أصل كلمتَي صوفي ومُتصوِّف وتعريفاتهما

للكلام في هذا الموضوع شقان كما يدلُّ عليه العنوان: الأول بحث تاريخي فيلولوجي في أصل كلمتي «تصوُّف» و«صوفي» وفي أي عصر من العصور ظهرتا وانتشرتا في الإسلام، والثاني في التعريفات التي وضَعها الصوفية أنفسهم لهذَين الاصطلاحَين؛ أي في المعاني التي اعتبرُوها مقوِّمات للحياة الصوفية. فالشقُّ الأول دراسة للفظَين، والثاني دراسة لمفهومَيهما، وليس للشق الأول — على الرغم من الجهد الذي بذله المؤلِّفون قديمًا وحديثًا في دراسته — أهمية ولا قيمة كبيرة إلا بمقدار ما يُلقي من الضوء على بعض جوانب الشق الثاني. أما «التعريفات» التي وضعها كبار الصوفية — لا سيما الأوائل منهم — للتصوُّف والصوفي فهي في صميم دراسة التصوُّف وجوهرها، وإذا تتبعناها تتبعًا زمنيًّا وحللناها تحليلًا دقيقًا، ظهر لنا التصوف في صورة جلية، ووضَّح تطوُّره خلال التغيرات الكثيرة التي اكتنفته في البلاد الإسلامية التي ظهر فيها، والمؤثرات الإسلامية وغير الإسلامية التي أثرت فيه؛ لهذا آثرنا أن نعالج كل شقٍّ من شقي هذا البحث معالجةً مستقلةً، تاركين للقارئ ملاحظة ما بينهما من ترابط وما قد يكون للشق الأول من أثر في إيضاح بعض جوانب الثاني.

(١) الأصل التاريخي والاشتقاقي لكلمتي تصوف وصوفي

ذهب جمهور المؤلفين في التصوُّف إلى أن هاتَين الكلمتين من الكلمات المستحدَثة في الملَّة الإسلامية وأن البغداديين هم الذين استحدثوهما، ولم يشذَّ عن هذا الاجتماع — فيما نعلم — إلا أبو نصر السراج صاحب كتاب اللُّمع١ الذي يذهب إلى أن اسم الصوفي أقدم من البغداديِّين.

وقد استدل القائلون بأن اسم «الصوفي» مُستحدَث بأنه لم يكن من الألقاب التي أُطلقت على الصحابة في عهد الرسول؛ فإنهم لم يُميِّزهم عن غيرهم سوى صحبة الرسول، وكذلك لم يتَّسم أهل الجيل الثاني باسمٍ سوى «التابعين»؛ وذلك لأنَّ الإقبال على الدين والزهد في الدنيا في هذين الجيلين كانا عامَين بين المسلمين، فلم تكن هناك حاجة إلى اسمٍ خاص يَمتاز به الرجل التقي.

ولكن لما فشا الإقبال على الدنيا — كما يقول ابن خلدون — وجنح الناس إلى متاع هذه الحياة، دعَتِ الحاجة إلى وجود صفة يَمتاز بها بعض الخواص الذين كانت لهم عناية بأمر الدين، وكذلك اشتدَّت هذه الحاجة لما ظهَرت الفرق الإسلامية وادَّعى أصحاب كل فرقة أنهم على حق وأن فيهم العبَّاد والزهاد. هنالك ظهرت هذه التسمية وانفرد بها المقبلون على العبادة واشتهر هذا الاسم قبل المائتَين.

يقول ابن تيمية في رسالة «الصوفية والفقراء»: «أما لفظ الصوفي فإنه لم يكن مشهورًا في القرون الثلاثة الأولى، وإنما اشتهر التكلُّم به بعد ذلك، وقد نقل التكلم به عن غير واحد من الأئمة والشيوخ كالإمام ابن حنبل (المُتوفَّى سنة ٢٤١) وأبي سليمان الداراني (المُتوفَّى سنة ٢٣٥) وغيرهما. فقد رُوي أن ابن حنبل كان يسأل الحارث المحاسبي (المُتوفَّى سنة ٢٤٢) في بعض المسائل ويقول: ما تقول فيها يا صُوفي؟»

وظاهر من عبارة ابن تيمية أنه يُشير إلى انتشار اسم الصوفية لا إلى أول زمن استعماله.

ويقول الأستاذ ماسنيون في المقال الذي كتبه في دائرة المعارف الإسلامية عن مادة «تصوف» ما خلاصته: أنَّ التلقيب بالصوفي مفردًا ظهر في التاريخ في النصف الثاني من القرن الثاني الهجري وسُمِّي به جابر بن حيان الكوفي صاحب الكيمياء الذي كان يدعو إلى مذهبٍ خاصٍّ في الزهد، وأبو هاشم الكوفي (الصوفي). أما كلمة الصوفية بالجمع فظهرت حوالي سنة ١٩٩ هجرية، وكانت تدل في ذلك الوقت على أصحاب مذهبٍ يَكاد يكون شيعيًّا من مذاهب التصوُّف ظهر في الكوفة، وكان عبدك الصوفي آخر أئمته. تُوفِّي عبدك في بغداد سنة ٢١٠.

ونَستنتج من عبارة ماسنيون أن كلمة «الصوفي» كانت قاصرة في أول الأمر على الكوفة، ومما يُؤيد هذا أن الكلمة لم تكن مُستعملة استعمالًا عامًّا لكل مسلم سلك طريق التصوُّف: فإنها لم تُطلق على فرقة من الصوفية ظهرت في أواخر القرن الثالث في نيسابور وتسمَّت باسم «الملامتية» تمييزًا لها عن الصوفية من أهل العراق والشام.

وقد كان من الطبيعي أن يَظهر اسم «الصوفي» أول ما ظهَر في الكوفة سواء أكان أول من تُسمى به جابر بن حيان أو أبا هاشم الصوفي؛ لأنَّ أول مدرسة عُرفَت في التصوف الإسلامي ظهرت في مدينتَي البصرة والكوفة، وقد كانت الكوفة آرامية الثقافة متأثِّرة بالثقافة المانوية التي ظهرت في تصوف الكوفيين في مسألة الحب الإلهي، بينما كانت البصرة هنديةَ الثقافة وقد ظهر أثر هذه الثقافة في تصوُّفها في ناحيته العملية.

أما عن الأصل اللغوي لكلمة «الصوفي» فقد تضاربَت فيه الأقوال قديمًا وحديثًا، وذهب فيه المؤلِّفون كل مذهب مُمكن: وذكرُوا أن الكلمة مشتقَّة من الأصل «ص و ف» أو «ص ف و» أو «ص ف ف»، فنسبُوها إلى الصوف وإلى الصفاء وإلى الصف، وإلى الصُّفة (صفة مسجد الرسول بالمدينة)، وإلى الصفة، وإلى رجل اسمه «صوفة»، وإلى صوفة القفا، وإلى الصوفانة وهي نبتة تَنبُت في الصحراء، وإلى الكلمة اليونانية «سوفيا».

يقول أبو نصر السراج الطوسي المُتوفَّى سنة ٣٧٨ وهو صاحب كتاب «اللمع» أقدم كتاب عربي في التصوف: «إذا سأل سائل فقال: قد نسَبَت أصحاب الحديث إلى الحديث، ونسبَت الفقهاء إلى الفقه، فلمَ قلت الصوفية ولم تَنسبهم إلى حالٍ ولا إلى علم، ولم تُضِف إليهم حالًا كما أضفت الزهد إلى الزهاد والتوكُّل إلى المتوكلين والصبر إلى الصابرين؟ فيقال له: لأن الصوفية لم يَنفردُوا بنوع من العلم دون نوع، ولم يترسَّموا برسم من الأحوال والمقامات دون رسم؛ وذلك لأنهم معدن جميع العلوم ومحلُّ جميع الأحوال المحمودة والأخلاق الشريفة سالفًا ومُستأنفًا، وهم مع الله في الانتقال من حال إلى حال، مُستجلِبين للزيادة. فلما كانوا في الحقيقة كذلك، لم يكونوا مُستحقِّين اسمًا دون اسم. فلأجل ذلك ما أضفت إليهم حالًا دون حال، ولا أضفتهم إلى علم دون علمٍ لأني لو أضفت إليهم في كل وقتٍ حالًا ما وجدت الأغلب عليهم من الأحوال والأخلاق والعلوم والأعمال وسميتهم بذلك، ولكان يلزم أن أُسميهم في كل وقتٍ باسمٍ آخر، وكنت أضيف إليهم في كل وقت حالًا دون حالٍ على حسب ما يكون الأغلب عليهم. فلما لم يكن ذلك، نسبتُهم إلى ظاهر اللبسة؛ لأنَّ لبسة الصوف دأب الأنبياء عليهم السلام، وشعار الأولياء والأصفياء، ويكثر في ذلك الروايات والأخبار. فلما أضفتهم إلى ظاهر اللبسة كان ذلك اسمًا مجملًا عامًّا مخبرًا عن جميع العلوم والأعمال والأخلاق الشريفة المحمودة، ألا ترى أن الله تعالى ذكر طائفة من خواصِّ أصحاب عيسى عليه السلام فنسبهم إلى ظاهرة اللبسة فقال عز وجل: إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ، وكانوا يَلبسون البياض، فنسبَهُم إلى ذلك ولم يَنسبهم إلى نوعٍ من العلوم والأعمال والأحوال التي كانوا بها مترسِّمين. فكذلك الصوفية عندي، والله أعلم، نُسبوا إلى ظاهر اللباس ولم يُنسَبوا إلى نوعٍ من أنواع العلوم الأخرى والأحوال التي هم بها مُترسِّمُون؛ لأنَّ لبس الصوف كان دأبَ الأنبياء عليهم السلام والصدِّيقين وشعار المتنسِّكين.»٢
فالصوفية في نظر السراج إنما سُموا صوفية نسبةً إلى اللباس الذي اتَّخذُوا منه شعارًا ورمزًا، وهو لباسُ الصوف، ولم يُنسَبوا إلى علمٍ من العلوم كالفقه والحديث والتفسير، ولا إلى حالٍ من الأحوال كالحزن أو القبض أو البسط؛ وذلك لأنهم ليس لهم علمٌ خاصٌّ يَنتسبون إليه، ولا حالٌ خاصةٌ يُقيمون عليها، بل هم في ترقٍّ مستمرٍّ في الأحوال، وليست حال من أحوالهم بأَولى من حالٍ أخرى. أما أنهم نسبوا أنفسهم إلى ذلك الشعار الصوفي، فذلك لأنه كان دائمًا دأب الأنبياء والصالحين كما تدلُّ على ذلك الأخبار والروايات، فقد أثر عن عيسى عليه السلام أنه كان يلبس الصوف تعبدًا، وأن النبي لبس الصوف تواضُعًا وبُعدًا عن الرياء وزهدًا في الدنيا، ورَدَ في مرثية عمر بن الخطاب لرسول الله قوله: «ولبستَ الصوف وركبتَ الحمار وأردفتَ خلفك»،٣ وقد ورَدَ في الحلية لأبي نُعيم أنَّ النبي واسى أهل الصفة ولم يكن عندهم غير جباب الصوف،٤ إلى غير ذلك من الأخبار، ويَتناول أبو بكر محمد بن إسحق الكلاباذي المُتوفَّى سنة ٣٨٠ الموضوع من ناحية أخرى وإن كان يَنتهي إلى النتيجة التي انتهى إليه السراج، فيقول:
قالت طائفةٌ: إنما سُميتَ الصوفية صوفيةً لصفاء أسرارها ونقاء آثارها، وقال بشر بن الحارث (الملقَّب بالحافي، مات ببغداد سنة ٢٢٧): الصُّوفي مَن صفا قلبه لله، وقال بعضهم: الصوفي مَن صفَتْ لله معاملتُه فصفَت له من الله عز وجل كرامتُه، وقال قومٌ: سُموا صوفية لأنهم في الصفِّ الأول بين يدَي الله عز وجل، لارتفاع هممهم إليه وإقبالهم بقلوبهم عليه ووقوفهم بسرائرهم بين يدَيه، وقال قومٌ: سموا صوفية لقرب أوصافهم من أوصاف أهل الصفة الذين كانوا على عهد رسول الله ، وقال قوم: إنما سُموا صوفية للبسهم الصوف، وأما نَسبُهم إلى الصفة والصوف فإنه عبر عن ظاهر أحوالهم؛ وذلك أنهم قومٌ تركوا الدنيا فخرجوا عن الأوطان وهجروا الإخوان وساحوا في البلاد وأجاعوا الأكباد وأعروا الأجساد، لم يأخُذُوا من الدنيا إلا ما لا يجوز تركه من سترٍ عورةٍ وسدِّ جوعة، فلخُروجهم من الأوطان سُموا غرباء، ولكثرة أسفارهم سُموا سياحين، ومن لبسِهم وزيِّهم سُموا صوفية لأنَّهم لم يَلبسوا لحظوظ النفس ما لانَ مسُّه وحَسُن منظرُه وإنما لبسوا لستر العورة فتحرَّوا بالخشن من الشعر والغليظ من الصوف.٥

ذكر الكلاباذي أن «الصوفي» نُسب إلى الصفاء والصفة والصف والصوف، ثم اختار النسبة الأخيرة. أما النسبة إلى الصفة ففيها خروج على اللغة لأنها يجب أن تكون الصفِّي لا الصوفي، وأهل الصفة جماعة من فقراء المهاجرين أُخرجوا من ديارهم فآووا إلى صفة مسجد الرسول بالمدينة، وصَفَهم أبو هريرة فقال: «يَخرُجون من الجوع حتى تَحسبهم الأعراب مجانين، وكان لباسُهم الصوف حتى إن كان بعضهم يعرق فيه فيوجد منه ريح الضأن إذا أصابه المطر»، وقيل إن فيهم نزَلَت الآية: فِيهِ (أي في مسجد الرسول) رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا، وبالإضافة إلى بطلان نسبة الصوفي إلى أهل الصفة على أساس لغوي، لا نرى ما يُسوِّغ هذه النسبة على أساس آخر، وهو أن أهل الصفة كانوا من أوائل المهاجرين حين لم يكن للتصوُّف وجود بمعناه الحقيقي، وإن كان هذا لم يَمنع صاحب الحلية من أن يذكر أسماء كثيرين منهم ويُدخلهم في عداد الصوفية، ولم يمنع عبد الرحمن السلمي أن يكتب فيهم كتابًا خاصًّا يظهر أنه ضاع أصله.

أما النسبة إلى الصفاء فصفائي أو صفاوي لا صوفي، وإن كان من الواضح أن الذي أغرى بعض الصوفية بهذه النِّسبة هو أن الطريق الصوفي أساسه تصفية النفس وتطهيرها من أدران البدن وشهواته، فعقَدُوا المقارنة بين الصوفي والصفاء.

والنسبة إلى الصف — أي الصف الأول بين يدَي الله — صفي لا صوفي.

لهذا يرى الكلاباذي أن المستقيم من هذه الاشتقاقات كلها هو اشتقاق «الصوفي» من الصوف، وأن الاشتقاقات الأخرى تُشير إلى صفاتِ الصوفي الظاهرة أو الباطنة ولكن لا أساس لها من اللغة.

أما القشيري المُتوفَّى سنة ٤٦٥ فيقول:
وليس يشهد لهذا الاسم من حيث العربية قياس ولا اشتقاق، والأظهر أنه كاللقب، فأما من قال إنه من الصوف، وتصوَّف إذا لبس الصوف كما يُقال تقمَّص إذا لبس القميص، فذلك وجه، ولكن القوم لم يختصُّوا بلبس الصوف، ومن قال إنهم منسوبون إلى صفة مسجد الرسول، فالنسبة إلى الصفة لا يَجيء على نحو الصوفي، ومن قال إنه من الصفاء، فاشتقاق الصوفي من الصفاء بعيد في مُقتضى اللغة، وقول من قال إنه مشتقٌّ من «الصف» فكأنهم في الصف الأول بقلوبهم من حيث المحاضَرة مع الله تعالى، فالمعنى صحيح ولكنَّ اللغة لا تَقتضي هذه النسبة إلى الصف.٦

وأبرز ما في عبارة القُشَيري قوله «والأظهر أنه كاللقب» أي إنه يَعتبر اسم الصوفي اسمًا جامدًا أو لقبًا أطلق على هذه الطائفة لتمييزها عمن عداها، فلا يسأل عن معناه أو اشتقاقه. أما نسبتهم إلى الصوف فلا يُعارض فيها القشيري لصحتها لغويًّا، ولكنها في رأيه قول ضعيف؛ لأن الصوفية لم يختصوا بلبس الصوف.

هذا وقد ذكرت نسب أخرى أبعد احتمالًا من التي ذكرناها، وأقل أهميةً كالقول بأن الصوفي اسم منسوب إلى «صوفة» وهو الغوث بن مر، كان هو وقومه من سدنة الكعبة القدماء، أو أنه منسوب إلى صوفة القفا وهي الشعرات النابِتة في مؤخَّر الرأس، أو إلى «الصوفانة» وهي بقلة تنبت في الصحراء لأنَّ الصوفية كانوا يجتزئون بها.

وقد انفرد البيروني (المُتوفَّى سنة ٤٤٠) من بين الكتاب العرب بقوله إن هناك صلة بين اسم الصوفي والكلمة اليونانية «سوفيا»، وأخذ بهذا الرأي الأستاذ جوزيف فون هامر الذي يقول إن كلمة صوفي مأخوذة من كلمة «جمنوسوفيست» Gymnosophist ومعناها الحكيم العاري، وهو لفظ يوناني أطلقَه اليونان على بعض حكماء الهنود القدماء الذين اشتُهروا بحياة التأمُّل والعبادة، وليس للأستاذ فون هامر دليل سوى تقارب اللفظين في النطق.

•••

ظهر من كل ما تقدم أن اسم «الصوفي» مشتقٌّ من الصوف، وأن كلمة «تصوف» معناها لبس الصوف أو تقلد شعار الصوفية: وعلى هذا انعقد إجماع جمهور الباحثين قديمًا وحديثًا، يؤيد ذلك اللغة والعرف فإننا نقرأ أن فلانًا لبس الصوف أو لبس عباءة أو لبس المسوح أو لبس الشعر أو لبس المدرعة بمعنى أنه تزهَّد أو سلَك طريق الصوفية.

(٢) تعريفات التصوف والصوفي

أجمع الصوفية في كل العصور على أن تجاربَهم الرُّوحية أمور تَستعصي على الوصف وتعلو على التعبير، وآثَرَ الكثيرون منهم الصمت فلم يُحاوِلوا أن يضعوا لها تفسيرًا أو تعليلًا، وإنما وصفوا ما أدركوه أو شاهَدُوه أو كشف لهم عنه من الأحوال بأنها أمور «ذوقية» أو «وجدانية» لا تَفي اللغة بالتعبير عنها أو ترجمتها بالألفاظ.

ولكن هذا لم يقف حائلًا دون محاولة بعضِهم وضع تعريفات للتصوُّف والصوفي: أي للتصوف من حيث هو ظاهرة رُوحية خاصة، أو حياة يَحياها الصوفي، وللصوفي من حيث هو إنسان يحيا هذه الحياة، وليست هذه التعريفات تعريفات لفظية لكلمتي «التصوف» و«الصوفي»، وإنما هي تعبيرات عن مضمون «الحالة الصوفية»، وإشارات إلى ما يَعتبره كل صوفي مقومًا لحياته الروحية أو صفة أساسية جوهرية في هذه الحياة؛ ولهذا كانت هذه التعريفات «شخصية» إلى أبعد حد. من أجل هذا اختلفَت تعريفات الصوفية للتصوُّف؛ لأن كلًّا منهم يعبر عن جانب من الحياة الروحية قد يُشاركه في الإحساس به غيره من الصوفية وقد لا يشاركه، ومن أجل هذا أيضًا استحال أن نَستخلص من جملة التعريفات الكثيرة التي أوردناها في هذا الفصل معنًى واحدًا عامًّا يُمكن أن نَعتبره صفة نوعية مُميزة للتصوف: بل هي على العكس أشبه بالمرايا المختلفة التي تنعكس عليها نفوس الصوفية في لحظات اتصالهم بالله، والمعروف أن هذا الاتصال لا يتمُّ لهم جميعًا على نمط واحد أو بطريقة واحدة.

وقد كُنا نطمع بعد دراسة خمسة وستين تعريفًا للتصوُّف أن نجد معنًى عامًّا مشتركًا ينتظمها جميعًا، ولكنا لم نَظفر بهذا المعنى على وجه التحديد، ووصَلنا إلى معنًى قريب منه يُمكن أن يقال إن الغالبية العُظمى من التعريفات تتَّفق عليه، وهو أن التصوُّف في أساسه وجوهره «فقدٌ ووجودٌ»: «فقد» لأنية العبد، و«وجود» له بالله أو في الله؛ أي فناءٌ عن الذات المشخِّصة وأوصافها وآثارها، وبقاءٌ في الله. أو أنه — بعبارة أخرى — «الجذبة في الله».

على أن التعريفات التي وضعت للتصوُّف ليس كلها تعريفات له من حيث هو تجربة روحية، فإن بعضها تعريفات له من حيث هو طريق موصِّل إلى الله، وفي النوع الأول ترد كلمات تُعبِّر عن معانٍ هي في صميم الحياة الروحية، كالوجد والجذب والإشراق والحب والمعرفة والفناء والبقاء وصفاء النفس ونحو ذلك، وهذا النوع غالب في تعريفات صُوفية القرنين الثالث والرابع ابتداءً من ذي النون المصري، ويتَّصل بهذا النوع طائفة من التعريفات تُشير إلى بعض أخلاق الصوفية كالزهد في الدنيا وكراهيتها وترك حظوظها، وقطع العلائق بالخلق، والتوكُّل على الله والورع والأدب والتحلِّي بصفات العبودية المحضة، والإيثار وبذْل النفس والفُتوة، والتسليم والتمسُّك بظاهر الشرع مع التحقُّق بباطنه، وترك الدعاوى والنظر إلى الأعمال بعَين النقص والتقصير، والعصمة عن رؤية الكون واستقامة الأحوال ونحو ذلك.

أما النوع الثاني الذي يَعرف التصوُّف من حيث هو طريق إلى الله، فهو إشارات إلى الجانب العمَلي الحياة الصوفية وما يَجب أن يقوم به الصوفي من ضروب العبادات والمجاهَدات والرياضيات.

•••

وإنَّنا لا نجد تعريفًا للتصوف قبل نهاية القرن الثاني الهجري؛ أي قبل معروف الكرخي المُتوفَّى سنة ٢٠٠. أما مرحلة الزهد السابق على هذا العهد فقد أكثر رجالها من الكلام عن الدنيا والزُّهد فيها، وعن النفس ومحاربتها، والمعاصي وضرورة تجنُّبها، والآخرة ونعيمها وعذابها، إلى غير ذلك مما هو متَّصل بالجانب العمَلي من الطريق الصوفي، ولنذكر بعض الأمثلة من أقوال رجال هذا العصر التي تُعبِّر عن موقفهم من الحياة الصوفية وإن لم تكن كلها تعريفات للتصوُّف بالمعنى الصحيح:
  • (١)

    قيل للحسن البصري (المُتوفَّى سنة ١١٠): إنَّ الفقهاء يقولون كذا وكذا، فقال: «وهل رأيتُم فقيهًا قط؟ إنما الفقيه الزاهد في الدنيا، البصير بأمر دينه، المُداوم على عبادة ربه عز وجل» (طبقات الشعراني، ج١، ص٢٦). هذا وصفٌ للفقيه الحقيقي — أو بمعنًى آخر الفقيه الصوفي — في نظر الحسن البصري. فالفقيه الحقيقي ليس هو العالم بالفقه، بل هو الذي يعيش وفقًا لتعاليم الشريعة من زهدٍ في الدنيا، ومداوَمة للعبادة وبصر بأمور الدين وإدراكٍ للمَغازي الرُّوحية التي تنطوي عليها العبادات.

  • (٢)

    يقول داود الطائي (المُتوفَّى سنة ١٦٥) في وصية لرجل طلب منه أن يُوصيه: «صُمْ عن الدنيا واجعل فطرَك الموت، وفرَّ من الناس كفرارِكَ من السبع» (رسالة القشيري، ص١٢).

  • (٣)

    يقول الفُضيل بن عياض (المُتوفَّى سنة ١٨٧): «لو أنَّ الدنيا بحذافيرها عُرضَت عليَّ ولا أحاسَبُ عليها لكنتُ أتقذَّرُها كما يتقذر أحدكم الجيفة إذا مرَّ بها أن تُصيب ثوبه» (القشيري، ص٩).

في هذه الأقوال وما شاكَلَها ما يُشير إلى أن مفهوم التصوُّف عند هؤلاء الزهاد كان الزهد في الدنيا وتحقيرها، والإقبال التام على العبادة.

أما في القرنين الثالث والرابع فقد وضع الصوفية تعريفات دقيقة صريحة للتصوف عندما بدءوا يُحوِّلون أنظارهم إلى بواطنهم ويُسجِّلون كل دقيقة من دقائق حياتهم الروحية، وكل ما يَخطر بقلوبهم من خواطر وما يحسون من مواجدَ وأذواق.

وقد اختلفت تلك التعريفات وتطورت تبعًا لتطوُّر التصوُّف ذاته وما دخل في مجراه العام من تيارات ثقافية مُختلِفة، إسلامية وغير إسلامية، وقد لاحظنا أثر تلك الثقافات في البيئات المُختلفة التي ظهرت فيهما «المدارس الصوفية» على ما سيأتي بيانه، وظهر هذا الاختلاف واضحًا في تعريفات التصوف التي وصَفها رجال هذه المدارس.

هذا، وقد جمعنا أكثر من ستين تعريفًا للتصوف والصوفي وضَعها أربعة وعشرون صوفيًّا عاشوا ما بين سنة ٢٠٠ إلى سنة ٤٠٠، وكانوا من فارس أو العراق أو الشام أو مصر، ولم نختَر تعريفات لأحد من الصوفية بعد هذا التاريخ؛ لأنه لا جديد فيها زيادةً على ما ذكره هؤلاء الأوائل. أما مصادر هذه التعريفات فهي: الرسالة القُشيرية، وكشف المحجوب للهجويري (ترجمة الأستاذ نيكولسون)، وتَذكرة الأولياء لفريد الدين العطار، ونفَحات الأنس لعبد الرحمن جامي، وقد اقتبسنا طائفة من التعريفات التي أورَدَها الأستاذ نيكولسون في مقاله الذي سمَّاه «نظرة تاريخية في أصل التصوُّف وتطوُّره» — وهو المقال الذي نقلناه إلى العربية في كتابنا «في التصوف الإسلامي وتاريخه» الذي نُشر بالقاهرة سنة ١٩٤٦ — ولكنا أضفنا تعريفات أخرى لم يَذكرها نيكولسون، وشرحنا معاني كثير من هذه التعريفات بُغية إظهار الفكرة الأساسية في كل تعريف، والحقيقة أن أيَّ تعريف للتصوف لا يُفهم في صورة واضحة جلية إلا في ضوء دراسة شاملة للتصوُّف ونظرياته وظواهره، وحياة الصوفية وأخلاقهم؛ ولهذا نُحيل القارئ إلى ما ذكرناه في هذا الصدد في الفصول التالية من هذا الكتاب، وهي في صميم الحياة الصوفية، بعيدة بقَدر المُستطاع عن التفاصيل التاريخية المتصلة بترجمات الصوفية.

ولم نُحاول — كما يتوقَّع بعض القراء — أن نضعَ تصنيفًا للتعريفات التي اقتبسناها على أساسٍ من الأسس لأنَّها لا تخضع لمثل هذا التصنيف، لصدورها عن قوم هم أصحاب أحوال لا أصحاب أقوال عِلمية أو فلسفية، وقد يكون للصوفي الواحد أكثر من تعريف للتصوف كما هو الحال في الجنيد والنُّوري والشِّبلي، من غير أن يَربط بينها رابط أو يجمع بينها جامع؛ وذلك لأن الصوفي ابن وقتِه، فهو يَنطق في كل وقتٍ بما يغلب عليه الحال في ذلك الوقت. نعم قد يُقال إن الغالب على تصوف ذي النون المصري الكلام في المعرفة،٧ وفي تصوف أبي يزيد البسطامي الكلام في الفناء، وفي تصوُّف رابعة العدوية الكلام في المحبة، وفي تصوف شقيق البلخي الكلام في التوكُّل، وفي تصوف الجنيد الكلام في التوحيد، ولكن ليس معنى هذا أن تصوف كلٍّ من هؤلاء كان منحصرًا في المعرفة أو الفناء أو المحبة أو التوكُّل أو التوحيد. زد على ذلك أن بين التعريفات تداخلًا جزئيًّا أو كليًّا، وبعضها يُكرر معاني البعض الآخر بعبارات مُختلفة، وهذا ما يجعل خضوعها للتصنيف العِلمي أمرًا عسيرًا.

ولقائلٍ أن يقول بعد كل هذا: وما قيمة هذه التعريفات إذن إذا كانت لا تعبر إلا عن أحوال شخصية فردية ولا يَفي واحد منها في الإعراب عن حقيقة التصوف في جملته، أو شرح ماهيته؟ والجوب على هذا أن قيمتها فيها مجتمعة لا مُتفرِّقة، إذا كنا نبحث عن التصوف الإسلامي مُطلقًا لا تصوف فلان أو فلان؛ إذ خلالها جميعًا تظهر شخصية ذلك التصوف وتَبرز صفاته المميزة له. فهي بمثابة الزوايا المختلفة التي ينظر منها الصوفية الإسلاميون إلى حياتهم الرُّوحية، أو بمثابة اللبنات المفردة التي يتألف منها البناء.

١  اللمع للسراج، ص٢٢.
٢  اللمع، ص٢١-٢٢.
٣  الإحياء، ج١، ص٣٢٠.
٤  الحلية، ج١، ص٣٤٥.
٥  كتاب التعرف للكلاباذي، ص٥.
٦  الرسالة القشيرية، ص١٢٦.
٧  يذكر له صاحب تَذكِرة الأولياء تعريفات للعارف والمعرفة تشغل صفحتين كاملتين. التذكرة ج١، ص١٢٦–١٢٨.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤