المحبة الإلهية والأخلاق الصوفية

ما من خُلق يتحلى به الصوفي وينادي به إلا ويمت بصلة إلى ذلك الأصل الأول الذي هو المحبة الإلهية: وذلك أن جوهر المحبة الإيثار، إيثار المحبوب على كل ما عداه ومن عداه، وفي إيثار الصوفي لله تتركز صفاته الأخلاقية كلها. يقول الغزالي:
المحبة هي الغاية القصوى من المقامات والذروة العليا من الدرجات، فما بعد المحبة مقام إلا وهو ثمرة من ثمارها، وتابع من توابعها، كالشوق والأنس والرضا وأخواتها، ولا قبل المحبة مقام إلا وهو مقدمة من مقدماتها كالتوبة والصبر والزهد وغيرها.١

فمن أجل محبة الله يزهد الصوفي في الدنيا ومتعها ولذاتها وجاهها، ويبذل كل شيء حتى نفسه التي هي أعز شيء عليه. يقول الحارث المحاسبي: «المحبة ميلك إلى الشيء بكليتك ثم إيثارك له على نفسك وروحك ومالك، وموافقتك له سرًّا وجهرًا، ثم علمك بتقصيرك في حبه.» وفي قول المحاسبي «وموافقتك له سرًّا وجهرًا» إشارةٌ إلى اعتقاد الصوفية أن المحبة تورث الطاعة لله وإقامة حدوده وفرائضه، وردٌّ على من يدعي أنها تؤدي بصاحبها إلى الترخص في الدين ورفع التكاليف الشرعية. يؤيد هذا قول صوفي كبير آخر هو يحيى بن معاذ الرازي: «ليس بصادق من ادعى محبته ولم يحفظ حدوده.»

ومن أجل محبة الله يتواضع الصوفي ولا يخالط قلبه عجب أو كبر أو رياء، ولا يدَّعي لنفسه شرفًا أو علمًا أو جاهًا أو فضيلةً أيًّا كان نوعها، بل لا يدعي لنفسه صدقًا في العبادة أو إخلاصًا كما هو واضح من تعاليم ملامتية نيسابور،٢ ومن عبارة جلال الدين الرومي التي يقول فيها: «الحب دواء العُجْب والرياء وطبيب جميع الأدواء، ولا يكون الإيثار صادقًا إلا عند من مزق الحب ثوبه.»٣

وكما يؤْثِر الصوفي الله على نفسه، وما لله من حقوق على ما لنفسه، كذلك يؤثر على نفسه غيره من الناس، ويضحي بحقوقه من أجلهم ما دام في ذلك مرضاة لربه. يحكون أن النوري والرِّقام وآخرين اتهموا بالزندقة وحكم الخليفة بقتلهم، فلما دنا السياف من الرقام تقدم النوري وطلب من الجلاد أن يكون دوره أولًا، فتعجب الحاضرون، وسأل الجلاد النوري في ذلك فقال: أنه أراد أن يؤثر صاحبه على نفسه ببعض لحظات بقيت له، ويحكى عن النوري أيضًا أنه سمع يومًا يناجي ربه ويقول: «رب قد سبق في علمك القديم وإرادتك أن تعذب عبادك الذين خلقتهم، فإذا اقتضت إرادتك أن تملأ جهنم من الناس فاملأها بي وحدي.»

ومن أجل محبة الله أحب الصوفية كل شيء لأن الأشياء آثار المحبوب ومجاليه، بل اعتبروا محبة الخلق قنطرة يعبر عليها السالك إلى محبة الله، واشترط بعضهم أن يكون للمريد سابقة عهد بحب إنساني؛ لأن من لا عهد له بحب إنساني لا يستطيع أن يرقى درجة واحدة في سلم الحب الإلهي، وهذه نزعة نجد لها صدًى قويًّا عند أصحاب وحدة الوجود كما أوضحنا في قصة ابن عربي والنظام ابنة مكين الدين بن شجاع.

ومن أجل محبة الله يكثر الصوفي من التأمل فيه، وينصرف بجميع قواه إليه وحده ولا يشغل قلبه بسواه، ويأنس بذكره، ويستوحش ببعده، ويطرب لرضاه، وينزعج لغضبه، أو على حد قول الصوفية أنفسهم يفنى بكليته في محبوبه. يقول بعضهم:

لما علمت بأن قلبي فارغ
ممن سواك ملأته بهواكا
وملأت كلي منه حتى لم أدع
منى مكانًا خاليًا لسواكا
فالقلب فيه هيامه وغرامه
والنطق لا ينفك عن ذكراكا
والطرف حين أجيله متلفتًا
في كل شيء يجتلي معناكا
والسمع لا يصغي إلى متكلم
إلا إذا ما حدثوا بحلاكا
بل إن العبادة والتقوى والورع وغيرها من صفات الأخلاق الدينية فرع عن المحبة الإلهية ونتيجة لها كما أشرنا إلى ذلك من قبل، وليس من يعبد الله طمعًا في جنته كمن يعبده حبًّا لذاته وطمعًا في محبته إياه. فشتان ما بين الجنة التي هي من فعل الله وخلقه، وبين محبة الله للعبد التي هي صفة من صفاته تعالى. أشار إلى ذلك أبو القاسم النصراباذي المُتوفَّى سنة ٣٦٩ بقوله:
الجنة باقية بإبقائه (أي بإبقاء الله تعالى إياها)، وذكره لك ورحمته ومحبته باقية ببقائه، فشتان بين ما هو باقٍ ببقائه وما هو باقٍ بإبقائه.٤

يعني بذلك أن الجنة حادثة تبقى بإبقاء الله إياها وتزول إذا أراد الله زوالها، أما صفاته تعالى كالذكر والرحمة والمحبة فقديمة أزلية باقية ببقاء الذات الإلهية المتصفة بها، وشتان بين القديم والحادث، وبين تعلق النفس بالحادث الزائل (كالجنة وثوابها) وتعلقها بالقديم. هذه وجهة نظر صوفيٍّ سنيٍّ أراد أن يوازن بين غايتين ينشدهما العابد في طريقه إلى الله، ورأى أن محبة الله للعبد أعظم جزاء له من ثواب الجنة ونعيمها؛ لأنها أدوم وأبقى. أما الصوفية الذين هم أكثر تحررًا من النصراباذي فيرون أن الجنة الحقة هي اتصال المحب بمحبوبه (الله) والجحيم الحق في البعد عنه، وأن العبادة الحقة هي عين محبة الله.

١  الإحياء، ج٤، ص٢٨٠، ط الحلبي، سنة ١٢٩٦.
٢  راجع كتابي «الملامتية والصوفية وأهل الفتوة».
٣  مقتبسٌ من كتاب صوفية الإسلام للأستاذ نيكولسون.
٤  الرسالة القشيرية، ص٥، س٧ من أسفل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤