أو من ميدان النظر العقلي إلى ميدان التجربة الروحية، وقد كتب في ذلك رسالة خاصة٣٠ يشرح في فصل من فصولها أنواع الموحدين ودرجاتهم التي يمر بها الصوفي الواصل، ويقف عند بعضها الصوفي الذي انقطعت به الطريق. هذا بالإضافة إلى الأقوال الكثيرة التي أوردها له في هذا الباب القشيري والهجويري وغيرهما من مؤلفي كتب التصوف، وهي أقوال غنية في معانيها، بعيدة الغور في مراميها، قد يستعصى فهم بعضها حتى على كبار رجال التصوف أنفسهم أمثال ابن عربي الذي صرح بأنه لا يفهم كلامه؛ ذلك لأن الجنيد كان من أكثر الصوفية وقوعًا تحت غلبة «الحال»، والأقوال لا تفي بالترجمة عن الأحوال، فهو وإن كان يشير من طرف خفي إلى الحقيقة، لا يستطيع أن يصحب المريد إلى غاية الطريق.٣١
التوحيد في نظر الجنيد أربع درجات:
  • الأولى: توحيد العوام الذي هو إقرار بالوحدانية، وإنكار للأرباب والأنداد، مع السكون إلى الرغبة والرهبة المتعلقين بما سوى الله.
  • الثانية: توحيد أهل الظاهر، وهو الإقرار بالوحدانية، وإنكار الأرباب والأنداد مع إقامة الأمر والانتهاء عن النهي في الظاهر، والسكون إلى الرغبة والرهبة.
  • الثالثة: توحيد الخواص، وهو على وجهين:
    • (أ) وهو الإقرار بالوحدانية على الوجه السابق، مع إقامة أوامر الشريعة في الظاهر والباطن، وإزالة الرغبة والرهبة المتعلقين بكل ما سوى الله.
    • (ب) وهو أن يصل العبد إلى حال يكون فيها «شبحًا» قائمًا بين يدي الله، ليس بينهما ثالث، تجري عليه تصاريف تدبيره في مجاري أحكام قدرته، في لجج بحار توحيده بالفناء عن نفسه وعن دعوة الحق٣٢ له، وعن استجابته له، بحقائق وجوده ووحدانيته في حقيقة قربه، بذهاب حسه وحركته لقيام الحق له فيما أرداه منه، والعلم في ذلك أنه رجع آخر العبد إلى أوله، أن يكون كما كان إذ كان قبل أن يكون، والدليل في ذلك قول الله عز وجل: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى، فمن كان؟ وكيف كان قبل أن يكون؟ وهل أجابت إلا الأرواح الطاهرة العذبة المقدسة بإقامة القدرة النافذة والمشيئة التامة الأركان، إذا كان قبل أن يكون، وهذا غاية توحيد الموحد للواحد. يذهب هو.٣٣

والذي يعنينا هنا هو هذا النوع الأخير من التوحيد، وهو الذي يصل إليه السالك في نهاية الطريق بعد أن يكون قد قطع جميع مراحله، وهو — كما ترى — توحيد ينبعث من قرار تجربة صوفية خالصة، أو توحيد هو الفناء بعينه، حيث تغيب شخصية الموحد في الوحدة الشاملة التي لا تمييز فيها بين «الأنا» و«الهو».

والجديد في نظرية الجنيد ليس ما يقوله في التوحيد الصوفي بمعنى الفناء في الله، ولا في قوله أنه معنى ينكشف للنفس عن طريق صلتها بالله في تجربة روحية غامرة، وإنما هو في رجوعه بالتوحيد الصوفي إلى جبلة النفس الإنسانية التي يتجلى في صفحتها معنى التوحيد بعد أن تصقلها الرياضات والمجاهدات وتتخلص من شوائب البدن وكدوراته، وفي أنه يستند في ذلك إلى الآية القرآنية المعروفة بآية «الميثاق» التي تشير إلى أن الله تعالى خاطب أرواح بني آدم في الأزل وأشهدهم على أنفسهم بسؤاله إياهم أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ فشهدوا له بالوحدانية بقولهم: بَلَى. فعلى هذه الآية بنى الجنيد نظرية جديدة في التوحيد لا أعتقد أن صوفيًّا آخر سبقه إليها، وهي نظرية فيها عنصر أفلاطوني لا خفاء فيه، كما أن فيها غزارة روحية تشهد بعمق تجربته الصوفية وصفائها.

يرى الجنيد أن النفوس البشرية كان لها وجود سابق على وجودها المتصل بالأبدان، وأنها كانت في هذا الوجود صافية طاهرة مقدسة، على اتصال مباشر بالله، لا يحجبها عنه حجاب، إذ الحجب كلها وليدة الاتصال بالعالم المادي والاشتغال بالأبدان وشهواتها، وقد عبر عن هذه الحجب أو هذه الشهوات بكلمتين هما: «الرغبة والرهبة» المتصلتان بما سوى الله.

في هذا المقام القديم أقرت النفوس الإنسانية بوحدانية الله عندما خاطبها بقوله: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ فأجابت بلسان حالها بقولها: بَلَى. أقرت بالتوحيد الإلهي لأنها لم تر سوى الله تعالى في الوجود فاعلًا ولا مريدًا ولا قادرًا، ففنيت فيه وغابت عن وجودها. لم تكن لها صفات عينية؛ لأن الصفات العينية أمور تظهر في النفوس عند تلبسها بالأجسام، وقد كانت هناك ولا أجسام لها.

كانت هذه حال النفوس الإنسانية في عالم الذر، فلما هبطت إلى هذا العالم نسيت عهدها القديم لما غشيها من حجب، وما استولى عليها من سلطان الشهوات، فشاب توحيدَها شوائب ودخلت في حياتها الأرضية معانٍ جديدة مستمدة من صلتها بالأبدان وبالعالم الخارجي بوجه عام كمعنى «الذات» و«السوى» والإرادة الذاتية وما إلى ذلك من معان، وأصبحت توحد الله — إن وحدته — بإقرارها بألوهيته وانفراده بالخلق والتدبير، وهي مع ذلك تنسب إلى نفسها إرادةً وفعلًا وقدرةً وغير ذلك مما يتنافى مع التوحيد المطلق الذي عرفته في سابق عهدها.

ولكي تصل النفوس إلى توحيدها القديم يرى الجنيد — وهذا هو معقد الطرافة في نظريته — أنه لا بد لها من العودة إلى الحال التي كانت عليها في عالم الذر أو إلى القرب من هذه الحال بقدر المستطاع، وهذا ما أشار إليه بقوله: «والعلم في ذلك أنه رجع آخر العبد إلى أوله، أن يكون كما كان إذْ كان قبل أن يكون.» أي تعود نفس العبد إلى سيرتها الأولى قبل أن تتعلق بالبدن، وتكون كما كانت — في عالم الذر أو عالم الأرواح — قبل أن تكون أي قبل أن توجد في العالم الدنيوي الذي هو عالم الأبدان.

ولكن العودة التامة مستحيلة ما دامت الصلة بين الروح والبدن قائمة، فليس إلا التحرر من قيود البدن وعلاقاته بقدر ما تسمح به الطاقة البشرية، وهذا لا يكون إلا بالسلوك في الطريق الصوفي الذي هو رياضة للنفس وتصفية وتجرد من الشهوات والإرادات، وطريق للإذعان والتسليم المطلق لله، وهنا يصبح العبد — على حد تعبير الجنيد نفسه — كالشبح الملقى، يتصرف فيه الله كما يريد، وهو مستغرق في بحار التوحيد، فانٍ عن نفسه وعن دعوة الخلق إياه فيما يتعلق بأمور دنياهم، وذلك بسبب ما يشاهده من حقائق وجود الله ووحدانيته في قربه الحقيقي منه، وعند ذلك — كما يقول الجنيد — يذهب حس العبد بنفسه وحركته لقيام الله بما يريده من الأفعال، ويرجع آخر العبد إلى أوله حيث كان ولا حركة ولا سكون.

هذا هو الفناء الصوفي بعينه، وهو أيضًا مقام المعرفة الصوفية التي ينكشف فيها للعارف معنى التوحيد الذي أشار إليه ذو النون المصري في عبارة أسلفنا ذكرها وهي: «إنه بمقدار ما يعرف العبد عن ربه يكون إنكاره لنفسه، وتمام المعرفة بالله تمام إنكار الذات.» فإن العبد إذا انكشف له شمول القدرة والإرادة الإلهية والفعل الإلهي، اضمحلت الرسوم والآثار الكونية في شهوده وتوارت إرادته وقدرته وفعله في إرادة الحق وقدرته وفعله، ووصل إلى الفناء الذي هو عين البقاء؛ لأنه يفنى عن نفسه وعن الخلق ويبقى بالله وحده.

هذه أيضًا هي الحال التي يسميها الصوفية «وحدة الشهود». يقول التهانوي: «والتوحيد عند الصوفية معرفة وحدانيته الثابتة له في الأزل والأبد، وذلك بألا يحضر في شهوده (أي شهود الصوفي) غير الواحد جل جلاله.»٣٤

ولكن العبد الفاني عن نفسه الباقي بربه، المشاهد له في كل شيء، ذلك الشبح القائم بين يدي الله تجري عليه تصاريف تدبيره، ليس في حالة سلبية محضة كما قد يسبق إلى الأوهام؛ لأن بقاءه بالله يشعره بنوع من «الفاعلية» لا عهد له به؛ إذ يرى نفسه وكأنه منفذ للإرادة الإلهية، مدبر لكل ما يجري في الوجود، محرك للأفلاك، قطب الوجود الذي يدور حوله كل شيء.

وأغلب الظن أن هذه كانت الحال التي استولت على الحسين بن منصور الحلاج فصاح عندما أُخِذَ عن نفسه في لحظة وجْد خاطفة بقوله: «أنا الحق» أي أنا الحق الخالق، وأنها أيضًا كانت الحال التي استولت على العاشق الإلهي الشاعر عمر بن الفارض الذي قال في تائيته الكبرى:

فبي دارت الأفلاك فأعجب لقطبها الـ
محيط بها والقطب مركز نقطة٣٥

ومما ورد من النصوص في هذا النوع من التوحيد الذي هو «وحدة الشهود» قول الجنيد وقد سئل عن التوحيد فقال:

وغنَّى لي مُنَى قلبي
وغنيت كما غنى
وكنا حيثما كانوا
وكانوا حيثما كنا
فقال السائل: أهَلَكَ القرآن والأخبار؟ فقال: لا ولكن الموحِّد يأخذ أعلى التوحيد من أدنى الخطاب وأيسره.٣٦

ومعنى هذا أن الجنيد لما سئل عن التوحيد لم يستشهد بآيات من القرآن أو الأحاديث النبوية، بل استشهد بالبيتين السابقين من الشعر، وبهذا أثار غضب السائل واعتراضه فعنَّف الجنيدَ بقوله: «أهَلَكَ القرآن والأخبار؟» (أي لأنك تستشهد بغيرهما من الأقوال)، فكان جوابه: أن الموحِّد يستدل بكل شيء على وحدانية الله.

وفي كل شيء له آية
تدل على أنه الواحد

والبيتان كما ترى صريحان في استغراق المحب في محبوبه وفنائه فيه، ذلك الفناء الذي تنمحي فيه التفرقة ويبقى فيه الجمع المعبر عنه بقوله:

وكنا حيثما كانوا
وكانوا حيثما كنا

فهنا نجد التوحيد قد تغيَّر معناه تمامًا بما أضفَى عليه الجنيد من صبغة صوفية، فأصبح يرادف الاتحاد أو «وحدة الشهود».

وإذا كان الجنيد أول صوفي أبرز في آية الميثاق كل المعاني الصوفية التي أشرنا إليها، وبنى عليها نظريته في «توحيد الخواص»، فإنه لم يكن آخر من تكلم في هذه المعاني، لأننا نجد صدى لجميع أقواله في شعر ابن الفارض المُتوفَّى سنة ٦٣٢.

يشير ابن الفارض إلى حب النفس لله وهي لم تزل بعد في عالم الذر قبل وجودها في النشأة الإنسانية فيقول:

وهِمْتُ بها في عالم الذر حيث لا
ظهورٌ وكانت نشوتي قبل نشأتي
مُنِحْتُ وَلاها يوم لا يوم قبل أن
بدت عند أخذ العهد في أوليتي

ويشير إلى تحلله من «الاثنينية» بعد أن جرَّب وحدة الشهود وفني عن نفسه وعن كل ما سوى الحق وبقي بالحق وحده، فأدرك وحدانية الحق إدراكًا جديدًا فيقول:

وعاد وجودي في فناء ثنوية
الوجود شهودًا في بقا أحدية

وهنا ينكشف له سر بَلَى وينعكس هذا السر على صفحة النفس فتعرف الله على حقيقته وتنفي «المعية» لأن سلطان «الجمع» قد غلب عليها فيقول:

وسر «بلى» لله مرآة كشفها
وإثبات معنى الجمع نفي المعية
١  الإخلاص: ١.
٢  البقرة: ١٦٣.
٣  البقرة: ٢٥٥.
٤  النمل: ٦٤.
٥  الصافات: ٩٥.
٦  الجاثية: ٢٤.
٧  المائدة: ٧٣.
٨  كشاف اصطلاحات العلوم والفنون، ج١، ص١٤٦٨.
٩  كشاف اصطلاحات العلوم والفنون، ج١، ص١٤٦٨.
١٠  نتائج الأفكار القدسية، ج٣، ص٣٨.
١١  نفس المرجع السابق.
١٢  الرسالة القشيرية، ص٣ وما بعدها.
١٣  الرسالة القشيرية، ص١٣٤.
١٤  كشف المحجوب، ترجمة نيكولسون، ص٢٨٠-٢٨١.
١٥  «مخطوطة إسطنبول» شهيد على رقم ١٣٧٤، انظر ورقة ١٦٣ وما بعدها.
١٦  الرسالة، ص٧.
١٧  أي نظائره.
١٨  أي مواجهة.
١٩  أي رؤية بالمُقلة وهي العين.
٢٠  أي معالجة بأداة كاليد.
٢١  مترجم عن الترجمة الإنجليزية للأستاذ نيكولسون «كشف المحجوب»، ص٢٧٨-٢٧٩.
٢٢  الرسالة القشيرية، ص٣.
٢٣  الرسالة القشيرية، ص٤ و١٣٥.
٢٤  الرسالة القشيرية، ص٥.
٢٥  الرسالة القشيرية، ص٥.
٢٦  أي لا تمتزج في الأشياء وتحل فيها.
٢٧  أي من غير مباشرة آلة.
٢٨  الرسالة القشيرية، ص٤.
٢٩  الأنعام: ٩١.
٣٠  رسالة في التوحيد، الرسالة رقم ١٤ في مخطوطة إسطمبول الآنفة الذكر.
٣١  كشف المحجوب، ص٢٨٤؛ القشيري، ص١٣٥.
٣٢  وردت في كشف المحجوب للهجويري «الخلق»، ص٢٨٢؛ وكذلك في رسالة القشيري، ص١٣٥.
٣٣  رسالة التوحيد للجنيد، المرجع المذكور، ورقة ٦٥ب. وقد ورد الجزء الأول منها إلى قوله: «فيكون كما كان قبل أن يكون» في رسالة القشيري، ص١٣٥. ومن الغريب أن جزءًا من هذا النص ورد في رسالة القشيري نفسها (ص١٣٦، س١١ من أسفل) منسوبًا إلى يوسف بن الحسين.
٣٤  كشاف اصطلاحات العلوم والفنون، ج٢، ص١٤٦٨.
٣٥  التائية الكبرى، البيت رقم ٥٠٠.
٣٦  الرسالة القشيرية، ص١٣٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤