المحبة الإلهية في التصوف البحت

ظهر هذا النوع من المحبة الإلهية في جميع عصور التصوف وتكلم فيه كل صوفي صفت له الحال — حد قول الغزالي — وكان له نصيب من حياة الكشف والإشراق، ولكن من المستحيل علينا أن نناقش هنا أقوالهم جميعًا أو أقوال أكثرهم فهي مما لا يدخل تحت حصر نثرًا ونظمًا؛ ولذلك سنقصر كلامنا على أقوال عدد قليل من الصوفية ممن كانت لهم نظريات خاصة في المحبة الإلهية لها أثرها في الأوساط الصوفية من بعدهم، وقد اخترنا لهذا الغرض أربعة من رجال القرن الثالث، وهو العصر الذهبي للتصوف الإسلامي البحت، هم: الحارث المحاسبي (المُتوفَّى سنة ٢٤٣)، وأبو القاسم الجنيد (المُتوفَّى سنة ٢٩٨)، وذو النون المصري (المُتوفَّى سنة ٢٤٥)، وأبو يزيد البسطامي (المُتوفَّى سنة ٢٦٠)؛ وواحد من متصوفة القرن السابع هو سلطان العاشقين الصوفي الشاعر الكبير عمر بن الفارض (المُتوفَّى سنة ٦٣٢).

(١) الحارث المحاسبي

هو أعظم مؤلف صوفي في القرن الثالث الهجري، وأستاذ الغزالي في معالجة المسائل الصوفية وعرضها وتحليلها وتعميق معانيها والربط بينها وبين المعاني الدينية الإسلامية. فكتابه «الرعاية» من المصادر الرئيسية التي يظهر أثرها بوضوح في كثير مما ذكره الغزالي في إحيائه. أما أقواله في المحبة الإلهية خاصةً فقد أفرد لها رسالة عنوانها «في المحبة»، ضاع أصلها ولم يبق منها إلا شذرات حفظها لنا أبو نعيم الأصفهاني في كتاب «الحلية»،١ وفي هذا النص الدقيق الهام يتكلم المحاسبي عن «المحبة الأصلية» وعن الصلة بين المحبة والشوق ونور كلٍّ منهما في القلب، وعما يطفئ هذا النور بعد إسراجه، وما يترتب على ذلك الانطفاء من آثار، فيقول ردًّا على سؤال سأله بعض أصدقائه عن المحبة الأصلية: (هي) حب الإيمان، وذلك أن الله تعالى قد شهد للمؤمنين بالحب فقال: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلهِ،٢ فنور الشوق من نور المحبة، وزيادته من حب الوداد، وإنما يهيج الشوق في القلب من نور الوداد، فإذا أسرج الله ذلك السراج في قلب عبد من عباده لم يتوهج في فجاج القلب إلا استضاء به، وليس يطفئ ذلك السراج إلا النظر إلى الأعمال بعين الأمان، فإذا أمِنَ على العمل من عدوه، لم يجد لإظهاره٣ وحشة السلب، فيحل العجب وتشرد النفس مع الدعوى وتحل العقوبات٤ من المولى. وحقيقٌ على من أودعه الله وديعة من حبه فدفع عنان نفسه إلى سلطان الأمان «أن» يسرع به السلب إلى الافتقاد.

في هذا الشطر الأخير من عبارة المحاسبي مسحة ملامتية واضحة؛ لأن من أهم أصول الملامتية عدم الاطمئنان إلى الأعمال مهما عظمت وبلغت من الصلاح؛ لأن الشعور بالأمان وحسن الظن بالأعمال يولد في النفس العجب ويدفعها إلى الدعوى، ومن أمن على عمله واطمأن إليه صدئت نفسه وقام العمل حجابًا بينه وبين ربه، فلا يشعر عند إظهاره لعمله ومباهاته به بوحشة السلب؛ أي وحشة حرمان الله له من حبه وكرامته. فإذا أمعن في عجبه ودعواه، انقلب ذلك السلب المؤقت سلبًا دائمًا، وهو ما يشير إليه المحاسبي بكلمة «الافتقاد».

وتظهر أفكار «الملامتية» مرة أخرى في نظرية المحاسبي في الحب الإلهي في قوله على لسان أحد العُبَّاد: «إن النفس إذا حضرت أمرًا في القلب من ميراث القربة قذفت فيه أسباب الكدورات.»٥ فإن النفس في تعاليم الملامتية أعدى أعداء الإنسان، فإذا حضرت في القلب — أي حضر جنودها من شهوات ورغبات — وكان في القلب أثر من آثار المحبة الإلهية والقربة، عكرت صفاء القلب ومحت منه ذلك الأثر. فالمحبة لله لا تصفو ولا تخلص إلا إذا تحرر القلب الصوفي من مزاحمة نوازع القلب.
وفي وحدة الحب والشوق وشواهد المحبة يقول المحاسبي:
فلذلك قيل: الحب هو الشوق؛ لأنك لا تشتاق إلا إلى حبيب، فلا فرق بين الحب والشوق إذا كان الشوق فرعًا من فروع الحب الأصلي، وقيل إن الحب يُعرَف بشواهده على أبدان المحبين وفي ألفاظهم وكثرة الفوائد عندهم لدوام الاتصال بحبيبهم. فإذا واصلهم الله أفادهم، فإذا ظهرت الفوائد عرفوها بالحب لله. ليس للحب شبح ماثل ولا صورة فيعرف بجبلته وصورته، وإنما يعرف المحب بأخلاقه وكثرة الفوائد التي يجريها الله على لسانه بحسن الدلالة عليه٦ وما يوحي إلى قلبه. فكلما ثبتت أصول الفوائد في قلبه، نطق اللسان بفروعها. فالفوائد من الله واصلة إلى قلوب محبيه. فأبْين شواهد المحبة لله شدة النحول بدوام الفكر وطول السهر بسخاء النفس بالطاعة، وشدة المبادرة خوف المعاجلة،٧ والنطق بالمحبة على قدر نور الفائدة؛ فلذلك قيل إن علامة الحب لله حلول الفوائد من الله بقلب من اختصه الله بمحبته، وأنشد بعض العلماء:
وله خصائص يكلَفون بحبه
اختارهم في سالف الأزمان
اختارهم من قبل فطرة خلقهم
بودائع وفوائد وبيان٨
اقتبسنا هذا النص الطويل برمته لأهميته، ففيه وصف شامل للصوفي الذي استولى عليه سلطان المحبة الإلهية، وبيان لأخلاقه وأحواله مع محبوبه، وإشارة صريحة إلى أن المحبة لله ثمرة الجهاد النفسي والجسماني. بعبارة أخرى، فيها إشارة إلى أن الحياة الصوفية وما فيها من إشراق وإلهام ومحبة ثمرةٌ من ثمرات الزهد في الدنيا وكلِّ ما سوى الله؛ فإن الطريق الوحيد للوصول إلى المحبوب هو الزهد في كل شيء غيره، سئل أبو يزيد البسطامي: «بأي شيء وجدت هذه المعرفة؟» (أي المعرفة الصوفية التي أساسها المحبة)، فقال: «ببطن جائع وبدن عار.»٩
وروي عن إبراهيم بن أدهم أنه قال لأخ له في الله: «إن كنت تحب أن تكون لله وليًّا وهو لك محبًّا؛ فدع الدنيا والآخرة ولا ترغبن فيهما، وفرِّغ قلبك منهما، وأقْبِل بوجهك على الله يُقْبِل الله بوجهه عليك ويلطف بك؛ فإنه بلغني أن الله تعالى أوحى إلى يحيى بن زكريا عليهما السلام: يا يحيى قضيت على نفسي ألا يحبني عبد من عبادي أعلم ذلك منه، إلا كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي يتكلم به، وقلبه الذي يفهم به. فكلما كان كذلك، بغَّضْت إليه الاشتغال بغيري، وأدمت فكرته وأسهرت ليله وأظمأت نهاره.»١٠

وربما كان أبرز شيء في عبارة المحاسبي إشارته إلى «الفوائد» الروحية التي يلقيها الله في قلوب محبيه فتنطق بها ألسنتهم، ويكون النطق بالمحبة على قدر نور الفائدة، وليس لنا أن نتكلم عن ماهية تلك الفوائد وكيفياتها فهي من صميم الحياة الصوفية التي لا يعلمها إلا الذين يعالجونها، ولكن أقرب ما نستطيع أن نصفها به أنها تلك المعاني الذوقية التي يشعر بها الصوفي في حال قربه من الله كالشعور بالأمن والطمأنينة والغبطة والحرية من أسْرِ الأنانية ونحو ذلك.

(٢) أبو القاسم الجنيد

بأبي القاسم الجنيد البغدادي وصل التصوف الإسلامي في القرن الثالث إلى ذروته، وهو من غير شك أعمق صوفية هذا القرن روحانية وأكثرهم خصبًا، كما أنه أكثرهم دقةً وأعسرهم فهمًا، وقد كان للصوفية قبل الجنيد لمحات إشراق وإشارات إلى بعض جوانب الحياة الروحية، ولكن الجنيد وقف من هذه الحياة في القمة، ونظر إلى ميدان التصوف نظرة شاملة، ووضع كما يضع الفنان الماهر صورة كاملة جامعة للتصوف لم يسبقه إليها سابق، وأفرغ هذه الصورة في قالب تحليلي عميق في رسائله وخطاباته القصيرة إلى إخوانه.١١

ولا يمكن فهم نظرية الجنيد في «المحبة الإلهية» إلا في ضوء نظريات أخرى له هي أعم وأشمل: أعني نظرياته في التوحيد والفناء وحقيقة الروح الإنسانية، وقد شرحنا نظريته في التوحيد في مكان آخر من هذا البحث، ولكنا مع ذلك لا نرى بأسًا من ذكر بعض معالم هذه النظرية مرة أخرى لصلتها الوثيقة بموضوعنا هنا.

يرى الجنيد أن أرواح البشر آمنت منذ الأزل بالله وأقرت بتوحيده وهي لم تزل بعد في عالم الذر وقبل أن يخلق الله العالم والأجسام المادية التي هبطت تلك الأرواح إليها، وأن هذا هو «التوحيد» الكامل الخالص لأنه صدر عن أرواح مطهرة مجردة عن أعراض البدن وآفاته، موجودة لا بوجودها المتعين الخاص، بل وجود الحق ذاته، وفي ذلك يقول: «فقد أخبرك عز وجل (أي في آية الميثاق وهي: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ إلخ) أنه خاطبهم وهم غير موجودين إلا بوجوده لهم؛ إذ كان واجدًا للخليقة بغير معنى وجوده لأنفسها، بالمعنى الذي لا يعلمه غيره ولا يجده سواه، فقد كان واحدًا محيطًا شاهدًا عليهم، أبديًا في حال فنائهم.»١٢

وقد أنزل الله هذه الأرواح من عليائها إلى عالمنا هذا وألبسها أبدانها قصدًا للبلاء والاختبار، فشغل بعضها بأعراض الدنيا ونسي أصله وموطنه، وحن بعضها إلى العودة إلى ذلك الأصل وجعل غايته الوفاء بذلك الميثاق الذي أخذه الله عليه والرجوع إلى تلك الحال التي كان عليها قبل أن يوجد في هذا العالم. فإذا تم لهذه الأرواح ما أرادت، وحدت الله التوحيد الكامل الخالص — أو ما يقاربه — وفنيت عن وجودها الزمني وبقيت بالله وحده، وفي هذا الفناء في الحق يتحقق معنى الحب له؛ إذ الفناء عن الذات المتعينة هو عين المحبة لمن تبقى الذات حية فيه ولا تشهد سواه. فالفناء في الحق قد تحقق أزلًا — في نظر الجنيد — إذ لم يكن في الأزل سوى الله، والفناء هو مطلوب الصوفية الآن.

وعبارة الجنيد صريحة في أن أرواح البشر قديمة أزلية قبل هبوطها إلى عالم الأجساد، حادثة زمنية بعد هبوطها، وأن وجودها الأزلي كان بوجود الله، وأن فناءها الأزلي معناه انعدام تعينها وتشخصها. أما وجودها الزمني فبإيجاد الله إياها على نحو آخر، والفرق بين الوجودين هو الفرق بين مقامي الجمع والتفرقة في العرف الصوفي.

ووجود الإنسان في العالم على الصورة التي هو عليها مرده إلى إرادة الله، ولكن الله القاهر الغالب يريد أيضًا أن يقهر ذلك الوجود الإنساني بفيض الوجود الإلهي عليه، بحيث يفنى الإنسان عن وجوده الخاص ويمحى رسمه. يقول الجنيد:
ولذلك قلنا إنه إذا كان واجدًا (موجدًا) للعبد يجري عليه مراده من حيث يشاء بصفته المتعالية التي لا يُشارَك فيها، وكان ذلك الوجود أتم الوجود وأمضاه لا محالة، وهو (أي الوجود) أولى وأغلب وأحق بالغلبة والقهر وصحة الاستيلاء على ما يبدو عليه (أي على الإنسان) حتى يمحى رسمه ويذهب وجوده إذ لا صفة بشرية.١٣
ويتحقق هذا الاستيلاء والقهر — وهو استيلاء الوجود الإلهي على الوجود الإنساني — في حال الفناء أو حال الحب لله. أو قل إنه هو بعينه الفناء في الله والحب له. قال الله عز وجل: «لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به.» هذا هو استيلاء الوجود الإلهي على وجود العبد المحب، ومعناه كما يقول الجنيد أن الله يؤيده ويوفقه ويهديه ويُشهده ما شاء كيف شاء بإصابة الصواب وموافقة الحق، وذلك فعل الله عز وجل فيه، وما وهبه له (أي للعبد) منسوب إليه لا إلى الواجد له؛ لأنه لم يكن عنه ولا منه ولا به، وإنما كان واقعًا به من غيره (وهو الله) وهو لغيره أولى، وبه (أي بهذا الغير) أحرى.١٤
وفي هذا الشرح ما يكفي لأن يدفع عن الجنيد تهمة الحلول أو الاتحاد أو وحدة الوجود، فإنه لا حلول هناك ولا اتحاد ولا صيرورة من أي نوع، وإنما يستولي الحق على العبد الفاني في حبه فتصدر عنه حركاته وسكناته بتحريك الحق إياه، فتكون الحركة للحق على الحقيقة وللعبد في الظاهر. يقول الجنيد في وصف المحب صاحب هذه الحال:
عبدٌ ذاهب عن نفسه، متصل بذكر ربه، قائم بأداء حقوقه، ناظر إليه بقلبه، أحرق قلبَه أنوار هويته وصفاء شربه من كأس وده، وانكشف له الجبار من أستار غيبه. فإذا تكلم فبالله، وإن نطق فعن الله، وإن تحرك فبأمر الله، وإن سكت فمع الله. فهو بالله ولله ومع الله.١٥

إن جوهر التصوف عند الجنيد هو الفناء عن الذات والبقاء بالله، أو هو الوصول إلى حال يكون فيها الحق سمع العبد وبصره على حد تعبير الحديث القدسي، وفي هذه الحال يصبح الوجود الذاتي المتعين وجودًا أتم وأكمل عن طريق البقاء بالله، وفي الله، ولكنها حال لا تدوم، فإن العبد يعود بعدها إلى حال من الصحو يشعر فيها باثنينية المحب والمحبوب، فيستأنف الحنين إلى محبوبه من جديد ويشتاق إلى الاتصال به، وهكذا يتردد الصوفي بين حالتي الفناء والبقاء، أو حالتي الجمع والفرق: الاتصال بالمحبوب والانفصال عنه، أو حالتي الغيبة والحضور، وفي الحالة الأولى يحس الصوفي بسعادة ليس فوقها سعادة إذ يحيا بكليته في محبوبه، وفي الثانية يشعر بالغصة والحسرة لتوقف المشاهدة.

وقد ذكرنا كل ذلك على أنه نظرية الجنيد في «الفناء»، والحقيقة أنه عين نظريته في الحب الإلهي أيضًا: إذ الفناء الصوفي والحب الإلهي وجهان لحقيقة واحدة، والصوفي الفاني هو الصوفي المستغرق في حب الله. فبالحب الإلهي يحيا الصوفي، وفي تمام الحب وكماله يكرس حياته ومجاهداته، فإذا تحقق له ذلك فقد وفَّى بالميثاق الذي قطعه على نفسه أمام الله في عالم الذر، وحَظِي بالاتصال به وبمشاهدته، وإذا انقطعت عنه مشاهدة محبوبه — وذلك في حال صحوه — اتجه إلى الآثار الجميلة في عالم الخلق فاستأنس بها ومنحها حبه لأنها آثار محبوبه. يقول الجنيد: «ومن ها هنا (أي في حالة الفقد) عَرجَت نفوس العارفين إلى الأماكن النضرة والمناظر الأنيقة والرياض الخضرة — وكان ما سوى ذلك عذاب عليهم — مما تحن إليه من أمرها الأول الذي تشمله الغيوب ويستأثر به المحبوب.»١٦

(٣) ذو النون المصري

أما أبو الفيض ذو النون المصري: فما يقال عن أقواله في المسائل الصوفية بوجه عام، يقال عن أقواله في المحبة الإلهية بوجه خاص، وهو أنها موضع شك الباحثين في تفاصيلها على الأقل؛ وذلك لأن شخصيته في العالم الإسلامي شخصية شبه أسطورية حيكت حولها القصص المتصلة بالكرامات وخوارق العادات، ونسبت إليها الأقوال التي يتعذر في كثير من الأحيان التأكد من أصالتها.

ولكن الذي لا شك فيه هو أن ثقافة ذي النون تتصل اتصالًا وثيقًا بالتراث المصري اليوناني الذي كان شائعًا في مصر إلى عهده، يدل على ذلك ما أثر عنه من أقوال في المعرفة الصوفية وفي المقامات والأحوال والمحبة الإلهية، وهو في كل هذا واقع تحت تأثير الفلسفة الأفلاطونية الحديثة المتأخرة والفلسفة الهرمسية، وبهذا يختلف عن الحارث المحاسبي والجنيد من مدرسة بغداد، وعن أبي يزيد البسطامي والترمذي من مدارس شرقي إيران.

وأسلوب ذي النون في المحبة الإلهية أسلوب قوي متأجج العاطفة، لا هو بالأسلوب الهادئ المنبعث رأسًا من تعاليم الدين كأسلوب المحاسبي، ولا هو بالأسلوب الميتافيزيقي الغامض المتغلغل في أعماق التحليل الصوفي كأسلوب الجنيد، بل هو أسلوب واضح رقيق جميل تغلب عليه الشاعرية وتتدفق فيه العاطفة الدينية؛ ولهذا كانت أقواله في المحبة الإلهية أبلغ أثرًا في أوساط الصوفية من أقوال غيره.

وقد يقال إن في بعض ما أثر عنه من أقوال في المحبة الإلهية نفحة من نفحات وحدة الوجود؛ لأنه لا يرى في الوجود شيئًا إلا رأى الله فيه، ولكن القول بوجود نظرية في وحدة الوجود في هذا العصر المبكر من عصور التصوف مبالغة لا مبرر لها، والأَولى أن توصف أقوال أمثال ذي النون المصري والجنيد، بل وأبي يزيد البسطامي، بأنها نفثات قلوب فاضت بالمحبة الإلهية واستبدت بها وحدة الشهود لا وحدة الوجود كما أشرنا إلى ذلك مرارًا.

يقول ذو النون في أحد أدعيته:

إلهي ما أصغي إلى صوت حيوان ولا حفيف شجر ولا خرير ماء ولا ترنم طائر ولا دوي ريح ولا قعقعة رعد، إلا وجدتها شاهدة بوحدانيتك، دالة على أنه ليس كمثلك شيء وأنك غالب لا تغلب، وعالم لا تجهل، وحليم لا تسفه، وعدل لا تجور. إلهي فإني أعترف لك بما دل عليه صنعك، وشهد له فعلك. فهب لي اللهم طلب رضاك برضاي، ومسرة الوالد لولده بذكرك لمحبتي لك، ووقار الطمأنينة وتطلُّب العزيمة إليك؛ لأن من لم يشبعه الولوع باسمك، ولم يروه من ظمئه ورود غدران ذكرك، ولم ينسه جميعُ العلوم رضاه عنك … ولم يقطعه عن الأنس بغيرك مكانه منك: كانت حياته ميتة، وميتته حسرة، وسروره غصة، وأنسه وحشة.

إلهي لا تترك بيني وبين أقصى مرادك حجابًا إلا هتكته، ولا حاجزًا إلا رفعته، ولا وعرًا إلا سهلته، ولا بابًا إلا فتحته، حتى يقيم قلبي بين ضياء معرفتك وتذيقني طعم محبتك. فيا من أسأله إيناسًا به وإيحاشًا من خلقه، ويا من إليه التجائي في شدتي ورخائي، ارحم غربتي، وهب لي من المعرفة ما أزداد به يقينًا، ولا تكلني لنفسي الأمارة بالسوء طرفة عين.١٧

فها هو ذو النون يرى في كل مظهر من مظاهر الطبيعة آيةً من آيات الله، وشاهدًا دالًّا على وحدانيته وعظمته ومخالفته للحوادث؛ لأنه لا يرى شيئًا إلا ورأى الله عنده، وهذه وحدة شهود يجربها ذو النون حتى في حال صحوه، ولكن هذه المظاهر الجمالية والجلالية مع ذلك حجب تحول بينه وبين محبوبه؛ لذلك يدعو ربه أن يهتك هذه الحجب ويرفع هذه الحواجز وييسر الوعر من الطريق ويفتح له باب الشهود بحيث ينغمس قلبه في ضياء «المعرفة» ويتذوق طعم المحبة، وهنا يقرن ذو النون المحبة الإلهية بالمعرفة الذوقية، كما يقرنها الجنيد وأبو يزيد البسطامي بالفناء، وكما يقرنها المحاسبي بالإيمان. لكل واحد من هؤلاء مشربه وطريقه في الوصول إلى الحق، ولكن عتبة الوصول هي المحبة التي يلتقون عندها جميعًا.

ويروى لذي النون شعرٌ في الحب الإلهي أغلب الظن أن كثيرًا منه وضع على لسانه، أو أنه كان ينشده متمثلًا به فاقترن باسمه، وكله ينطق بالهيام بالله المحبوب الذي لا يروي ظمأ محبه، والمقصود الذي افتتنت به قلوب خلصائه، والغني الذي لا يبارى في غناه، والملاذ الذي يتضرع إليه الشاكون ويبثونه أسرارهم. من ذلك قوله:

أموت وما ماتت إليك صبابتي
ولا قضيت من صدق حبك أوطاري
مناي المنى كل المنى أنت لي منى
وأنت الغنى كل الغنى عند اقتداري
وأنت مدى سؤلي وغاية رغبتي
وموضع آمالي ومكنون إضماري
تحمل قلبي فيك ما لا أبثه
وإن طال سقمي فيك أو طال إضراري
وبين ضلوعي منك ما لك قد بدا
ولم يبد باديه لأهل ولا جار
وبي منك في الأحشاء داء مخامر
فقد هدَّ مني الركن وانبث إسراري
ألستَ دليل القوم إن هم تحيروا
ومنقذ من أشفى على جرف هار؟
أنرت الهدى للمهتدين ولم يكن
من النور في أيديهم عشر معشار
فنلْنِي بعفوٍ منك أحيا بقربه
أغثني بيسرٍ منك يطرد إعساري١٨

لسنا هنا بإزاء معانٍ صوفية خفية كتلك التي نجدها في رسائل الجنيد، بل بإزاء شعور غامر يفيض بحب الله ويدرك صاحبه أن محبته باقية ببقاء الروح وأنها لا علاقة لها بهذا البدن الفاني. محبة تتجدد مع الزمن، كلما قضى منها وطر تجدد وطر، ويعترف المحب بالغنى المطلق لحبيبه وبالفقر المطلق لنفسه، ويبثه شكواه وما يتحمل قلبه من أجله من أمور لا تبدو لأحد غيره ولا يطلع على أسرارها أقرب الناس إليه، ثم يبتهل إلى المحبوب الذي هو دليل الحائرين أن ينير له الطريق وييسره له ويشمله بعفو منه يضمن له الحياة؛ لأن حياته في قربه وموته في بعده.

ويعتبر ذو النون المحبة الإلهية جماع الأخلاق الشرعية سواء ما اتصل منها بالله وما اتصل بالخلق: فمن المحبة الإلهية أن تحب ما أحب الله وتبغض ما أبغضه وتترك كل ما يشغلك عنه، ومن المحبة الإلهية أن تفعل الخير وتعطف على المؤمنين وتغلظ على الكافرين، ومن المحبة الإلهية أن تحب رسول الله وتقفو أثره، يقول الله عز وجل: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ.١٩

وكما تكلم ذو النون في المحبة الإلهية تكلم كذلك في أخص لوازمها وهو الأنس بالله، فإن من أحب الله على الحقيقة استأنس به واستوحش من كل ما عداه، وانقطع عن كل شيء سواه. يقول ذو النون:

الأنس بالله نورٌ ساطعٌ
والأنس بالخلق غمٌّ واقعٌ٢٠

(٤) أبو يزيد البسطامي

إذا كان المحاسبي والجنيد وذو النون المصري يمثلون النزعة الإسلامية المعتدلة في أقوالهم في الحب الإلهي، فإن أبا يزيد البسطامي يمثل نزعة غالية لا نستطيع أن نصفها بأنها «سنية» خالصة. فقد كان هذا الصوفي الوارثَ الحقيقي للعقلية الإيرانية القديمة؛ ولذا تجاوز تصوفه الحدود السنية التي ذكرناها، وكاد يقول بوحدة الوجود التي لا يمكن التوفيق بينها وبين الفكرة الإسلامية في توحيد الله. نعم لم تكن له نظرية خاصة في وحدة الوجود، ولكنه كان من غير شك من أوائل الذين مهدوا لظهور هذه النظرية في العالم الإسلامي فيما بعد، ولذا نعتبره هنا — كما نعتبر الحسين بن منصور الحلاج — ممثلًا لمرحلة انتقال خطيرة بين التصوف غير الفلسفي والتصوف الفلسفي القائم على القول بوحدة الوجود.

ويعبر أبو يزيد عن الحب الإلهي في أساليب رمزية مملوءة بالشطح والألغاز كعادته في معظم أقواله، فيصف الصوفي في حبه لله ومعراجه إليه بأنه طائر يسبح في فضاء اللا نهائية، متحرر من قيود الزمان والمكان، يطير في سماء «الهوية» ويدخل في فلك «التنزيه» ويشاهد شجرة الأحدية (بدلًا من شجرة المنتهى التي شاهدها النبي في معراجه)، له جناحان من «الديمومة» يطير بهما في ميدان «الأزلية».٢١
هذا كلام رجل مأخوذ عن نفسه، مسلوب عن صفاته، خارج عن حدود ذاته الزمانية والمكانية. فزمانه في حال جذبه «الديمومة» ومكانه «اللانهاية» وسماؤه «الهوية» وشجرة منتهاه «الأحدية»، وكل هذا وصف للحال الصوفية التي يسمونها «الفناء»، وإنه ليخيل لمن يقرأ ترجمة حياة أبي يزيد أنه كان في حال فناء دائمة؛ لأنه لا يشاهد في الوجود إلا الله متجليًّا بصفاته الخاصة به وهي الأزلية والأبدية والتنزيه والأحدية: لأنه غني عن الكثرة والتعدد وما يلزمهما من صفات، بل إنه فني عن شعوره بذاته، ومن أجل فنائه عن ذاته وبقائه بالحق شعر أنه متصف بالصفات السابقة كلها فقال: «فلما نظرت وجدت أنني هذه الأشياء كلها.» وهي في الحقيقة صفات للحق لا له. بل إنه قد أثر عنه أنه قال عن نفسه في مثل هذه الحال ما هو في ظاهره أعظم شناعة وأشد جرأة من هذا، وهو قوله: «سبحاني ما أعظم شأني.»٢٢
قال الجنيد في معرض الاعتذار عنه: «إن الرجل مستهلك في شهود الجلال فنطق بما استهلكه، أذهَله الحق عن رؤيته إياه فلم يشهد إلا الحق فنعته.»٢٣
وفي مقام الاتحاد بين المحب والمحبوب يقول أبو يزيد في جرأة عجيبة: «رفعني مرة فأقامني بين يديه وقال لي: يا أبا يزيد إن خلقي يحبون أن يروك، فقلت: زيِّني بوحدانيتك وألبسني أنانيتك وارفعني إلى أحديتك حتى إذا رآني خلقك قالوا رأيناك فتكون أنت ذاك ولا أكون أنا هناك.»٢٤
تلك كانت حال أبي يزيد وقد استولت على قلبه خمر الحب الإلهي، فإذا صحا من سكره ورد إلى نفسه أحس بالحسرة لوقوف إنيته حائلًا بينه وبين محبوبه فيصيح: يا رب لا أستطيع أن أصل إليك بأنيتي ولا أن أتخلص من ذاتي فماذا أنا فاعل؟ يقول الله تعالى: يا أبا يزيد تحرر من إنيتك باتباع محبوبي (محمد )، وكحل عينك بتراب قدمه وداوم على اتباعه.٢٥

ومعنى هذا أن أبا يزيد كان يدرك في حال صحوه أنه لا مفر له من نفسه، وأن له كيانًا ووجودًا لا يستطيع التخلص منهما، وأن الطريق السوي لمحبة الله هو متابعة رسول الله في الأمر والنهي والاقتداء بسيرته والتزام الشرع فيما قرره من وجود إله ومألوه وخالق ومخلوق، ولكن لسان الصحو غير لسان المحو، ومنطق الحب غير منطق العقل!

(٥) عمر بن الفارض

لا تخرج نظريات الصوفية في الحب الإلهي في القرنين الثالث والرابع الهجريين عن النماذج التي ذكرناها؛ ولذلك اكتفينا بها ليسترشد بها القارئ في فهم نظريات أخرى لم نعرض لذكرها وهي كثيرة.

أما النموذج الجديد لهذه النظريات فقد اخترنا له الصوفي الشاعر أبا حفص عمر بن الفارض المُتوفَّى بالقاهرة سنة ٦٣٢ﻫ.

وعمر بن الفارض أحد أقطاب العاشقين الإلهيين وأعظم شاعر صوفي في اللغة العربية على الإطلاق؛ ولهذا استحق أن نفرده بفقرة خاصة في هذا الفصل لنوضح مكانته من بين الذين وقع عليهم اختيارنا لتمثيل النظريات الصوفية المعتدلة في طبيعة الحب الإلهي.

امتاز ابن الفارض بأنه كان شاعرًا فوق كونه صوفيًّا، أو بالأحرى بأنه كان صوفيًّا فوق كونه شاعرًا، وكان لاجتماع هذين المزاجين فيه، مزاجي التصوف والشعر، أثر في تكوين شخصية عجيبة قد لا نجد لها نظيرًا إلا في متصوفة شعراء الفرس من أمثال عبد الرحمن الجامي وجلال الدين الرومي، وإذا كان المزاج الشعري وحده يولِّد في صاحبه إرهاف الحس ولطافة الوجد والذوق، ويدفع به إلى تعشق الجمال أيًّا كانت صورته وأشكاله وأينما كان موضعه، فما بالك برجل التقى فيه هذا المزاج الشعري بالمزاج الصوفي الذي يتعلق بالجمال المطلق، يتعشقه ويصبو دائمًا إلى الاتصال به واقتباس أسرار الحياة والحب منه! تحول هذان المزاجان في نفس ابن الفارض إلى مزاج واحد فاض عنه ذلك السيل الدافق من قصائده الصوفية الخالدة التي يظهر فيها — بفضل مزاجه الشعري — دقة الوصف وجودة تصوير الأحاسيس والمعاني والإبداع في الخيال، كما يتجلى فيها — بفضل مزاجه الصوفي — تجاربه الروحية العميقة وما يضطرب في نفسه من أحوال ومواجد وأذواق؛ ولذلك قد لا نعدو الحق إذا وصفنا ديوان ابن الفارض بأنه سجلٌّ نقرأ فيه حياته الروحية من حيث اتصالها بالله.

ومن المبالغة، بل من الإسراف الذي لا مبرر له أن نضع ابن الفارض في عداد الفلاسفة، أو نحاول أن نستخلص من أشعاره مذهبًا فلسفيًّا متسقًا، أو نعده من أصحاب وحدة الوجود كما فعل تقي الدين بن تيمية من القدماء والمستشرق دي ماثيو من المحدثين، أو أن نقرنه بمحيي الدين بن عربي الذي تنطق كل فقرة من كتابه «فصوص الحكم» بهذه النظرية.

ومع استثناء بعض أبيات لابن الفارض في تائيته الكبرى «نظم السلوك» عليها مسحة وحدة الوجود، لا نملك إلا أن نعده متصوفًا ينزع في حبه الإلهي منزع أصحاب «وحدة الشهود» لأنه لم يسلك طريق النظار — كما فعل ابن عربي في أكثر ما كتب — من وضع المقدمات واستخلاص النتائج، ومن تحليل المعاني الفلسفية وتأويل الآيات القرآنية والأحاديث بشتى أساليب التأويل لينفذ منها إلى مذهبه. لم يفعل ابن الفارض شيئًا من هذا، ولكنه استسلم لوجده واستغرق في حبه، وغاب عن نفسه وعن كل ما حوله، فلم يشهد في الوجود شيئًا إلا شهد الله فيه: فاعلًا ومؤثرًا، ولم يقع نظره على جميل إلا رآه مرآة ينعكس على صفحتها الجمال الإلهي المطلق. لقد كانت تعتريه الحال فيقضي فيها الأيام لا يأكل ولا يشرب ولا يتكلم، وهو مسجيٌّ كالميت، شاخصًا ببصره إلى السماء، فإذا أفاق أملى على من حوله ما فتح الله به عليه من التائية الكبرى. هكذا يحدثنا عنه سبطه ناقلًا عن أبيه فيما ورد في ديباجة الديوان.٢٦

قد نجد أو لا نجد لهذه الظاهرة الغريبة تفسيرًا مقبولًا يؤيده علم النفس، ولكنها على أية حال لم تكن ظاهرة من ظواهر العقل الواعي الذي نعرفه، فلنسم ما انكشف فيها لقلب ابن الفارض بأي اسم نشاء، أما العرف الصوفي فيسميه علمًا لدنيًّا ومعرفةً ذوقيةً وإلهامًا وإشراقًا وحبًّا وما أشبه هذه من المصطلحات.

ولم يقف ابن الفارض عند حد التغني بأناشيد الحب الإلهي التي يفيض بها ديوانه، بل وصف كذلك لازمًا من لوازم ذلك الحب هو النشوة بالخمر الإلهية التي سكرت بها أرواح العاشقين من قبل أن تخلق الخمر، كما وصف الجمال في شتى صوره، ورمز لمحبوبه بما اشتهر من أسماء المعشوقات اللاتي تردد ذكر أسمائهن في الغزل العربي القديم، بل إنه أغرق في هذا إلى حد أن القارئ لديوانه قد يخطئ الحكم فيه — كما أخطأ بعض المستشرقين — فيفسر قصائده تفسيرًا ماديًّا، ومع ذلك فليس من اليسير أن نخضع قصائد ابن الفارض لمقياس نقدي واحد، أو أن ندعي أنها كلها بمثابة واحدة في دلالتها على معاني الحب الإلهي، ولو على سبيل الرمز والإيماء، فإن كثيرًا منها قد يصعب صرفه عن معاني الغزل الإنساني العادي إلا بضرب من الجهد في التأويل، ولكن الذي لا شك فيه هو أن قصيدته «التائية الكبرى» التي تبلغ سبعمائة وواحدًا وستين بيتًا، وقصيدته «الخمرية»، تنفردان دون سائر الديوان بأنهما شعر صوفي خالص يسمو على كل مادية، وأنهما تكفيان في تصوير الحب الإلهي عن ابن الفارض في جميع نواحيه.

ويتفق ابن الفارض مع أمثال الجنيد وأبي يزيد البسطامي في النظر إلى المحبة الإلهية باعتبارها فناء المحب عن نفسه وبقاءه بالله وحده، ولا يختلف عنهم إلا في أساليب التعبير والتصوير والتحليل، وكثيرًا ما يتخذ أسلوبه صورة الحوار بين نفسه والذات الإلهية، يتحدث إليها ويناجيها ويبثها لوعته وأشواقه وحنينه وغير ذلك من مظاهر الحب، ويسألها ويجيب بلسانها عن مدى صدقه في حبه ومدى قبولها إياه إلى أن ينتهي الأمر بالمحب إلى مقام الوصال والاتصال حيث تنمحي الاثنينية ويخرس اللسان ويسود الصمت.

وإذا كان لكل صوفي معراج روحي إلى الله، فلابن الفارض معراجه الذي نجده واضحًا في تائيته الكبرى حيث يحدثنا عن مراحل تطوره الروحي وما عاناه وما شاهده في كل مرحلة، وما أحس به من إخفاق أو نجاح، وحيث يحدثنا عن الفناء ومعانيه، والحب وغايته، ويصور من يدعي محبة الله وقلبه مشغول بغيره ومن يحب الله على الحقيقة ويخلص في حبه.

يقول على لسان الذات الإلهية، وهو لا يزال بعدُ في مرحلة ادعاء الحب؛ لأنه لا يزال شاعرًا بنفسه:

حليف غرام أنت لكن بنفسه
وإبقاك بعضًا منك بعض أدلتي
فلم تهوني ما لم تكن في فانيًا
ولم تفنَ ما لم تُجتلى فيك صورتي
هو الحب إن لم تقض لم تقض مأربًا
من الحب فاختر ذاك أو خل خلتي

انظر إلى قوله: «ولم تفن ما لم تُجتلى فيك صورتي»، إن الفناء الحقيقي عنده ذهاب كل شعور بالذات بحيث لا يشهد الفاني شيئًا سوى الصورة الإلهية متجلية في نفسه وفي كل شيء حوله، ويردُّ ابن الفارض بلسان المحب الذي لا يهاب الفناء في سبيل المحبوب فيقول:

وما أنا بالشاني الوَفاة على الهوى
وشأني الوفا تأبى سواه سجيتي
وماذا عسى عني يقال سوى قضى
فلان هوى؟ من لي بذا وهو بغيتي؟

ثم تأتي لحظة الفناء وتعطل إرادة المحب ويستولي عليه سلطان الشهود فلا يشعر إلا بوحدة شاملة لا فرق فيها بين محب ومحبوب ولا عابد ولا معبود، فيقول:

كِلانا مصلٍّ واحدٌ ساجدٌ إلى
حقيقته بالجمع في كل سجدة
وما كان لي صلى سواي ولم تكن
صلاتي لغيري في أدا كل ركعة

هذان البيتان أجرأ شيء قاله ابن الفارض في «التائية»، وعليهما وعلى أمثالهما استند الذين يدعون أنه كان من أصحاب وحدة الوجود، ولكن ابن الفارض هنا يتكلم بلسان الفناء لا بلسان الادعاء بأن المصلي هو المصلى له، أو أن الحق هو الخلق والخلق هو الحق وأمثال ذلك من أقوال ابن عربي.

وهكذا نجد تصويرًا لمراحل السلوك الصوفي في الأبيات القليلة التي اقتبسناها. فابن الفارض في أول أمره في حال الصحو الأول: يدرك ذاته ويدرك محبوبه؛ أي إنه في مقام الاثنينية، وأدراك الاثنينية منافٍ للحب الصوفي الخالص، وهو في المرحلة الثانية في حال سكر وغيبة عن ذاته، وشهود للحق وحده، وهي حال ينمحي فيها إدراك الاثنينية، ويخرج فيها العبد من ضيق حدود التناهي إلى سعة فناء اللامتناهي كما صورها أبو يزيد، وهو في المرحلة الثالثة في حال صحو ثان، يشعر فيها بذاته ولكنه شعور يختلف عن شعوره بذاته في الصحو الأول: لأنه شعور بالذات المتقومة بالله القريبة من الله.

١  حلية الأولياء، ج١٠، ص٧٨ وما بعدها.
٢  البقرة: ١٦٥.
٣  أي بسبب إظهاره.
٤  أي عقوبات الحرمان التي ينزلها الله بالمعجب بأعماله المطمئن إليها.
٥  الحلية نفس المرجع، ص٧٨.
٦  أي بالطريق الحسن الذي يهدي به الله المحب إليه.
٧  أي المعاجلة بالموت. وفي الأصل المعالجة وهو خطأ.
٨  الحلية ج١٠، ص٧٩. وقد ورد البيتان مرة أخرى في الحلية ج٩، ص٣٥٥ هكذا:
وله خصائص مصطفين لحبه
اختارهم في سالف الأزمان
اختارهم من قبل فطرة خلقهم
فهم ودائع حكمة وبيان
ورَدَا على لسان شيخ عابد لقيه ذو النون في جبال الشام.
٩  الرسالة القشيرية، ص١٤.
١٠  الحلية، ج١٠، ص٨٢. ويلاحظ أن الجزء الأخير من عبارة ابن أدهم يشير إلى الحديث القدسي المعروف بحديث النوافل، وقد ذكرناه بنصه آنفًا.
١١  من ذلك الرسائل المحفوظ في مخطوط نادر بمكتبة شهيد علي بإسطنبول رقم ١٣٧٤. وقد اطلعت على صورة شمسية منها موجودة بمكتبة كلية الآداب بجامعة الإسكندرية رقم ١٠٣٦ب.
١٢  كتاب الفناء، مخطوطة إسطنبول، ورقة ٥٥أ. ويستعمل الجنيد كلمة «واجد» بمعنى «موجد» وهو خطأ إذ لا يقال: وجده الله تعالى، وإنما يقال: أوجده. انظر القاموس المحيط في مادة وجد.
١٣  نفس المخطوطة، ورقة ٥٥أ.
١٤  نفس المخطوط في ورقة ٥٥ب.
١٥  الرسالة القشيرية، ص١٤٧.
١٦  رسالة الفناء، المخطوط السالف الذكر، ورقة ٥٦أ.
١٧  الحلية، ج٩، ص٣٤٢-٣٤٣.
١٨  الحلية، ج٩، ص٣٩٠؛ طبقات السلمي، ص٢١-٢٢. والأبيات في الحلية مملوءة بالأخطاء والتحريفات.
١٩  آل عمران: ٣١.
٢٠  طبقات السلمي، ص٢٣.
٢١  انظر اللمع للسراج، ص٣٨٤. قارن بين كشف المحجوب للهجويري، ص٢٣٨، وتذكرة الأولياء للعطار، ج١، ص١٧٢ وما بعدها.
٢٢  تلبيس إبليس، ص٢٤٣.
٢٣  تلبيس إبليس، ص٣٤٤.
٢٤  اللمع، ص٣٨٣. قارن تلبيس إبليس، ص٣٤٥.
٢٥  كشف المحجوب، ص٢٣٨.
٢٦  ديباجة ديوان ابن الفارض، ص٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤