المشاهدة والإشراق

ذكرنا فيما مضى أن المشاهدة ثمرة المجاهدة، وأن من لا مجاهدة له فلا مشاهدة له، والآن نشرح ما يقوله الصوفية عن المشاهدة علَّنا نقف على شيء من أسرارها، وإن كنا لا نطمع في أن ندرك حقيقتها لأنها كسائر أحوال الصوفية وقف على من يعانيها ويجربها.

وصف الله سبحانه نفسه بأنه نور السموات والأرض؛ أي المتجلي أثره في كل شيء، والنور أظهر الأشياء، بل به وحده تظهر الأشياء، وما خفي الله إلا لشدة ظهوره، كالشمس لا ترى في وضح النهار لشدة ما ينبعث منها من الضوء، فهي عين الحجاب على نفسها.

ولكن الله لا يُرَى بالعين المجردة لأن العين لا تدرك إلا المحسوس، وإنما يشَاهد في قلب العبد؛ أي إن مشاهدته روحية لا حسية، ونوره المشار إليه في الآية نور روحي لا حسي، وهو بهذا المعنى نور السموات والأرض أي الظاهر أثره في الوجود بأسره.

فإذا تكلم الصوفية عن رؤية الله في القلب فإنما يقصدون بها مشاهدته بنور يقين القلب، وليس نور يقين القلب إلا شعاعًا من النور الإلهي الذي وضعه الله في قلب العبد، وبواسطة هذا الشعاع يرى العبد ربه ذوقًا، كضوء الشمس الذي يمكِّن الناظر إليها من رؤيتها. يقول أبو يزيد البسطامي إن الذين يتكلمون عن الأزلية لا بد أن يكون فيهم مصابح الأزلية، وهذا المصباح هو نور اليقين.

ومن دلائل وجود هذا المصباح الأزلي في قلب الإنسان وجود قوة «الفراسة» في قلب العبد الصادق كما يشير إلى ذلك الحديث القائل: «اتقوا فراسة المؤمن فإنه يرى بنور الله.» ومنها كذلك علوم الوحي والإلهام التي هي علوم الأنبياء والأولياء، فإن المصدر واحد في الحالتين، والفرق بين وحي الأنبياء وإلهام الأولياء إنما هو فيما يكشفه النور الإلهي من المعارف الغيبية في قلوب الموحى إليهم والملهمين. أما ما ينكشف منها للرسل فقد قفل الباب فيه ببعثة النبي محمد خاتم النبيين، وأما ما ينكشف لأولياء الله فالباب مفتوح فيه إلى أبد الآبدين.

ولكن لا بد من صقل صفحة القلب بالرياضة والمجاهدة لكي يشرق عليها ذلك النور، وذلك بإزالة الحجب التي تتصل بكل ما سوى الله وتحول دون إشراق النور الإلهي في القلب أو انبعاثه منه على حد قول بعض الصوفية الذين يذهبون إلى أن «المشكاة» الواردة في قوله تعالى: مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ هي قلب العبد، و«المصباح» هو النور الإلهي الذي أودعه الله في القلب الإنساني منذ خلق الله آدم ونفخ فيه من روحه، وعلى هذا ففي الإنسان عنصر إلهي بفطرته، لا يكسبه بكده ومجاهدته، وإنما تكشف المجاهدة عنه وتزيل الحجب التي تغشاه.

وليس النور الإلهي في قلب العبد وسيلة لمشاهدة الله وحسب، بل هو النور الذي يهتدي به العبد إلى ما هو خير وحق وجميل في أمور دينه ودنياه، ولذا يقول بعض الصوفية إن من عصى قلبه فقد عصى ربه، وذلك لأن القلب عند الصوفية مركز إشراق ومركز عرفان معًا.

ويظهر الإشراق في قلب الصوفي على أنحاء، فقد يظهر فجأة قويًّا شديدًا، وقد يبدو خافتًا أول الأمر ثم يأخذ في القوة واللمعان، وهنا يشاهد الصوفي الصفات الإلهية وآثارها، ويشتغل بهذه المشاهدة عن نفسه وعن كل ما سوى الله. فإذا فني عن ذاته بالكلية حصل في المقام الذي يطلق عليه الصوفية اسم مقام «الإحسان» وهو المقام الذي قال فيه رسول الله : «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه.»

ويذكر الهجويري نوعين من المشاهدة: الأولى المشاهدة التي هي ثمرة الإيمان، والثانية المشاهدة التي هي ثمرة المحبة، فإن العبد يصل في حبه لربه إلى درجة يستغرق فيه بكليته ولا يشتغل قلبه بشيء سواه، ويظهر الفرق بين النوعين في أقوال الصوفية وهم يعبرون عن شهودهم وأحوال وجدهم، فإذا قال أحدهم: «ما رأيت شيئًا إلا رأيت الله معه» أشار إلى النوع الأول؛ لأنه شاهد آثار الله ظاهرة في الخلق، وهذا هو الإيمان الصادق، وإذا قال الآخر: «ما رأيت شيئًا سوى الله» أو قال:

فما نظرت عيني إلى غير وجهه
ولا سمعت أذني خلاف كلامه١
فإنه يشير إلى الشهود الثاني، والصوفي الأول يرى الآثار الإلهية بعيني رأسه ويشاهد صاحب الآثار بعين قلبه، والثاني غافل عن الآثار وعن نفسه لا يرى سوى الله، وطريق الأول برهاني وطريق الثاني كشفي ذوقي، وفي هذا المعنى يقول أبو يزيد البسطامي: «حججت مرة فرأيت البيت ولم أر صاحبه، وحججت الثانية فرأيت «البيت» وصاحبه، وحججت الثالثة فلم أر البيت ولا صاحبه.» ففي الحالة الأولى رأى أبو يزيد «البيت» ببصره ولم ير صاحب البيت، وذلك هو الغالب في الناس، وفي الحالة الثانية رأى «البيت» ببصره ورأى صاحب البيت بعقله، وهذا طريق النظار، وفي الحالة الثالثة غفل عن نفسه وعن البيت فرأى وحدة مطلقة لا يميز فيها بين الأثر والمؤثر: بين البيت وصاحب البيت، وانمحى في قلبه كل ما سوى الله، وفي هذا المعنى أيضًا يقول محمد بن عبد الجبار النفري في كتاب «المواقف»: «وقال لي (أي الله) أدنى علوم القرب أن ترى آثار نظري في كل شيء فيكون أغلب عليك من معرفتك بي»،٢ أي إن أقل درجات المشاهدة أن تراني وأنت تنظر إلى آثاري، وأن تكون هذه الحال أغلب عليك من معرفتك بي. أما أعلى درجات المشاهدة فهي التي تمحى فيها رؤية «السوى» فلا يخطر في القلب إلا الله.

وقد اختلفت عبارات الصوفية في وصف هذا المشهد اختلافًا يدل على مدى تفاوتهم في درجات الشهود، فمنهم من يقول: «ما رأيت شيئًا إلا ورأيت الله قبله»، ومنهم من يقول: «ما رأيت شيئًا إلا ورأيت الله بعده، أو معه»، ومنهم من يقول: «ما رأيت سوى الله» وهذا مقام وحدة الشهود وليس تعبيرًا عن نظرية وحدة الوجود كما ذكرنا مرارًا. إن بناء التصوف برمته يقوم على هذا الأساس: وهو أن فناء الصوفي عن نفسه هو بقاؤه بالله. أو بعبارة أخرى إن من فقد نفسه وجد ربه، وإن حالة الوجد أو الجذب هي وحدها الحال التي يتصل فيها العبد بالله، وليست مسائل التصوف الكبرى مثل «الزهد» و«تصفية النفس» و«المحبة» و«المعرفة» و«الولاية» وغيرها سوى فروع لهذه المسألة الرئيسية، وقد عبر الصوفية عن حال الشهود هذه بألفاظ كثيرة كلها من قبيل المجاز مثل: الفناء و«الوجد» و«الجذب» و«الذوق» و«الشرب» و«الغيبة» و«السكر» و«الحال»، وهي اصطلاحات تدور على ألسنة الصوفية ويعبر بها كل واحد منهم عن الزاوية الخاصة التي ينظر منها إلى تجربته في الشهود، ولكنها لا تعني إلا قليلًا لمن لم يجرب تجارب القوم ويذوق أذواقهم. كما أن وصف «الشهود» بأنه سرٌّ إلهيٌّ يكشفه الله في قلب عبده المؤمن فيراه بعين اليقين، أو أنه نور ينبعث في قلب العبد نتيجة لحبه لله، لا غناء فيه لغير الصوفي الذي انكشف له ذلك السر أو شاهد هذا النور. أما هذه العبارات المجازية فمن شأنها أن تخلع على ذلك المعنى الدقيق اللطيف ثوبًا كثيفًا من المادية هو أبعد ما يكون عنه.

١  الفتوحات المكية، ج٢، ص٦٠٤.
٢  المواقف، ص٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤