ثورة التصوف في مجال الحب الإلهي

ورد في القرآن وصف الله تعالى بأنه جبار، متكبر، قهار، معز، مذل، سريع الحساب، إلى غير ذلك من الصفات التي يسميها الصوفية «صفات الجلال»، وكذلك وردت آيات تصور آثار هذه الصفات في عالم الخلق فيما أنزله الله وما زال ينزله بالكفار والعاصين من ضروب المحن والانتقام، وما أعد لهم في الدار الآخرة من صنوف العذاب، كل ذلك بأسلوب قوي مؤثر يُشيع الرعب في القلوب وتقشعر منه الأبدان.

ولكن في القرآن طائفة أخرى من الآيات يصف الله فيها نفسه بصفات الجمال من رحمة بعباده، ومحبة لهم وشفقة عليهم وغفران لذنوبهم، ويذكر ما أعده للمؤمنين الأبرار في الدار الآخرة من ضروب النعيم.

وقد كان لكلٍّ من هاتين الطائفتين من الآيات أثره الظاهر في مراحل تطور التصوف الإسلامي المختلفة، ففي مرحلة الزهد المحض حيث كان التصوف بسيطًا ساذجًا، وإيمان المسلمين غضًّا قويًّا، استجاب الزهاد للطائفة الأولى من الآيات القرآنية أكثر من استجابتهم للثانية، فبالغوا في تصوير المعاصي أيًّا كان نوعها، واستولى على قلوبهم الرعب والخوف من الله وعذابه، بل كان الخوف هو الباعث الأكبر في كل ما أتوا به من طاعة وعبادة.

وفي المراحل التالية ابتداءً من القرن الثالث أو قبل ذلك بقليل، استجاب أتقياء المسلمين للطائفة الثانية من الآيات، وحل في قلوبهم حب الله محل الخوف منه، وأصبح ذلك الحب الباعث الأول في كل ما أتوا به من أعمال الطاعة والعبادة.

وبذلك ظهر في التصوف الإسلامي منذ عصر مبكر نزعتان: تتمثل النزعة الأولى في المسلم الزاهد الذي نظر إلى الله نظرته إلى قوة هائلة قاهرة قادرة على كل شيء، مهيمنة على كل شيء، مريدة لكل شيء، لا تجري في الكون حركة ولا سكنة إلا بأمر الله وطوع إرادته: يبطش بمن يشاء، ويعذب من يشاء، ويغفر لمن يشاء.

وقد نظر هؤلاء الزهاد إلى العالم نظرتهم إلى شيء بغيض حقير يجب الفرار منه وعدم الركون إليه، وعدم الاغتباط بأمر من أموره، ولو كان ذلك الأمر لذة الطاعة، ولذا غلب عليهم الحزن والكمد والخوف والبكاء، وشاع في نفوسهم التشاؤم، ومن الأمثلة الواضحة لمثل هؤلاء زهاد الصحابة والتابعين، ومن زهاد القرن الثاني إبرهيم بن أدهم وشقيق البلخي، وقد فصلنا القول في ذلك فيما ذكرناه عن الدور الأول من أدوار التصوف.

أما رجال المرحلة الثانية وما يليها فتقوم نزعتهم الصوفية — أو فلسفتهم الصوفية إن صح هذا التعبير — على أساس أن أهم صفات الألوهية ليست الإرادة المطلقة المسيطرة على كل شيء، بل الجمال المطلق والحب المطلق المنبثين في سائر أنحاء الوجود، والعالم في نظرهم مظهر من مظاهر الإرادة الإلهية من غير شك، ولكنه فوق ذلك مرآة ينعكس على صفحتها الجمال الإلهي، وصورة يتجلى فيها الحب الإلهي، والله الذي صوره أوائل الزهاد بصورة «المعبود» الذي يجب أن يذل له العبد ويخشاه، صوَّره هؤلاء بصورة «المحبوب» الذي يحبه العبد، ويناجيه ويستأنس بقربه ويطمئن إلى جواره، ويشاهد جماله في قلبه وفي كل ما ظهر في الوجود من آثاره.

بل إن بعضهم ذهب إلى القول بأن «الحب الإلهي» هو سر خلق الله العالم؛ لأنه تعالى أراد أن يكشف عن سر جماله الأزلي ليظهره في صفحة الوجود ليكون دليلًا عليه كما قال تعالى عن نفسه في حديث قدسي: «كنت كنزًا مخفيًّا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق فبه عرفوني.»١ وكان من نتائج هذه النزعة ظهور نظرية الحب الإلهي وذيوعها في أوساط الصوفية طوال العصور، وظهور فكرة الجذب الصوفي وفكرة الاتصال بالله.
لا مجال إذن للقول بأن نظرية الحب الإلهي نظرية ليست إسلامية، أو أنها لا سند لها من القرآن والحديث، وأنها أمر استحدث عند المسلمين عندما تأثروا بأصحاب الديانات الأخرى كالمسيحية والمانوية، وإن كان لهاتين من غير شك أثر غير قليل في تشكيل هذه النظرية وأساليب التعبير عنها. لقد صرح القرآن بأن الله يحِب ويحَب في مثل قوله تعالى: يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ،٢ وقوله: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلهِ.٣ ويحكى عن النبي لما سأله أبو رزين العقيلي: يا رسول الله، ما الإيمان؟ أنه قال: «أن يكون الله ورسوله أحب إليك من سواهما»، وفي حديث آخر قال: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه من سواهما.»
ويروى عنه أنه كان يقول في دعائه: «اللهم ارزقني حبك وحب من أحبك وحب ما يقربني إلى حبك، واجعل حبك أحب إلي من الماء البارد.»٤ ووصف الله نفسه بأنه الْغَفُورُ الْوَدُودُ،٥ وبأنه قريب من عبده إذا دعاه، وبأنه سميع الدعاء، وأنه أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد، وغير ذلك من الآيات التي تفيض عطفًا وحنانًا ورحمةً بالعباد. بل إنه تعالى أراد أن يكون حبه لعباده حظًّا مشتركًا بينهم جميعًا لا تستأثر به أمة دون أمة ولا طائفة دون طائفة، قال في معرض لوم اليهود والنصارى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ،٦ فهو ينكر عليهم أنهم يقصرون هذا الوصف على أنفسهم في حين أن كل مؤمن خليق به.
وفي القرآن آيات كثيرة تشير إلى أن الله يحب كذا ولا يحب كذا، كقوله تعالى: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا، وقوله: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ،٧ وقوله: إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ،٨ وقوله: وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ.٩

أما الأحاديث النبوية التي ورد فيها ذكر الحب الإلهي، فتتجاوز في عددها ومعانيها ما ورد في القرآن في هذا الصدد، ولا شك أن كثيرًا منها قد وضع للتعبير عن الأفكار الصوفية التي نمت تحت تأثير عوامل خارجية ظهر أثرها في التصوف منذ منتصف القرن الثاني الهجري، ومن الأحاديث الصحيحة التي يكثر الصوفية من روايتها والتعليق عليها، الحديث القدسي الذي يقول الله تعالى فيه: «لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي عليها، إلخ.»

فظاهر من كل ما تقدم أن في القرآن والحديث نصوصًا صريحة الدلالة على محبة الله لعباده ومحبة عباده له، وأن هذا أمر لا يجحده إلا جاهل أو مكابر. أما أن هذه البذور الأولى قد نمت في البيئة الإسلامية تحت تأثير ثقافات أجنبية حتى ظهر عنها نظرية بل نظريات في الحب الإلهي، فهذا أمر يجب أن نسلم به وإن كان يجب ألا نبالغ في شأنه، وأقوى المصادر الأجنبية تأثيرًا في نظريات الحب الإلهي عند المسلمين: المسيحيةُ والمانوية والأفلاطونية الحديثة.

(١) موقف المسلمين من الحب الإلهي

خضعت مسألة الحب الإلهي عند المسلمين لمعايير مختلفة ووجهات نظر متباينة تبعًا لتباين فرق المسلمين في فهمهم وتصورهم لمعنى الألوهية والصلة بين الله وخلقه، فإنه على الرغم من ورود صريح الآيات والحديث في أن الله يُحِب ويُحَب، أنكرت بعض طوائف المسلمين أنه يحِب ويحَب على الحقيقة، وقالت أن ما ورد في الشرع مما يشير إلى ذلك لا يعدو أن يكون ضربًا من المجاز، وأن الله لا يحِب ولا يحَب لأن المحبة لها من اللوازم ما لا يليق بالجناب الإلهي كالشوق والأنس والمناجاة والمشاهدة وتبادل اللذة ونحو ذلك من صفات المخلوقات التي يجب أن يتنزه الله عنها، وأقصى ما ذهبوا إليه من التأويل هو أن قالوا إن المراد بمحبة العبد لله طاعته ودوام خدمته، وأن المقصود بمحبة الله للعبد كلاءته ورحمته، أو قالوا — كما قال بعض المتكلمين — إن المحبة إحدى الصفات التي وصف بها الباري نفسه (في مثل يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ)، فيجب الاعتقاد بها وعدم النظر في ماهيتها وكيفيتها.

أما الصوفية فمنهم من كان أكثر تحفظًا وأدنى إلى مذاهب المتكلمين مثل الهجويري الذي يفسر محبة الله للعبد بأنها صفة من صفات الله كالرضا والغضب والرحمة ونحوها، ومعناها عنايته تعالى بالعبد ومجازاته له في الدنيا والآخرة، وعصمته إياه من الذنوب والآثام، ومنحه إياه رفيع المقامات والأحوال، وشغله قلبه به وحده. فإذا اختص الله عبدًا من عباده بهذا الاختصاص فقد أحبه. أما حب العبد لربه فهو صفة أو معنى يظهر في قلب العبد بصورة التعظيم والإجلال للمحبوب، بحيث يطلب رضاه دائمًا ويجزع من بعده، ويأنس بذكره ويستوحش من ذكر غيره، ويقطع جميع علائقه بالخلق ويتجه بكليته نحو ساحة الحق وحده.

ولكن من الصوفية من لم يستبشع شيئًا من معاني الحب ومستلزماته عند كلامهم في حبهم لله أو حب الله لهم، بل اعتبروا ذلك الحب حقيقة واقعة اختصوا بها وعرفوها في تجاربهم وشعروا بلذتها، وأن لوازم المحبة من شوق وحنين وأنس ومناجاة ولذة قرب وألم بعد، إنما هي حقائق أدركوها في مواجيدهم، وأن المحبة أمر متبادل بين الله وعبده: فالله يشتاق إلى العبد ويطلب قربه كما يشتاق العبد إليه ويطلب قربه، والله يناجي ويغار عليه كما يناجيه العبد ويغار عليه، إلى غير ذلك من صفات المحبة ولوازمها. أما المواظبة على طاعة الله وخدمته فهي عندهم فرع المحبة وليست مرادفة لها كما ذهب إليه بعض الأوائل، وقد حاول الغزالي أن يجد أساسًا عقليًّا لحب الإنسان لله، فقسم المحبة إلى خمسة أنواع وقال إن هذه الأنواع لا يتصور كمالها ولا اجتماعها إلا في حب الله. أما أنواع المحبة فهي: (١) محبة الوجود. (٢) محبة من يرجع إليه دوام الوجود. (٣) محبة المحسن إلى الغير. (٤) محبة كل ما هو جميل في ذاته. (٥) محبة من كان بينه وبين المحبوب مناسبة.

أما أن هذه الأنواع لا يتصور كمالها ولا اجتماعها إلا في حب الله، فذلك لأن العبد إذا أحب وجوده قد أحب الله لأنه واهب هذا الوجود، وإذا أحب دوام وجوده فقد أحب الله لأنه هو الذي يديم عليه وجوده، وإذا أحب المحسن إليه فقد أحب الله المحسن المسبغ النعم، وإذا أحب الجمال فقد أحب الله الذي هو مصدر كل جميل، أو لأنه هو الجميل على الحقيقة. أما عن النوع الخامس، فيرى الغزالي أن المناسبة موجودة بين العبد وربه، المحب والمحبوب؛ إذ العبد فيه الروح التي هي من أمر الله، والتي من أجلها استحق الإنسان الخلافة عن الله كما استحق أن تسجد له الملائكة.١٠

•••

فمحبة الله إذن في نظر هؤلاء الصوفية أمر مشروع ممكن، بل أمر واقع محقق، ولكنها حالٌ ذوقية كسائر أحوال الصوفية لا نستطيع لها شرحًا ولا تفسيرًا ولا نملك لها تعبيرًا، هي حال تجل عن الوصف وتلطف عن العبارة كما يقول القشيري «ولكنها تحمل العبد على التعظيم لله وإيثار رضاه، وقلة الصبر عنه والاهتياج إليه، وعدم القرار من دونه، ووجود الاستئناس بدوام ذكره.»١١

ولم يكن التحول من إنكار الحب الإلهي إلى الاعتراف به في دوائر الفقهاء والصوفية سريعًا ولا مفاجئًا، بل ظلت المسألة معلقة زمنًا، مترددة بين الأخذ والرد، حتى قَبِلَ الفقهاء نوعًا من الحب لا يتجه إلى موضوع الشخص، بل إلى فكرة أو مثال يرمز إليه بموضوع محسوس، وكان هذا النوع من الحب أشبه شيء بالحب العذري. فلما اعترف الفقهاء به، التمس فيه الصوفية تأييدًا لمذهبهم في الحب الإلهي، وعن هذا الطريق — فيما أعتقد — اعترف الفقهاء وأوائل الصوفية على السواء بإمكان الحب الإلهي المجرد عن التشخيص والتجسيم.

نعم قد يرمز الصوفية للمحبوب الإلهي بموضوعات مشخصة مجسمة ترد أسماؤها في قصائدهم، بل قد ينشدون في محافلهم قصائد من صميم الغزل الإنساني، ويلحظون فيها معاني ومغازي إلهية، ولكن هذا ليس إلا من قبيل الرمز والإشارة إلى معان تسمو على التصريح والتعبير، وإلى هذا المعنى يشير قائلهم بقوله:

أسميك لبنى في نسيبي تارةً
وآونةً سعدى وآونةً ليلى
حذارًا من الواشين أن يفطنوا بنا
وإلا فمن لبنى فديت ومن ليلى؟١٢

لم يقف الأمر بالصوفية عند مجرد الكلام في الحب الإلهي باعتباره حالًا من الأحوال التي يعالجونها في تجاربهم، بل ظهرت لهم فيه نظريات واتجاهات اختلفت باختلاف نزعاتهم الصوفية العامة وثقافتهم وأمزجتهم.

وظهرت أول نظرية في الحب الإلهي في مدرسة البصرة، وكان ظهورها عند جماعة لقبوا بالزنادقة، أو زنادقة الزهاد، وهو اسم أطلقه عليهم أبو داود السجستاني المُتوفَّى سنة ٢٧٥،١٣ ومن هؤلاء رابعة العدوية (تُوفِّيت سنة ١٨٥)، ورياح بن عمرو القيسي (المُتوفَّى سنة ١٨٨)،١٤ وحبان (أو ابن حبان) الحريري، وأبو حبيب العجمي، وقد أطلق هذا الاسم أيضًا على عبد الواحد بن زيد (المُتوفَّى سنة ١٧٧)، وكليب، وعبدك الصوفي الشيعي، وامرأة رياح القيسي، وأبي العتاهية الشاعر.

ولا شك أن ظهور الكلام في الحب الإلهي في بيئة البصرة في صورة قوية ناضجة له مغزاه، وإن كنا لا نعرف الكثير عن الظروف التي أحاطت برجال مدرستها، ولكنا نعرف على الأقل أن منهم من كان متأثرًا بالفلسفة المانوية التي عرفت بنظرية خاصة في الحب الإلهي خلاصتها أن أرواح الأبرار ذرات نورانية انبثقت من ينبوع النور الأعظم، فهي دائمًا تنجذب إليه وتحن إلى العودة إليه، وتحاول جاهدةً الفرار من هياكلها المظلمة، فغايتها التحرر من ربقة عبوديتها، والانطلاق من سجنها الأرضي.

وأول من تغنى بنغمة الحب الإلهي من هذه الطبقة في إخلاص وصدق، كانت رابعة العدوية التي أحبت الله لذاته، لا خوفًا من ناره ولا طمعًا في جنته، وكان أقصى أمانيها أن يكشف الله لها عن وجهه الكريم ويرفع عن قلبها الحجب التي تحول دون مشاهدته، وفي هذا تقول مخاطبة الذات الإلهية:

أحبك حبين حب الهوى
وحبًّا لأنك أهلٌ لذاكا
فأما الذي هو حب الهوى
فكشفك لي الحجب حتى أراكا
وأما الذي أنت أهلٌ له
فلست أرى الكون حتى أراكا
فلا الحمد في ذا ولا ذاك لي
ولكن لك الحمد في ذا وذاكا

فهي تتحدث عن نوعين من الحب لله، حبٌّ له من أجل غرض تنشده ومنفعة تطلبها، أو هو حب أناني تسميه «حب الهوى»، والحب الثاني حبٌّ لله تعالى من حيث هو، وهو حب الإيثار المنزه عن الأغراض الشخصية والشهوات، وفي هذا الحب لم تر رابعة شيئًا من الكون إلا ورأت الله فيه.

أدركت رابعة العدوية سر الحياة الصوفية وجوهرها، وذلك السر هو إنكار الذات وفناء المحب في المحبوب. إذ لا يُعرَف الله المعرفة الحقة، ولا يحَب الحب الحقيقي، وفي النفس أدنى شعور بذاتها وبالعالم المحيط بها، وفي هذا تتفق رابعة مع صوفية المسلمين الذين تغنوا بنغمة الحب الإلهي من بعدها، بل مع صوفية غير مسلمين من أصحاب الديانات الأخرى، يقول أبو عبد الله القرشي: «حقيقة المحبة أن تهب كلك من أحببت فلا يبقى لك منك شيء»، ويقول الشبلي: «سميت المحبة محبة لأنها تمحو من القلب كل ما سوى المحبوب.»١٥

صارت المحبة الإلهية من بعد رابعة المحور الذي تدور عليه الحياة الصوفية والهدف التي تتجه إليه، وظهر في القرن الثالث خاصةً رجال عرفوا بنظريات فيها، منهم: الحارث بن أسد المحاسبي، والجنيد، ويحيى بن معاذ الرازي، وسَرِيُّ السقطي، وذو النون المصري، وسهل بن عبد الله التُّسْتَري، وسمنون بن حمزة، وأبو بكر الشبلي، وغيرهم. ثم بلغت فكرة الحب الإلهي ذروتها في فلسفة أصحاب وحدة الوجود.

وكلهم مجمع على أن الله كعبة آمال السالكين، وأن محبته خير طريق مؤدية إليه، ولكنهم يختلفون في تصوير العلاقة بين المحب والمحبوب والصلة بين المحبة وغيرها من مظاهر الحياة الروحية وأثرها في الأخلاق الصوفية بوجه عام.

ونستطيع أن نقسم نظريات الصوفية في الحب الإلهي إلى قسمين كبيرين: أولهما النوع الخالص أو البحت الذي لا دخل للفلسفة فيه، وثانيهما النوع الذي يتسم بسمة وحدة الوجود أو ما يقرب منها كمذهب القائلين بالاتحاد أو بالحلول.

١  وفي رواية: فبي عرفوني.
٢  المائدة: ٥٤.
٣  البقرة: ١٦٥.
٤  الإحياء للغزالي، ط الحلبي، ج٤، ص٢٨١-٢٨٢.
٥  البروج: ١٤.
٦  المائدة: ١٨.
٧  البقرة: ٢٢٢.
٨  البقرة: ١٩٠.
٩  المائدة: ٦٤.
١٠  الإحياء للغزالي، ج٤، ص٢٩٤.
١١  رسالة القشيري، ص١٤٤.
١٢  محاضرات الأدباء للراغب الأصفهاني، ج٢، ص٦٠.
١٣  ميزان الاعتدال للذهبي، رقم ٢٧٦٧.
١٤  ذكره الشعراني في «الطبقات» بالياء «رياح»، وكذلك الفيروزبادي في المحيط. قال هذا الأخير: «رياح بن عمرو العبسي (لا القيسي)، وهو مختلف فيه، فبعضهم يقرؤها رياح بالياء وبعضهم رباح بالباء الموحدة.» وقد ذكره السمعاني بالياء.
١٥  راجع هذه الأقوال في الرسالة القشيرية، ص١٤٥-١٤٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤